تظهر أهمية الإبداع، وخطورة منطقه، وقدرته على خلق الدهشة والصدمة، عندما يستفزُ عمل إبداعي السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الدينية. وعندما يتم إدخال الإبداع إلى قاعات المحكمة، عندها يُؤكد الإبداع شرعيته الوجودية، ودوره في الحياة العامة، ويفرض بالتالي، نوعا من الانتباه الخاص، الذي قد يخفت في مجتمعات ما تزال تعتبر الإبداع شيئا عاديا، لا يملك موقعا في تدبير الحياة والفرد والعالم، ولا يُحقق ما تفعله السياسة والاقتصاد والأعراف والتاريخ.
ولهذا، لا يحضر الإبداع في التفكير الحزبي، والتدبير السياسي، وفي إستراتيجية منظومة التربية والتعليم، كما لا يحضر المبدع باعتباره قوة اقتراحية في الشأن العام، ولا تتم استشارته في قضايا الدولة والمجتمع والجمال والسلم، وقد يتم تذكره، وليس التفكير فيه، عندما يقع حدث (زلزال، إعصار، اغتصاب، إرهاب..)، فتتم الهرولة الإعلامية إليه، لعلها تجد الإجابة الصحيحة عما حدث. وعليه، فإن ظاهرة المنع والمصادرة والحظر والرقابة التي ما تزال تُرافق الإبداع، في سياقات كثيرة، تُعبر عن أهمية الإبداع ودوره في خلخلة السلط، وجعلها تتحرك بسرعة، فتكشف عن سوء تدبير نظامها، أو تناقض خطابها، فيفضح الإبداع أسرار نواياها.
تعرض كثير من الأعمال الإبداعية العربية إلى محاكمات قضائية، وتمت مُتابعة مبدعيها قانونيا، والحكم بغرامة مالية، وفي غالب الأحيان، يتم إصدار حكم منع تسويق العمل، بل منعه من التداول، وسحبه من المكتبات وفضاءات البيع. تختلف أسباب الرقابة والمصادرة والمنع من مجتمع إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى. كما يتحدد المنع بمرجعيات مختلفة، ما يجعل الكتب/الإبداع في مواجهة عدد كبير من دوائر المنع. فقد يقف المجتمع وراء منع كتاب أو رواية أو مجموعة قصصية، أو شريط سينمائي أو عرض مسرحي، تحت ذريعة الخدش في حياة المجتمع، والمس بالتعاقدات والأعراف الاجتماعية، ويكثر هذا النموذج من المنع، في المجتمعات المحافظة، التي يهيمن فيها نظام العشيرة، ويتحكم فيها منطق القبيلة، حتى إن عبّرت مظاهرها الاستهلاكية عن الحداثة. ويُشكل موقف المجتمع سلطة قوية في هذا المنع. لا يتعلق الأمر- في هذا النموذج- بالمجتمعات العربية فقط، وإنما أيضا مجتمعات غربية كانت وراء منع أعمال اعتبرتها مُسيئة للأخلاق، خاصة في مراحل تاريخية مثل رواية «عالم رائع جديد» للروائي الإنكليزي ألدوس هكسلي، التي مُنعت في إيرلندا وأستراليا سنة 1932، بسبب تعبيرات جنسية.
ومرة تقف الدولة بمؤسساتها، لإصدار قرار المُصادرة والمنع، تحت ذريعة المس بثوابت الدولة، والتحريض على خلخلة الاستقرار السياسي، وأمن الدولة، والسخرية من النظام الحاكم، وتعتبر رواية 1984، للروائي جورج أورويل من أكثر الروايات التي تم منعها منذ صدورها عام 1950، في العديد من الدول، خاصة في الاتحاد السوفييتي، قبل أن تتحرر من المنع، وتعرف انتشارا لافتا للنظر، ما يزال يُحقق للرواية ـ إلى حد اليوم- مبيعات وطبعات كثيرة، مع ترجمة لأكبر عدد من لغات العالم. كما تُشكل السلطة الدينية مصدرا للمنع، تحت دواعي خدش الدين، والدعوة إلى الانزياح عن مرجعيته، وإفساد دين المؤمنين، والحث على الخروج عن الأخلاق والقيم الدينية، وتعد رواية «وليمة لأعشاب البحر» الصادرة سنة 1983، للكاتب السوري حيدر حيدر، من الروايات التي تعرضت للمنع بتهمة الإساءة إلى الدين، والذات الإلهية في كثير من الدول العربية. وإذا كانت الدول الغربية قد تجاوزت ـ بمستويات مختلفة- سلطة الرقابة والمنع، فإن أغلب البلدان العربية ما تزال تُرافق الإبداع بالمراقبة، بل تتبعه في أروقة معارض الكتاب، وتسحبه اعتقادا منها، أنها تُقبر خطرا يحوم حولها.
وعليه، فإن الإبداع/الكتابة بمختلف مرجعياته (فكرية، فلسفية، سوسيولوجية، تاريخية، سياسية، نسائية) يتحرك في فضاء الرقابة المتعددة والمتنوعة. وأحيانا، يتحرك رقيبٌ بدعوة حماية رقيبٍ آخر، حتى لا يحدث الاصطدام في المجتمع، كأن تتحرك الدولة بسرعة فائقة، وتمنع عملا إبداعيا/فكريا بدعوى حماية المجتمع من سلطة رجال الدين، أو حماية التعاقدات المتفق عليها اجتماعيا، حتى لا يتحرك المجتمع، ويتصرف بقانونه الخاص، ويطلب منع العمل. وبهذا الشكل، يُصبح الإبداع/الكتابة موضوعا لرقابة جماعية، تتناوب في عملها، وتُمارس سلطتها حسب نوع الرقابة.
والمنع ليس ظاهرة حديثة، إنما قديمة تنشط – بالخصوص- في مناخ مُقيد، يفتقد إلى مساحة معقولة من الحرية والديمقراطية، غير أن استمرار الظاهرة، خاصة مع ثقافة حقوق الإنسان، وتطور مفهوم الكتابة، وتراكم مناهج تحليل الخطابات الإبداعية والفكرية والسياسية، يُعبر عن هذا الاصطدام المُستمر بين الواقع والمحتمل. ومادامت مؤسسات الواقع غير ثابتة، وتتغير حسب التحولات التاريخية والاجتماعية، كما أن الأيديولوجيات تتوالد، وتُشكل سلطة إلى جانب سلط أخرى، فإن الإبداع/الكتابة سيظل مُعرضا لمختلف أشكال الرقابة. غير أن المنع يشتغل- في أغلب الأحيان- ضد سلطة الرقابة، ويتحول إلى داعم لطلب العمل الممنوع، بل هناك أعمال، لم تكن لتعرف إقبالا كبيرا، لو لم يطلها المنع، ويُصادر حقها في التداول بين القراء. ومع زمن التكنولوجيا، وما توفره من إمكانيات تقنية لتمرير الكتب، ونشرها إلكترونيا بدون مانع أو رقيب، فإن المواجهة بين الإبداع/الكتابة وسلط الرقابة، باتت تعرف تحولات كبيرة، وتطرح سؤالا جوهريا يتعلق بتفكيك الخلل المعرفي وراء هذا المنع.
وإذا كان الموضوع قد ورد تحت تسميات عديدة، منها: المنع والرقابة والمُصادرة، والحظر ما يعني أن التفكير يتجه ـ باستمرار- إلى وصف العلاقة بين الإبداع والقضاء من خلال شكل الحكم، أو التعبير عن رفضه وإدانته، فإن موضوعا يبدو مهما، ويتطلب التفكير فيه، من أجل تفكيك هذه العلاقة المتوترة بين الكتابة الإبداعية والفكرية وسلط الرقابة، هو علاقة القضاء بلغة الإبداع، وكيف يصدر القاضي حُكما، بناء على معايير ومواد تمت صياغتها بلغة قانونية، مُخالفة للغة الإبداع.
وهنا نقترح بعض الأسئلة من أجل مناقشتها، والتفكير فيها: ألا يحتاج القاضي إلى تكوين علمي في مفهوم الأدب ومنطقه، ما دام يحكم في قضايا الأدب؟ لماذا عندما يحكم القضاء في قضايا الإرث، يرجع إلى النص الديني في النماذج الإسلامية؟ ولماذا يختلف الحكم في قضايا الأسرة مثلا في الدول العربية؟ ألا يعتمد بذلك على معايير ثقافية اجتماعية سياقية؟ ألا يحتاج الأمر إلى إعادة النظر في معايير الحكم على الإبداع انطلاقا من خصوصية الإبداع؟ ألا يتطلب الموضوع وعيا ثقافيا باللغة الإبداعية، التي تنزاح في تحققها عن لغة القانون والاقتصاد والمجتمع واليومي؟ ألا يحتاج القاضي إلى معرفة بثقافة الخيال باعتباره منبع الإبداع، والتخييل باعتباره فعل تحويل الخيال، والمُتخيل باعتباره مادة نتجت عن الخيال/ المنبع والتخييل/الفعل، وبالتالي فإن التعامل مع الإبداع يحتاج إلى لغة أخرى، ليست لغة القانون التي تُسطر مواد الحكم؟ لماذا لا يتم التفكير في إضافة تكوين للقضاة، وكل المشتغلين بسلك القانون، من أجل الوعي بالإبداع ومنطقه ولغته؟ تلك بعض الأسئلة التي من شأنها أن تضيء علاقة الكتابة بالمنع، وكيفية تفكيك هذه العلاقة، باعتماد ثقافة العلم والمعرفة.
تأسيسا على هذا الاقتراح، نستحضر هنا، بعض الأمثلة الإبداعية التي تعرضت إلى المحاكمة، وتوبع مبدعوها قانونيا، وتم إصدار الحكم في حقهم، وحوصرت أعمالهم، ومُنعت من التواجد في سوق القراءة، وحتى نقف عند هذا اللبس في الجهل بمفهوم اللغة الإبداعية. نتذكر في هذا الصدد كتابات الكاتبة الكويتية ليلى العثمان، التي تعرضت بعض قصصها من المجموعتين «الرحيل» (1979) و»تأتي العيون» (1980) إلى الإدانة، وتمت محاكمة الكاتبة، باعتماد جمل سردية تحضر فيها المرأة ذاتا تطلب الحب، وتُعبر عن الرغبة في الرجل، أو ذاتا تسخر من الرجل. كما نتذكر رواية «جزيرة الذكور» ( 2014) للكاتب المغربي الراحل عزيز بنحدوش، التي حوكمت بدعوةٍ تقدم بها شخص، يتهم الكاتب بسبه في الرواية، ويقصده بالاسم.
وهناك نماذج عديدة تدخل في المثال نفسه، وتُعبر عن هذا الخلل المعرفي في فهم اللغة الإبداعية، والتعامل معها مثل اللغة اليومية ذات المعنى التواصلي. إن اعتقاد القضاء بالانتصار على الإبداع من خلال الحكم عليه، ومنعه من التداول، وتجريم مبدعه، هي لحظة سخرية الإبداع من القضاء الذي يكشف عن جهله بمنطق التخييل، ولغة الإبداع التي لا تقول، فتعكس، ولكنها تشخص فترمز، ولا تتكلم لغة اليومي، فتحكي، ولكنها توحي، فتعبر.
ولهذا، لا يحضر الإبداع في التفكير الحزبي، والتدبير السياسي، وفي إستراتيجية منظومة التربية والتعليم، كما لا يحضر المبدع باعتباره قوة اقتراحية في الشأن العام، ولا تتم استشارته في قضايا الدولة والمجتمع والجمال والسلم، وقد يتم تذكره، وليس التفكير فيه، عندما يقع حدث (زلزال، إعصار، اغتصاب، إرهاب..)، فتتم الهرولة الإعلامية إليه، لعلها تجد الإجابة الصحيحة عما حدث. وعليه، فإن ظاهرة المنع والمصادرة والحظر والرقابة التي ما تزال تُرافق الإبداع، في سياقات كثيرة، تُعبر عن أهمية الإبداع ودوره في خلخلة السلط، وجعلها تتحرك بسرعة، فتكشف عن سوء تدبير نظامها، أو تناقض خطابها، فيفضح الإبداع أسرار نواياها.
تعرض كثير من الأعمال الإبداعية العربية إلى محاكمات قضائية، وتمت مُتابعة مبدعيها قانونيا، والحكم بغرامة مالية، وفي غالب الأحيان، يتم إصدار حكم منع تسويق العمل، بل منعه من التداول، وسحبه من المكتبات وفضاءات البيع. تختلف أسباب الرقابة والمصادرة والمنع من مجتمع إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى. كما يتحدد المنع بمرجعيات مختلفة، ما يجعل الكتب/الإبداع في مواجهة عدد كبير من دوائر المنع. فقد يقف المجتمع وراء منع كتاب أو رواية أو مجموعة قصصية، أو شريط سينمائي أو عرض مسرحي، تحت ذريعة الخدش في حياة المجتمع، والمس بالتعاقدات والأعراف الاجتماعية، ويكثر هذا النموذج من المنع، في المجتمعات المحافظة، التي يهيمن فيها نظام العشيرة، ويتحكم فيها منطق القبيلة، حتى إن عبّرت مظاهرها الاستهلاكية عن الحداثة. ويُشكل موقف المجتمع سلطة قوية في هذا المنع. لا يتعلق الأمر- في هذا النموذج- بالمجتمعات العربية فقط، وإنما أيضا مجتمعات غربية كانت وراء منع أعمال اعتبرتها مُسيئة للأخلاق، خاصة في مراحل تاريخية مثل رواية «عالم رائع جديد» للروائي الإنكليزي ألدوس هكسلي، التي مُنعت في إيرلندا وأستراليا سنة 1932، بسبب تعبيرات جنسية.
ومرة تقف الدولة بمؤسساتها، لإصدار قرار المُصادرة والمنع، تحت ذريعة المس بثوابت الدولة، والتحريض على خلخلة الاستقرار السياسي، وأمن الدولة، والسخرية من النظام الحاكم، وتعتبر رواية 1984، للروائي جورج أورويل من أكثر الروايات التي تم منعها منذ صدورها عام 1950، في العديد من الدول، خاصة في الاتحاد السوفييتي، قبل أن تتحرر من المنع، وتعرف انتشارا لافتا للنظر، ما يزال يُحقق للرواية ـ إلى حد اليوم- مبيعات وطبعات كثيرة، مع ترجمة لأكبر عدد من لغات العالم. كما تُشكل السلطة الدينية مصدرا للمنع، تحت دواعي خدش الدين، والدعوة إلى الانزياح عن مرجعيته، وإفساد دين المؤمنين، والحث على الخروج عن الأخلاق والقيم الدينية، وتعد رواية «وليمة لأعشاب البحر» الصادرة سنة 1983، للكاتب السوري حيدر حيدر، من الروايات التي تعرضت للمنع بتهمة الإساءة إلى الدين، والذات الإلهية في كثير من الدول العربية. وإذا كانت الدول الغربية قد تجاوزت ـ بمستويات مختلفة- سلطة الرقابة والمنع، فإن أغلب البلدان العربية ما تزال تُرافق الإبداع بالمراقبة، بل تتبعه في أروقة معارض الكتاب، وتسحبه اعتقادا منها، أنها تُقبر خطرا يحوم حولها.
وعليه، فإن الإبداع/الكتابة بمختلف مرجعياته (فكرية، فلسفية، سوسيولوجية، تاريخية، سياسية، نسائية) يتحرك في فضاء الرقابة المتعددة والمتنوعة. وأحيانا، يتحرك رقيبٌ بدعوة حماية رقيبٍ آخر، حتى لا يحدث الاصطدام في المجتمع، كأن تتحرك الدولة بسرعة فائقة، وتمنع عملا إبداعيا/فكريا بدعوى حماية المجتمع من سلطة رجال الدين، أو حماية التعاقدات المتفق عليها اجتماعيا، حتى لا يتحرك المجتمع، ويتصرف بقانونه الخاص، ويطلب منع العمل. وبهذا الشكل، يُصبح الإبداع/الكتابة موضوعا لرقابة جماعية، تتناوب في عملها، وتُمارس سلطتها حسب نوع الرقابة.
والمنع ليس ظاهرة حديثة، إنما قديمة تنشط – بالخصوص- في مناخ مُقيد، يفتقد إلى مساحة معقولة من الحرية والديمقراطية، غير أن استمرار الظاهرة، خاصة مع ثقافة حقوق الإنسان، وتطور مفهوم الكتابة، وتراكم مناهج تحليل الخطابات الإبداعية والفكرية والسياسية، يُعبر عن هذا الاصطدام المُستمر بين الواقع والمحتمل. ومادامت مؤسسات الواقع غير ثابتة، وتتغير حسب التحولات التاريخية والاجتماعية، كما أن الأيديولوجيات تتوالد، وتُشكل سلطة إلى جانب سلط أخرى، فإن الإبداع/الكتابة سيظل مُعرضا لمختلف أشكال الرقابة. غير أن المنع يشتغل- في أغلب الأحيان- ضد سلطة الرقابة، ويتحول إلى داعم لطلب العمل الممنوع، بل هناك أعمال، لم تكن لتعرف إقبالا كبيرا، لو لم يطلها المنع، ويُصادر حقها في التداول بين القراء. ومع زمن التكنولوجيا، وما توفره من إمكانيات تقنية لتمرير الكتب، ونشرها إلكترونيا بدون مانع أو رقيب، فإن المواجهة بين الإبداع/الكتابة وسلط الرقابة، باتت تعرف تحولات كبيرة، وتطرح سؤالا جوهريا يتعلق بتفكيك الخلل المعرفي وراء هذا المنع.
وإذا كان الموضوع قد ورد تحت تسميات عديدة، منها: المنع والرقابة والمُصادرة، والحظر ما يعني أن التفكير يتجه ـ باستمرار- إلى وصف العلاقة بين الإبداع والقضاء من خلال شكل الحكم، أو التعبير عن رفضه وإدانته، فإن موضوعا يبدو مهما، ويتطلب التفكير فيه، من أجل تفكيك هذه العلاقة المتوترة بين الكتابة الإبداعية والفكرية وسلط الرقابة، هو علاقة القضاء بلغة الإبداع، وكيف يصدر القاضي حُكما، بناء على معايير ومواد تمت صياغتها بلغة قانونية، مُخالفة للغة الإبداع.
وهنا نقترح بعض الأسئلة من أجل مناقشتها، والتفكير فيها: ألا يحتاج القاضي إلى تكوين علمي في مفهوم الأدب ومنطقه، ما دام يحكم في قضايا الأدب؟ لماذا عندما يحكم القضاء في قضايا الإرث، يرجع إلى النص الديني في النماذج الإسلامية؟ ولماذا يختلف الحكم في قضايا الأسرة مثلا في الدول العربية؟ ألا يعتمد بذلك على معايير ثقافية اجتماعية سياقية؟ ألا يحتاج الأمر إلى إعادة النظر في معايير الحكم على الإبداع انطلاقا من خصوصية الإبداع؟ ألا يتطلب الموضوع وعيا ثقافيا باللغة الإبداعية، التي تنزاح في تحققها عن لغة القانون والاقتصاد والمجتمع واليومي؟ ألا يحتاج القاضي إلى معرفة بثقافة الخيال باعتباره منبع الإبداع، والتخييل باعتباره فعل تحويل الخيال، والمُتخيل باعتباره مادة نتجت عن الخيال/ المنبع والتخييل/الفعل، وبالتالي فإن التعامل مع الإبداع يحتاج إلى لغة أخرى، ليست لغة القانون التي تُسطر مواد الحكم؟ لماذا لا يتم التفكير في إضافة تكوين للقضاة، وكل المشتغلين بسلك القانون، من أجل الوعي بالإبداع ومنطقه ولغته؟ تلك بعض الأسئلة التي من شأنها أن تضيء علاقة الكتابة بالمنع، وكيفية تفكيك هذه العلاقة، باعتماد ثقافة العلم والمعرفة.
تأسيسا على هذا الاقتراح، نستحضر هنا، بعض الأمثلة الإبداعية التي تعرضت إلى المحاكمة، وتوبع مبدعوها قانونيا، وتم إصدار الحكم في حقهم، وحوصرت أعمالهم، ومُنعت من التواجد في سوق القراءة، وحتى نقف عند هذا اللبس في الجهل بمفهوم اللغة الإبداعية. نتذكر في هذا الصدد كتابات الكاتبة الكويتية ليلى العثمان، التي تعرضت بعض قصصها من المجموعتين «الرحيل» (1979) و»تأتي العيون» (1980) إلى الإدانة، وتمت محاكمة الكاتبة، باعتماد جمل سردية تحضر فيها المرأة ذاتا تطلب الحب، وتُعبر عن الرغبة في الرجل، أو ذاتا تسخر من الرجل. كما نتذكر رواية «جزيرة الذكور» ( 2014) للكاتب المغربي الراحل عزيز بنحدوش، التي حوكمت بدعوةٍ تقدم بها شخص، يتهم الكاتب بسبه في الرواية، ويقصده بالاسم.
وهناك نماذج عديدة تدخل في المثال نفسه، وتُعبر عن هذا الخلل المعرفي في فهم اللغة الإبداعية، والتعامل معها مثل اللغة اليومية ذات المعنى التواصلي. إن اعتقاد القضاء بالانتصار على الإبداع من خلال الحكم عليه، ومنعه من التداول، وتجريم مبدعه، هي لحظة سخرية الإبداع من القضاء الذي يكشف عن جهله بمنطق التخييل، ولغة الإبداع التي لا تقول، فتعكس، ولكنها تشخص فترمز، ولا تتكلم لغة اليومي، فتحكي، ولكنها توحي، فتعبر.