عبد الكريم اليافي - المعتمد بن عباد.. ثالث الملوك والشعراء

أما هذا الرجل الذي نريد أن نتحدث عنه هنا فقد حاول أن يوفق بين السياسة والأدب إلى أبعد حد. أما السياسة فقد دفعه إليها مولده في بيت ملكي فلم يلبث أن أقام بعد وفاة أبيه بأمر الملك وصرف إليه عنايته وغدا أبرز ملوك عصره.
وأما أدبه، فقد حباه الله من المواهب جملة وافية كثيرة ولكنه صرف اهتمامه إلى الشعر وكان من أكبر شعراء عصره، بل كان ثالث الشاعرين الملكيين الكبيرين، امرئ القيس وأبي فراس الحمداني. ولقد كتب عنه صاحب «المغرب في تلخيص أخبار المغرب»، وبحق ما يلي: «وكان شعره كأنه الحلل المنشرة، واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس، وكان مقتصراً من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينظم إليه. وكان فيه مع هذا من الفضائل الذاتية ما لا يحصى كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة».

وإذا كان لكل من الملكين الشاعرين امرئ القيس وأبي فراس الحمداني مأساته الخاصة التي ترجم منها بأدبه وأعرب عن مرارتها وألمها بشعره، فإن مأساة المعتمد بن عباد كانت أكبر وأوسع بمقدار ما تبوأ من سلطان، وملك من صولة وبلغ من مجد، وذاق من سعادة. فلم تلبث تلك السعادة والمجد والصولة والسلطان كلها أن توارت ولم يبق منها إلا رجل يقضي آخر مراحل حياته في الأسر فقيراً مع أسرته في جو عبوس من الضيق والكآبة واليأس.

ولي في سن السابعة والثلاثين أمر اشبيلية بعد وفاة أبيه المعتضد، ثم ضم إليه أكثر بلاد الأندلس، وجعلها قاعدة الأندلس الكبيرة، وجرى على أكرم قواعد الملك من رعاية الدولة وإقامة العدل وتشجيع العلم والأدب والإحسان الواسع إلى الرعية وصد عدوان الفرنجة، فتعلقت به نفوس الناس، وبقي في الملك عشرين سنة تألق فيها بلاط اشبيلية كأجمل حضارة زاهية راقية.

ولكن دول الطوائف في البلاد العربية كانت متنازعة، كل دولة منها تتربص بأختها الدوائر دون أن تتعاون جميعاً على العدو المشترك ودون أن تضع الخطط الموحدة لصده ورد عدوانه. وكانت اشبيلية أعظم دول الطوائف. ومع ذلك فقد استولى الإسبان في عهد ابن عباد على طليطلة وبدؤوا يتهيؤون لغزو قرطبة واشبيلية نفسها وغيرهما من قواعد الأندلس. وكانت دولة المرابطين إذ ذاك بمراكش في ريعان قوتها فلم يجد ابن عباد بداً من أن يستعين بأمير المرابطين يوسف بن تاشفين وأن يدعوه لنصرته. فاستجاب الأمير وقدم الأندلس بجنوده ثم سار هو والمعتمد بن عباد ومن معهما من الأمداد التي أرسلها بقية ملوك الطوائف إليها فالتقوا بالفرنجة الذين كانوا قد استنفروا الصغير والكبير ولم يدعوا في أقاصي بلادهم من يقدر على النهوض إلا استنهضوه، ووقعت بينهم وبين العرب موقعة الزلاقة المشهورة. وكان ملك الفرنجة قد بيت غدراً بالعرب، ولكن ثبات العرب وبلاءهم الحسن وضرم المعتمد وصبر جيش المرابطين وقوته جعل الدائرة تدور على الإسبان فانهزموا في جميع البقاع ولم ينج منهم إلا القليل وكانت تلك الموقعة إحدى المواقع المشهورة الحاسمة التي دعمت مركز العرب في الأندلس أجيالاً طويلة.

بيد أن الأمير يوسف بن تاشفين أعجبته الأندلس وراق له غناها وسرته حضارتها التي أقام أركانها العرب فأظهر الزهد فيها وبيت نية الاستيلاء عليها وضمها إلى ملكه وأخذ يدبر الحيلة في ذلك. وكما فعل ابن عباد ببني جهور حين استعانوه لدفع المأمون بن ذي النون عن قرطبة فنكبهم واستخلصها لنفسه، كذلك فعل يوسف بن تاشفين ببني عباد. إذ لم تلبث أشياعه أن داهمت المعتمد وضربت ملكه واستولت عليه وأخذ هو قبضاً باليد بعد أن ظهر من دفاعه ويأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لا مزيد عليه.

لقد عمد ابن عباد إلى تسجيل ما عرف من مجد كابد من محنته في شعره الجيد العالي. فلم يكن في سلطانه مجلس حلو ولا صورة بديعة إلا وترك فيها شعراً.

قال في قصيدة يصف يأسه ويذكر تهافته على الموت منها هذه الأبيات:
قال الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيع
أن تستلب عني الدنا
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسأم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم
ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي
ص عن الحشاشئ من دفوع
وبذلت نفسي كي تسي
ل إذا يسيل بها النجيع
أجلي تأخر لم يكن
بهواي ذلي والخضوع
ما سرت قط إلى القتا
ل وكان من أملي الرجوع

ولقد وصف الشعراء إذ ذاك بقصائد باكية تلك الحادثة، حادثة أسره، كما ذكروا عباد في السفينة التي أقلتهم من اشبيلية.

ونجده في أخريات صور حياته في بلدة أغمات تعض بقدميه القيود وقد جاء عيد الفطر بأفراحه على الناس وينظر فيرى بناته حافيات يغزلن للناس فيقول:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
من بات بعدك في ملك يسربه
فإنما بات بالأحلام مغرورا

إن حياة المعتمد بن عباد في مجده وفي محنته قصة بلغت حد الخيال مؤثرة في ذاتها أبلغ تأثير يبدو من خلالها قلبه الكبير الذي لم يتغير في السراء ولا في الضراء، لا في المجد ولا في الضيم. ويكفي أن نقرأ فصولها كما جاءت في كتب التاريخ والأدب حتى يبلغ التأثير إلى أفئدتنا مبلغه. وإن أروع القصص وأشدها مأساة وفاجعة ما صاغته الحياة نفسها. ومن وراء تلك القصة تبرز إحدى العظات الخالدة الأبدية، وهي أنه لما تعاون العرب في الأندلس تغلبوا على جموع الفرنجة الكثيرة ولما تفرقوا واستبدت الأطماع بهم هووا جميعا إلى الحضيض.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري
أعلى