الخاتم بجوار المصباح . الصمت يحل فتعمى الاذان . فى الصمت يتسلل الاصبع . يضع الخاتم. فى صمت ايضا يطفأ المصباح . والظلام يعم .
فى الظلام ايضا تعمى العيون. الارملة وبناتها الثلاث. والبيت حجرة. والبداية صمت .
* * *
الارملة طويلة بيضاء ممشوقة ، فى الخامسة والثلاثين. بناتها ايضا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسى الاسود بحداد او بغير حداد . صغراهن فى السادسة عشرة وكبراهن فى العشرين .. قبيحات ورثن جسد الاب الاسمر الملئ بالكتل غير المتناسقة والفجوات ، وبالكاد اخذن من الام العود .
الجحرة ، رغم ضيقها تسعهن فى النهار . رغم فقرها الشديد مرتبة انيقة ، يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الاناث الاربع . فى الليل تتناثر اجسادهن كأكوام من لحم دافئ حى ، بعضها فوق الفراش ، وبعضها حوله
، تتصاعد منها الانفاس حارة مؤرقة ، احيانا عميقة الشهيق .
الصمت خيم مذ مات الرجل ، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل . انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وابرزها الصمت .. صمت طويل لا يفرغ اذ كان فى الحقيقة صمت انتظار فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لا يجيئون . ومن المجنون الذى يدق باب الفقيرات القبيحات ، وبالذات اذا كن يتامى ؟ . ولكن الامل بالطبع موجود ، فلكل فولة كيال ولكل بنت عدلها . فاذا كان الفقر هناك فهناك دائما من هو افقر ، واذا كان القبح هناك فهناك دائما الاقبح والامانى تنال .. احيانا تنال بطول البال .
* * *
صمت لم يكن يقطعه الا صوت التلاوة … يتصاعد فى روتين لا جدة فيه ولا انفعال . والتلاوة لمقرئ ، والمقرئ كفيف ، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير .. عصر الجمعة يجئ بعصاه ينقر الباب ، ولليد الممدودة يستسلم ، وعلى الحصير يتربع . وحين ينتهى يتحسس الصندل ، ويلقى بتحية لا يحفل احد بردها ، ويمضى . بالتعود يجئ ..بالتعود يقرأ .. بالعادة يمضى ، حتى لم يعد يشعر به او ينتبه اليه احد ..
دائم هو الصمت ، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه اصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت . دائم هو كالانتظار ، كالامل .. امل قليل ولكنه دائم، فهو امل فى الاقل . دائما هناك لكل قليل اقل ، وهن لا يتطلعن لاى اكثر .. ابدا لا يتطلعن .
يدوم الصمت حتى يحدث شئ .. يجئ عصر الجمعة ولا يجئ المقرئ . فلأى اتفاق مهما طال نهاية وقد انتهى الاتفاق .
وتدرك الارملة وبناتها الان فقط كنه ما تقدم ، ليس فقط الصوت الوحيد الذى كان يقطع الصمت ، ولكن ايضا الرجل الوحيد الذى كان ولو فى الاسبوع مرة يدق الباب ، بل اشياء اخرى يدركن .. فقير مثلهن هذا صحيح ، ولكن ملابسه ابدا كانت نظيفة ، وصندله دائما مطلى ، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون ، وصوته قوى عميق رنان .
والاقتراح يبدأ : لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الان ؟ ولماذا لا يرسل فى طلبه هذه اللحظة ؟ مشغول ، فليكن ! الانتظار ليس بالجديد . وقرب المغرب يأتى ، ويقرأ وكأنه اول مرة يقرأ ، والاقتراح ينشأ .. لماذا لا تتزوج احداهن رجلا يملأ علينا بصوته الدار ؟ هو اعزب لم يدخل دنيا ، وله شارب اخضر ، ولكنه شاب . وبالكلام يجر الكلام ، ها هو الاخر يبحث عن بنت الحلال .
البنات يقترحن والام تنظر فى وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح . ولكن الوجوه تزور مقترحة – فقط مقترحة – قائلة بغير الكلام : أنصوم ونفطر على أعمى ؟ هن مازلن يحلمن بالعرسان ، والعرسان عادة مبصرون ، مسكينات لم يعرفن بعد عالم الرجال ، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه .
- تزوجيه انت يا أماه .. تزوجيه
- انا ؟ يا عيب الشوم ! .. والناس ؟
- يقولون ما يقولون .. قولهم اهون منبيت خال من رنين صوت الرجال .
- أتزوج قبلكن ؟ مستحيل
- اليس الافضل ان تتزوجى قبلنا ، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك ؟ تزوجيه يا اماه
وتزوجته .. زاد عدد الانفس واحدة ، وزاد الرزق قليلا ، ونشأت مشكلة اكبر .
الليلة الاولى انقضت وهما فى فراشهما ، هذا صحيح ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب .. ولو صدفه ! .. فالبنات الثلاث نائمات ، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة الى المسافة الكائنة بينهما .. كشافات عيون ، وكشافات آذان ، وكشافات احساس . البنات كبيرات ، عارفات ومدركات ، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحى الى ضوء نهار . ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة ، وواحدة وراء الاخرى تسللن ولم يعدن الا قرب الغروب ، مترددات خجلات يقدمن رجلا ويؤخرن رجلا ، حتى يزددن قربا وحينذاك يدهشهن .. يربكهن .. يجعلهن يسرعن ضحكات .. قهقهات رجل تتخللها سخسخات امراة .. امهن لابد تضحك ، والرجل الذى ما سمعنه الا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك ! بالاحضان قابلتهن ولا تزال تضحك ، راسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك ، وجهها .. ذلك الذى ادركن للتو انه كان مجرد فانوس مطفأ عشعش فيه العنكبوت والتجعيدات ، فجأة انار ، ها هو امامهن كلمبة الكهرباء مضئ . ها هى عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك .. تلك التى كانت مستكنة فى قاع المحجر .
الصمت تلاشى واختفى تماما ، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء نكت تترى واحاديث وغناء ! صوته حلو وهو يغنى ويقلد ام كلثوم وعبد الوهاب ، صوته عال اجش بالسعادة يلعلع .
خيرا فعلت يا اماه ! وغدا تجذب الضحكات الرجال ، فالرجال طعم الرجال .
نعم يا بنات ، غدا يجئ الرجال ويهل العرسان . ولكن الحق ان ما اصبح يشغلها ليس الرجال او العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن ، فما اكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد انهم عميان . هذا الشاب القوى المتدفق قوة وصحة وحياة ، ذلك الذى عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان .
الصمت تلاشى وكأن الى غير رجعة ، ضجيج الحياة دب . الزوج زوجها وحلالها وعلى سنة الله ورسوله ، فماذا يعيب ؟ وكل ما تفعله جائز ، حتى وهى لم تعد تحفل بالمواربة او بكتمان الاسرار . حتى والليل يجئ وهم جميعا معا ، فيطلق العقال للارواح والاجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الانفاس والاصوات ، مسمرات فى مراقدهن يحبسن الحركة والسعال .. تظهر الاهات فجأة فتكتمها الاهات .
كان نهارها "غسيل " فى بيوت الاغنياء ، ونهاره قراءة فى بيوت الفقراء ، ولم يكن من عادته اول الامر ان يؤوب الى الحجرة ظهرا ، ولكن لما الليل عليه طال والسهر اصبح يمتد ، بدأ يؤوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى واستعدادا لليل قادم . وذات مرة بعدما شبعا من الليل وشبع الليل منهما ، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هى منطلقة تتكلم الان ومعتصمة بالصمت التام ساعتها ؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الان – اذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا – ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا ان تنتفض هالعة واقفة صارخة . كان ممكنا ان تجن . كان ممكنا ان يقتله احد . فليس لما يقوله الا معنى واحد ، ما اغربه وابشعه من معنى !
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه انفاسها .. سكتت . بآذانها التى حولتها الى انوف وحواس وعيون راحت تتسمع وهمها الاول ان تعرف الفاعلة . انها متأكدة لامر ما انها الوسطى . ان فى عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص اذا اطلق .. ولكنها تتسمع الانفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة كأنها محمومة .. ساخنة بالصبا تجأر ، تتردد ، تنقطع ، احلام حرام تقطعها .. انفاس باضطرابها تتحول الى فحيح .. فحيح كالصهد الذى تنفثه اراض عطشى ، والغصة تزداد عمقا واحتباسا . انها انفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع ان تفرق بين كومة لحم حى ساخنة مكتومة وكومة اخرى . كلها جائعة ! كلها تصرخ وتئن ، وانينها يتنفس ليس انفاسا ، ربما استغاثات . ربما رجوات .. ربما ما هو اكثر .
غرقت فى حلالها الثانى ونسيت حلالها الاول .. بناتها ! والصبر اصبح علقما ، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر . فجأة ملسوعة ها هى كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفى .. البنات جائعات ! الطعام حرام صحيح ولكن الجوع احرم .. ابدا ليس مثل الجوع حرام ! انها تعرفه .. عرفها ويبس روحها ومص عظامها ، وتعرفه – وشبعت ما شبعت – مستحيل ان تنسى مذاقه .
جائعات وهى التى كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن … هى التى كان همها حتى لو جاعت ان تطعمهن ، هى الام ، انسيت ؟
والح مهما الح تحولت الغصة الى صمت. الام صمتت ومن لحظتها لم يغادرها الصمت .
وعلى الافطار كانت – كما قدرت تماما- الوسطى صامتة
وعلى الدوام ظلت صامتة
والعشاء يجئ والشاب – سعيدا وكفيفا ومستمتعا – ينكت لا يزال و يغنى ويضحك ولا يشاركه الضحك الا الصغرى والكبرى فقط .
ويطول الصبر ويتحول علقمه الى مرض ولا احد يطل .
وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم امها فى اصبعها وتبدى الاعجاب به ، ويدق قلب الام وتزداد دقاته وهى تطلب منها ان تضعه ليوم ، لمجرد يوم واحد لا غير . وفى صمت تسحبه من اصبعها . وفى صمت تضعه الكبرى فى اصبعها المقابل .
وعلى العشاء التالى تصمت الكبرى وتأبى النطق
والكفيف الشاب يصخب ويغنى ويضحك، والصغرى تشاركه
ولكن الصغرى تصبح – بالصبر والهم وقلة البخت – اكبر ، وتبدأ تسأل عن دورها فى لعبة الخاتم ، وفى صمت تنال الدور .
والخاتم بجوار المصباح … الصمت يحل فتعمى الآذان . وفى الصمت يتسلل الاصبع صاحب الدور ويضع الخاتم فى صمت ايضا ويطفئ المصباح والظلام يعم ، وفى الظلام تعمى العيون . ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا ، الا الكفيف الشاب .فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا . انه هو الاخريريد ان يعرف .. عن يقين يعرف . كان اول الامر يقول لنفسه انها طبيعة المرأة التى تأبى البقاء على حال واحد ، فهى طازجة صابحة كقطر الندى مرة ، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة اخرى . ناعمة كملمس ورق الورد مرة . خشنة كنبات الصبار مرة اخرى . الخاتم دائم وموجود صحيح ،ولكن وكأنما الاصبحع الذى يطبق عليه كل مرة اصبع انه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت ؟ لماذا لا ينطق ؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت ؟ ماذا لو تكلم ؟
مجرد التساؤل اوقف اللقمة فى حلقه
ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وابى ان يغادره
بل هو الذى اصبح خائفا ان يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت . ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله ، والويل له لو انهار بناء الصمت
الصمت المختلف الغريب الذى اصبح يلوذ به الكل
الصمت الارادى هذه المرة ، لا الفقر ، لا القبح ، لا الصبر ولا اليأس سببه .
انما هو اعمق انواع الصمت ، فهو الصمت المتفق عليه اقوى انواع الاتفاق ، ذلك الذى يتم بلا اى اتفاق
* * *
الارملة وبناتها الثلاث
والبيت حجرة
والصمت الجديد
والمقرئ الكفيف الذى جاء معه بذلك الصمت ، وبالصمت راح يؤكد لنفسه ان شريكته فى الفراش على الدوام هى زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه ، تتصابى مرة او تشيخ ، تنعم او تخشن ، ترفع او تسمن ، هذا شأنها وحدها ، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم ! هم الذين يملكون نعمة اليقين ، اذا هم القادرون على التمييز . واقصى ما يستطيعه هو ان يشك ، شك لا يمكن ان يصبح يقينا الا بنعمة البصر ، ومادام محروما منه فسيظل محروما من اليقين ، اذ هو الاعمى ، وليس على الاعمى حرج
ام على الاعمى حرج ؟
فى الظلام ايضا تعمى العيون. الارملة وبناتها الثلاث. والبيت حجرة. والبداية صمت .
* * *
الارملة طويلة بيضاء ممشوقة ، فى الخامسة والثلاثين. بناتها ايضا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسى الاسود بحداد او بغير حداد . صغراهن فى السادسة عشرة وكبراهن فى العشرين .. قبيحات ورثن جسد الاب الاسمر الملئ بالكتل غير المتناسقة والفجوات ، وبالكاد اخذن من الام العود .
الجحرة ، رغم ضيقها تسعهن فى النهار . رغم فقرها الشديد مرتبة انيقة ، يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الاناث الاربع . فى الليل تتناثر اجسادهن كأكوام من لحم دافئ حى ، بعضها فوق الفراش ، وبعضها حوله
، تتصاعد منها الانفاس حارة مؤرقة ، احيانا عميقة الشهيق .
الصمت خيم مذ مات الرجل ، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل . انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وابرزها الصمت .. صمت طويل لا يفرغ اذ كان فى الحقيقة صمت انتظار فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لا يجيئون . ومن المجنون الذى يدق باب الفقيرات القبيحات ، وبالذات اذا كن يتامى ؟ . ولكن الامل بالطبع موجود ، فلكل فولة كيال ولكل بنت عدلها . فاذا كان الفقر هناك فهناك دائما من هو افقر ، واذا كان القبح هناك فهناك دائما الاقبح والامانى تنال .. احيانا تنال بطول البال .
* * *
صمت لم يكن يقطعه الا صوت التلاوة … يتصاعد فى روتين لا جدة فيه ولا انفعال . والتلاوة لمقرئ ، والمقرئ كفيف ، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير .. عصر الجمعة يجئ بعصاه ينقر الباب ، ولليد الممدودة يستسلم ، وعلى الحصير يتربع . وحين ينتهى يتحسس الصندل ، ويلقى بتحية لا يحفل احد بردها ، ويمضى . بالتعود يجئ ..بالتعود يقرأ .. بالعادة يمضى ، حتى لم يعد يشعر به او ينتبه اليه احد ..
دائم هو الصمت ، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه اصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت . دائم هو كالانتظار ، كالامل .. امل قليل ولكنه دائم، فهو امل فى الاقل . دائما هناك لكل قليل اقل ، وهن لا يتطلعن لاى اكثر .. ابدا لا يتطلعن .
يدوم الصمت حتى يحدث شئ .. يجئ عصر الجمعة ولا يجئ المقرئ . فلأى اتفاق مهما طال نهاية وقد انتهى الاتفاق .
وتدرك الارملة وبناتها الان فقط كنه ما تقدم ، ليس فقط الصوت الوحيد الذى كان يقطع الصمت ، ولكن ايضا الرجل الوحيد الذى كان ولو فى الاسبوع مرة يدق الباب ، بل اشياء اخرى يدركن .. فقير مثلهن هذا صحيح ، ولكن ملابسه ابدا كانت نظيفة ، وصندله دائما مطلى ، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون ، وصوته قوى عميق رنان .
والاقتراح يبدأ : لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الان ؟ ولماذا لا يرسل فى طلبه هذه اللحظة ؟ مشغول ، فليكن ! الانتظار ليس بالجديد . وقرب المغرب يأتى ، ويقرأ وكأنه اول مرة يقرأ ، والاقتراح ينشأ .. لماذا لا تتزوج احداهن رجلا يملأ علينا بصوته الدار ؟ هو اعزب لم يدخل دنيا ، وله شارب اخضر ، ولكنه شاب . وبالكلام يجر الكلام ، ها هو الاخر يبحث عن بنت الحلال .
البنات يقترحن والام تنظر فى وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح . ولكن الوجوه تزور مقترحة – فقط مقترحة – قائلة بغير الكلام : أنصوم ونفطر على أعمى ؟ هن مازلن يحلمن بالعرسان ، والعرسان عادة مبصرون ، مسكينات لم يعرفن بعد عالم الرجال ، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه .
- تزوجيه انت يا أماه .. تزوجيه
- انا ؟ يا عيب الشوم ! .. والناس ؟
- يقولون ما يقولون .. قولهم اهون منبيت خال من رنين صوت الرجال .
- أتزوج قبلكن ؟ مستحيل
- اليس الافضل ان تتزوجى قبلنا ، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك ؟ تزوجيه يا اماه
وتزوجته .. زاد عدد الانفس واحدة ، وزاد الرزق قليلا ، ونشأت مشكلة اكبر .
الليلة الاولى انقضت وهما فى فراشهما ، هذا صحيح ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب .. ولو صدفه ! .. فالبنات الثلاث نائمات ، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة الى المسافة الكائنة بينهما .. كشافات عيون ، وكشافات آذان ، وكشافات احساس . البنات كبيرات ، عارفات ومدركات ، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحى الى ضوء نهار . ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة ، وواحدة وراء الاخرى تسللن ولم يعدن الا قرب الغروب ، مترددات خجلات يقدمن رجلا ويؤخرن رجلا ، حتى يزددن قربا وحينذاك يدهشهن .. يربكهن .. يجعلهن يسرعن ضحكات .. قهقهات رجل تتخللها سخسخات امراة .. امهن لابد تضحك ، والرجل الذى ما سمعنه الا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك ! بالاحضان قابلتهن ولا تزال تضحك ، راسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك ، وجهها .. ذلك الذى ادركن للتو انه كان مجرد فانوس مطفأ عشعش فيه العنكبوت والتجعيدات ، فجأة انار ، ها هو امامهن كلمبة الكهرباء مضئ . ها هى عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك .. تلك التى كانت مستكنة فى قاع المحجر .
الصمت تلاشى واختفى تماما ، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء نكت تترى واحاديث وغناء ! صوته حلو وهو يغنى ويقلد ام كلثوم وعبد الوهاب ، صوته عال اجش بالسعادة يلعلع .
خيرا فعلت يا اماه ! وغدا تجذب الضحكات الرجال ، فالرجال طعم الرجال .
نعم يا بنات ، غدا يجئ الرجال ويهل العرسان . ولكن الحق ان ما اصبح يشغلها ليس الرجال او العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن ، فما اكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد انهم عميان . هذا الشاب القوى المتدفق قوة وصحة وحياة ، ذلك الذى عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان .
الصمت تلاشى وكأن الى غير رجعة ، ضجيج الحياة دب . الزوج زوجها وحلالها وعلى سنة الله ورسوله ، فماذا يعيب ؟ وكل ما تفعله جائز ، حتى وهى لم تعد تحفل بالمواربة او بكتمان الاسرار . حتى والليل يجئ وهم جميعا معا ، فيطلق العقال للارواح والاجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الانفاس والاصوات ، مسمرات فى مراقدهن يحبسن الحركة والسعال .. تظهر الاهات فجأة فتكتمها الاهات .
كان نهارها "غسيل " فى بيوت الاغنياء ، ونهاره قراءة فى بيوت الفقراء ، ولم يكن من عادته اول الامر ان يؤوب الى الحجرة ظهرا ، ولكن لما الليل عليه طال والسهر اصبح يمتد ، بدأ يؤوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى واستعدادا لليل قادم . وذات مرة بعدما شبعا من الليل وشبع الليل منهما ، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هى منطلقة تتكلم الان ومعتصمة بالصمت التام ساعتها ؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الان – اذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا – ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا ان تنتفض هالعة واقفة صارخة . كان ممكنا ان تجن . كان ممكنا ان يقتله احد . فليس لما يقوله الا معنى واحد ، ما اغربه وابشعه من معنى !
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه انفاسها .. سكتت . بآذانها التى حولتها الى انوف وحواس وعيون راحت تتسمع وهمها الاول ان تعرف الفاعلة . انها متأكدة لامر ما انها الوسطى . ان فى عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص اذا اطلق .. ولكنها تتسمع الانفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة كأنها محمومة .. ساخنة بالصبا تجأر ، تتردد ، تنقطع ، احلام حرام تقطعها .. انفاس باضطرابها تتحول الى فحيح .. فحيح كالصهد الذى تنفثه اراض عطشى ، والغصة تزداد عمقا واحتباسا . انها انفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع ان تفرق بين كومة لحم حى ساخنة مكتومة وكومة اخرى . كلها جائعة ! كلها تصرخ وتئن ، وانينها يتنفس ليس انفاسا ، ربما استغاثات . ربما رجوات .. ربما ما هو اكثر .
غرقت فى حلالها الثانى ونسيت حلالها الاول .. بناتها ! والصبر اصبح علقما ، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر . فجأة ملسوعة ها هى كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفى .. البنات جائعات ! الطعام حرام صحيح ولكن الجوع احرم .. ابدا ليس مثل الجوع حرام ! انها تعرفه .. عرفها ويبس روحها ومص عظامها ، وتعرفه – وشبعت ما شبعت – مستحيل ان تنسى مذاقه .
جائعات وهى التى كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن … هى التى كان همها حتى لو جاعت ان تطعمهن ، هى الام ، انسيت ؟
والح مهما الح تحولت الغصة الى صمت. الام صمتت ومن لحظتها لم يغادرها الصمت .
وعلى الافطار كانت – كما قدرت تماما- الوسطى صامتة
وعلى الدوام ظلت صامتة
والعشاء يجئ والشاب – سعيدا وكفيفا ومستمتعا – ينكت لا يزال و يغنى ويضحك ولا يشاركه الضحك الا الصغرى والكبرى فقط .
ويطول الصبر ويتحول علقمه الى مرض ولا احد يطل .
وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم امها فى اصبعها وتبدى الاعجاب به ، ويدق قلب الام وتزداد دقاته وهى تطلب منها ان تضعه ليوم ، لمجرد يوم واحد لا غير . وفى صمت تسحبه من اصبعها . وفى صمت تضعه الكبرى فى اصبعها المقابل .
وعلى العشاء التالى تصمت الكبرى وتأبى النطق
والكفيف الشاب يصخب ويغنى ويضحك، والصغرى تشاركه
ولكن الصغرى تصبح – بالصبر والهم وقلة البخت – اكبر ، وتبدأ تسأل عن دورها فى لعبة الخاتم ، وفى صمت تنال الدور .
والخاتم بجوار المصباح … الصمت يحل فتعمى الآذان . وفى الصمت يتسلل الاصبع صاحب الدور ويضع الخاتم فى صمت ايضا ويطفئ المصباح والظلام يعم ، وفى الظلام تعمى العيون . ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا ، الا الكفيف الشاب .فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا . انه هو الاخريريد ان يعرف .. عن يقين يعرف . كان اول الامر يقول لنفسه انها طبيعة المرأة التى تأبى البقاء على حال واحد ، فهى طازجة صابحة كقطر الندى مرة ، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة اخرى . ناعمة كملمس ورق الورد مرة . خشنة كنبات الصبار مرة اخرى . الخاتم دائم وموجود صحيح ،ولكن وكأنما الاصبحع الذى يطبق عليه كل مرة اصبع انه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت ؟ لماذا لا ينطق ؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت ؟ ماذا لو تكلم ؟
مجرد التساؤل اوقف اللقمة فى حلقه
ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وابى ان يغادره
بل هو الذى اصبح خائفا ان يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت . ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله ، والويل له لو انهار بناء الصمت
الصمت المختلف الغريب الذى اصبح يلوذ به الكل
الصمت الارادى هذه المرة ، لا الفقر ، لا القبح ، لا الصبر ولا اليأس سببه .
انما هو اعمق انواع الصمت ، فهو الصمت المتفق عليه اقوى انواع الاتفاق ، ذلك الذى يتم بلا اى اتفاق
* * *
الارملة وبناتها الثلاث
والبيت حجرة
والصمت الجديد
والمقرئ الكفيف الذى جاء معه بذلك الصمت ، وبالصمت راح يؤكد لنفسه ان شريكته فى الفراش على الدوام هى زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه ، تتصابى مرة او تشيخ ، تنعم او تخشن ، ترفع او تسمن ، هذا شأنها وحدها ، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم ! هم الذين يملكون نعمة اليقين ، اذا هم القادرون على التمييز . واقصى ما يستطيعه هو ان يشك ، شك لا يمكن ان يصبح يقينا الا بنعمة البصر ، ومادام محروما منه فسيظل محروما من اليقين ، اذ هو الاعمى ، وليس على الاعمى حرج
ام على الاعمى حرج ؟