التحقت مرتين إلى الثوار في الجبل مطلع ومنتصف ثمانينات القرن الماضي. الثانية والأخيرة كنت عازماً على عدم تكرار ورطتي في التسلل إلى مدينتي وبغداد فقد ذقت الويل في ظروف التخفي التي صورت بعضا من ذلك الويل في روايتي “الإرسي” التي كتبتها بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على التجربة.
كنت سعيدا بالرغم من ظروف العيش البدائية، فزوجتي جلبتها معي، وعملت المستحيل كي لا أدعها تكرر تجربة التسلل خفية إذ أن الشوق مضها إلى أبننا الوحيد وقتها والذي تركناه برعاية أهلها. ونجحت فأغلب الرفيقات اللواتي نزلن سراً اعتقلن وأعدمن فقد تبين لاحقا أن بعض من يشرف على تسريب الرفاق والرفيقات متعاونين مع الأمن. نجحت بعناء.
في تلك الأيام من ربيع 1985 توطدت علاقتي مع “أبي مناف” وهو الآن شخصية معروفة في العراق “سبهان ملا جياد” من أهالي الصينية في تكريت، عرفني عليه أخي الشهيد الذي يصغرني بأعوامٍ ثلاثة “كفاح عبد إبراهيم 1957-1983” ضاحكاً في فناء داخل الجامعة التكنولوجية في بغداد عام 1976 ضاحكا:
– سبهان رفيقنا شيوعي من تكريت!.
فعدنا نلتقي أحيانا في لقاءات خاطفة في الجامعة حينما أزور أخي، ثم افترقنا بعد أن ساءت الأوضاع واختفى “كفاح” عن أنظار السلطة، لكنني التقت به في بيروت بالفاكهاني عام 1979 في زيارتي ومكوثي شهراً فيها محاطاً باليسار العراقي في شقة الصديق القاص “محي الأشيقر” كان لقاءً خاطفاً وسألني عن أخبار “كفاح” فأخبرته بأني التقي به سراً في بغداد، بين الحين والحين.
وكان “سبهان” ومن الصدف أول من ألتقي به وأنا وزوجتي نصعد جبلاً في السلسلة الممتدة بين الشيخان والقوش، تعانقنا بحرارة وتحدثنا، وكان مشتركنا أخي كفاح قد أبلغنا عن إعدامه في نهاية 1983 دون أن نستلم الجثة التي ضاعت إلى الأبد.
توطدت علاقتي به أثناء زيارته إلى مقر قاطع بهدنان “زيوة” خلف العمادية وتشعب الحديث بيننا عن حياة كفاح وتخطيطاته ورسائله، وقرأت له ما كتبته عنه وبعضا من رسائله وأشعاره التي أحفظها عن ظهر قلب. فأنبهر بها وألحّ علي بشدة كي أرتب كتيباً صغيراً يتضمن ما كتبتهُ عنه، وما أحفظه من أشعار ورسائل وهو سيتكفل مع إعلام الفوج الأول للحزب الشيوعي العراقي كي يعدونه ككراس، وما علي سوى كتابته. ( سيتسلل سبهان إلى الداخل هو وزوجته وهي من أهالي السماوة وسيعتقلان معا وستحكم يالإعدام وسيقضي وقتا في غرفة الإعدام وزوجته بالمؤبد ستلد أبنه الأول “غزوان” في السجن، وكتب تجربته ونشرها )
وفعلاً انهمكت. اكتب على ضوء الفانوس في ليل الجبل الدامس جاهدا كي أسطر ما حفظته من رسائله الكثيرة، تلك الرسائل التي فعلت بحياتي وبلورت مواقفي. ورتبت الكراس على قسمين الأول، كلامي عنه وهو ما سوف أحصل عليه لاحقا كقصة ونشرت قبل فترة في مواقع عديدة. والثاني أشعاره ورسائله التي كنت أحفظها.
في زيارته التالية لموقع “زيوة” حملها “سبهان” مسروراً وغاب خلف الجبل.
وقتها لم أكن أفكر في هذه التفاصيل. كان يشغلني كما ذكرت كفاحي الخفي كي أصل برفيقة عمري إلى ناصية ترفض بها التسلل إلى داخل المدن.
في مساء موحش.
كل مساءات الثورة في الجبال موحشة تأخذنا بالرغم منا إلى دفء البيت البعيد ومدننا وناسها. فيما كنا نستعد أنا وزوجتي للإياب إلى غرفتنا الحجرية الصغيرة التي تسع لفراش مشترك فقط أقبل نحوي رفيق أحببته مثل سواقٍ تلتقي كما يقول المثل، بالرغم من شدة تحزبه، أبو أثير الصحفي اللامع “عبد اللطيف السعدي” الذي يعيش الآن في روما في ايطاليا.
وانتحى بي جانباً. الظلام لم يهبط بعد، والضوء خافت يشبه ضوء الفجر، كان باسماً مبتهجاً وهو يفتح كيساً ورقياً ويدس يديه اليمنى ليخرج كراساً أنيقاً طولياً لا تتجاوز صفحاته الخمسين بغلاف ولوحة جميلة مخططة بالقلم الرصاص. قال لي:
– مبروك أبو الطيب هذا كراسك سيطبع في الإعلام المركزي ويوزع على الأنصار!.
أمسكته بقلبٍ مرتجفٍ فهذا أول شيء ملموس وله كيان الكتاب سيظهر أسمي عليه ولو الحركي. طالعني في عتمة الضوء الاسم الذي أتعبني كثيراً حتى وضعته “شهادة عراقية”.
وتحته لوحة تقترب من منحوتات العراق القديم قرابين وحشود متلاصقة. غلاف مبهر وبين القسمين وضع لوحة أخرى، وذيل في الصفحة الأخيرة أسم المصمم، الحركي طبعاً ” أبو أيار” وهو الآخر سيستشهد بعد ذلك بأربع سنوات، إذ سيصاب بمعركة وبحاصر في الأنفال وينتحر حتى لا يقع بيد الجيش العراقي وهو يمشط في الأنفال الجبال عقب وقف الحرب الإيرانية – العراقية، والحادث صورته في روايتي التسجيلية “في باطن الجحيم”.
كان أبو أثير سعيدا بالكراس وأخبرني بأنه قد قرأه وأعجبه جدا فهو ليس جافا مثل مراثي شهداء الحزب بل به حياة حب وأشعار وأحلام وفهمت ذلك فهو يكتب شعرا ويعيشه، أما أنا فقد كنت أكتم شدة فرحي إذ كنت على وشك الطيران. فكراس يوزع على الثوار المقاتلين فيه مشاعري وأشجان الغائب وباسمي.
قلبته صفحة.. صفحة.. كان جاهزاً وذاهباً كي يكثر في الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي في منطقة لولان “المثلث الحدودي الإيراني العراقي” وأبو أثير كان يفحص البريد الوارد من الفوج الأول قبل أن يحمل في الغد فعثر على الكراس، وجاء ليبشرني مسروراً.
لم أكن أظن أنني سأمسك بذاك الكراس أخر مرة، لم أكن أظنُ، فوقتها لم تزل قناعتي في هذه المؤسسة قائمة كون في يدها الحل السحري لمعضلة عراقيَّ المهضوم. لكن مرت الأشهر ولم يظهر المطبوع حتى أن صديقي ورفيقي الجميل “عبد اللطيف السعدي” ألح عليّ كي أسأل عنه لاسيما أنني كنت دائم الخروج في مفارز البريد القاصدة المثلث الحدودي قبل أن أصاب في قصف المقر بقنابل الكيمياء 1987.
في مرة قررت السؤال، وطلبت إذنا كي أصعد إلى مقر الإعلام المركزي فأخبروني بالسماح، فمشيت ساعتين وتسلقت سفحٍ وعرٍ حتى وصلت. وهناك قادني رفيقٍ إلى فسحة مفروشة ومظللة بأغصان الأشجار. كان الوقت صيفاً. فجلست أنتظرُ على فراش رث قدوم المسئول. كنت قد فصلت القصة في رسالتي. لم أنتظر طويلاً إذ أنحدر من درج حجري شخصان واحد طويل القامة جامد الملامح متجهم من لحظة رؤيتي له وحتى نهاية الحديث. والآخر أقصر منه قامةً بشوش لا تفارق وجهه البسمة عانقني بحرارة عكس الطويل الذي صافحني برسمية وبرود. جلسنا متقابلين في فسحة السفح وفتح هو الموضوع سأعرف لاحقاً أنه يدعى “يحيى علوان” المسئول الحزبي وقتها للأعلام المركزي للحزب الشيوعي، والذي جاء معه ” مفيد الجزائري” الذي سيصبح وزيرا للثقافة في أول حكومة عراقية عقب الاحتلال الأمريكي 2003.
فتحت الحوار متسائلا:
– أين الكراس شهادة عراقية؟!.
أنبرى يحيى قائلا:
– الكراس رفض بعد الدراسة!.
– ليش؟!
تساءلت بدهشة، فرد ردا جاهزاً:
– رفيق لو كل واحد يكتب عن أخوه كان غرقنا بالكراريس!.
التفت نحو “مفيد” كان صامتاً وكأنه تلميذ مطيع، قلت له وكنت اعرف بأنه قضى صفحة طويلة من حياته في براغ:
– وأنت ما رأيك؟!.
فأجاب على الفور دون أن ينظر إلي أو إلى رفيقه:
– مثل ما تفضل به الرفيق!.
تأملتهما بعينين وقحتين. أنا الوقح الأبدي. حدقتهم لدقائق باحتقار شديد فاض مني، فأنا لست ممن يكتم مشاعره في مثل هذه المواقف. كانا ينتظران ما أقول بوجهين لم أر أقبح منهما في تلك اللحظة، فقد كنت أعرف أن ما قالاه ناقشاه في حلقات التنظيم وهنا يقدمان لي خلاصة وأية خلاصة بائسة.
– رفيقي العزيز هذا مبرر غير منطقي، أتعرف لماذا؟
كنت أحكي محتداً وألفظ كلماتي بقوة وبصوتٍ فيه غضب:
– أولاً حينما يفني الإنسان ذاته من أجل فكرة ينتهي كونه ذاتاً يصبح موضوعاً لذا يخلد كشهيد وكفاح مات تحت التعذيب حتى لم يسلموا جثته!.
ثانياً: ليس لكل شهيد أخ مثقف ومناضل مثله وبات بصفوف حركة ثورية مسلحة ويحلم أن يكون كاتباً وبينهما كل هذه المراسلات الأدبية والحوار الفكري الذي صغته بهذا الكراس.
ثالثاً: ما موجود في الكراس يمجد نضال حزبكم!.
نهضت حاملاً بندقيتي وهبطت على المنحدر مغادرا وجهين حزبيين لا أفق لهما.
يحيى علوان لديه صفحة في الحوار المتمدن شديدة البؤس والتواضع
ومفيد الجزائري الحزبي المطيع سطع في أول سلطة نصبها الاحتلال ليس إلا.
وكراس الشهيد كفاح عبد إبراهيم أُتلف
لكنني كتبت رواية عنه “رؤيا الغائب” صدرت 1996 عن دار المدى
وأعدت كتابتها وصدرت 2016 “إعدام رسام” في القاهرة عن دار الأدهم القاهرة.
كنت سعيدا بالرغم من ظروف العيش البدائية، فزوجتي جلبتها معي، وعملت المستحيل كي لا أدعها تكرر تجربة التسلل خفية إذ أن الشوق مضها إلى أبننا الوحيد وقتها والذي تركناه برعاية أهلها. ونجحت فأغلب الرفيقات اللواتي نزلن سراً اعتقلن وأعدمن فقد تبين لاحقا أن بعض من يشرف على تسريب الرفاق والرفيقات متعاونين مع الأمن. نجحت بعناء.
في تلك الأيام من ربيع 1985 توطدت علاقتي مع “أبي مناف” وهو الآن شخصية معروفة في العراق “سبهان ملا جياد” من أهالي الصينية في تكريت، عرفني عليه أخي الشهيد الذي يصغرني بأعوامٍ ثلاثة “كفاح عبد إبراهيم 1957-1983” ضاحكاً في فناء داخل الجامعة التكنولوجية في بغداد عام 1976 ضاحكا:
– سبهان رفيقنا شيوعي من تكريت!.
فعدنا نلتقي أحيانا في لقاءات خاطفة في الجامعة حينما أزور أخي، ثم افترقنا بعد أن ساءت الأوضاع واختفى “كفاح” عن أنظار السلطة، لكنني التقت به في بيروت بالفاكهاني عام 1979 في زيارتي ومكوثي شهراً فيها محاطاً باليسار العراقي في شقة الصديق القاص “محي الأشيقر” كان لقاءً خاطفاً وسألني عن أخبار “كفاح” فأخبرته بأني التقي به سراً في بغداد، بين الحين والحين.
وكان “سبهان” ومن الصدف أول من ألتقي به وأنا وزوجتي نصعد جبلاً في السلسلة الممتدة بين الشيخان والقوش، تعانقنا بحرارة وتحدثنا، وكان مشتركنا أخي كفاح قد أبلغنا عن إعدامه في نهاية 1983 دون أن نستلم الجثة التي ضاعت إلى الأبد.
توطدت علاقتي به أثناء زيارته إلى مقر قاطع بهدنان “زيوة” خلف العمادية وتشعب الحديث بيننا عن حياة كفاح وتخطيطاته ورسائله، وقرأت له ما كتبته عنه وبعضا من رسائله وأشعاره التي أحفظها عن ظهر قلب. فأنبهر بها وألحّ علي بشدة كي أرتب كتيباً صغيراً يتضمن ما كتبتهُ عنه، وما أحفظه من أشعار ورسائل وهو سيتكفل مع إعلام الفوج الأول للحزب الشيوعي العراقي كي يعدونه ككراس، وما علي سوى كتابته. ( سيتسلل سبهان إلى الداخل هو وزوجته وهي من أهالي السماوة وسيعتقلان معا وستحكم يالإعدام وسيقضي وقتا في غرفة الإعدام وزوجته بالمؤبد ستلد أبنه الأول “غزوان” في السجن، وكتب تجربته ونشرها )
وفعلاً انهمكت. اكتب على ضوء الفانوس في ليل الجبل الدامس جاهدا كي أسطر ما حفظته من رسائله الكثيرة، تلك الرسائل التي فعلت بحياتي وبلورت مواقفي. ورتبت الكراس على قسمين الأول، كلامي عنه وهو ما سوف أحصل عليه لاحقا كقصة ونشرت قبل فترة في مواقع عديدة. والثاني أشعاره ورسائله التي كنت أحفظها.
في زيارته التالية لموقع “زيوة” حملها “سبهان” مسروراً وغاب خلف الجبل.
وقتها لم أكن أفكر في هذه التفاصيل. كان يشغلني كما ذكرت كفاحي الخفي كي أصل برفيقة عمري إلى ناصية ترفض بها التسلل إلى داخل المدن.
في مساء موحش.
كل مساءات الثورة في الجبال موحشة تأخذنا بالرغم منا إلى دفء البيت البعيد ومدننا وناسها. فيما كنا نستعد أنا وزوجتي للإياب إلى غرفتنا الحجرية الصغيرة التي تسع لفراش مشترك فقط أقبل نحوي رفيق أحببته مثل سواقٍ تلتقي كما يقول المثل، بالرغم من شدة تحزبه، أبو أثير الصحفي اللامع “عبد اللطيف السعدي” الذي يعيش الآن في روما في ايطاليا.
وانتحى بي جانباً. الظلام لم يهبط بعد، والضوء خافت يشبه ضوء الفجر، كان باسماً مبتهجاً وهو يفتح كيساً ورقياً ويدس يديه اليمنى ليخرج كراساً أنيقاً طولياً لا تتجاوز صفحاته الخمسين بغلاف ولوحة جميلة مخططة بالقلم الرصاص. قال لي:
– مبروك أبو الطيب هذا كراسك سيطبع في الإعلام المركزي ويوزع على الأنصار!.
أمسكته بقلبٍ مرتجفٍ فهذا أول شيء ملموس وله كيان الكتاب سيظهر أسمي عليه ولو الحركي. طالعني في عتمة الضوء الاسم الذي أتعبني كثيراً حتى وضعته “شهادة عراقية”.
وتحته لوحة تقترب من منحوتات العراق القديم قرابين وحشود متلاصقة. غلاف مبهر وبين القسمين وضع لوحة أخرى، وذيل في الصفحة الأخيرة أسم المصمم، الحركي طبعاً ” أبو أيار” وهو الآخر سيستشهد بعد ذلك بأربع سنوات، إذ سيصاب بمعركة وبحاصر في الأنفال وينتحر حتى لا يقع بيد الجيش العراقي وهو يمشط في الأنفال الجبال عقب وقف الحرب الإيرانية – العراقية، والحادث صورته في روايتي التسجيلية “في باطن الجحيم”.
كان أبو أثير سعيدا بالكراس وأخبرني بأنه قد قرأه وأعجبه جدا فهو ليس جافا مثل مراثي شهداء الحزب بل به حياة حب وأشعار وأحلام وفهمت ذلك فهو يكتب شعرا ويعيشه، أما أنا فقد كنت أكتم شدة فرحي إذ كنت على وشك الطيران. فكراس يوزع على الثوار المقاتلين فيه مشاعري وأشجان الغائب وباسمي.
قلبته صفحة.. صفحة.. كان جاهزاً وذاهباً كي يكثر في الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي في منطقة لولان “المثلث الحدودي الإيراني العراقي” وأبو أثير كان يفحص البريد الوارد من الفوج الأول قبل أن يحمل في الغد فعثر على الكراس، وجاء ليبشرني مسروراً.
لم أكن أظن أنني سأمسك بذاك الكراس أخر مرة، لم أكن أظنُ، فوقتها لم تزل قناعتي في هذه المؤسسة قائمة كون في يدها الحل السحري لمعضلة عراقيَّ المهضوم. لكن مرت الأشهر ولم يظهر المطبوع حتى أن صديقي ورفيقي الجميل “عبد اللطيف السعدي” ألح عليّ كي أسأل عنه لاسيما أنني كنت دائم الخروج في مفارز البريد القاصدة المثلث الحدودي قبل أن أصاب في قصف المقر بقنابل الكيمياء 1987.
في مرة قررت السؤال، وطلبت إذنا كي أصعد إلى مقر الإعلام المركزي فأخبروني بالسماح، فمشيت ساعتين وتسلقت سفحٍ وعرٍ حتى وصلت. وهناك قادني رفيقٍ إلى فسحة مفروشة ومظللة بأغصان الأشجار. كان الوقت صيفاً. فجلست أنتظرُ على فراش رث قدوم المسئول. كنت قد فصلت القصة في رسالتي. لم أنتظر طويلاً إذ أنحدر من درج حجري شخصان واحد طويل القامة جامد الملامح متجهم من لحظة رؤيتي له وحتى نهاية الحديث. والآخر أقصر منه قامةً بشوش لا تفارق وجهه البسمة عانقني بحرارة عكس الطويل الذي صافحني برسمية وبرود. جلسنا متقابلين في فسحة السفح وفتح هو الموضوع سأعرف لاحقاً أنه يدعى “يحيى علوان” المسئول الحزبي وقتها للأعلام المركزي للحزب الشيوعي، والذي جاء معه ” مفيد الجزائري” الذي سيصبح وزيرا للثقافة في أول حكومة عراقية عقب الاحتلال الأمريكي 2003.
فتحت الحوار متسائلا:
– أين الكراس شهادة عراقية؟!.
أنبرى يحيى قائلا:
– الكراس رفض بعد الدراسة!.
– ليش؟!
تساءلت بدهشة، فرد ردا جاهزاً:
– رفيق لو كل واحد يكتب عن أخوه كان غرقنا بالكراريس!.
التفت نحو “مفيد” كان صامتاً وكأنه تلميذ مطيع، قلت له وكنت اعرف بأنه قضى صفحة طويلة من حياته في براغ:
– وأنت ما رأيك؟!.
فأجاب على الفور دون أن ينظر إلي أو إلى رفيقه:
– مثل ما تفضل به الرفيق!.
تأملتهما بعينين وقحتين. أنا الوقح الأبدي. حدقتهم لدقائق باحتقار شديد فاض مني، فأنا لست ممن يكتم مشاعره في مثل هذه المواقف. كانا ينتظران ما أقول بوجهين لم أر أقبح منهما في تلك اللحظة، فقد كنت أعرف أن ما قالاه ناقشاه في حلقات التنظيم وهنا يقدمان لي خلاصة وأية خلاصة بائسة.
– رفيقي العزيز هذا مبرر غير منطقي، أتعرف لماذا؟
كنت أحكي محتداً وألفظ كلماتي بقوة وبصوتٍ فيه غضب:
– أولاً حينما يفني الإنسان ذاته من أجل فكرة ينتهي كونه ذاتاً يصبح موضوعاً لذا يخلد كشهيد وكفاح مات تحت التعذيب حتى لم يسلموا جثته!.
ثانياً: ليس لكل شهيد أخ مثقف ومناضل مثله وبات بصفوف حركة ثورية مسلحة ويحلم أن يكون كاتباً وبينهما كل هذه المراسلات الأدبية والحوار الفكري الذي صغته بهذا الكراس.
ثالثاً: ما موجود في الكراس يمجد نضال حزبكم!.
نهضت حاملاً بندقيتي وهبطت على المنحدر مغادرا وجهين حزبيين لا أفق لهما.
يحيى علوان لديه صفحة في الحوار المتمدن شديدة البؤس والتواضع
ومفيد الجزائري الحزبي المطيع سطع في أول سلطة نصبها الاحتلال ليس إلا.
وكراس الشهيد كفاح عبد إبراهيم أُتلف
لكنني كتبت رواية عنه “رؤيا الغائب” صدرت 1996 عن دار المدى
وأعدت كتابتها وصدرت 2016 “إعدام رسام” في القاهرة عن دار الأدهم القاهرة.
سلام إبراهيم: تجربتي الثقافية مع الحزب الشيوعي العراقي (1)كراس عن شهيد (ملف/100) - الناقد العراقي
إشارة: مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية...
www.alnaked-aliraqi.net