محمد طاهر النور - الكلاب.. وقطعان أخرى!

لدينا في الحارة، جار اسمه خميس، وهو ليس أي خميس وليس أي جمعة! إنه جرّاح، أو ربما طبيب أعصاب كبير، يقال أنه الواحد الصمد في البلد كله، يأتي إليه المرضى من كل حدبٍ وصوب.. وهم بالطبع ليسوا من طينتي، بل من درجةٍ أرفع شأنا، لديها مدخرات مكدسة في مكان ما، في سويسرا، أو باريس، أو القاهرة، وحسابات بنكية تجري من تحتها الفرنكات المسروقة، من عيال الله المساكين مثلي، تستطيع دفع ثمن إبرة واحدة بألوف الفرنكات، ما أن تنغرس في تلك المؤخرات السمينة حتى يفر الداء، ويتحول إلى وحشِ ملاريا، يتعقّب دماء الضعفاء، إذ جنّ الليل، وأحاطنا السديم بِكلْكَله من كل جانب.
المهم، سمعتُ حكايات كثيرة عن جارنا هذا، وروايات تذهب إلى أنه كيت وكيت، ولكني لم أهتم، ولم أصفّق، ولم أذهب إليه لأطرق بابه، من أجل أن يغرس في جعبتي- معاذ الله - إحدى إبره تلك. فأنا أظن أنها خاصة بالذين أنعمت عليهم، وليس بالضالين، والعافين عن الناس. إلا أن أجمل ما لفتَ نظري في الجار هذا، وفي محيطه، هي كلابه.
أنتم لا تعتقدون أن للرجل حديقة حيوانات، أليس كذلك؟ وأنا أيضا أعتقد ذلك. صدقاً. لكن يجوز أن يكون الأمر غير ما تظنون، أو تعتقدون، فاعتقادكم ليس مهما، لأنه من الوارد أن يمتلك حديقة حيوانات كبيرة، في مكان معيّن من العاصمة. فقط ليس في منزله. اكتفى في منزله بحديقة حيوانات صغيرة، في مجملها بعض الكنارات القذرات السمينات، آكلات الديدان والطحالب في المجاري المائية العفنة، والدجاجات التي تنقر في كل شارعنا، وكأن الشارع ملكاً لها وحدها، أو ملك سيّدها الطبيب، وأخيرا - وهذا مربط الفرس في كل هذا الهذر- يمتلك جارنا قطيع صغير من الكلاب، مع جرائها.
وللأمانة، فإن الكلاب غير خطيرة، ولا مضرّة بالصحة الجسدية، وإن كانت مضرّة بالصحة النفسية عموما، فطوال النهارات تبقى ساكنة، في الداخل، في بيت سيدها، لا صرير ولا نفير، وتظل هكذا مع مرور المساء، إلى أين يسْتوحِش الشارع من الناس، وترقد النغمات، وصياحات الأطفال. حينئذٍ، وكما لو أن للكلاب معاهدة سلام، تقف بنودها عند حد منتصف الليل، ومن ثم يجوز لها بعدها اختراق ما هو ممنوع، وإخراج نفسها من بيت سيّدها، مع عفاريتها الصغار، وإطلاق صافرة الإنذار عبر القيام بنباح جماعي، يهدد كل السلام العالمي الذي كان يخيّم على الشارع طوال ساعات.
يستمر الوضع في بعض الأحيان لساعات، خصوصا عند ما تأتي إلى حارتنا كلاب أخرى، من الذكور، الوافدة من ضواحي المدينة، وبعض الحيوانات الشاردة، وكأن لكلبةِ جارنا، قيمة أكبر من الإناث في الحارات الأخرى، فتجلب كل هذا العدد من الرجال ذوي الحوافر الأربعة، فينبحون، ويعوون، ويتقاتلون، ويُعَضْعِضون بعضهم من أجل الحظوة بشم كلبتنا " ما دامت كلبة جارنا، فهي كلبتنا، وأنا أصر على ذلك." حتى أنهم يفسدون راحتنا، ونومنا، فمن الصعب أن يتفرقوا قبل أن يتسافدوا، ولن يتسافدوا قبل أن يتناحروا، ولن يتناحروا قبل أن يسيل الدم، فكل كلب يرى فيها شرفه الرفيع، الذي يجب أن يقاتل من أجله حتى الرمق الأخير.
ليلة البارحة فقط، وبعد سنوات، انتبهتُ إلى أن الكلاب أفضل منا في بعض الجوانب، فهي بهذا تمارس حريتها، إلى جانب رياضتها في التسافد، والأهم من كل ذلك، أنها قادرة على النباح في وجوهنا نحن البشر، دون أن نعترض عليها، أو نواجهها بالعصي، أو الحجارة، أو الكرابيج، أو الغاز المسيل للدموع، أو نهددها بالزنزانات، والسجون الشائكة، المسوّرة، وأسئلة منكر ونكير.
فكرتُ وأنا اسمع عواءها الآن، لو كانت هناك حديقة كلاب قرب قصر المرشال، لقامتْ بدور أفضل منا نحن الذين أصبحنا، عاجزين عن إيصال صوتنا له طوال ثلاث عقود، ولقامت بتذكيره على نحو أفضل، كلما عاد من مهامه الكثيرة مرهقاً، ووضع رأسه في وِسادة السكينة، بأن هناك في الجانب الآخر من القصر، قطيع كلاب بائس، محروم من الطعام، والماء، والصحة، والكهرباء. ناهيك عن أن هذا القطيع، الفارغ، الخاوي، الذي لا يعرف غير العواء، في حاجة ماسة لأن يعرف ويتعلم، حتى يتدبر أمر نفسه، وتسيير شؤون حظيرته الحيوانية.
أتساءل الآن، وقد مضى الليل وأنا أترنّح من النعاس، وسط كل هذا الهذيان: لماذا الكلاب أقدر منا على النّباح؟




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى