لا يعني المنهج التاريخي ما هو متبع في دراسات المستشرقين وفي الكتب المقررة عند أساتذة الجامعات، مجرد رصد زماني لأسماء الفلاسفة وعرض مؤلفاتهم وتكرار مضمونها. فهذه هي النزعة التاريخانية عند المستشرقين التي ارتبطت بالمدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر. وهي العادة المتبعة عند الأساتذة الذين يكررون القديم استسهالاً أو كسبا أو إيثار للسلامة أو للترقية.
المنهج التاريخي المقصود هو دراسة الحكماء طبقاً للترتيب الزماني: الكندي (252ه)، الرازي (313ه)، الفارابي (339ه)، ابن سينا (428ه)، ابن باجة (533ه)، ابن طفيل (581ه)، ابن رشد (595ه)، وغيرهم من الفلاسفة الموازين مثل أبو البركات البغدادي (547ه) باعتباره تراكماً تاريخياً في علوم الحكمة. كل فيلسوف يبنى على فيلسوف طوليا، تنويعاً على الاستشراق. وابن رشد يبنى على الكندي طوليا لأنه استمرار للفلسفة العقلية. وكذلك الرازي يبنى على الكندي طوليا لأنه استمرار للفلسفة العلمية. وفلاسفة المغرب يبنون على فلاسفة المشرق طوليا لأنهم تنويعات عليهم. ابن باجة تنويع على الفارابي، وابن طفيل تنويع على ابن سينا. أما الفارابي فإنه يبنى على الكندي عرضياً لأنه يؤسس مذهبا موازيا، الإشراق في مقابل العقل، والفيض في مقابل الخلق، والتصوف في مقابل العلم. فالمذاهب كائنات حية يتولد بعضها من بعض.
تتكاثر بالتمدد والانفصال وبخلق مذاهب متداخلة أو متقابلة، متجانسة أو متعارضة، ومتماهية أو متباينة. ويظل هذا التطور الخالق قائما حتى ينقضى عمر الحضارة، ويخف الدافع الحيوي، ويضمر العلم حتى ييبس ويتكلس. كل مذهب وحدة حسية مستقلة، رؤية أو تصور للعالم، نافذة للحضارة على غيرهم، معمار هندسي ونسق فكري، وعمل فني، وإبداع ذهني. المنهج التاريخي بهذا المعنى ليس رصداً لوقائع، ولا إحصاء لمؤلفات، ولا ترتيبا لنصوص بل هو إبداع حيوي، وخلق حضاري، ووحده عضوية متنامية تحكمها بنية العضو وقوانين الحياة. هو تاريخ أحياء وليس تاريخ أموات، إحساس بنبض وليس رفات أكفان.
وقد يتناول المنهج التاريخي تطور علوم الحكمة من المتقدمين إلى المتأخرين كما هو الحال مع باقي العلماء. وقد لاحظ القدماء هذا التقابل بين المتقدمين والمتأخرين، بين السلف والخلف، بين الأوائل والأواخر، وبلغتنا بين القدماء والمحدثين. إلا أن المتقدمين في التراث أفضل من المتأخرين، والأوائل أكثر علماً من الأواخر، والسلف أكثر إبداعا من الخلف في حين أن المحدثين في عصرنا أفضل من القدماء منذ عصر النهضة الغربي في القرن الماضي.
وميزة المنهج التاريخي بهذا المعنى أنه يقدم دراسة لنشأة علوم الحكمة وتطورها ابتداء من النقل والتعليق إلى الشرح والتلخيص، وتطورها إلى العرض والتأليف وذروتها في الإبداع المستقل. يقدم صياغة لكل مذهب فلسفي كرؤية للعالم وتجربة فلسفية واختيار ذهني ومنظور كوني. وعيبه ارتباط علوم الحكمة بأشخاص الحكماء مع أنها مستقلة عنهم، لها بنيتها المستقلة، وموضوعاتها المستقلة. كما يصعب الإحصاء الكامل للأشخاص والتمايز بين المذاهب، وضرورة الاقتصار على كبار الحكماء: الكندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. وهنا لابد من ذكر الأسماء، ابن سينا وابن رشد نموذجا والمذاهب المشتقة منها مثل السينوية والرشدية. أما الفلسفة الاشراقية أو الفلسفة العقلية أو العلمية فهي اختيارات وتيارات عامة تضم أكثر من فيلسوف ومذهب.
ويتطالب المنهج التاريخي أيضاً تحليل صورة علوم الحكمة عند مؤرخيها ومؤرخي العلوم الإسلامية سواء في المصنفات أو تاريخ المصنفين أو تاريخ العلوم أو تاريخ الطبقات أو تاريخ المصطلحات أو تاريخ الأمم في إطار التحليل العام للنصوص وكسند للأحكام العلمية وليس كتحليل مستقل. فعلوم الحكمة وصف لرؤى العالم تظهر من خلال رؤى المؤرخين. أما التاريخ الصرف أي الحوليات فإنها موضوع لعلم خاص هو علم التاريخ كعلم إنساني مثل الجغرافيا واللغة والأدب. تحتوي على مواد من أخبار الحكماء تحتويها كتب الطبقات. أما التاريخ السياسي الاجتماعي الصرف كأساس لنشأة علوم الحكمة وتطورها فإنها مسلمة منهجية متضمنة، لا تظهر صراحة خشية الوقوع في الرد التاريخي. فلا علم إلا في مجتمع، ولا فكر إلا في واقع، ولا مذهب إلا ويعبر عن قوة سياسية واجتماعية، ولا تصور إلا وله محدداته وأطره في علم اجتماع المعرفة. والمنهج التاريخي العضوي يتجاوز مسلمات المنهج التاريخي التقليدي الشائع.
والمنهج البنيوي يدرس علوم الحكمة ليس كشخصيات أو مذاهب متتالية في الزمان بل كموضوعات مستقلة أو كرؤية تركيبية أو منظور كلي واحد للعالم. فالحكمة أما منطقية أو طبيعية أو إلهية. المنطق آلتها أو منهجها. وتشمل الحكمة الطبيعات والإلهيات، العالم والله. ولما كان القول الطبيعي هو نفسه القول الإلهي بلغته وألفاظه وتصوراته ومفاهيمه عن الزمان والمكان والحركة والسكون، والعلة والمعلول، على نحوين مختلفين، مرة موجبا في الطبيعة، فالعالم ذو زمان ومكان وحركة وسكون وعلة ومعلول، ومرة سالبا في الله، فالله لا زمان ولا مكان ولا حركة ولا سكون فيه. هو قول واحد مرة متجها إلى أسفل نحو العالم، ومرة متجها إلى أعلى نحو الله، مرة سلبا، ومرة إيجابا، مرة على نحو نسبي، ومرة على نحو مطلق، ومرة على نحو حسي مشاهد ومرة على نحو غيبي عقلي. أما النفس فمحاصرة بين الطبيعيات والإلهيات. في الطبيعات مرتبطة بالبدن وبالقوى النامية والغاذية والمولدة والمحركة والحساسة. وفي الإلهيات مرتبطة بالعقل الفعال أو الكلي وبالعقل المستفاد والعقل بالفعل. فلا يوجد قول مستقل في الإنسان بل هو قول أيضاً مردود إلى أسفل نحو البدن في الطبيعيات أو إلى أعلى نحو النفس في الإلهيات. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى.
ويمكن دراسة هذه الموضوعات مثل الفلسفة والدين أو العقل والوحي أو النفس وقوى العقل وأنواعه أو الأخلاق والسياسة عبر الفلاسفة. فالمهم هو الموضوع وليس الشخص في حضارة الأشخاص فيها يكشفون الموضوع ولا يخترعونه، يصفونه ولا يضعونه. ويمكن دراسة الاتجاهات العامة لعلوم الحكمة مثل العقلانية (الكندي، والرازي، وابن رشد) والاشراقية (الفارابي، وابن سينا، وابن طفيل). كما يمكن دراسة التفكير الجماعي، بقايا الفرق الكلامية (إخوان الصفا). ويمكن أيضاً التمايز بين المدارس طبقاً للمدن (بغداد، والبصرة) أو طبقاً للصقع الجغرافي (المشرق، والمغرب).
وميزة هذا المنهج اكتشاف البنيات الذهنية والموضوعية المستقلة عن الأشخاص والمذاهب وحوادث التاريخ وتطوره. يتعامل مع علوم الحكمة باعتبارها علوما مستقلة لها يقينها ووسائل التحقق من صدقها في داخل أنساقها. علوم الحكمة علوم مستقلة لها عن أشخاص واضعيها. التوجه نحن الطبيعة مستقل عن شخص الكندي أو الرازي أو البيروني بل هو توجه حضاري أساساً نشأ بدافع من توجيه الوحي للذهن نحو الطبيعة. والمنطق آلة للعلوم وسابق على الطبيعات والإلهيات، أيضاً لا شأن له بأشخاص الفلاسفة لأن موضوعات الحكمة ثلاثة: الإنسان والطبيعة والله بصرف النظر عن ترتيبها، موجودة في كل حضارة بصرف النظر عن خصوصيتها في اليونانية: سقراط (الإنسان). أفلاطون (الله)، أرسطو (الطبيعة)، وفي الغربية في العصور الوسطى: أوغسطين (الإنسان)، أنسيلم، بونافنتور (الله)، توما الأكويني (الطبيعة)، وفي العصور الحديثة: ديكارت (الإنسان)، هيجل (الله)، ماركس، فيورباخ (الطبيعة). وهي التي جعلها كانط مثل العقل الثلاثة. ولو لم يظهر هؤلاء الحكماء بأشخاصهم لظهر غيرهم بأسماء أخرى. تمثل علوم الحكمة نمطاً معيناً في التفكير، لغة ومعنى وموضوعا. لغتها عقلية خالصة، ومعانيها عامة وشاملة، وموضوعاتها الإنسان والعالم والله. وهي نفس البنية التي ظهرت في علم أصول الدين. فالمنطق في علوم الحكمة يعادل نظرية العلم في أصول الدين. والطبيعيات في علوم الحكمة تعادل نظرية الوجود (الجوهر والأعراض) في علم أصول الدين. والإلهيات في علوم الحكمة تعادل الإلهيات أو العقليات في علم أصول الدين. والسمعيات أو النبوات في أصول الدين تعادل الشرعيات عند إخوان الصفا الذي ركزوا بوجه خاص على الاجتماع والسياسة والتاريخ في الناموسيات والشرعيات. كما يمتاز هذا المنهج بأنه يجعل الباحث حكيما مع الحكماء، فيلسوفا مع الفلاسفة، على نفس مستوى المسئولية. يرى الموضوع من الداخل وليس من الخارج، صاحب دار وليس مستشرقاً غريباً عليه.
ولما كان الحكماء من غير العرب باستثناء الكندي، فالفارابي تركي، وابن سينا فارسي، وابن رشد أندلسي أقرب إلى المغرب منه إلى المشرق فإن العرب أو الإسلام لم يكن لهما فضل أو دور في علوم الحكمة. في حين أن "من النقل إلى الإبداع" يتجاوز أسماء الحكماء إلى علوم الحكمة ذاتها. ولا يرتبط الباحث باسم فيلسوف بل بعلوم الحكمة ذاتها، غير شخصية، أحد العلوم الرئيسية في الحضارة الإسلامية.
وقد يكون العيب الرئيسي في هذا المنهج هو إغفال الإبداعات الفردية، ومساواة الفلاسفة بعضهم ببعض، والوقوع في قدر كبير من التجريد والعمومية، والانتقال بالفلسفة إلى الميتافيزيقا، ومن الموضوع إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفكر الخالص، بل ونسيان التاريخ والنشأة لصالح الماهية والبنية. وهذا اختيار فكري ومنهجي، مثل أفلاطون أو وقائع أرسطو.
وقد لا يكون هناك تعارض بين المنهجين: التاريخي والبنيوي. فالتاريخ تحقيق للبنية، والبنية تتكشف في التاريخ. التاريخ بلا بنية مجرد حصر كمي ورصد خارجي بلا دلالة. والبنية بلا تاريخ ماهية مجردة، معلقة في الهواء، لا مستقر لها ولا زمان. لذلك حاول الفارابي الجمع بين رأيي الحكيميين، أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم. ميزة قراءة كل فيلسوف على حدة الحفاظ على وحدة المذهب والرؤية بالرغم من تفكك الموضوع. وميزة قراءة الموضوع الحفاظ على وحدته بالرغم من تفكك الرؤية لكل فيلسوف. الغاية هو معرفة استقلال الموقف الحضاري ضد شبهة التقليد والتبعية وليس رصداً مِن مَن الحكماء قال هذا القول من الأقوال.
------------------------------
المصدر : من النقل إلى الإبداع /مجلد1/ النقل
المنهج التاريخي المقصود هو دراسة الحكماء طبقاً للترتيب الزماني: الكندي (252ه)، الرازي (313ه)، الفارابي (339ه)، ابن سينا (428ه)، ابن باجة (533ه)، ابن طفيل (581ه)، ابن رشد (595ه)، وغيرهم من الفلاسفة الموازين مثل أبو البركات البغدادي (547ه) باعتباره تراكماً تاريخياً في علوم الحكمة. كل فيلسوف يبنى على فيلسوف طوليا، تنويعاً على الاستشراق. وابن رشد يبنى على الكندي طوليا لأنه استمرار للفلسفة العقلية. وكذلك الرازي يبنى على الكندي طوليا لأنه استمرار للفلسفة العلمية. وفلاسفة المغرب يبنون على فلاسفة المشرق طوليا لأنهم تنويعات عليهم. ابن باجة تنويع على الفارابي، وابن طفيل تنويع على ابن سينا. أما الفارابي فإنه يبنى على الكندي عرضياً لأنه يؤسس مذهبا موازيا، الإشراق في مقابل العقل، والفيض في مقابل الخلق، والتصوف في مقابل العلم. فالمذاهب كائنات حية يتولد بعضها من بعض.
تتكاثر بالتمدد والانفصال وبخلق مذاهب متداخلة أو متقابلة، متجانسة أو متعارضة، ومتماهية أو متباينة. ويظل هذا التطور الخالق قائما حتى ينقضى عمر الحضارة، ويخف الدافع الحيوي، ويضمر العلم حتى ييبس ويتكلس. كل مذهب وحدة حسية مستقلة، رؤية أو تصور للعالم، نافذة للحضارة على غيرهم، معمار هندسي ونسق فكري، وعمل فني، وإبداع ذهني. المنهج التاريخي بهذا المعنى ليس رصداً لوقائع، ولا إحصاء لمؤلفات، ولا ترتيبا لنصوص بل هو إبداع حيوي، وخلق حضاري، ووحده عضوية متنامية تحكمها بنية العضو وقوانين الحياة. هو تاريخ أحياء وليس تاريخ أموات، إحساس بنبض وليس رفات أكفان.
وقد يتناول المنهج التاريخي تطور علوم الحكمة من المتقدمين إلى المتأخرين كما هو الحال مع باقي العلماء. وقد لاحظ القدماء هذا التقابل بين المتقدمين والمتأخرين، بين السلف والخلف، بين الأوائل والأواخر، وبلغتنا بين القدماء والمحدثين. إلا أن المتقدمين في التراث أفضل من المتأخرين، والأوائل أكثر علماً من الأواخر، والسلف أكثر إبداعا من الخلف في حين أن المحدثين في عصرنا أفضل من القدماء منذ عصر النهضة الغربي في القرن الماضي.
وميزة المنهج التاريخي بهذا المعنى أنه يقدم دراسة لنشأة علوم الحكمة وتطورها ابتداء من النقل والتعليق إلى الشرح والتلخيص، وتطورها إلى العرض والتأليف وذروتها في الإبداع المستقل. يقدم صياغة لكل مذهب فلسفي كرؤية للعالم وتجربة فلسفية واختيار ذهني ومنظور كوني. وعيبه ارتباط علوم الحكمة بأشخاص الحكماء مع أنها مستقلة عنهم، لها بنيتها المستقلة، وموضوعاتها المستقلة. كما يصعب الإحصاء الكامل للأشخاص والتمايز بين المذاهب، وضرورة الاقتصار على كبار الحكماء: الكندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. وهنا لابد من ذكر الأسماء، ابن سينا وابن رشد نموذجا والمذاهب المشتقة منها مثل السينوية والرشدية. أما الفلسفة الاشراقية أو الفلسفة العقلية أو العلمية فهي اختيارات وتيارات عامة تضم أكثر من فيلسوف ومذهب.
ويتطالب المنهج التاريخي أيضاً تحليل صورة علوم الحكمة عند مؤرخيها ومؤرخي العلوم الإسلامية سواء في المصنفات أو تاريخ المصنفين أو تاريخ العلوم أو تاريخ الطبقات أو تاريخ المصطلحات أو تاريخ الأمم في إطار التحليل العام للنصوص وكسند للأحكام العلمية وليس كتحليل مستقل. فعلوم الحكمة وصف لرؤى العالم تظهر من خلال رؤى المؤرخين. أما التاريخ الصرف أي الحوليات فإنها موضوع لعلم خاص هو علم التاريخ كعلم إنساني مثل الجغرافيا واللغة والأدب. تحتوي على مواد من أخبار الحكماء تحتويها كتب الطبقات. أما التاريخ السياسي الاجتماعي الصرف كأساس لنشأة علوم الحكمة وتطورها فإنها مسلمة منهجية متضمنة، لا تظهر صراحة خشية الوقوع في الرد التاريخي. فلا علم إلا في مجتمع، ولا فكر إلا في واقع، ولا مذهب إلا ويعبر عن قوة سياسية واجتماعية، ولا تصور إلا وله محدداته وأطره في علم اجتماع المعرفة. والمنهج التاريخي العضوي يتجاوز مسلمات المنهج التاريخي التقليدي الشائع.
والمنهج البنيوي يدرس علوم الحكمة ليس كشخصيات أو مذاهب متتالية في الزمان بل كموضوعات مستقلة أو كرؤية تركيبية أو منظور كلي واحد للعالم. فالحكمة أما منطقية أو طبيعية أو إلهية. المنطق آلتها أو منهجها. وتشمل الحكمة الطبيعات والإلهيات، العالم والله. ولما كان القول الطبيعي هو نفسه القول الإلهي بلغته وألفاظه وتصوراته ومفاهيمه عن الزمان والمكان والحركة والسكون، والعلة والمعلول، على نحوين مختلفين، مرة موجبا في الطبيعة، فالعالم ذو زمان ومكان وحركة وسكون وعلة ومعلول، ومرة سالبا في الله، فالله لا زمان ولا مكان ولا حركة ولا سكون فيه. هو قول واحد مرة متجها إلى أسفل نحو العالم، ومرة متجها إلى أعلى نحو الله، مرة سلبا، ومرة إيجابا، مرة على نحو نسبي، ومرة على نحو مطلق، ومرة على نحو حسي مشاهد ومرة على نحو غيبي عقلي. أما النفس فمحاصرة بين الطبيعيات والإلهيات. في الطبيعات مرتبطة بالبدن وبالقوى النامية والغاذية والمولدة والمحركة والحساسة. وفي الإلهيات مرتبطة بالعقل الفعال أو الكلي وبالعقل المستفاد والعقل بالفعل. فلا يوجد قول مستقل في الإنسان بل هو قول أيضاً مردود إلى أسفل نحو البدن في الطبيعيات أو إلى أعلى نحو النفس في الإلهيات. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى.
ويمكن دراسة هذه الموضوعات مثل الفلسفة والدين أو العقل والوحي أو النفس وقوى العقل وأنواعه أو الأخلاق والسياسة عبر الفلاسفة. فالمهم هو الموضوع وليس الشخص في حضارة الأشخاص فيها يكشفون الموضوع ولا يخترعونه، يصفونه ولا يضعونه. ويمكن دراسة الاتجاهات العامة لعلوم الحكمة مثل العقلانية (الكندي، والرازي، وابن رشد) والاشراقية (الفارابي، وابن سينا، وابن طفيل). كما يمكن دراسة التفكير الجماعي، بقايا الفرق الكلامية (إخوان الصفا). ويمكن أيضاً التمايز بين المدارس طبقاً للمدن (بغداد، والبصرة) أو طبقاً للصقع الجغرافي (المشرق، والمغرب).
وميزة هذا المنهج اكتشاف البنيات الذهنية والموضوعية المستقلة عن الأشخاص والمذاهب وحوادث التاريخ وتطوره. يتعامل مع علوم الحكمة باعتبارها علوما مستقلة لها يقينها ووسائل التحقق من صدقها في داخل أنساقها. علوم الحكمة علوم مستقلة لها عن أشخاص واضعيها. التوجه نحن الطبيعة مستقل عن شخص الكندي أو الرازي أو البيروني بل هو توجه حضاري أساساً نشأ بدافع من توجيه الوحي للذهن نحو الطبيعة. والمنطق آلة للعلوم وسابق على الطبيعات والإلهيات، أيضاً لا شأن له بأشخاص الفلاسفة لأن موضوعات الحكمة ثلاثة: الإنسان والطبيعة والله بصرف النظر عن ترتيبها، موجودة في كل حضارة بصرف النظر عن خصوصيتها في اليونانية: سقراط (الإنسان). أفلاطون (الله)، أرسطو (الطبيعة)، وفي الغربية في العصور الوسطى: أوغسطين (الإنسان)، أنسيلم، بونافنتور (الله)، توما الأكويني (الطبيعة)، وفي العصور الحديثة: ديكارت (الإنسان)، هيجل (الله)، ماركس، فيورباخ (الطبيعة). وهي التي جعلها كانط مثل العقل الثلاثة. ولو لم يظهر هؤلاء الحكماء بأشخاصهم لظهر غيرهم بأسماء أخرى. تمثل علوم الحكمة نمطاً معيناً في التفكير، لغة ومعنى وموضوعا. لغتها عقلية خالصة، ومعانيها عامة وشاملة، وموضوعاتها الإنسان والعالم والله. وهي نفس البنية التي ظهرت في علم أصول الدين. فالمنطق في علوم الحكمة يعادل نظرية العلم في أصول الدين. والطبيعيات في علوم الحكمة تعادل نظرية الوجود (الجوهر والأعراض) في علم أصول الدين. والإلهيات في علوم الحكمة تعادل الإلهيات أو العقليات في علم أصول الدين. والسمعيات أو النبوات في أصول الدين تعادل الشرعيات عند إخوان الصفا الذي ركزوا بوجه خاص على الاجتماع والسياسة والتاريخ في الناموسيات والشرعيات. كما يمتاز هذا المنهج بأنه يجعل الباحث حكيما مع الحكماء، فيلسوفا مع الفلاسفة، على نفس مستوى المسئولية. يرى الموضوع من الداخل وليس من الخارج، صاحب دار وليس مستشرقاً غريباً عليه.
ولما كان الحكماء من غير العرب باستثناء الكندي، فالفارابي تركي، وابن سينا فارسي، وابن رشد أندلسي أقرب إلى المغرب منه إلى المشرق فإن العرب أو الإسلام لم يكن لهما فضل أو دور في علوم الحكمة. في حين أن "من النقل إلى الإبداع" يتجاوز أسماء الحكماء إلى علوم الحكمة ذاتها. ولا يرتبط الباحث باسم فيلسوف بل بعلوم الحكمة ذاتها، غير شخصية، أحد العلوم الرئيسية في الحضارة الإسلامية.
وقد يكون العيب الرئيسي في هذا المنهج هو إغفال الإبداعات الفردية، ومساواة الفلاسفة بعضهم ببعض، والوقوع في قدر كبير من التجريد والعمومية، والانتقال بالفلسفة إلى الميتافيزيقا، ومن الموضوع إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفكر الخالص، بل ونسيان التاريخ والنشأة لصالح الماهية والبنية. وهذا اختيار فكري ومنهجي، مثل أفلاطون أو وقائع أرسطو.
وقد لا يكون هناك تعارض بين المنهجين: التاريخي والبنيوي. فالتاريخ تحقيق للبنية، والبنية تتكشف في التاريخ. التاريخ بلا بنية مجرد حصر كمي ورصد خارجي بلا دلالة. والبنية بلا تاريخ ماهية مجردة، معلقة في الهواء، لا مستقر لها ولا زمان. لذلك حاول الفارابي الجمع بين رأيي الحكيميين، أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم. ميزة قراءة كل فيلسوف على حدة الحفاظ على وحدة المذهب والرؤية بالرغم من تفكك الموضوع. وميزة قراءة الموضوع الحفاظ على وحدته بالرغم من تفكك الرؤية لكل فيلسوف. الغاية هو معرفة استقلال الموقف الحضاري ضد شبهة التقليد والتبعية وليس رصداً مِن مَن الحكماء قال هذا القول من الأقوال.
------------------------------
المصدر : من النقل إلى الإبداع /مجلد1/ النقل