لتوضيح من هو "العارف" يضع ابن سينا تمييزات مهمة بين طلاب الحق:
فيميز بين العارف والزاهد والعابد:
أ_ فالزاهد هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها.
ب_ والعابد هو المواظب على فعل العبادات: من القيام والصيام ونحوهما.
ج_ وأما العارف فهو المتصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً لشروق نور الحق في سره.
|إن العارف تتعلق إرادته بالحق لذات الحق، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، إلا الحق، إذ الحق مؤثر على عرفان العارف، وذلك لأن غير العارف يؤثر شيئاً غير الحق وهو نيل الثواب والنجاة من العقاب. أما العارف فلا يتعلق إلا بالحق وحده دون أي هدف آخر.|
وزهد غير العارف زهد على كره، فعلى الرغم من أنه في صورة الزاهد إلا أنه أحرص الخلق على اللذات الحسية، فإن التارك شيئاً ليستأجل أضعافه أقرب إلى الطمع منه إلى القناعة" كما قال الطوسي في شرحه "أما العارف وهو (المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار، فقد عرف اللذة الحق، وولّى وجهه سمتها) كما قال ابن سينا.
وأولى درجات حركات العارفين: الإرادة، وهي " ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني، أو الساكن النفسي إلى العقد الإيماني _ من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، فيتحرك سيره إلى القدس، ينال من روح الاتصال، وما دامت درجته هذه، فهو مريد".
فرياضة النفس هي نهيها عن هواها، وصرفها إلى طاعة مولاها وذلك بالالتفات إلى الحق الأول وحده لتنقطع إليه، وتنصرف عما عداه، فيصير ذلك ملكة لها: لأن الغرض النهائي من الرياضة هو نيل الكمال الحقيقي، بيد أن ذلك يتوقف على حصول الاستعداد لذلك، وزوال الموانع داخلية كانت أو خارجية.
فإذا ما ترقى المريد في رياضته حتى يبلغ حداً ما عنت له خلسات من إطلاع نور الحق عليه، لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه _وهو المسمى عندهم أوقاتاً.
وكل وقت يكتنفه وجدان: وجد إليه، ووجد عليه. لأن الأول حزن في استبطاء الوحيد، والآخر أسف على فواته.
"ثم انه لتكثير عليه هذه الغواشي، إذا أمعن في الارتياض.
ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض. فكلما لمح منه شيئاً، عاج منه إلى جناب القدس، يتذكر بين أمره أمراً، فغشته غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء.
وإذا تمت رياضته واستغنى عنها لبلوغه مطلوبه وهو الاتصال الدائم بالحق، "صار سرّه مرآة مجلّوة، محاذياً بها شطر الحق، ودرّت عليه اللذات العلى، وفرح بنفسه لما بهاتين أثر الحق، وكان له نظر إلى الحق، ونظر إلى نفسه، وكان بعد متردداً". بسبب اتجاه نظره مرة إلى الحق، ومرة إلى ذاته المبتهجة بالحق.
"ثم انه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط" أي لا يرى ما سوى الله، وهنا تتم الغيبة عن النفس. "وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي بزينتها. وهناك يحق الوصول". _أي أن ملاحظته لنفسه بالمجاز، لا بالحقيقة، لأنه متوجه بكليته إلى الحق.
ثم ان ابن سينا بعد أن فرغ من ذكر درجات السلوك وانتهى إلى درجات الوصول، أراد أن ينبّه على نقصان جميع الدرجات قبل درجة الوصول.
وينتهي إلى تقرير حقيقة العرفان، فيقول ان العرفان، مبتدىء من تفريق، ونقض، وترك ورفض. أما التفريق فمن ذات العارف وما عسى أن يشغله عن الحق، أما النقض فاطرّاح الشواغل، أما الترك فالتخلص من الشواغل ابتغاء توخي الكمال لأجل ذاته، وأما الرفض فهو أن يرفض ذاته بالكلية.
وتلك درجات التزكية.
ويتلوها بدرجات التحلية. "وبيان درجاتها بالإجمال _كما يشرح الطوسي _ أن العارف إذا انقطع عن نفسه، واتصل بالحق، رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات، وكل علم مستغرقاً في علمه الذي لا يعزّ عنه شيء من الموجودات، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي يمتنع أن يتأبى عليها شيء من الممكنات: بل كل وجود، وكل كمال وجود فهو صادر عنه، فائض من لدنه _صار الحق حينئذ بصره الذي يبصر، وسمعه الذي به يسمع، وقدرته التي بها يفعل، وعلمه الذي به يعلم، ووجوده الذي به يوجد. فصار العارف حينئذ متخلقاً بأخلاق الله تعالى بالحقيقة.
العارف لا يعنيه التجسس والتحسّس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر، كما تعتريه الرحمة: فإنه مستبصر بسرّ الله في القدر.
وإذا أمر بالمعروف، أمر برفق ناصح، لا بعنف مغّير. وإذا جمّ (= عظّم) المعروف، فربما غار عليه من غير أهله.
العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقيّة الموت؟
وجواد، وكيف لا، وهو بمعزل عن محبة الباطل؟
وصفّاح للذنوب، وكيف لا، ونفسه أكبر من أن تجرحها ذات بشر؟
ونسّاء للأحقاد، وكيف لا، وذكره مشغول بالحق!
العارفون قد يختلفون في الهمم، بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر، على حكم ما يختلف عندهم من دواعي العبر.
-----------------------
المصدر : موسوعة الحضارة
فيميز بين العارف والزاهد والعابد:
أ_ فالزاهد هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها.
ب_ والعابد هو المواظب على فعل العبادات: من القيام والصيام ونحوهما.
ج_ وأما العارف فهو المتصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً لشروق نور الحق في سره.
|إن العارف تتعلق إرادته بالحق لذات الحق، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، إلا الحق، إذ الحق مؤثر على عرفان العارف، وذلك لأن غير العارف يؤثر شيئاً غير الحق وهو نيل الثواب والنجاة من العقاب. أما العارف فلا يتعلق إلا بالحق وحده دون أي هدف آخر.|
وزهد غير العارف زهد على كره، فعلى الرغم من أنه في صورة الزاهد إلا أنه أحرص الخلق على اللذات الحسية، فإن التارك شيئاً ليستأجل أضعافه أقرب إلى الطمع منه إلى القناعة" كما قال الطوسي في شرحه "أما العارف وهو (المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار، فقد عرف اللذة الحق، وولّى وجهه سمتها) كما قال ابن سينا.
وأولى درجات حركات العارفين: الإرادة، وهي " ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني، أو الساكن النفسي إلى العقد الإيماني _ من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، فيتحرك سيره إلى القدس، ينال من روح الاتصال، وما دامت درجته هذه، فهو مريد".
فرياضة النفس هي نهيها عن هواها، وصرفها إلى طاعة مولاها وذلك بالالتفات إلى الحق الأول وحده لتنقطع إليه، وتنصرف عما عداه، فيصير ذلك ملكة لها: لأن الغرض النهائي من الرياضة هو نيل الكمال الحقيقي، بيد أن ذلك يتوقف على حصول الاستعداد لذلك، وزوال الموانع داخلية كانت أو خارجية.
فإذا ما ترقى المريد في رياضته حتى يبلغ حداً ما عنت له خلسات من إطلاع نور الحق عليه، لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه _وهو المسمى عندهم أوقاتاً.
وكل وقت يكتنفه وجدان: وجد إليه، ووجد عليه. لأن الأول حزن في استبطاء الوحيد، والآخر أسف على فواته.
"ثم انه لتكثير عليه هذه الغواشي، إذا أمعن في الارتياض.
ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض. فكلما لمح منه شيئاً، عاج منه إلى جناب القدس، يتذكر بين أمره أمراً، فغشته غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء.
وإذا تمت رياضته واستغنى عنها لبلوغه مطلوبه وهو الاتصال الدائم بالحق، "صار سرّه مرآة مجلّوة، محاذياً بها شطر الحق، ودرّت عليه اللذات العلى، وفرح بنفسه لما بهاتين أثر الحق، وكان له نظر إلى الحق، ونظر إلى نفسه، وكان بعد متردداً". بسبب اتجاه نظره مرة إلى الحق، ومرة إلى ذاته المبتهجة بالحق.
"ثم انه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط" أي لا يرى ما سوى الله، وهنا تتم الغيبة عن النفس. "وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي بزينتها. وهناك يحق الوصول". _أي أن ملاحظته لنفسه بالمجاز، لا بالحقيقة، لأنه متوجه بكليته إلى الحق.
ثم ان ابن سينا بعد أن فرغ من ذكر درجات السلوك وانتهى إلى درجات الوصول، أراد أن ينبّه على نقصان جميع الدرجات قبل درجة الوصول.
وينتهي إلى تقرير حقيقة العرفان، فيقول ان العرفان، مبتدىء من تفريق، ونقض، وترك ورفض. أما التفريق فمن ذات العارف وما عسى أن يشغله عن الحق، أما النقض فاطرّاح الشواغل، أما الترك فالتخلص من الشواغل ابتغاء توخي الكمال لأجل ذاته، وأما الرفض فهو أن يرفض ذاته بالكلية.
وتلك درجات التزكية.
ويتلوها بدرجات التحلية. "وبيان درجاتها بالإجمال _كما يشرح الطوسي _ أن العارف إذا انقطع عن نفسه، واتصل بالحق، رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات، وكل علم مستغرقاً في علمه الذي لا يعزّ عنه شيء من الموجودات، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي يمتنع أن يتأبى عليها شيء من الممكنات: بل كل وجود، وكل كمال وجود فهو صادر عنه، فائض من لدنه _صار الحق حينئذ بصره الذي يبصر، وسمعه الذي به يسمع، وقدرته التي بها يفعل، وعلمه الذي به يعلم، ووجوده الذي به يوجد. فصار العارف حينئذ متخلقاً بأخلاق الله تعالى بالحقيقة.
العارف لا يعنيه التجسس والتحسّس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر، كما تعتريه الرحمة: فإنه مستبصر بسرّ الله في القدر.
وإذا أمر بالمعروف، أمر برفق ناصح، لا بعنف مغّير. وإذا جمّ (= عظّم) المعروف، فربما غار عليه من غير أهله.
العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقيّة الموت؟
وجواد، وكيف لا، وهو بمعزل عن محبة الباطل؟
وصفّاح للذنوب، وكيف لا، ونفسه أكبر من أن تجرحها ذات بشر؟
ونسّاء للأحقاد، وكيف لا، وذكره مشغول بالحق!
العارفون قد يختلفون في الهمم، بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر، على حكم ما يختلف عندهم من دواعي العبر.
-----------------------
المصدر : موسوعة الحضارة