يُلقَّب الأرجنتينيون، في المكسيك، بـ«تشي» للتهكم على عادتهم مباشرة كل جملة بالكلمة هذه. وهكذا حمل غيفارا هذه الكنية في أوساط اللاجئين الكوبيين. وقد وقّع بهذا الاسم الأوراق النقدية، عندما شغل منصب حاكم المصرف المركزي في كوبا. تسمية التصقت به لدرجة أنه، بعد أربعين عاماً على مقتله، لا يتذكر العالم «تشي» غيره
ولد إرنستو غيفارا دي لا سيرنا ليل 14 حزيران من عام 1928 في بيت أقارب له في مدينة كوردوبا، بعدما شعرت والدته سيليا دي لا سيرنا بآلام المخاض وهي تعود مع زوجها إرنستو غيفارا لينش من رحلة قرب النهر.
جذور العائلة أرستقراطية من الجهتين: عائلة الأب إيرلندية والأم من بلاد الباسك. ولكنها أرستقراطية افتقرت وصارت من الطبقات الوسطى. نقل الأب العائلة إلى منطقة قريبة من الباراغواي، ولكن المناخ لا يناسب «إرنستيتو» Ernestito، فالولد مصاب بربو عنيف، ومن بيت إلى بيت، تحكّمت صحة الولد بمحل الإقامة. وسمم الربو حياة الرجل حتى آخر أيامه، وخصوصاً أنه لم يقصد إلا مناطق استوائية.
قبل «تشي»
منذ عمر عشر سنوات، كان «تي تي» Tété يحقن نفسه بالدواء عند الحاجة. قوة الإرادة عند الولد جعلته مغامراً: يقف على يديه على حافة الهاوية ولا يكتفي برياضات مثل المضرب والشطرنج، بل يحلم بلعب الركبي. علّمه اللعبة، ألبرتو غرانادو، صديقه الذي يكبره سنّاً. وصار «تي تي» لاعباً ماهراً، كثيراً ما يترك الملعب مختنقاً وباحثاً عن عبوة دواء الربو. انتسب إلى كلية الطب، وصبّ اهتمامه على البرص والأمراض الاستوائية. لم يعاشر الوسط العائلي واختار أصحابه من «الزعران». تنقّل بين العديد من المهن، فعمل في مكتبة ومحطة وقود. كان يقرأ كل ما تقع عليه يداه، وخصوصاً الأدب الفرنسي. يُساعد الطبيب الصديق ألبرتو غرانادو في مهماته، ومعه جال في الأرجنتين، وهما يحلمان بما سمياه «رحلتهما الحقيقية».
انطلقا في بداية عام 1952 على متن دراجة «نورتون 500 سنتيمتر مكعب» ملقبة بـ«القادرة». وضعا مخططاً معقداً يمرّ في دول عديدة وصولاً إلى المحيط الهادئ في تشيلي. يسرد فيلم «يوميّات على درّاجة» وقائع السفرة التي عجزت «القادرة» عن إتمامها، والتي تابعها الصديقان بما تيسّر. مناجم شوكيكاماتا حيث رأى غيفارا استغلال الهنود، وحيث «بدأ يصبح تشي»، حسب ألبرتو. ومعبد ماشو بيشو، الذي دخله غيفارا وهو يقرأ شعر بابلو نيرودا. واحتفل بعيد ميلاده الرابع والعشرين في مستوصف للبرص في الأمازون.
افترق الصديقان. تابع ألبرتو سفره إلى فنزويلا، فيما عاد إرنستو غيفارا مؤقتاً إلى بوينس آيرس للمشاركة في تخرّجه. بعد أقل من سنة، استقلّ الطبيب غيفارا القطار مع رفيق آخر، وقصدا الصديق ألبرتو في فنزويلا.
وبينما كان في طريقه إلى هذا البلد، يتعرف غيفارا إلى ريكاردو روخو في لاباز، وهو محام شاب ترك الأرجنتين لأسباب سياسية. حياة غيفارا في بوليفيا فيها من تقشف الهيبيين. ويصفها ريكاردو في كتابه عن تشي بالقول «غرفة في حي فقير أثاثها الوحيد مسامير يعلق عليها ثيابه. قدرة هائلة على المشي، عدم الاكتراث للألبسة، والعيش من دون نقود». وأضاف «الرجل اثنان: صامت كالأخرس أو لئيم في جموع لا تناسبه، وصديق وراوٍ حيث يرتاح. غير مسيّس بعد، يبحث ولا يعرف ما يريد، ولكنه يعرف بالضبط ما لا يريد».
افترق غيفارا وريكاردو بعد لاباز، والتقيا صدفة أكثر من مرة على الطريق، حيث أقنع ريكاردو غيفارا بترك فنزويلا «حيث لا يحدث شيئاً»، والذهاب معه إلى غواتيمالا. في كوستاريكا، تعرّف غيفارا في المقاهي إلى «جماعة الكاريب»: بيتانكور الفنزويلي وخوان بوش من الجمهورية الدومينيكية، وكلاهما أصبحا رئيسي جمهورية.
في غواتيمالا، التي وصل إليها بداية عام 1954، أعجبته اقتصادية من البيرو، اسمها هيلدا، من النظرة الأولى، «مناضلة وأنيقة معاً». بعد أشهر، ذهب ريكاردو إلى المكسيك، وطلب غيفارا من رفيق رحلته إبلاغ ألبرتو بأنه عدل عن السفر إلى فنزويلا. إلا أنه سيعود ويلتقي ألبرتو عندما يأتي لزيارته في كوبا في الستينيات.
تبادل إرنستو الكتب مع هيلدا، أعطته أول كتاب ماوي وعرّفته باللاجئين الكوبيين. اتصل بها عند أول أزمة ربو، ووجدته «مهلكاً لا يطلب مني إلا أن أناوله الإبرة». تكلما عن الشعر الإسباني وأراد إقناعها بأهمية الفرنسي منه. في حزيران من عام 1954، انتهت تجربة غواتيمالا اليسارية بدخول جيش مرتزقة أعاد السلطة إلى «اليونايتيد فرنت». فتوجه غيفارا إلى المكسيك، فيما اعتقلت هيلدا قبل أن يُقرر طردها إلى المكسيك.
في المكسيك، عمل غيفارا صباحاً طبيباً متطوعاً وبعد الظهر مصوراً في الساحات، حيث التقط صوراً يُظَهِرها شريكه في الغرفة. وصلت هيلدا إلى المكسيك ومعها بعض العلاقات الاجتماعية. عام 1955، عمل مصوراً في الوكالة اللاتينية وغطى أولى الألعاب الأميركية.
بعد ذلك، وافقت هيلدا على عرض الزواج وعرفته براوول كاسترو الذي أعجب به، وقدّمه إلى فيديل الذي وصل المكسيك. كان فيديل يستمع إليه كل الليل، وعند الفجر يسرّ له بمشروع الإبحار في اتجاه كوبا.
في آب، تزوّج هيلدا، وفي اليوم التالي سافر فيديل إلى الولايات المتحدة بحثاً عن المال والأسلحة وحوّل بريده إلى بيت غيفارا. مع سقوط خوان بيرون، قرّر ريكاردو العودة إلى الأرجنتين وحاول عبثاً إقناع غيفارا بالعودة معه، إلا أنه أبى وحمّله غيفارا رسالة إلى والدته.
بعد «تشي»
عام 1956، كان الكوبيون يتدربون على الرماية في مزرعة قرب العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي. خلال النهار، كان «تشي» يعذّب جسمه في محاولة تسلّق بركان مجاور، وفي الليل يلعب شطرنج مع جنرال إسباني من الجمهوريين. في ذلك الحين، رزق غيفارا بـ«هيلدا الصغيرة»، إلا أنه لم يبق معها وقتاً طويلاً، إذ اكتُشف المعسكر واعتُقل الكوبيون، قبل أن يفرج عنهم بعد حملة تضامن في المكسيك. إلا أن هيلدا انتقلت مع ابنتها إلى البيرو، وعادت والتقت غيفارا في بداية عام 1959 قبل أن ينفصلا.
في نهاية عام 1956، أبحر 82 مقاتلاً، يتقدمهم فيديل، إلى كوبا. إلا أن الجيش فاجأهم فور وصولهم، وبعد أيام قليلة قُتلت غالبيتهم ونجا أقل من عشرين. وبعد عشرة أيام، حقّق الناجون انتصاراً متواضعاً وحاسماً لمعنوياتهم. بعد أشهر، قسّم فيديل «جيشه» إلى فيلقين، يترأس بنفسه الأول، ويعيّن «مسؤول الصحة» غيفارا لقيادة الثاني. وكلما ازداد عددهم، كان يحدد فيديل جبهة جديدة وقائد فيلق جديداً، وهكذا تغلب بأقل من سنتين بجيشه المؤلف من 3000 مقاتل على جيش من 80000 جندي.
كان تشي غيفارا مشهوراً ببسالته وقساوته بحق نفسه ومأموريه. ولجمه فيديل أكثر من مرة لحفظ حياته وحياة رفاقه. إنجاز غيفارا الأهم هو معركة ثكنة شانتا كلارا حيث انتصر بـ350 مقاتلاً على جيش من ثلاثة آلاف جندي مع قطار مصفح. وقْع الحدث جعل فولغينسيو باتيستا يغادر البلد. وفي عام 1959، بدأت جموع الثوار بالدخول إلى شوارع هافانا المحررة.
بعد انتصار الثورة، مُنح غيفارا الجنسية الكوبية، ولكنه لم يحتل أي موقع رسمي في البداية. نُسب إليه دور في محاكمة المتعاونين مع نظام باتيستا وإعدام عدد منهم. وشارك في «قيادة الظل» التي اجتمعت في بيته، حيث بصماته لا تزال واضحة على قرارات الإصلاح الزراعي.
بعد طلاقه من هيلدا غاديا، تزوج من أليدا مارش. وفي نهاية العام، عُيّن حاكماً للمصرف المركزي. شغل عام 1960 منصب وزير الصناعة، وسرّع في التأميم وطور نظرياته حول «الرجل الجديد» والدوافع المعنوية. وكان دائماً يرفض تلقي أجر على القيام بمهماته الرسمية.
التجاذب الداخلي قرّبه من الاتحاد السوفياتي، ولا سيما أنه كان المسؤول عن توقيع اتفاقات اقتصادية وثقافية مع دول حلف وارسو. ويقول عنه أحد الدبلوماسيين السوفيات بعد زيارته إلى موسكو إنه «منظم جداً. ليس فيه ذرّة أميركية لاتينية، يبدو ألمانياً بتصرفاته». كما تعرّف غيفارا بماو تسي تونغ، عندما كان يبيع السكر الكوبي إلى الصين.
خليج الخنازير
ورّث الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور خلفه جون كينيدي قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا. وفي عام 1961، نفذت وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إي»، بجيش من المرتزقة قوامه 1500 كوبي، إنزالاً في خليج الخنازير. إلا أن الجيش الكوبي حسم الموقعة بأقل من 72 ساعة. وعوّض كينيدي خسارته بطرد كوبا من منظمة الدول الأميركية في بداية عام 1962.
وفي عز الحرب الباردة، وصلت صواريخ نووية «دفاعية» إلى كوبا، وبدأت «أزمة الصواريخ»، التي شكّلت أقرب سيناريو إلى حرب نووية بعد هيروشيما. وبعد تسوية الأزمة، شعر تشي بالخيبة من الموقف السوفياتي الذي اعتبره بمثابة «جبن وتخلٍّ».
لتفسير كل ما حدث من بعد، يقول فيديل كاسترو إن «الوعد الوحيد الذي قطعه لغيفارا أيام المكسيك هو بعدم الضغط عليه يوم يقرر المغادرة». ابتعد غيفارا عن السوفيات وأصبح «عالمثالثياً»، مهتماً بباندونغ وبحركة عدم الانحياز. بارك تشي مجموعة حرب عصابات في الأرجنتين، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً عام 1963.
في نهاية العام نفسه، خطب غيفارا أمام الأمم المتحدة، ثم بدأ جولة دامت ثلاثة أشهر تعرف خلالها بإعجاب بكوريا الشمالية، وعرّج على دول إفريقية، كالجزائر بضيافة أحمد بن بلّا، ومرّ على مصر حيث منحه جمال عبد الناصر وساماً ووجده «انتحاري الطبع». عاد في آذار 1964 إلى كوبا، حيث استقبلته كل قيادة النظام والدولة، ثم اختفى.
أمام الضغط العالمي عليه لمعرفة مصير «الرجل الثاني»، أعلن فيديل في حزيران «بأنه سيعلم الشعب عندما يقرر غيفارا أن يعلمه». وفي تشرين الأول كشف فيديل عن نص الرسالة التي تلقاها قبل ذهاب غيفارا إلى الكونغو.
وصل غيفارا إلى دار السلام باسم مستعار، وانتقل منها إلى الكونغو في شهر نيسان من عام 1965 برفقة مئة زنجي كوبي التحقوا على دفعات لمساعدة «ورثة لوممبا»، وهم في هذه الحالة مجموعة كابيلا. تسعة أشهر من العذاب وسوء التفاهم وصولاً إلى هروب اعتبره غيفارا، الذي عرف حينها باسم «تاتو»، «معيباً». وهو يبدأ مذكراته الإفريقية بجملة «هذه قصة فشل».
بعد محطة أسبوعين في دار السلام. مر غيفارا بمحطة من ثمانية أشهر في براغ، لا تزال معالمها غامضة. لم يكن يريد العودة إلى كوبا ولكن فيديل أقنعه بأن «تحضير التكملة» يتطلب وجوده في كوبا. عاد بالسرّ في تموز وغيّر معالمه وأشرف على تدريبات المتطوعين. لم يعرف عن وجوده إلا فيديل وزوجته. اجتمع مع أولاده الصغار ولم ير الكبيرة هيلدا «خوفاً من أن تكشفني»، قبل أن يختفي مجدداً في نهاية عام 1966.
تبدأ «يوميات بوليفيا» في الثالث من تشرين الثاني من العام نفسه، بوصفها قاعدة الدعم والتدريب في منطقة أدغال أمازونية جهة مدينة سانتا كروز. وتجربة بوليفيا، حيث عُرف غيفارا باسم «رامون»، تعثّرت بسبب خلافات سياسية مع مجموعة شيوعية وإبادة «الفيلق» الثاني ووقوع مجموعته في كمين.
الأسطورة وحيثيات الاغتياللا يوجد تفسير بسيط، إذ إن تشي قتل قبل سنة من اندلاع الثورات الطالبية التي عمّت العالم سنة 1968. ربما، علق هذا الموت لرجل جميل عمره 39 سنة في الأذهان. صورة كوردا، وكذلك سيرة غيفارا، حمّالة لعواطف غير محصورة بهوية محددة. في التسعينيات، انتصرت قيم الأنانية والأسواق المالية وتجدد وهج الصورة التي ترمز إلى قيم معاكسة، لعالم مغاير ومتضامن. لندع جانباً التكهنات الفلسفية ولنعد إلى الوقائع، ربما تساعد أكثر في فهم الظاهرة.
في الثامن من تشرين الأول عام 1967، كانت مجموعة تشي تحمي انسحاب مجموعة أخرى تنقل الجرحى عندما وقعت تحت نيران الكمين. استشهد عدد من المقاتلين ونجح البعض في التفلت. أما تشي فقد أصيب برجله وتعطل رشاشه ما سمح باعتقاله.
في التاسع من تشرين، وصل مسؤولون بوليفيون وأخذوا صوراً مع غيفارا، ومعهم فيليكس رودريغير، أحد مدربي الـ«سي آي إي» للجيش البوليفي وهو كوبي الأصل. بحسب رواية فيليكس، الذي يقطن اليوم في ميامي والذي يقول إنه أصيب بمرض الربو في الأيام التي تلت هذا اللقاء، «بعد استنطاق غيفارا من قبل ضباط الجيش، اختلى معه واستنطقه بدوره وسلّمه تشي وصيتين، واحدة لفيديل تقول: فشلنا هنا لا يعني نهاية الثورة التي ستعود وتنتصر حتماً في مكان آخر من أميركا اللاتينية. وأخرى لزوجته يطلب منها أن تتزوج ثانية وتكون سعيدة». ويقول فيليكس «بعد خروجي من الغرفة، دخل جندي، وبعد لحظات سمعت طلقات نيران».
هذا الجندي اسمه ماريو تيران. فقد بصره مع تقدّمه في السن، وشاءت الصدفة أن يستعيده قبل أشهر قليلة إثر عملية السبل التي يقدمها مجاناً أطباء كوبيون في أرياف بوليفيا. يقول تيران إنه عندما دخل الغرفة لم يجد الشجاعة الكافية ليطلق النار، فصار الرجل المصاب على الأرض يوبخني: «لا ترتجف. أطلق النار هنا»، فاتحاً قميصه ليدلل على مكان التصويب.
بعد الإعدام، نُقلت الجثة إلى أقرب بلدة لعقد مؤتمر صحافي، والهنود الذين رأوها قالوا إنها تشبه المسيح. لإخفاء ظروف الإعدام، ولعدم ترك أي مجال للشك في أن الجثة حقيقةً لتشي غيفارا، أمر الضباط بغسل الجثة وتنظيفها وحلق الذقن واستبدال الثياب قبل عرضها على الصحافيين. ومن حيث لا يدرون، ساهموا في ترسيخ الأسطورة من خلال تظهير صورة أخرى ساهمت في الربط بين جثة تشي غيفارا ولوحات باروك عن تسلم جثة الناصري عيسى.
ولد إرنستو غيفارا دي لا سيرنا ليل 14 حزيران من عام 1928 في بيت أقارب له في مدينة كوردوبا، بعدما شعرت والدته سيليا دي لا سيرنا بآلام المخاض وهي تعود مع زوجها إرنستو غيفارا لينش من رحلة قرب النهر.
جذور العائلة أرستقراطية من الجهتين: عائلة الأب إيرلندية والأم من بلاد الباسك. ولكنها أرستقراطية افتقرت وصارت من الطبقات الوسطى. نقل الأب العائلة إلى منطقة قريبة من الباراغواي، ولكن المناخ لا يناسب «إرنستيتو» Ernestito، فالولد مصاب بربو عنيف، ومن بيت إلى بيت، تحكّمت صحة الولد بمحل الإقامة. وسمم الربو حياة الرجل حتى آخر أيامه، وخصوصاً أنه لم يقصد إلا مناطق استوائية.
قبل «تشي»
منذ عمر عشر سنوات، كان «تي تي» Tété يحقن نفسه بالدواء عند الحاجة. قوة الإرادة عند الولد جعلته مغامراً: يقف على يديه على حافة الهاوية ولا يكتفي برياضات مثل المضرب والشطرنج، بل يحلم بلعب الركبي. علّمه اللعبة، ألبرتو غرانادو، صديقه الذي يكبره سنّاً. وصار «تي تي» لاعباً ماهراً، كثيراً ما يترك الملعب مختنقاً وباحثاً عن عبوة دواء الربو. انتسب إلى كلية الطب، وصبّ اهتمامه على البرص والأمراض الاستوائية. لم يعاشر الوسط العائلي واختار أصحابه من «الزعران». تنقّل بين العديد من المهن، فعمل في مكتبة ومحطة وقود. كان يقرأ كل ما تقع عليه يداه، وخصوصاً الأدب الفرنسي. يُساعد الطبيب الصديق ألبرتو غرانادو في مهماته، ومعه جال في الأرجنتين، وهما يحلمان بما سمياه «رحلتهما الحقيقية».
انطلقا في بداية عام 1952 على متن دراجة «نورتون 500 سنتيمتر مكعب» ملقبة بـ«القادرة». وضعا مخططاً معقداً يمرّ في دول عديدة وصولاً إلى المحيط الهادئ في تشيلي. يسرد فيلم «يوميّات على درّاجة» وقائع السفرة التي عجزت «القادرة» عن إتمامها، والتي تابعها الصديقان بما تيسّر. مناجم شوكيكاماتا حيث رأى غيفارا استغلال الهنود، وحيث «بدأ يصبح تشي»، حسب ألبرتو. ومعبد ماشو بيشو، الذي دخله غيفارا وهو يقرأ شعر بابلو نيرودا. واحتفل بعيد ميلاده الرابع والعشرين في مستوصف للبرص في الأمازون.
افترق الصديقان. تابع ألبرتو سفره إلى فنزويلا، فيما عاد إرنستو غيفارا مؤقتاً إلى بوينس آيرس للمشاركة في تخرّجه. بعد أقل من سنة، استقلّ الطبيب غيفارا القطار مع رفيق آخر، وقصدا الصديق ألبرتو في فنزويلا.
وبينما كان في طريقه إلى هذا البلد، يتعرف غيفارا إلى ريكاردو روخو في لاباز، وهو محام شاب ترك الأرجنتين لأسباب سياسية. حياة غيفارا في بوليفيا فيها من تقشف الهيبيين. ويصفها ريكاردو في كتابه عن تشي بالقول «غرفة في حي فقير أثاثها الوحيد مسامير يعلق عليها ثيابه. قدرة هائلة على المشي، عدم الاكتراث للألبسة، والعيش من دون نقود». وأضاف «الرجل اثنان: صامت كالأخرس أو لئيم في جموع لا تناسبه، وصديق وراوٍ حيث يرتاح. غير مسيّس بعد، يبحث ولا يعرف ما يريد، ولكنه يعرف بالضبط ما لا يريد».
افترق غيفارا وريكاردو بعد لاباز، والتقيا صدفة أكثر من مرة على الطريق، حيث أقنع ريكاردو غيفارا بترك فنزويلا «حيث لا يحدث شيئاً»، والذهاب معه إلى غواتيمالا. في كوستاريكا، تعرّف غيفارا في المقاهي إلى «جماعة الكاريب»: بيتانكور الفنزويلي وخوان بوش من الجمهورية الدومينيكية، وكلاهما أصبحا رئيسي جمهورية.
في غواتيمالا، التي وصل إليها بداية عام 1954، أعجبته اقتصادية من البيرو، اسمها هيلدا، من النظرة الأولى، «مناضلة وأنيقة معاً». بعد أشهر، ذهب ريكاردو إلى المكسيك، وطلب غيفارا من رفيق رحلته إبلاغ ألبرتو بأنه عدل عن السفر إلى فنزويلا. إلا أنه سيعود ويلتقي ألبرتو عندما يأتي لزيارته في كوبا في الستينيات.
تبادل إرنستو الكتب مع هيلدا، أعطته أول كتاب ماوي وعرّفته باللاجئين الكوبيين. اتصل بها عند أول أزمة ربو، ووجدته «مهلكاً لا يطلب مني إلا أن أناوله الإبرة». تكلما عن الشعر الإسباني وأراد إقناعها بأهمية الفرنسي منه. في حزيران من عام 1954، انتهت تجربة غواتيمالا اليسارية بدخول جيش مرتزقة أعاد السلطة إلى «اليونايتيد فرنت». فتوجه غيفارا إلى المكسيك، فيما اعتقلت هيلدا قبل أن يُقرر طردها إلى المكسيك.
في المكسيك، عمل غيفارا صباحاً طبيباً متطوعاً وبعد الظهر مصوراً في الساحات، حيث التقط صوراً يُظَهِرها شريكه في الغرفة. وصلت هيلدا إلى المكسيك ومعها بعض العلاقات الاجتماعية. عام 1955، عمل مصوراً في الوكالة اللاتينية وغطى أولى الألعاب الأميركية.
بعد ذلك، وافقت هيلدا على عرض الزواج وعرفته براوول كاسترو الذي أعجب به، وقدّمه إلى فيديل الذي وصل المكسيك. كان فيديل يستمع إليه كل الليل، وعند الفجر يسرّ له بمشروع الإبحار في اتجاه كوبا.
في آب، تزوّج هيلدا، وفي اليوم التالي سافر فيديل إلى الولايات المتحدة بحثاً عن المال والأسلحة وحوّل بريده إلى بيت غيفارا. مع سقوط خوان بيرون، قرّر ريكاردو العودة إلى الأرجنتين وحاول عبثاً إقناع غيفارا بالعودة معه، إلا أنه أبى وحمّله غيفارا رسالة إلى والدته.
بعد «تشي»
عام 1956، كان الكوبيون يتدربون على الرماية في مزرعة قرب العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي. خلال النهار، كان «تشي» يعذّب جسمه في محاولة تسلّق بركان مجاور، وفي الليل يلعب شطرنج مع جنرال إسباني من الجمهوريين. في ذلك الحين، رزق غيفارا بـ«هيلدا الصغيرة»، إلا أنه لم يبق معها وقتاً طويلاً، إذ اكتُشف المعسكر واعتُقل الكوبيون، قبل أن يفرج عنهم بعد حملة تضامن في المكسيك. إلا أن هيلدا انتقلت مع ابنتها إلى البيرو، وعادت والتقت غيفارا في بداية عام 1959 قبل أن ينفصلا.
في نهاية عام 1956، أبحر 82 مقاتلاً، يتقدمهم فيديل، إلى كوبا. إلا أن الجيش فاجأهم فور وصولهم، وبعد أيام قليلة قُتلت غالبيتهم ونجا أقل من عشرين. وبعد عشرة أيام، حقّق الناجون انتصاراً متواضعاً وحاسماً لمعنوياتهم. بعد أشهر، قسّم فيديل «جيشه» إلى فيلقين، يترأس بنفسه الأول، ويعيّن «مسؤول الصحة» غيفارا لقيادة الثاني. وكلما ازداد عددهم، كان يحدد فيديل جبهة جديدة وقائد فيلق جديداً، وهكذا تغلب بأقل من سنتين بجيشه المؤلف من 3000 مقاتل على جيش من 80000 جندي.
كان تشي غيفارا مشهوراً ببسالته وقساوته بحق نفسه ومأموريه. ولجمه فيديل أكثر من مرة لحفظ حياته وحياة رفاقه. إنجاز غيفارا الأهم هو معركة ثكنة شانتا كلارا حيث انتصر بـ350 مقاتلاً على جيش من ثلاثة آلاف جندي مع قطار مصفح. وقْع الحدث جعل فولغينسيو باتيستا يغادر البلد. وفي عام 1959، بدأت جموع الثوار بالدخول إلى شوارع هافانا المحررة.
بعد انتصار الثورة، مُنح غيفارا الجنسية الكوبية، ولكنه لم يحتل أي موقع رسمي في البداية. نُسب إليه دور في محاكمة المتعاونين مع نظام باتيستا وإعدام عدد منهم. وشارك في «قيادة الظل» التي اجتمعت في بيته، حيث بصماته لا تزال واضحة على قرارات الإصلاح الزراعي.
بعد طلاقه من هيلدا غاديا، تزوج من أليدا مارش. وفي نهاية العام، عُيّن حاكماً للمصرف المركزي. شغل عام 1960 منصب وزير الصناعة، وسرّع في التأميم وطور نظرياته حول «الرجل الجديد» والدوافع المعنوية. وكان دائماً يرفض تلقي أجر على القيام بمهماته الرسمية.
التجاذب الداخلي قرّبه من الاتحاد السوفياتي، ولا سيما أنه كان المسؤول عن توقيع اتفاقات اقتصادية وثقافية مع دول حلف وارسو. ويقول عنه أحد الدبلوماسيين السوفيات بعد زيارته إلى موسكو إنه «منظم جداً. ليس فيه ذرّة أميركية لاتينية، يبدو ألمانياً بتصرفاته». كما تعرّف غيفارا بماو تسي تونغ، عندما كان يبيع السكر الكوبي إلى الصين.
خليج الخنازير
ورّث الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور خلفه جون كينيدي قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا. وفي عام 1961، نفذت وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إي»، بجيش من المرتزقة قوامه 1500 كوبي، إنزالاً في خليج الخنازير. إلا أن الجيش الكوبي حسم الموقعة بأقل من 72 ساعة. وعوّض كينيدي خسارته بطرد كوبا من منظمة الدول الأميركية في بداية عام 1962.
وفي عز الحرب الباردة، وصلت صواريخ نووية «دفاعية» إلى كوبا، وبدأت «أزمة الصواريخ»، التي شكّلت أقرب سيناريو إلى حرب نووية بعد هيروشيما. وبعد تسوية الأزمة، شعر تشي بالخيبة من الموقف السوفياتي الذي اعتبره بمثابة «جبن وتخلٍّ».
لتفسير كل ما حدث من بعد، يقول فيديل كاسترو إن «الوعد الوحيد الذي قطعه لغيفارا أيام المكسيك هو بعدم الضغط عليه يوم يقرر المغادرة». ابتعد غيفارا عن السوفيات وأصبح «عالمثالثياً»، مهتماً بباندونغ وبحركة عدم الانحياز. بارك تشي مجموعة حرب عصابات في الأرجنتين، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً عام 1963.
في نهاية العام نفسه، خطب غيفارا أمام الأمم المتحدة، ثم بدأ جولة دامت ثلاثة أشهر تعرف خلالها بإعجاب بكوريا الشمالية، وعرّج على دول إفريقية، كالجزائر بضيافة أحمد بن بلّا، ومرّ على مصر حيث منحه جمال عبد الناصر وساماً ووجده «انتحاري الطبع». عاد في آذار 1964 إلى كوبا، حيث استقبلته كل قيادة النظام والدولة، ثم اختفى.
أمام الضغط العالمي عليه لمعرفة مصير «الرجل الثاني»، أعلن فيديل في حزيران «بأنه سيعلم الشعب عندما يقرر غيفارا أن يعلمه». وفي تشرين الأول كشف فيديل عن نص الرسالة التي تلقاها قبل ذهاب غيفارا إلى الكونغو.
وصل غيفارا إلى دار السلام باسم مستعار، وانتقل منها إلى الكونغو في شهر نيسان من عام 1965 برفقة مئة زنجي كوبي التحقوا على دفعات لمساعدة «ورثة لوممبا»، وهم في هذه الحالة مجموعة كابيلا. تسعة أشهر من العذاب وسوء التفاهم وصولاً إلى هروب اعتبره غيفارا، الذي عرف حينها باسم «تاتو»، «معيباً». وهو يبدأ مذكراته الإفريقية بجملة «هذه قصة فشل».
بعد محطة أسبوعين في دار السلام. مر غيفارا بمحطة من ثمانية أشهر في براغ، لا تزال معالمها غامضة. لم يكن يريد العودة إلى كوبا ولكن فيديل أقنعه بأن «تحضير التكملة» يتطلب وجوده في كوبا. عاد بالسرّ في تموز وغيّر معالمه وأشرف على تدريبات المتطوعين. لم يعرف عن وجوده إلا فيديل وزوجته. اجتمع مع أولاده الصغار ولم ير الكبيرة هيلدا «خوفاً من أن تكشفني»، قبل أن يختفي مجدداً في نهاية عام 1966.
تبدأ «يوميات بوليفيا» في الثالث من تشرين الثاني من العام نفسه، بوصفها قاعدة الدعم والتدريب في منطقة أدغال أمازونية جهة مدينة سانتا كروز. وتجربة بوليفيا، حيث عُرف غيفارا باسم «رامون»، تعثّرت بسبب خلافات سياسية مع مجموعة شيوعية وإبادة «الفيلق» الثاني ووقوع مجموعته في كمين.
الأسطورة وحيثيات الاغتياللا يوجد تفسير بسيط، إذ إن تشي قتل قبل سنة من اندلاع الثورات الطالبية التي عمّت العالم سنة 1968. ربما، علق هذا الموت لرجل جميل عمره 39 سنة في الأذهان. صورة كوردا، وكذلك سيرة غيفارا، حمّالة لعواطف غير محصورة بهوية محددة. في التسعينيات، انتصرت قيم الأنانية والأسواق المالية وتجدد وهج الصورة التي ترمز إلى قيم معاكسة، لعالم مغاير ومتضامن. لندع جانباً التكهنات الفلسفية ولنعد إلى الوقائع، ربما تساعد أكثر في فهم الظاهرة.
في الثامن من تشرين الأول عام 1967، كانت مجموعة تشي تحمي انسحاب مجموعة أخرى تنقل الجرحى عندما وقعت تحت نيران الكمين. استشهد عدد من المقاتلين ونجح البعض في التفلت. أما تشي فقد أصيب برجله وتعطل رشاشه ما سمح باعتقاله.
في التاسع من تشرين، وصل مسؤولون بوليفيون وأخذوا صوراً مع غيفارا، ومعهم فيليكس رودريغير، أحد مدربي الـ«سي آي إي» للجيش البوليفي وهو كوبي الأصل. بحسب رواية فيليكس، الذي يقطن اليوم في ميامي والذي يقول إنه أصيب بمرض الربو في الأيام التي تلت هذا اللقاء، «بعد استنطاق غيفارا من قبل ضباط الجيش، اختلى معه واستنطقه بدوره وسلّمه تشي وصيتين، واحدة لفيديل تقول: فشلنا هنا لا يعني نهاية الثورة التي ستعود وتنتصر حتماً في مكان آخر من أميركا اللاتينية. وأخرى لزوجته يطلب منها أن تتزوج ثانية وتكون سعيدة». ويقول فيليكس «بعد خروجي من الغرفة، دخل جندي، وبعد لحظات سمعت طلقات نيران».
هذا الجندي اسمه ماريو تيران. فقد بصره مع تقدّمه في السن، وشاءت الصدفة أن يستعيده قبل أشهر قليلة إثر عملية السبل التي يقدمها مجاناً أطباء كوبيون في أرياف بوليفيا. يقول تيران إنه عندما دخل الغرفة لم يجد الشجاعة الكافية ليطلق النار، فصار الرجل المصاب على الأرض يوبخني: «لا ترتجف. أطلق النار هنا»، فاتحاً قميصه ليدلل على مكان التصويب.
بعد الإعدام، نُقلت الجثة إلى أقرب بلدة لعقد مؤتمر صحافي، والهنود الذين رأوها قالوا إنها تشبه المسيح. لإخفاء ظروف الإعدام، ولعدم ترك أي مجال للشك في أن الجثة حقيقةً لتشي غيفارا، أمر الضباط بغسل الجثة وتنظيفها وحلق الذقن واستبدال الثياب قبل عرضها على الصحافيين. ومن حيث لا يدرون، ساهموا في ترسيخ الأسطورة من خلال تظهير صورة أخرى ساهمت في الربط بين جثة تشي غيفارا ولوحات باروك عن تسلم جثة الناصري عيسى.