يظهر الحمار وحيداً، يحضر بلا هالة، يقف بلا حمولة، ويرعى بلا صاحب. ينفي انعدامُ الهالة قدومَ الحمار من غَبَش الكنيسة. أنْ يكون حماراً بلا حمولة يفترضُ أنه بلا عبء، أو أنه تخلّص من كلّ عبء سابق. حمارٌ بلا حمْلٍ هو قدوم حمارٍ قوي، خفيف، كما لو وقف في الرقص، في ما يجعل الرقص سكينة في السكينة! أنْ يهدأ هانئاً بلا صاحب يعني أنه بلا قيد وبلا تبعية، وبلا سلطان. هو إذا حمارٌ بلا تاريخ، بلا وصايا، بلا عمل، بلا ملكية. حمار حرٌّ، كذلك هو حمارٌ منفصل عن شأن الملاك وشأن الوردة وشأن الحجر. حمارٌ صامت كحجرٍ صامت كوردةٍ صامتة كملاكٍ صامت.. ! الآلهة أيضاً تفضِّلُ الصَّمْتَ، الطبيعة، تحت مسار الفكر، تفضّلُ صمتَها السخيّ. ربما هذا هو عملها الأجمل والأقوى والأبلغ. هو إذن حمارٌ صامتٌ ممتلئ، ومكتفٍ بكونه ابنَ اللحظة وابنَ اللون اللذين كسَوَاهُ ثراءَ كونه حماراً وحسب؛ ثرياً كعادة ثريٍّ صامتٍ. لكنه غير منسجم مع المحيط الحامي والمغذِّي حيوانيَّتَهُ اللطيفة. يبدو الغريبُ، هاهنا، قرينَ اللطيف؛ كلاهما شاذٌّ مختلفٌ حَيِيٌّ وخجول. إنه الحمار- الحيوان الوحيد في الصورة- اللوحة. ما عداه غيْمٌ ونبات، ترابٌ وخشب.
من هنا غرابته الفريدة حماراً بلا رفيقٍ ولا صاحبٍ كعينٍ واسعة – عين الحلم- لكنها تخفَّفَتْ من كل إرث وكل وصية. كان إخوان الصفا وخلّان الوفاء يرون في العبادات والطقوس الدينية علامةً على حاجة لدى المتعبِّد مثلُها مثلُ حاجة المريض. غير المريض لا يحتاج طقساً ولا عبادة. إنه يحيا وبداخله روحُهُ التي تشفيه مثلما تمرضه، تحميه كما تمحوه!! حمارُ خوان ميرو ليس مريضاً. لا تبدو عليه آثار أي عياء أو إرهاق، أو علّة. حمار في أخوَّة صافية مع الوقت والأرض وأثر تتالي الفصول الخلاب. حمارٌ تحت عينٍ مسحورةٌ به. عينٌ أبدَتْ ما سحرها وهالها عبر حمار وحيد صامت. ثمة قطعتان محروثتان أمامه، وعلى يمينه، تبثّان عبيرَ هندسةٍ ذات خطوط وأثلام أنيقة. لون القطعتين من لون الحمار نفسه.
حمار خوان ميرو العزيز امتدادٌ للأرض المحروثة بعناية بادية، امتدادٌ أعلى مغتبط ومنفرد. إنه ليس بمستوى الأرض المحيطة رغم كونه على الأرض التي تحمله وتحميه. انخفضتِ الأرضُ عن ابنها، أعانتْهُ، وتركته محاطاً بعنايتها المتفتحة. ثمة بيتٌ تحت طغيان ضياءٍ ذهبي. ذهبيّةُ لون البيت وصفاؤه يجعلانه حاراً قريباً وحميماً. قرابةٌ مثل تذكار وقربٌ مثل حنين وحرارةٌ مثل فؤاد يتذكر ويشتاق. القربُ دليلُ معرفةٍ، والمعرفةُ دليلُ سفرٍ، لكنه سفرٌ في الإقامة وقربٌ في البعد، وحميميةٌ في العراء، ومعرفةٌ في جهل كامل. يقدّمُ مكوثُ الحمار واقفاً وحيداً بلا حمل فرصة النظر إلى البيت كذكرى مؤجلة حان حلولها الآن. يشي الحمارُ بالطرق اللامرئية التي تفضي إلى البيت، يموِّجُ لونُهُ الثابتُ ما امتصَّهُ جلْدُه من شقوق الأفجار والغروبات. ثباتُ لون الحمار ذو مسحة سكينة صوفية. إنه يصونُ لحظةَ اليقظة ولحظة الفراغ من اليقظة. يلجمهما الآن تحت لسانه وهو يتغذى بعد فراغه من كلّ عمل. يذكرنا هكذا حال بعبارة لجاك دريدا اقتبسها بدوره من مصدر لا نعرفه. تشير العبارة إلى لحظة تمام خلق العالم. إنها تؤسس البداية مستعادة على محمل الثقة بخيال عريق. لكنها تقلب كل الأفكار التي استندت على الخيال ذاته: ( يبدو أن نهاية العمل كانت أصل العالم..)، لكن البيتَ الذّهَبَ، كذلك الحمار، يبدو غير متوافق مع الحقل والأسيجة الخفيضة. يعزِّزُ البيتُ، بمثل هذا الافتراق الجوهري، علامة اختلاف جديدة. إنه يكرِّسُ فصلاً آخر بين عمل البيت وعمل الحمار وعمل الطبيعة. يستدعي تبيانُ البيت بهذا اللون فكرةَ العثور على كنز، لكن فكرة الكنز من صلب عمل مرور الوقت وتعاقب الأحوال.
يستدعي كذلك بقاءه بيتاً وحسب. بيتٌ ذهبٌ، راحةٌ مغمضة العين حيث يعثر الحالم على لون الفناء الضاري. فالذهب، أي مصدر القوة والعمل، لم يبن البيت فقط. لم يثبته ويرسخه هكذا؛ بل عوض ذلك أو فوق ذلك أغلقه آن سوّاه، أرتجه محكماً حصيناً مثل شهوة عمياء أغلقت العين عن الألم، عن ثمرة الوقت، عن إرث الدم وإرث البراز! ثمة أثر حقلي مخطط في جزء من قطع السماء التي توحي بأثر انسدال ستارة ثقيلة ثخينة اللون. سماءٌ مثل حجاب من أوراق الشجرة وظلالها. الشجرة التي تكاد تقع أو تطير أو تنفصل من هناك في ركنها المرتفع على يسار اللوحة حيث تفتح طرقاً للونها في معابر مجزوءة من الزرقة السماوية. جزء من السماء حقل كذلك. السماء هكذا محل حرث ومحل وطء ومحل ألوان الشجرة وأوراقها المتفرعة كما لو من درب مجهولة. السماءُ بذا محل انفعال شجري، مكان ثمرة شجرية. ثمرة من لمس وحس ونمو وظلال.
الشجرة التي توحي بطيف تلال متلاصقة متهامسة كأنما تسرب ما هو خلف البيت وخلف الدرب اللامرئية. إنها أيضاً مثل الحمار تذكر بالطرق السرية المفضية إلى البيت من علو ومن حلم عال. الطريق يفضي إلى البيت، والطريق يخرج من البيت إلى ما وراء الشجرة وما وراء التلال. تذكر الشجرة بالأفق الذي يذكر العين بكونها دائرة من محل إلى آخر تلو دائرة ضمن دائرة….غير أن حمار خوان ميرو الجميل بابتسامته الخفية يبدو مستغنياً عما حوله من شجر وسماء وبيت هو رهان الشجرة على قلب السماء. إنه في شأن آخر عن البيت والشجرة، عن التلال وأطراف السماء المنخفضة فوقه.
حمار ممتلئ اللحظة التي هو فيها على ما هو عليه. حمار للذكرى، حمار جدير بالاقتناء، اقتناء جدير بالحب. للعبور من ثقل الأرض المحيطة إلى خفة السماء المنسية. الحمار جسرٌ من صبر الزاهد وغروبٌ من حكمة الفيلسوف وشرَهٌ من عين الرسام وهجْرٌ من رقة الشاعر. لكنه بمنظرٍ مغرٍ كهذا، واستغناء صاف عنيد، من جديد، يذكّرنا بالبيت والشجرة والسماء والطريق إليها كلها دفعة واحدة. حمار في حقل بيتي مثل عين داخل دماغ نبيه. إن حمار خوان ميرو يذكرنا بعبارة لوليام شكسبير:(ذهنٌ يفكر عبر الصور) لكأن الصور هنا من مجرى واحد متوحد. إنها كما لو صيغت من مياه الحلم ذاتها. الصور أيضاً إشارات تفكر وتدفعنا إلى التفكير عبرها ومعها. إنها عمل من أعمال الذهن الذي لا يعرف القياسات العادية. لما لا يكون اللون عمارة فلسفة وبنيان رأي، لم لا يكون قصيدة في الصمت ولغة في لحم العقل!؟ قد تكون للمسة التي تخلق اللون، وهو لون لا يتكرر أبداً، قوة الفلسفة التي تحمل دقة الطبيعة وتموج أطيافها اللانهائي. الطبيعةُ – الأصلُ، الأصلُ- الهجنةُ، الهجنةُ النقاءُ، بقول محور عن أدونيس، بصحبة حيوان خجولٍ تؤسّسُ القانونَ الحرَّ لتلاقي الفكر مع المخيلة، حيث تتواصل الكائنات بلا مسافات مقيدة بلا حبس معيق. حمارُ خوان ميرو ليس لقْيَ حلمٍ فقط. إنه من جهد التخيل النقي البريء والهارب مثل لحظة مركبة سائلة في كمالها الأثيري الرقيق المرتعش. الارتعاش الباهر الساكن، إذا جاز القول هنا، ينمي حساسية اللطف المشرقة مانحاً العينَ ما لن تخسره أبداً. لا ندري من أين اقتنى خوان ميرو حماره الأرضي وحقله السماوي اللطيف! لكنهما الآن ملك نظرنا وذاكرتنا. بطن الحمار من لون التراب الأملس. بقية جسمه بني داكن مثل نتوءات التراب المثلوم. لا نستطيع الجزم بفصل ثابت من اللوحة.
تبدو اللوحة مضمومة خارج الزمن الفيزيائي رغم اتكالها الكلي على مفردات الطبيعة. إن حمار خوان ميرو لا يشبه الحمير وأرضه لا تشبه الأرض. لكنه حمار كأي حمار، وهي أرض كأي أرض. مرة أخرى يعزز هذا الحالُ الساهمُ اللاتشابهَ الثمين والذكي الذي تضفيه اللوحة على الحياة الخالصة والفكر الخالص. يكتسب الحمارُ من اللوحة حياة فردية وتكتسب الأرض- مع الحقل والبيت والشجرة السماء- وجوداً خالصاً غير ممسوس وغير محاز من قبل، وجوداً متفتحاً خارج تسميات عامة راكدة. اللاتشابهُ هنا رديف الخلق ورديف التميز الفرحين. حمارُ خوانْ ميرو أخيراً ناعماً متبسماً بل ساخراً يقدِّمُ للعقل الناظر فرصةَ مرَحٍ ذهبيّ.
موقع الآوان
من هنا غرابته الفريدة حماراً بلا رفيقٍ ولا صاحبٍ كعينٍ واسعة – عين الحلم- لكنها تخفَّفَتْ من كل إرث وكل وصية. كان إخوان الصفا وخلّان الوفاء يرون في العبادات والطقوس الدينية علامةً على حاجة لدى المتعبِّد مثلُها مثلُ حاجة المريض. غير المريض لا يحتاج طقساً ولا عبادة. إنه يحيا وبداخله روحُهُ التي تشفيه مثلما تمرضه، تحميه كما تمحوه!! حمارُ خوان ميرو ليس مريضاً. لا تبدو عليه آثار أي عياء أو إرهاق، أو علّة. حمار في أخوَّة صافية مع الوقت والأرض وأثر تتالي الفصول الخلاب. حمارٌ تحت عينٍ مسحورةٌ به. عينٌ أبدَتْ ما سحرها وهالها عبر حمار وحيد صامت. ثمة قطعتان محروثتان أمامه، وعلى يمينه، تبثّان عبيرَ هندسةٍ ذات خطوط وأثلام أنيقة. لون القطعتين من لون الحمار نفسه.
حمار خوان ميرو العزيز امتدادٌ للأرض المحروثة بعناية بادية، امتدادٌ أعلى مغتبط ومنفرد. إنه ليس بمستوى الأرض المحيطة رغم كونه على الأرض التي تحمله وتحميه. انخفضتِ الأرضُ عن ابنها، أعانتْهُ، وتركته محاطاً بعنايتها المتفتحة. ثمة بيتٌ تحت طغيان ضياءٍ ذهبي. ذهبيّةُ لون البيت وصفاؤه يجعلانه حاراً قريباً وحميماً. قرابةٌ مثل تذكار وقربٌ مثل حنين وحرارةٌ مثل فؤاد يتذكر ويشتاق. القربُ دليلُ معرفةٍ، والمعرفةُ دليلُ سفرٍ، لكنه سفرٌ في الإقامة وقربٌ في البعد، وحميميةٌ في العراء، ومعرفةٌ في جهل كامل. يقدّمُ مكوثُ الحمار واقفاً وحيداً بلا حمل فرصة النظر إلى البيت كذكرى مؤجلة حان حلولها الآن. يشي الحمارُ بالطرق اللامرئية التي تفضي إلى البيت، يموِّجُ لونُهُ الثابتُ ما امتصَّهُ جلْدُه من شقوق الأفجار والغروبات. ثباتُ لون الحمار ذو مسحة سكينة صوفية. إنه يصونُ لحظةَ اليقظة ولحظة الفراغ من اليقظة. يلجمهما الآن تحت لسانه وهو يتغذى بعد فراغه من كلّ عمل. يذكرنا هكذا حال بعبارة لجاك دريدا اقتبسها بدوره من مصدر لا نعرفه. تشير العبارة إلى لحظة تمام خلق العالم. إنها تؤسس البداية مستعادة على محمل الثقة بخيال عريق. لكنها تقلب كل الأفكار التي استندت على الخيال ذاته: ( يبدو أن نهاية العمل كانت أصل العالم..)، لكن البيتَ الذّهَبَ، كذلك الحمار، يبدو غير متوافق مع الحقل والأسيجة الخفيضة. يعزِّزُ البيتُ، بمثل هذا الافتراق الجوهري، علامة اختلاف جديدة. إنه يكرِّسُ فصلاً آخر بين عمل البيت وعمل الحمار وعمل الطبيعة. يستدعي تبيانُ البيت بهذا اللون فكرةَ العثور على كنز، لكن فكرة الكنز من صلب عمل مرور الوقت وتعاقب الأحوال.
يستدعي كذلك بقاءه بيتاً وحسب. بيتٌ ذهبٌ، راحةٌ مغمضة العين حيث يعثر الحالم على لون الفناء الضاري. فالذهب، أي مصدر القوة والعمل، لم يبن البيت فقط. لم يثبته ويرسخه هكذا؛ بل عوض ذلك أو فوق ذلك أغلقه آن سوّاه، أرتجه محكماً حصيناً مثل شهوة عمياء أغلقت العين عن الألم، عن ثمرة الوقت، عن إرث الدم وإرث البراز! ثمة أثر حقلي مخطط في جزء من قطع السماء التي توحي بأثر انسدال ستارة ثقيلة ثخينة اللون. سماءٌ مثل حجاب من أوراق الشجرة وظلالها. الشجرة التي تكاد تقع أو تطير أو تنفصل من هناك في ركنها المرتفع على يسار اللوحة حيث تفتح طرقاً للونها في معابر مجزوءة من الزرقة السماوية. جزء من السماء حقل كذلك. السماء هكذا محل حرث ومحل وطء ومحل ألوان الشجرة وأوراقها المتفرعة كما لو من درب مجهولة. السماءُ بذا محل انفعال شجري، مكان ثمرة شجرية. ثمرة من لمس وحس ونمو وظلال.
الشجرة التي توحي بطيف تلال متلاصقة متهامسة كأنما تسرب ما هو خلف البيت وخلف الدرب اللامرئية. إنها أيضاً مثل الحمار تذكر بالطرق السرية المفضية إلى البيت من علو ومن حلم عال. الطريق يفضي إلى البيت، والطريق يخرج من البيت إلى ما وراء الشجرة وما وراء التلال. تذكر الشجرة بالأفق الذي يذكر العين بكونها دائرة من محل إلى آخر تلو دائرة ضمن دائرة….غير أن حمار خوان ميرو الجميل بابتسامته الخفية يبدو مستغنياً عما حوله من شجر وسماء وبيت هو رهان الشجرة على قلب السماء. إنه في شأن آخر عن البيت والشجرة، عن التلال وأطراف السماء المنخفضة فوقه.
حمار ممتلئ اللحظة التي هو فيها على ما هو عليه. حمار للذكرى، حمار جدير بالاقتناء، اقتناء جدير بالحب. للعبور من ثقل الأرض المحيطة إلى خفة السماء المنسية. الحمار جسرٌ من صبر الزاهد وغروبٌ من حكمة الفيلسوف وشرَهٌ من عين الرسام وهجْرٌ من رقة الشاعر. لكنه بمنظرٍ مغرٍ كهذا، واستغناء صاف عنيد، من جديد، يذكّرنا بالبيت والشجرة والسماء والطريق إليها كلها دفعة واحدة. حمار في حقل بيتي مثل عين داخل دماغ نبيه. إن حمار خوان ميرو يذكرنا بعبارة لوليام شكسبير:(ذهنٌ يفكر عبر الصور) لكأن الصور هنا من مجرى واحد متوحد. إنها كما لو صيغت من مياه الحلم ذاتها. الصور أيضاً إشارات تفكر وتدفعنا إلى التفكير عبرها ومعها. إنها عمل من أعمال الذهن الذي لا يعرف القياسات العادية. لما لا يكون اللون عمارة فلسفة وبنيان رأي، لم لا يكون قصيدة في الصمت ولغة في لحم العقل!؟ قد تكون للمسة التي تخلق اللون، وهو لون لا يتكرر أبداً، قوة الفلسفة التي تحمل دقة الطبيعة وتموج أطيافها اللانهائي. الطبيعةُ – الأصلُ، الأصلُ- الهجنةُ، الهجنةُ النقاءُ، بقول محور عن أدونيس، بصحبة حيوان خجولٍ تؤسّسُ القانونَ الحرَّ لتلاقي الفكر مع المخيلة، حيث تتواصل الكائنات بلا مسافات مقيدة بلا حبس معيق. حمارُ خوان ميرو ليس لقْيَ حلمٍ فقط. إنه من جهد التخيل النقي البريء والهارب مثل لحظة مركبة سائلة في كمالها الأثيري الرقيق المرتعش. الارتعاش الباهر الساكن، إذا جاز القول هنا، ينمي حساسية اللطف المشرقة مانحاً العينَ ما لن تخسره أبداً. لا ندري من أين اقتنى خوان ميرو حماره الأرضي وحقله السماوي اللطيف! لكنهما الآن ملك نظرنا وذاكرتنا. بطن الحمار من لون التراب الأملس. بقية جسمه بني داكن مثل نتوءات التراب المثلوم. لا نستطيع الجزم بفصل ثابت من اللوحة.
تبدو اللوحة مضمومة خارج الزمن الفيزيائي رغم اتكالها الكلي على مفردات الطبيعة. إن حمار خوان ميرو لا يشبه الحمير وأرضه لا تشبه الأرض. لكنه حمار كأي حمار، وهي أرض كأي أرض. مرة أخرى يعزز هذا الحالُ الساهمُ اللاتشابهَ الثمين والذكي الذي تضفيه اللوحة على الحياة الخالصة والفكر الخالص. يكتسب الحمارُ من اللوحة حياة فردية وتكتسب الأرض- مع الحقل والبيت والشجرة السماء- وجوداً خالصاً غير ممسوس وغير محاز من قبل، وجوداً متفتحاً خارج تسميات عامة راكدة. اللاتشابهُ هنا رديف الخلق ورديف التميز الفرحين. حمارُ خوانْ ميرو أخيراً ناعماً متبسماً بل ساخراً يقدِّمُ للعقل الناظر فرصةَ مرَحٍ ذهبيّ.
موقع الآوان