ينتمي أحمد عبد اللطيف إلى هذا الجيل الجديد الذي كرس مفاهيما خاصة ورؤية مغايرة ونظرة فارقة لطبيعة العمل الروائي وجمالياته،من حيث أن كتابات هذا الجيل قد خلعتْ من عليها عباءة جيل الستينات المـُزركشة بالايدلوجيا ، طارحة الأدب المؤدلج جانبا ، ومتجاوزة بالطبع ظل جيل الأباء ورؤيته الأمينة والحرفية للواقع ،لتخرج إلى عوالم أرحب وتنقل همومها وهواجسها عبر مزاج جديد في الكتابة،تتشظى من خلاله الحكاية المحفوظية التراتبية، عبر سرد لا يعتمد على خط تصاعدي واحد،ولا زمن نمطي متصاعد،ولا صوت سردي وحيد،هنا كتابة تـُعيد تفكيك العالم ،تستقي من فوضويته ،تنطلق من هواجسها الشخصية ونظرتها القلقة جدا لما يدور حولها،ثم تـُعيد ترتيب الأشياء من جديد بعد كل ما قامتْ به من تفكيك وتشظي.
ويظل هذا الجيل ـ الذي يـُعد أحمد عبد اللطيف وطارق إمام وإبراهيم فرغلي وآخرين أهم ممثليه ـ مـُخلصا لنظرته تلك،القائمة على التجريب والمغامرة دون أن ينجرف عنها بعيدا تحت ضغوظ الكتابة السهلة،وشروط البيست سيلر وذائقة القراء الجدد، واغراءات وسائل التواصل الاجتماعي التي تمنح شهرة مزيفة ،ليكتسب هذا الجيل كل يوم أرضا جديدا لا حدود لها.وتسعى هذه القراءة الانطباعية السريعة للوقوف على أهم مفاتيح وأدوات الكتابة الروائية في تجارب أحمد عبد اللطيف الأربعة الأولى:
(صانع المفاتيح 2010) ـ «عالم المندل» (2012)، «كتاب النحات» 2014 «إلياس» 2014))
فهذه المفاتيح المـُبكرة هي التي سوف تشكل بعد ذلك أسس ثابتة وركائز المنجز الروائي عند أحمد عبد اللطيف.
الهواجس والأسئلة:
دائما ما تنطلق كتابات أحمد عبد اللطيف من هواجسه الكامنة تجاه العالم ،الهواجس هي مـُتكأ الكتابة التي تتيح طرح الأسئلة،هي طرف الدبوس الذي ينغرس في لحم الثابت والمستقر فيثير قلقه وتوتره.
يبدو هذا جليا في صانع المفاتيح العمل الأول الذي يطرح هاجسا حول المعرفة،إذ يقرر صانع المفاتيح ـ الشخصية المحورية في الرواية أن يصنع مفتاحا لأذنيه يغلقهما ويفتحهما وقتما يشاء،لكن المفتاح الذي صنعه لنفسه في البداية ينتشر أمره مع مرور الأيام، فيطلبه منه أهل القرية الذين يتحولون في أغلبهم إلى أصماء،بل يطلبون أيضا مفتاحا للبصر والكلام وهو ما رفض فعله ضانع المفاتيح،غير أن الحكاية لا تتوقف عند ذلك، فصبي صانع المفاتيح، وبطلب من سكان المدينة، يصنع مفتاحًا لحاسة البصر لأهل القرية.
تطرح الرواية سؤالا حول المعرفة والوصول إلى الله ربما،حول عذاب المعرفة الذي لانجاة منه سوى بمزيد من المعرفة،تتصدر الآية الكريمة "صم بكم عمي" الرواية وهي الآية التي تستدعي بالتالي "فهم لا يعقلون" هنا صانع المفاتيح يبحث عن قطع الطريق علي الضوضاء لنري الأشياء بشكل أعمق حيث يقول:
"عندما تفقد حاسة السمع أو تغلقها، كما في حالتي، تصبح أكثر تأملا، فتسير أفكارك في طريق مستقيم"
وبالتالي أتاحتْ له هذه الحالة الوصول إلى المعرفة" لقد رأيت الله في يوم وأنا أصم"
أما أهل القرية الذين كانوا يبحثون عن مفتاح لغلق كل حاسة تجنبا لعدم المشاكل وللهرب من الواقع لا معرفته فيتحولون إلى " صم وبكم وعمي،فهم لا يعرفون.
في عالم المندل تنطلق الرواية من المسكوت عنه من اللاوعي الأنثوي المقموع, عبر سؤال صعب،ماذا لو تغير ما يميز النساء وأصبحن بما يميز الرجال؟
تحكي الرواية قصة فتاة استيقظت من النوم لتجد لها عضوا ذكريا ، عضوا يمكنها من أن تتمرد وتثور على عالم همشها مرتين ، مرة لأنها أنثى ، وثانية لأنها لا تتمتع بالقدر الكافي من الجمال الذي يجعل العالم الذكوري يحتفي بها ويقبلها : ” رأيت في المنام أن لي عضوا ذكريا ،فاتفضت من حلمي صارخة وأهلوس بكلمات وعبارات لا اذكرها ، وربما لم يسمعها أحد، هي المرة الأولى التي ارى فيها حلما شبيها “.
في رواية النحات،حيث جزيرة مُنعزلة يعيش فيها نحّات متوحد، يصنع تماثيل من الطين لشخوص من وحي هواجسه وأفكاره وتصوراته كأمه, أبيه, زوج أمه, رجل البراميل, بائعة اليناصيب, الرجل ذو القضيب المنتصب, وعروسة البحر.
ثم لا تلبث هذه التماثيل أن تتنفس.
والرواية مهمومة بفكرة الخلق والخالق عبر أسئلة عن المسافة بين الإله والمُبدع،حول تاريخ الإنسان ووجوده وكيفيته، وصراعاته مع الطبيعة ومنظومة القيم التي تحكم وجوده،وتجعله يعاني الوحدة والاغتراب،عن الإنسان حين تستحوذ عليه شهوة السلطة والتحكم بمصائر الآخرين واستغلالهم،
في عمل أحمد عبد اللطيف "إلياس" يبدو سؤال الهوية هو المطروح،نجد أنفسنا أمام نص أشبه بالسيرة الذاتية التي يعدّ التاريخ
، جانباً من مكوناته تتبع إلياس سيرته عبر استعراض أرشيفه الضخم من الأوراق والرسائل،
عبر البحث في ذاكرته الشخصية ، الوقائع التاريخية الهامة التي علقت بذهنه، ينتقل من غرناطة إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى غرناطة، زمن الفتح الإسلامي لمصر، ثم يتكرر عند سقوط الأندلس، ويعاود الظهور كنموذج لقاتل الشاعر لوركا، ويتكرر في تاريخ مصر الحديث،حيث تبدو الرواية مغامرة للبحث عن هوية ضائعة وجذور مفقودة.
البطل الأسطوري
دائما ما يتجلى في كتابات أحمد عبد اللطيف البطل المفارق،الخارق للمألوف،فصانع المفاتيح لا نعرف له اسما إلا في نهاية الرواية فهو يوسف بما يحمله الاسم من دلالات،بل أن النص يصرح بـ " إن القرية وصلت لدرجة لا تُحتمل، درجة تستدعي وصول نبي أو مُخلّص " مرورا بمولد صانع المفاتيح الأسطوري حيث توقف عن الرضاعة قبل أن يتم العام، وأخذ يتجول في البيت يوم ميلاده ، 'يناجي الله' من فوق 'جبل' ينعزل إليه,وليس معنى هذا أن البطل المفارق شخصية خيالية مجردة ،فهو مع ذلك يتشابك مع قضايا واقعه كما كان صانع المفاتيح يتشابك مع واقع قريته وفسادها
في إلياس نجد أن النص يبدأ بهذه العبارة الاستهلالية التي تضفي غموضا على شخصية إلياس" مكحول عن كعب: أربعة أنبياء أحياء، اثنان في الأرض: إلياس والخضر،واثنان في السماء: إدريس وعيسى" وإلياس بطل الرواية لا له أبا أو أما وهو ما يدفعه إلى محاولة البحث في أرشيفه الورقي وذاكرته المزدحمة بالتفاصيل عن ملامح لأبويه، دون جدوى،يعمل إلياس كاتبا وممثلا، لكنه يصف نفسه بالفشل ،يمتلك ساقا صناعية،يظهر في كل العصور وعند كل الأزمات يتنقل من القاهرة إلى غرناطة ،يظهر مرة كأحد قادة جيوش العرب الفاتحين، ثم نراه محاربا مهزوما في جيوش القوط ثم يظهر ليقتل الشاعر لوركا.فما الذى يكمن خلف شخصية إلياس؟
هو الإنسان "المجرد"، الشاهد على كل كوارث الزمن وفواجعه ،هو سارد لتاريخ الوجود البشرى بكل مأسايه،وبالتالي إلياس هو الإنسان أي إنسان في مواجهة العالم،فأنا إلياس وأنت إلياس وكلنا بطريقة أو بأخرى إلياسون.
بنية النص تقوم على تعدد الأصوات وخلخلة الزمن السردي:
يتعدد الرواة أيضا وتتنوع أنماط حضورهم في نصوص أحمد عبد اللطيف،ففي صانع المفاتيح يتنوع السرد بين سرد الراوي العليم وتدوينات صانع المفاتيح،وهو نفس ما يتكرر في رواية النحات ،وفي رواية عالم المندل هناك صوتان يتناوبان السرد بضمير الأنا ، صوت الساردة الرئيسية من ناحية ، وصوت الأم من ناحية أخرى ، وقد فرق بين الصوتين بأن جاء صوت الساردة بلغة أقرب إلى مونولج ذاتي فصيح ، وصوت الأم بلغة الحكي العامي من خلال أوراقها التي وجدتها البنت في صندوق أسرار الأم.
كما تتلاعب نصوص أحمد عبد اللطيف دائما بالزمن السردي،ففي تصوصه لن تجد هذا السرد الخطي التراكمي المتعاقب،هو سرد حافل بالقفزات، وبالخلخلة الزمنية عبر استرجاعات عديدة واستباقات حاضرة بقوة في معظم نصوصه،يبدو ذلك جليا في صانع المفاتيح حيث تبدأ الرواية من لحظة متقدمة في حياة صانع المفاتيح،حين شاخ وهو يتأمل قريته كذكرى بعيدة،ومن تلك النقظة في السرد يبدأ اللعب الزمني، عبرمراوحات زمنية بين الماضي والحاضر
وفي عالم المندل راهن الكاتب على تشظي السرد وتفكيكه ، فلم يقدم لنا نصا ذا حبكة كلاسية ، بل قسم الكاتب روايته إلى سرديات متجاورة لا تمشي في زمن خطي له بداية ونهاية ، بل لعب بالزمن ما بين لاش باك واستدعاءات وزمن آني
العوالم الغرائبية وتيار الواقعية السحرية /
ترجم أحمد عبد اللطيف العديد من أعمال كبار كبار أمريكا الاتينية وهو الأدب الذي بزغ على يديه تيار الواقعية السحرية، وهي كتابة تتجلى فيها صياغة الرؤية دون إهمال السياسي والاجتماعي ودون السقوط في فخ المباشرة,وهو بلا شك ومن وتقع أعماله قد تسربتْ إلى نصوصه ما لدى ماركيز وساراماجو وبورخيس من عوالم تقوم على العجائبية والغرائبية ،عوالم تشي بالوهم والتحولات والتبدلات،عوالم مخايلة لكنها مع ذلك تشتبك مع الواقعي المعاش،تحفل بالثقافة الشعبية والأحلام والموروثات الدينية والأسطورية والملحمية،
شخصيات الرواية، التي جاءت مسوخاً مشوهة بلا ملامح، حتى المدينة التي تدور فيها الأحداث، لا اسم لها ولا زمن تقريباً، البطلة مجهولة الاسم، هي وأمها وجدتها وخطيبها، رواية بلا أسماء،
لذلك يقول الكاتب نفسه عن كتاباته ونصوصه وعوالمه " الحلم أصدق أحياناً من الواقع، والزمن سؤالي الحائر، وضبابية المكان ليست بمعزل عن غموض مدينتي وغموض الأحلام بالطبع. العزلة التي يعانيها أبطالي جزء أصيل بداخلي، إحدى معاناتي المستمرة، والتحول الذي يصيب الشخوص والأماكن في كتابتي صورة مصغرة لعدم إيماني بالمستقر والثابت. ربما من أجل كل ذلك، لا أقدم تصويراً للعالم، بل تصوراً، وتغويني الأساطير فأصنعها لأهدم بها أساطير أخرى، بأبطال بشريين، متمردين، حتى لو توافرت فيهم صفات إلوهية أو نبوة."
بقى أن أقول أن هذه مجرد محاولة لاكتشاف مفاتيح صانع المفاتيح الإبداعية،توقفت عند أعماله الأربعة الأولى،رغم أن الكاتب أصدر بعدها ثلاثة أعمال روائية متتابعة،يمكن تناولها في زاوية أخرى،لكنها أعمال يواصل فيها أحمد عبد اللطيف مشروعه القائم على التجريب والمغامرة، ،بعيدا عن الحكاية اللطيفة النمطية المقولبة في فاترينات فاخرة ومحتوى فارغ.