الآن يمكننى أن أفكر بتأن و هدوء .
سكت قليلاً نفخ فى غيظ .
المشكلة يا عالم أن بطاقته موجودة ، و معنى ذلك أن عذرى أمام الله أنتفى ، و أنا الآن مبتلى و العياذ بالله ... آه يا رب لو لم تكن فى داخلها هذه المصيبة التى أسمها البطاقة لنام ضميرى مستريحاً ، و لا أبالى .
مصمص بشفتيه متحسراً ....
ورطة ....ورطة ...و الله العظيم ورطة ....يعنى لو فعلتها – اللهم أنى أستعيذ بك من وساوس الشيطان – لخنت الأمانة ، و كنت من الضالين ، و أنا رجل مؤمن ، أصلى و أعرف ربنا . يا رب أعنى لا حول و لا قوة إلا بالله . و نفخ يائساً . نهض قليلاً أرتكز بكوعه على الوسادة . أعتمد رأسه بكفه . تكلم بصوت خافت ليسمعه بأذنيه
لنفترض أننى وضعت الضمير جانباً – أفتراض يعنى يا سيدى ، هو الأفتراض حرم – فألف جنيه مبلغ لا يستهان به أبداً لمن كان فى مثل حالتى ، و فى وضعى التعبان . مبلغ – أقسم بالله ثلاثاً – يمكنه أن يغير من حياتى تماماً ، و ينقلنى أنا و الأولاد إلى الأمام ...مبلغ لو عشت طول حياتى ما وصلت إليه إلا بشق الأنفس ....هذا إذا أفترضنا طبعا أننى وصلت بالفعل.
صمت قليلاً . هز رأسه كأنه ينصت إلى همسات لا يسمعها إلا وحده
ماذا أفعل به ؟ ....تقول ماذا أفعل به ؟ !! شوف يا سيدى ...ممكن أشترى أرض فى البلد ، و ممكن أعمل مشروع . هناك ألف مشروع و مشروع . المهم الواحد يعمل أى حاجة . أى حاجة يا أخى تنقذنى من الغم الذى أنا فيه ....طبعاً ستقول لى : هل تستطيع ؟
أستطيع ؟! . مؤكد أستطيع ....مليم واحد و أقسم لك برب الكعبة لن يصرف منه على البيت . المشروع أولاً و أخيراً ثم بعد ذلك يأتى البيت . المهم يا أخى الواحد يسند ظهره . ظهرى الذى أنقسم – بعيد عنك . من أيام الفقر و الحرمان .... يا خبر ....عشرون سنة يا رجل . أشتغلت فيها بالحكومة مثل( الطور ) فى الساقية ، و أخرتها يا حسرة ....ملاليم تكفى اللقمة بالعافية ....يا رجل تعتقد أنك عايش . هل تسمى هذه حياة ؟! ...أنت بصراحة ميت نعم أنت مت من زمان يا محترم ، و الفرق بينك و بين الأحياء ....أن كان هناك فرق – أنك تتنفس فقط . فاهم . تتنفس فقط
أنقلب على ظهره . حملق فى السقف . أحس براحة عجيبة تملأ جوانحه بجذل ناعم . غادره تعب الجسد الذى كان يحسه على الدوام عند العودة ، حتى النوم الذى أدمنه بعد الغداء ، أخلى سبيله إلى يقظة حالمة وديعة . أنقلب على جنبه . حدق فى السروال مرة أخرى . ابتسم . نهض بخفة ، أمسك بالسروال . أخرج من جيبه الخلفى حافظة النقود . عاد بها إلى السرير أستلقى على جنبه مرة أخرى . ضغط عليها بإصبعين قلقتين . كانت منتفخة . وزنها بكفه هز رأسه . لوى شفتيه مندهشاً .
يا نهار أبيض . مرتب الشهر ...ريشة حمامة ، بجوار هذه النقود
أستخرج المبلغ كله . بدا فى عده مرة أخرى : واحد أثنان ، ثلاثة ....يا خبر يا ولاد ....مئة ورقة من فئة العشرة جنيهات . سأجن يا عالم
أمسك بالنقود . رتبها فوق بعضها فى تساو ضغط عليها بشدة بين أصبعيه . رفعها أمام عينيه . بدت سميكة كسمك الكتاب الصغير
يا سلام على العز يا أولاد ... يا سلام ....أنا فى حلم أو فى علم .....
و أنتابه فرح غامر ، رقصت له أعماقه سكرى ، ود لو هتف بزوجه أن تأتى لتشاركه فرحته المعربدة
-2-
سمع صرير الباب و هو يفتح . جفل فجأة ، رأى زوجته أمامه تطل عليه من فرجة الباب
حملقت فيه بتعجب :
ألا زلت يقظاً ....حسبتك فى سابع نومه
لكنها فى ذات الوقت رصدت يده ، و هى تخبىء بسرعة حافظة النقود ، تحت الوسادة سألها هادئاً و ثمة خاطر معربد يتصاعد من أعماقه رغبة ملحة ، و يدفعه أن يهتف لها بأنها أوشكت أن تلج الباب الساحر ، إلى أرض الثراء الفاحش
ماذا تريدين ؟
لكنها لم تتكلم ، وأتجهت إليه بخطوات أشعلتها اللهفة مدت يدها تحت الوسادة بإصرار و قوة
ما الذى تخفيه تحت الوسادة ؟ ! ...لابد أن أعرف
تشبث بعناد مرح بالوساده . ضغط عليها بمرفقه ، و أبتسامته البهيجة تتمدد على شفتيه أرتياحاً ، و راحة
يراه تدفعها عنه فى صدرها بضعف و أستسلام
لاشىء ....لا شىء ....صدقينى
و تضاحك سعيداً
لا....لابد أن أعرف . أنت تخبىء شيئاً عنى ، و لا تريد منى أن أعرفه
كان يناضلها بلا قوة ، و الفرحة تهز أعطافه بسرور عميق
سأحكى لك كل شىء ....فقط أجلسى هنا
طيب أحك
و حملقت فى وجهه مأخوذة ، لكنها أطاعته رغم ذلك ، و جلست على الأريكة فى استغراب
أسمعى يا ست ....حين كنت أصعد على سلم الوزارة ، وجدت هذه الحافظة ملقاة على السلم فى وضع ربما لا يراه فيها أحد
و مد يده تحت الوسادة ، و أخرج الحافظة ، و لوح بها أمام وجهها ضاحكاً . مدت يدها لتتناولها . شد يده عنها بسرعة :
لا . ليس بهذه السهولة . أنتظرى قليلاً
و أبتسم فى وجهها محدقاً :
كانت عيناى تنظران الأرض – هكذا رسم القدر لى – فإذا بى ألمحها فى ركن معتم من السلم ....أنحنيت إليها و ألتقطتها
قاطعته :
ألم يرك أحد ؟
من حسن الحظ لم يكن فى تلك الدقائق أحد غيرى يصعد ...كان القدر – يا سلام – كان يرتب لى هذا اللقاء الموعود
عدلت من جلستها على الأريكة . سألته بلهفة :
آه .....و ماذا وجدت فيها ؟
أصبرى قليلاً يا ست . أن الله مع الصابرين . ماذا ترين أنى فاعل بها ؟! . هل أقبلها و أضعها بجوار الحائط مثلاً كأنها لقمة ...وضعتها فى جيبى طبعاً دون أى كلام . نظرت حولى ، و إلى أعلى ، و إلى أسفل ، فلم أجد أحداً يصعد على السلم أو يهبط منه سوى العبد لله....الحقيقة لا أكذب عليك كنت خائفاً ، و كان قلبى يرتج بعنف فى صدرى ، و قد جف حلقى كأنى صائم ....المهم – أنا لا أريد أن أطيل عليك – دخلت دورة المياه ، و هناك فتحتها ....فإذا .....و أمسك فجأة . راح يطل عليها فى صمت ، و كأنه يود أن يرى وقع كلماته العجيبة على وجهها
أكمل يا رجل ....لماذا سكت هكذا ؟
آه ...أرايت ...وجدت هذا الذى لا أنا و لا أنت نحلم به مهما عشنا
و أخذ بطرف المبلغ ، و راح يهزه بيده هزات رتيبة ، و كأنه يهز ناقوساً أمام وجهها . ابتسمت فى سعادة
كم وجدته ؟
خذيه فأعديه ، لتسعدى مثلى يا غلبانة
و ناوله لها . تبسم منها ضاحكاً و هو يرى أصابعها ترتعش فى عده بتأن مثير .
أمسك بسيجارة و أشعلها ....هتفت بعد دقائق بصوت كله دهشة و أنفعال :
يا خبر أبيض ....ألف جنيه مرة واحدة
ابتسم . جلس على حافة السرير . مد رجليه إلى الأرض نفث الدخان أمامها
أنتظرى هناك مشكلة
مشكلة ؟!
نعم مشكلة ....فالبطاقة العائلية لصاحبها موجودة فى داخل الحافظة خذيها هى الأخرى ، و تأملى فيها
تناولتها منه بأصابع مرتعشة . نظرت إليها بإمعان . فتحتها و حدقت فى الصورة ملياً ...صاحبها يلبس طاقية . حليق الشارب . مطعهم الوجه . جلبابه البلدى مصور فى الصورة بوضوح . عيناه الواسعتان تلمعان كأنهما تنظران إليها بتوعد ....فى الجزء الأبيض من الصورة تحت رسمه بدت بصمته ، غليظة ، باهتة ، و كأنها طمست بفعل الأيام . قرأت أسمه بالكامل ....الوظيفة أو المهنة : تاجر أدوات صحية ....محل العمل :
قرأته أيضا بصوت مسموع
سألها جاداً :
ما رأيك إذن فى هذه الحكاية ؟
رأيى أنا ؟
و سكتت قليلاً ، و هى تمعن النظرة مرة أخرى إلى الصورة
هل رأك أحد و أنت تأخذها ؟
قلت لك لا أحد ....ربنا فقط هو المطلع
طيب يعنى ....لا أحد شاف و لا أحد درى
يا (وليه) أتقى الله ....لو اننا سلمناها لصاحبها لأصبح لنا بأسم الشرع 10% .
يعنى 100 جنيه – كلها حلال ، و خالية من أى ذنوب
هزت رأسها موافقة . قالت بسرعة و كأنها تؤكد كلماته :
كلامك معقول ، و أنا عن نفسى لا أقبل أن أربى أولادى من أى مال حرام
ثم ناولته البطاقة ، و أستطردت و هى تشيح بيدها بعيداً :
نحن فقراء صحيح ، و المرتب على قد حاله ، و لكن ربنا يغنينا بالحلال
نعم .....هذا هو عين ما قلته لنفسى بالضبط
عارف .....لو لم تكن البطاقة ....
قاطعها مسرعاً فى حسرة :
فكرت أيضاً فى هذه الفكرة قبلك ...لو لم تكن هذه البطاقة الملعونة لكان المبلغ حلالاً علينا و الحمد لله
طيب و العمل
حك ذقنه بإصبعيه . هز رأسه يائساً :
أنا تعبان و الله يا شيخة ....أنا تعبان فعلاً و ربنا عالم بى
و ساد بينهما صمت فسيح ، كأن أرضاً بعيدة قطعت بينهما ....كانت عيناه الحائرتان تهيمان على الحائط فى قلق ، عقله يقف متعباً ، شارداً بلا فكر ، و لا تفكير .
أمسك بعلبة السجائر ، و أشعل سيجارة جديدة . سمعاً دقات عالية مضطربة على الباب
نهضت متثاقلة :
حضر الأولاد من المدرسة ....سأذهب لأفتح لهم
ثم ألتفتت إليه ، و هى تخطو نحو الباب
أعطها لصاحبها – أعمل معروف – و لا تكثر من التفكير ...ربنا قادر يعطينا من حيث لا نعلم و لا ندرى
و أغلقت خلفها الباب . تركته وحده دون أن تسمع كلمته الأخيرة . هز رأسه أسفاً . أمسك بالمبلغ مع البطاقة ووضعهما فى الحافظة . أتجه إلى السروال المعلق على المشجب
لا حول و لا قوة إلا بالله ....اللهم أهدنا سواء السبيل يا رب
-3-
أنهى صلاة العصر ، بسجدتى السهو . أدرك أنه صلى بقلب مشغول و فكر مبعثر
جلس على المصلى شارداً ، مهموماً . أسند ظهره إلى الحائط . كان يحس بطحن صاخب فى أعماقه تردد دويه فى رأسه كضربات المطارق
لوى شفتيه متألماً ....أمعقول هذا ؟! ...أنها و الله حرب حقيقية ، و الصراع فيها قاس ، و مفزع ، و مرير ...هل يضحك الشيطان على يا رب ، و أنا الأنسان طاهر اليد
جلس القرفصاء . مسح على أنفه بعصبية
طيب ...إذا أنا سلمت المبلغ إلى صاحبه ، فإن الفرصة التى حانت لك يا ولد ، ستضيع عليك إلى الإبد ....صحيح سأكون أنساناً فاضلاً ،
و الرزق الحلال كما تعرف مهما ضؤل فإن الله يباركه ....و يمنيه ...يا رب أعنى
و مد رجليه بطولهما على سجادة الصلاة . كان الأولاد يمرحون من حوله و يتصارخون
تابعتهم عيناه القلقتان بنظرات خاوية ، لم يصرخ فيهم يأمرهم بالسكوت . كان يحس – واعجباً !! – فى صخبهم المريع راحة لإعصابه المستفزة ....إنه صخب – مع ذلك – لذيذ أجمل ما فيه الآن أنه لا يجعله مع نفسه وحيداً
و لكن لو فرض مثلاً ، و كان المبلغ لك لإستطعت أن تتحرك فى الحياة حركة أوسع يعنى المهم تعيش ....فاهم تعيش يعنى ( إيه ) ؟
و أشعل سيجارة ، نفث دخانها بعيداً عن فمه
آه لو لم تكن البطاقة موجودة .....يا سلام .... كان صاحبها اللعين يصر فى صمت عنيد على أن يدفعنى إلى تعب ملعون مثله . يا رب أعنى ....أنا غلبان ، و تعبان ، و لا ينقصنى أبداً تعب جديد