د. سليمان ناصر إبراهيم عبد الله - تأملات في النشيد الوطني السوداني

لفترة طويلة ظلت تراودني فكرة كتابة مقال يتناول النشيد الوطني السوداني بالتعليق ولكنما سبب خفى ظل يثنيني حتى عزمت الأمر وتوكلت على الله لوضع حجر الأساس واللبنات الأولى لقراءة مطولة ومتعمقة تتناول الجوانب اللغوية، الفكرية، الإجتماعية والسياسية لهذه الكلمات الفخيمة ستلحق هذا المقال. لا أخفى نيتي في إطلاق مبادرة لإعادة قراءة النشيد الوطني بعمق ومن كل الإتجاهات والجوانب التى يمكن أن تحتملها كلماته. وكان مصدر الإلهام الذي ساقني للفكرة هو كتاب أعده أستاذاي البروفسيور محمد فاتح آندي مدير جامعة السلطان محمد الفاتح والبروفسيور حسن أقاي مدير معهد الدراسات العليا بنفس الجامعة وهما يشرفان علي في رسالة الدكتوراه والتى هي في مرحلة الإعداد للمناقشة والرسالة تحت عنوان:(مفهوم الحضارة في أشعار سزاي قراقوج، عبد الله الطيب وتي اس إليوت)، هذا الكتاب تناول النشيد الوطني التركي بالتحليل والتعليق والظروف التى كتب فيها وشاعره محمد عاكف وكان الكتاب عبارة عن موسوعة تحت عنوان "41 بيتا و41 تعليقا" كتبه واحد وأربعون كاتبا وبلغت صفخاته 350 صفحة تقريبا. أول سؤال وجهته لنفسي كان: "ماذا تعنى كلمات نشيد العلم" لأننا ظللنا نرددها منذ أن تعلمنا الكلام وفي كل مراحلنا التعليمية والمناسبات الوطنية فهل سألنا أنفسنا كيف ولماذا ومتى كتب هذا النشيد وماذا تعنى هذه الكلمات؟ هل سألنا أنفسنا عن التطبيق العملي لهذا النشيد؟ هذه الأسئلة مفتوحة للجميع وسوف لن نجيب عليها أنا ولكن أريد من الجميع أن يسألها ويجيب عليها بينه وبين نفسه بطريقته وحسب قيمه ومعتقداته الخاصة به.
أما أنا فقد نشأت في أسرة من أسر السودان البسيطة لن أقول كما تعود الناس أن يقولوا بأنها أسرة متدينة ولكني أقول أنها أسرة دينها على الفطرة يعرفون الله من غير الحوجة إلى دليل يحبون الدين بفطرتهم وكنت أنا من ضمن قيم هذه الأسرة لديهم ككثيرة من الأسر السودانية الدين خط أحمر ولا ترضى تجاوزه ولكن الخطأ عندها من صفات البشر تعلمت أول ما تعلمت من القرآن على يد جدي لأمي الفكي محمد الصافى وعشت على هذه البساطة حتى دخلت الجامعة ولم تفارقني وظللت أزهو بها وإلى يومنا هذا. تعلمت من الناس في القرية أن الدين هو عصب الحياة وتعلمت من أساتذتي وقراءاتي ومشاهداتي أن الدين يصلح لأن يكون نبراسا ودليلا في كل مجالات الحياة من الرياضة إلى السياسة. ثم قرأت العديد من الكتب عن الدين والفكر والإستنباط في نصوص الأديان وبخاصة الدين الأسلامى ومما فهمت وأعتقد فيه أن الدين أمر رباني لتستقيم به الحياة لذلك أقول بأن الأسلام إذا ما فهمناه فهما صحيحا يمكن أن نحقق به النجاح والفلاح في كل جوانب حياتنا الدنوية والأخروية. كل هذا لنقول بأن هذا الإعتقاد وهذه القيم التى آؤمن بها ستتجلى في قراءتي للنشيد الوطنى السوداني فأرجوا من الذين لا يشاركوني هذه الأراء أن تكون لهم قراءتهم التى تتوافق مع فكرهم. كما أرجو من الذين يشاركونني في مذهبي الفكري أيضا أن تكون لهم تعليقاتهم ومعانيهم المستخلصة من كلمات هذا النشيد .وما هذا المقال إلا حجرا ألقيه في هذه البركة الساكنة ليتحرك الناس ويسعوا لفهم الكلمات التى يرددونها وألا نكون مثل الحمار يحمل أسفارا.
قبل البدأ في التعليق على الكلمات من هو شاعر هذا النشيد؟
"أحمد محمد صالح (1898 – 1973)، شاعر سوداني مشهور يعد من رواد شعر الوطنية في السودان وهو أيضا سياسي بارز اختير عضواً بمجلس السيادة السوداني، عند استقلال السودان في عام 1956م. وهو مؤلف النشيد الوطني السوداني". كتب النشيد الوطني وكان يعرف بنشيد الجيش أو نواة الجيش السوداني قوة دفاع السودان وفي العام 1956 عندما نال السودان إستقلاله تم إختيار الأبيات المعروف الآن باسم النشيد الوطني أو نشيد العلم لتكون رمزا للاستقلال وتحية للعلم والراية الوطنية.
إذن دعوني نستمع وأسمع على أستاذنا الشاعر أحمد محمد صالح ونحدثه عما فهمت أنا من هذه الكلمات الفخيمة والمعاني العظيمة.
نحن جند الله جند الوطن *****إن دعا داع الفدا لن نخن
أول كلمة في هذه الملحمة الشعرية "نحن" وتعني جميعنا، أي كل من يحمل صفة سواني/ة يا سيدي الشاعر أنت تقول لنا الأنا لا تبني وطنا والتفرقة على أي أساس من الأسس لا تبني نهضة. ثم لا تكفى ب"نحن" أو أي وحدة بدون هوية واضحة المعالم، نعيش أو نموت في الدفاع عنها. فمن نحن أيها الشاعر؟ فيجيب "نحن جند الله" لله درك وهل خلقنا الله إلا لنطيعه ونعبده ونعمر الأرض؟ فشاعرنا يأمرنا بأهم وظيفة ويذكرنا باعظم مهمة وهي عمارة السودان والنهوض به فطالما نحن جند الله فلابد لنا من تحقيق الغاية وتنفيذ الأوامر بما يحقق المصلحة العامة. فهنا هويتنا في غاية الوضوح ولكن لا أدري لماذا أدخلنا أنفسنا في هذه االمتاهات ونحن نردد هذه الكلمات فلو كنا عملنا بما ينبغى لما أحتجنا إلى التفرقة وكل هذه المشاكل. فعمارة الأرض لا تتحقق إلا بالعدل والعدل لا يفرق بين الأديان أو الأعراق أو اللغات.
تم ماذا أيها الشاعر؟ "جند الوطن" يا للروعة جند الوطن يعني أن نخدمه بكل ما يحقق رفعته فهذا المعنى تعزيزا لمفهوم الهوية فهنالك بالسودان من لا يدين بأي من الديانات السماوية فكيف نتعامل معه؟ نعم من لم يجمعه الدين فالوطن هو المعسكر الذي يتساوى فيه الجميع بكل ألوانهم وإنتماءتهم وأعراقهم وأديانهم . زدنا أيها الشاعر فماذا "إن دعا داع الفدا لن نخن" دعنى أقل لك من هذه العبارات أفهم أن الجندي يمكن استدعاءه للوظيفة متى ما أقتضى الأمر وأن السمة التى ينبغى أن نتسم بها هى الإخلاص والتضحية والتفاني و التجرد. كما أفهم أن دمار الأوطان يكون إلا بأيدي بنيها فالعدو الخارجي لا يمكنه تدمير أوطاننا إلا بمساعدة الخونة والجواسيس وعديمي العهد مع الله بحكم أنهم جنود الله ومع الوطن بحكم أنهم جنود الوطن هذه قطرات من المعاني التى أفهمها من البيت الأول .
نتحدى الموت عند المحن ****نشتري المجد بأغلى ثمن
في هذا البيت تضع لنا مقياسا أيها الشاعر وتقول لنا لا تستمعوا إلى الكلمات الرنانة بل عليكم بمراقبة الأفعال. إضافة إلى السمات التى وضعتها لكل وطنى حقيقي تخبرنا عن المحن وأن الأوطان لا تنهض بدون فداء وقد يكون الفداء هو تقديم الروح وتحدي الموت كما تعلمنا أن جند الله وجند الوطن لا تنحنى رقابهم إلا لله ولا يخضعون لخائن يريد إقعاد الوطن. وأنهم جاهزون لشراء المجد مهما كانت أثمانه ووالله هذه صفة تليق بمن هو جند لله وللوطن.
هذه الأرض لنا فليعش ***** سوداننا علماً بين الأمم
عبارة هذه، للإشارة والأرض، معرفة والأسم سودان والهدف القمة والريادة، أيها الشاعر دعنى أقول لأخوتي في التخطيط الإستراتيجي الذين فشلوا في وضع خطة أستراتيجية بأن شاعرنا ومن قبل الإستقلال وضع لنا الرؤية والرسالة والأهداف. فالرؤية: وطن شامخ ترفرف قراراته قبل راياته بين الأمم فالمكانة الطبيعة له كبينة القيادة لا التذيل. الرسالة: هذه الأرض لنا فلتعش متوحدة قائدة رائدة وناهضة. والهدف: تسخير كل طاقات الجنود لتحقيق الهدف الأساسي وهو عمارة السودان يعنى الأرض بإنسانها وما حوت .
يا بني السودان هذا رمزكم ****يحمل العبء ويحمي أرضكم.
ما هو رمزنا أيها الشاعر؟ هل أو الوحدة، العلم ، الهوية أم السمات التى ذكرتها آنفا؟ ربما يقول الكثيرون أن رمزنا هنا علمنا ولكني أقول كل ما سبق هو رمزنا فجند لله والوطن يتمتع بصفاته معتزا بوحدته محافظا على أرضه وقيمها مرفوع الجبين وعالي الهمة لا يرضى بغير القيادة والريادة والكرامة والشرف يتحمل المسؤولية يعرف حقوقه ويؤدي واجباتها لا يحمل الحقد الدفين ولا يتنازل عن مكتسباته لديه تضحياته وتحدياته لجميع أنواع الصعاب. عالما برسالته معتزا بهويته وواضحة رؤيته لا تهزه الأيام ولا تثنيه عن هدفه العقبات.
نحن أسود الغاب أبناء الحروب*** لا نهاب الموت أو نخشى الخطوب
أقول لأخوتي في مجال علم الإجتماعي شاعرنا يقول لكم أدرسوا الشخصية السودانية جيدا وضعوا لها ما يناسبها حتى تستفيدوا من شخصية الأسد وقوته في البناء وأن الحروب إن لم تكن مع عدو خارجي فستأكل بني الأسد لأن هذه الشخصية الشرسة لديها قابلية الحرب ولو فيما بينها. فعليكم باستثمار هذه النار للإضاءة لا للحريق. ويقول شاعرنا للأعداء: أن اللعب مع الأسود عواقبه وخيمة فلربما تروننا كما يقول المتنبى بارزة أنيابنا فلا تظنوننا مبتسمين في ساحات المعارك.
نحفظ السودان في هذي القلوب ***نفتديه من شمال أو جنوب
لقد خذلك بنو جلدتك أيها الشاعر فالآن لدينا السودان وجنوب السودان ولكنى أفهم أن الحدود الأنسانية في وطني لم ترسم بعد فأنت وضعت لنا هويتنا ولكن رددها الببغاء ولم يفهم مرادك فراح البعض يقول هذا مسلم وهذا مسيحى وهذا كجور وانكسر المرق وتشتت الرصاص ولكن لا تزال الصلات الأنسانية قائمة لأن تقسم السودان جغرافيا فهنالك بعض الشرايين ما زالت تضخ دماء حارة في الجسد الكبير ونبشر أنفسنا بقولك " نحفظ السودان في هذي القلوب" فالقلوب متصلة والود باقى... هنالك الكثير من القول فماذا أقول؟
بالكفاح المُرُّ والعزم المتين **** وقلوب من حديد لا تلين
نهزم الشرَّ ونجلي الغاصبين ****كنسورٍ الجوِّ أو أُسْد العرين
سيدي الشاعر هنا يخط لنا سمات العمل الذي يبني الأوطان ويحقق الغاية الكبرى الكفاح والعزم والربط على القلوب وعدم الإنكسار يقول لنا نعم سنسقط أثناء السير ولكن لابد من القيام، سنتعثر ولكن لابد من مواصلة الإنطلاقة وينهانا بصورة واضحة عن عدم الإستسلام. نعم الفشل الحقيقي هو الإستسلام وترك الكفاح المر فليس هنالك كفاح حلو لن نبلغ المجد حتى نلعق الصبر والصبر بفتح الصاد هو الحنظل أو كناية عن الصعوبة والمشاق التى يتطلبها بلوغ المجد وهنا إشارة لقوله السابق "نشترى المجد بأغلى ثمن".
ندفعُ الرّدَى ***نصدُّ من عدا
ندفع الهلاك والخراب والدمار بكل ما أوتينا من قوة ونتفادى كل ما يضر بالمصلحة العامة. فالنهضة لا تكون بالبناء فحسب بل تكون بمنع الخراب أيضا. فمخرب واحد جديرا بتدمير كل العمار الذي تحقق وعلى مدى النسين والعقود. لله درك أيها الشاعر فهل رأيت اليأس كم هدم وأن الفساد والإفساد كم أهلك وأنت تخبرنا قبل الأستقلال بأن نصد من عدا واعتدى على المصالح الوطنية والعمومية.
نردُّ من ظلم ***ونحمي العلم
في هذا البيت الأخير يا عزيزي الشاعر أفهم منكم أن الظلم لابد أن يواجه وأن الظالم لابد أن يوقف وأن الحقوق لابد أن ترد ولكن أفهم منك أيضا أن إصلاح الظالم ورده إلى الصواب هو من أوجب الواجبات. فالإصلاح يقضى على جذور الظلم بينما العقاب بلا إصلاح ربما أدي إلى الغبن والإحتقان ثم الإنتقام . وبعد تحقيق كل هذه الخطة الإستراتيجية وتنفيذها ورفع علم السودان على سارية القيادة بين الأمم تقول لنا أن النصر والنجاح عملية دائما فالوصول إلى القمة رغم كل العثرات سهل مقارنة بالمحافظة على الموقع الريادي والقيادي الذي تحقق. فالأعلام لا تبقى عالية بلا حراسة ومراقبة وعمل وجهد متواصل.
ختاما: سوف نعود متوسعا في التعليق على النشيد الوطني السوداني مصحوبا بكلام عن الشاعر والظروف التى كتب فيها هذا النشيد وقد ترجمت هذا النشيد إلى اللغة التركية لعقد مقارة بينه والنشيد الوطني التركي وستكون باللغتين التركية والعربية. أحب أن أطلق مبادرة للكتابة والتعليق على النشيد الوطني السوداني من جميع أبناء وبنات السودان حتى نخلق وعيا بين جميع فئات المجتمع حول الكلمات التى يرددونها بكل قداسة، ندعو لأن تتعدد التعليقات والتحليلات حتى يجد كل مواطن سوداني دليلا يسهل عليه تشكيل إدراكه الخاص حول ما يردده من كلمات.
اسطنبول
26.09.2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى