بالنسبة للكاتب، ليس كل وقت فراغ، أو مكان للاختلاء، هو وقت للكتابة. هناك وقت للتفكير أيضاً، وللنظر إلى الداخل، وهذا ضروري ضرورة الكتابة نفسها، وأكاد أقول إن النظر إلى الداخل، يغني النظر إلى الخارج، ويتوافق معه توافق لزوم لا مندوحة عنه، فنفس الإنسان كبيته، وكما عليه، من حين لآخر، ان يرتب بيته، بما فيه من أوراق وملاحظات مدونة على قصاصات، فإن عليه، وجوباً، ان يرتب اشياء نفسه، وان يتأملها، بغير قليل من البحث والدقة، لا ليعرف من أين جاء، وإلى أين يمضي، وإنما كي يعرف كيف كان مجيؤه، ويتبين، بعناية، سبيل ذهابه، وهدفه من هذا الذهاب، والوسيلة الأنجع لتحقيق هذا الهدف.
ذلك ان من يعرف نفسه، يصبح حكيماً، بالمعنى الايجابي للحكمة، وبلوغ هذه الحكمة، عن طريق معرفة النفس، شأن مهم جداً من شؤون الحياة، ولا أبالغ إذا قلت أن معرفة النفس هي الحياة، أو هي، بدقة الكلمة، الحياة المعاشة مشرحة، وانطلاقاً منها، نكتشف ما كان مغلقاً، ما كان مندساً في السراديب النفسية، وله تمظهرات في سلوكنا اليومي، أو في ابداعنا إذا كنا من أهل الأدب والفن.
واحسب ان القراء يعرفون حكايتي مع صاحبة القصر، فقد تلطفت سيدة صديقة من اللاذقية، فعرضت عليّ الإقامة فترة من الشتاء في بيتها البحري، الذي يبقى مقفلاً في مثل هذا الفصل. قالت: "أنت تحتاج إلى الوحدة، إلى الهدوء، إلى البحر، وبيتي مجهز لكل ذلك" فأجبتها: "شكراً يا سيدتي، وفعلاً تحتاج الكتابة إلى ما ذكرت، لكنني، لو قبلت دعوتك الكريمة، فسأذهب إلى بيتك للتفكير لا للكتابة!".
إن دعوة هذه السيدة لاتزال قائمة، وقد اذهب إلى بيتها الشبيه بقصر يوماً، وسأضع الكثير من الحطب في المدفأة، واصغي إلى الموسيقى، وإلى هدير الموج خلال العواصف، وخرير الموج على الشاطئ اثناء الصحو، وأمام النار المتأججة، وبين رؤى ذلك العالم الهادئ، الصامت، المسحور، لن افعل سوى أن أنظر إلى داخلي.. متعة أن ينظر المرء إلى داخله، ونفع عميم ان يقرأ لوحة صدره لنقول، في سريرتنا، ما قاله غوركي: "يا نفس! يا نفسي، ماذا يخبئ لك الغد؟".
الكتاب، عادة، يكتبون إذا وجدوا أنفسهم في قصر كهذا، يعملون بجد، ومزاجية رائقة، هي المدعى في العمل الابداعي، وقد قرأنا، ونقرأ، ان بعض هؤلاء الكتّاب، في البلاد الأخرى، يذهب إلى بيت الراحة لينتج. أنا، لو ذهبت إلى أيما بيت للراحة، فلن انتج. سأكتفي بالتفكير. هذا عمل انتاجي أيضاً، التفكير عمل، يحتاج إلى زمان ومكان، فلماذا هناك تفرغ للكتابة، وليس، ثمة، تفرغ للتفكير!؟
انني، اضافة إلى التفكير، الذي يحتاج إلى تفرغ، أرفض، دفعة واحدة، مبدأ التفرغ المأجور. لا أطيق، مجرد التصور، ان مبدعاً يتوظف لينتج عملاً ابداعياً. التفرغ يكون من الدولة، أو من اتحاد الكتّاب التابع للدولة، وأظن أنه وظيفة، بل هو وظيفة بغير ظن، تتفرغ مدة محدودة، لتكتب عملاً محدداً، وهذا إذا صح على البحث، على الدراسة، لا يصح على الأجناس الأدبية الأخرى، من قصة ورواية ومسرحية وديوان شعر مثلاً، فالابداع يجانب التحديد، يجانف الشرط الزمني لانجاز، في سنة أو أكثر، عمل ابداعي، مادامت العملية الابداعية عملية خلقية، وهذه قد تنجز في يوم، وقد لا تنجز في عام، وربما لا تنجز أبداً، إذا كانت مطوقة بشرط، وبزمن محسوب، في مكان معين. المبدع خالق أدبي، ولا يمكن أن يرتهن لشروط تجعل تفرغه وظيفة بغير جدران!
الكلام، هنا، مسحوب على العام وليس على الاطلاق، وكما أن التفرغ المشروط يقيد من يقع تحت طائله، فكذلك المناسبية أحياناً. إلا ان المناسبة ليست ضارة بإطلاق ايضاً، وبعض المثقفين، الذين يخافون من المناسبات ونتائجها، يذكرونك بالاخوانيات في عصور الانحطاط الأدبي، ونحن نذكرهم بقصائد المتنبي، وهي من أفضل شعره. المناسبة، إذن، وإن كانت شبيهة بالتفرغ، إلا انها تتحدد، في انطباقها على الذات الابداعية، وفي هذا الصدد كتب الشاعر الفرنسي بول ايلوار قائلاً: "ينبغي علينا التيقن ان كل قصيدة هي لمناسبة كما قال غوته، ولكن علينا التيقن انه لكي تنتقل قصيدة المناسبة من الخاص إلى العام، متخذة هكذا معنى قيماً، باقياً، ابدياً، فمن الضروري أن تتوافق هذه المناسبة مع أكثر رغبات الشاعر (والمبدع) مع قلبه وفكره، ومع عقله.. على المناسبة الخارجية ان تتطابق والمناسبة الداخلية، كما لو ان الشاعر نفسه هو الذي أوجدها، فتصبح بهذا حقيقة كالزهرة التي يفتقها الربيع، كفرح البناء ضد الموت.. ان الشاعر يتبع فكرته، غير أن هذه الفكرة تقوده إلى ان يكتب نفسه على الخط البياني للتقدم الإنساني".
حرب تشرين (اكتوبر) كانت مناسبة، ومنذ بدئها قال توفيق الحكيم: "في الحرب لا دور للكلمة بل للرصاصة!" متناسياً ان الكلمة هي التي تصوغ وجدان صانع الرصاصة، ومطلقها، والغاية من إطلاقها، فاضطررنا، الدكتورة نجاح العطار وأنا، إلى كتابة كتاب في الرد على هذا الزعم، اسميناه أدب الحرب، وكان موضع حفاوة من النقاد والقراء على السواء، لأننا استعرضنا أدب الحرب عند العرب والأجانب على السواء.
لهذا لا استطيع أن أرفض المناسبة أو التفرغ باطلاق، ولا يمكنني لوم من يقبل التفرغ بشرط، إذا كان قادراً على الابداع، وإذا كان قد فرغ من النظر إلى داخله، والتصرف إلى نفسه جيداً.
ان الكثرة من المبدعين العرب، يحتاجون فعلاً إلى التفرغ يقبلونه بشرط الوقت، وهذا لا يضير إذا كان التفرغ يتوافق مع الرغبات الداخلية للمتفرغ، وإذا كان، كما قال بول ايلوار، ينطبق مع قلبه وفكره وعقله.
لقد حاورت نفسي حول هذه المواضيع حواراً متأنياً، متعمقاً، واطلت هذا الحوار موضوع التفكير أو النظر إلى الداخل، فوجدت ان هذا التفكير لا يكون بغير سند من وعي، والوعي لا يتشكل إلا من الثقافة، ومن المعرفة التي نحصل عليها من مصدرين: الكتب والناس.
