التناصص أو التناص intertextuality هو المصطلح الحداثي للدلالة على خاصية الإحالات والإشارات في الكتابة الأدبية، والذي كان يشار إليه في الإنجليزية بكلمة allusion بمعنى إحالة أو إشارة. والتناص هو استحضار الكاتب لنصوص أخرى، أسطورية وتاريخية ودينية ونحوها أو نصوص كتّاب آخرين في نثايا نصه الذي يكتب، شعرا كان أو نثراً.
ويتراوح التناصص من صيغته البسيطة مثل تضمين بيت من الشعر أو الإحالة إليه أو الاستدلال بمقولة مأثورة، إلى صيغه الأكثر تعقيداً كالحوار والمقابلة والتناظر والتضاد والمفارقة مع النص المستدعى. وأحياناً يتحوّل النّص المتناصص معه إلى خلفيّة فقط في الذاكرة الجماليّة تضيء فضاء الابداعي وتكشف عن بعض سياقاته التاريخية وأبعاده الجمالية والقيمية.
وعُرف التناصص بهذا المفهوم في البلاغة العربية القديمة بالاقتباس والتضمين، وهو من المحسنات البديعية المعنوية، ويعرّفه كتاب البلاغة الواضحة بأنه: "تضمين النثر أو الشعر شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما، ويجوز أن يُغيّر في الأثر المُقتبس قليلا".
على أن التناصص في البلاغة العربية القديمة، يتجاوز التضمين والاقتباس من القرآن والحديث، ويمتد ليشمل تضمين شعر الآخرين والإحالة إلى الأقوال المأثورة والأخبار والتاريخ والسِّير والأساطير. (انظر: الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح: في المعاني والبيان والبديع).
وتعد المفارقة paradox أحد أهم أغراض التناصص البلاغية والجمالية في النص الحداثي. فالكاتب عندما يستدعي نصا ما فهو لا يطمح من وراء ذلك بالضرورة إلى تكراره وإعادة تأكيد ما يقوله، وإنما يهدف في كثير من الأحيان إلى توظيفه وإعادة انتاجه برؤية مختلفة قد تنتهي به إلى التجاوز والمفارقة.
وقد تنبه بعض علماء البلاغة العرب القدماء إلى أن للتضمين والاقتباس وظيفة أبعد من مجرد الاستدعاء بغرض التكرار لتقوية الأثر الفني، ومن هؤلاء الخطيب القزويني الذي يرى أن "أجود التضمين وأحسنه ما زاد في البيت المضمّن نكتة بلاغية كالتورية والتشبيه". ص 218، وهو يشير بالنكتة البلاغية هنا إلى إحداث مفارقة جمالية مع النص المقتبس أو المضمّن.
وفي روايةُ (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، نجد المؤلف يستحضر ويتناصص مع عدد من النصوص الشعرية والتاريخية حيث ينفتح نص الرواية ويتداخل وينشبك مع هذه النصوص، يكررها أو يتقاطع معها ويعيد إنتاجها، وذلك تبعًا لما تمليه الرؤية الفنية للمؤلّف.
فمن أمثلة التناصص في صورته التقليدية التي لا تتجاوز مجرد الاقتباس والتضمين إحالته إلى بيت شعر لأحمد شوقي وذلك في قول الراوي في مفتتح الرواية:
"عدتُ وبي شوقٌ عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النّيل. سبعة أعوام وأنا أحنّ إليهم وأحلم بهم. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أحسست كأنّ ثلجًا يذوب في دخيلتي. ذاك دفء الحياة في العشيرة فقدته زمانًا، في بلادٍ تموت من البرد حيتانها".
الجملة الأخيرة في هذا الاقتباس هي تضمين لعجز بيت الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي يقول فيه:
وأين التماسيح من لجّةٍ * تموتُ من البردِ حيتانُها
ومن النماذج التي تشكّل خلفيّة لإضاءة النّص، والكشف عن بعض سياقاته التاريخيّة، استدعاء المؤلف لقصيدة من قصائد الحرب العالمية الأول وهي قصيدة "انتويرب" Antwerp للشاعر فورد مادوكس هويفر أحد جنود الحرب العالميّة الأولى.
فقد ظلّ مصطفى سعيد في قرية ود حامد ولا أحد يدري شيئًا عن ماضيه في أوروبا حتى عاد الراوي ابن القرية من أوروبا بعد أن نال درجة الدكتوراه في الأدب. فكانت عودة الرواي بمثابة انكشاف سر مصطفى سعيد والبداية الحقيقية للرواية.
فعند عودة الراوي إلى قريته، لمح من بين المرحبين به رجلاً غريبًا لم يره بالقرية من قبل. سأل عنه فقالوا له هذا مصطفى سعيد "ليس من أهل البلد، لكنّه من نواحي الخرطوم جاء إلى البلد منذ خمسة أعوام. اشترى أرضًا تفرّق وارثوها، وتزوّج حسنة بت محمود. رجل في حاله لا يعلمون عنه الكثير".
وقال جدّه في الثناء على مصطفى "طول إقامته في البلد لم يبدُ منه شيء منفّر، وإنّه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وإنه يسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح".
كان يمكن لحياة مصطفى سعيد أن تسير كالمعتاد في تلك القرية كما أراد لها هو، ولكنّ شيئًا لم يكن في الحسبان حدث رغماً عنه أدّى للتشكيك في حقيقة أمره، ومن ثمّ إلى انشكاف سرّ حياته الأخرى التي عاشها في أوروبا.
كان الراوي في مجلس شرابٍ ببيت محجوب، عندما حضر مصطفى سعيد دون ترتيب للتحدّث في أمرٍ ما مع محجوب، ولكن محجوب طلب منه الجلوس والانضمام إليهم في مجلس الشراب، إلا أنّه رفض. فحلف عليه محجوب بالطلاق أن يجلس ويشرب. فانصاع مصطفى سعيد بامتعاض وجلس وشرب وحينما دبّت الخمرُ في بدنه، واستبدت به نشوة السُّكر، طفق ينشد شعراً إنجليزيّاً بلغةٍ سليمة، وهو ممسكٌ الكأسَ بكلتا يديه، مادّاً رجليه، دافناً قامته في المقعد:
Those women of Flanders,
Await the lost,
Await the lost who never will leave the harbor,
They await the lost whom the train never will bring
To the embrace of those women with dead faces,
They await the lost, who lie dead in the trenches,
The barricads and the mud,
In the darkness of night,
This is Charing Cross Station, the hour past one,
There was a faint light,
There was a great pain.
وهذه الأبيات أو الأشطر جاءت بخواتيم قصيدة (انتويرب) كما وردت بالترجمة الإنجليزية. وسوف يلاحظ القارئ الذي تتاح له فرصة الاطلاع على أصل القصيدة المبذول بالشبكة العنكبوتية وجود اختلافات طفيفة في بعض الكلمات، وأغلب الظن أن المؤلف والمترجم اعتمدا نسخة أخرى لأصل القصيدة. وأما ترجمة هذه الأبيات فقد جاءت بالأصل العربي للرواية كما يلي:
هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة،
ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل،
هذه محطّة تشارنغ كروس، الساعة تجاوزت الواحدة،
ثمّة ضوء ضئيل،
ثمّة ألم عظيم.
"لم يصدّق الراوي أذنيه. قفز من مكانه ووقف فوق الرجل وصاح فيه: ما هذا الذي تقول؟ ما هذا الذي تقول؟ لم يرد مصطفى سعيد بكلمة بل هبّ واقفًا ودفع الراوي بعنف بيده، وخرج من الغرفة. وكان محجوب مشغولاً يضحك مع بعض من بالمجلس فلم ينتبه لما حدث".
هذه الواقعة أكدت للرواي أنّ مصطفى سعيد شخصٌ آخر غير ما يزعم. ذهب إليه في حقله ثاني يوم وتعمد أن يبادر سؤال مصطفى سعيد باللغة الإنجليزية. ولكن مصطفى سعيد رد عليه بقوله هل أنستك إقامتك في أوروبا العربي؟ فرد عليه: ولكنك البارحة كنت تقرأ شعراً إنجليزيّاً. فأجاب مصطفى سعيد: السكران لا يؤاخذ على كلامه. فقرّر الراوي أن يرغمه على الكشف عن حقيقته وإلا سوف يكون له معه شأن آخر.
فخاف مصطفى سعيد من أن يشيع عنه الراوي بين أهل القرية ما يمكن أن يثير الشكوك ويعكر صفاء الحياة التي يعيشها بينهم، فقرر أن يفضي للراوي بقصته على النحو الوارد بالرواية.
وفلاندرز الوارد ذكرها في القصيدة، إقليم في بلجيكا ويشمل أجزاء من شمال فرنسا وكان يمثل أكبر مسرح للحرب العالميّة الأولى، وهو ما عرف بالجبهة الغربيّة للحرب حيث دارت العديد من المعارك الشرسة المدمرة طوال فترة الحرب من أكتوبر 1914 وحتى نهايتها في نوفمبر 1918.
وأما (انتويرب) Antwerp عنوان القصيدة، فهي إحدى أكبر مدن إقليم فلاندرز ببلجيكا، وقد شهدت أشرس المعارك وظلّت محاصرة من قبل الألمان إلى أن انتهت الحرب. وتتكوّن القصيدة من ستّة مقاطع اختار الطيّب صالح هذه الأبيات من المقطوعة الأخيرة، والتي تعدّ أكثر أجزاء القصيدة رمزيّةً وغنائيّةً.
وكانت معارك فلاندرز بالجبهة الغربية قد ألهمت الكثير من الشعراء الجنود والأدباء وكتاب القصة والرواية. ومن القصائد التي كتبت عن معارك هذه الجبهة، قصيدة In the fields of Flanders "في ميادين القتال بفلاندرز" للشاعر الطبيب محارب جون ماكريJohn McCrae من كندا.
هذا، وقد قُتل في تلك الحرب عددٌ من الشعراء منهم روبرت بروك والشاعر تي. اي. هيلوم. كما شارك فيها كثير من الكُتّاب والشعراء منهم برخيت وتوماس هاردي وهربرت ريد وريديارد كبلنج وآخرون.
على أنّ أهم وأشهر قصيدة كتبت في أعقاب الحرب وكانت بوحي مباشر من الويلات التي خلفتها، هي قصيدة "(لأرض الخراب) The Wasteland (لأرض الخراب) للشاعر الإنجليزي الأمريكي الأصل رائد الحداثة الشعرية في القرن العشرين تي. اس. إليوت. وقد فقد إليوت في هذه الحرب صديقه الحميم جان فردينال الذي قُتل في الإنزال البحري في غاليبولي على خليج الدردنيل على الجبهة التركية.
ومن الأعمال السينمائيّة التي خلّدت ذكرى الحرب فيلم "كلّ شيء هاديء على الجبهة الغربية"، وهو الفيلم المأخوذ من رواية الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك التي نشرت سنة 1929 وتحمل ذات الاسم "All Quiet On The Western Front" .
وأما الجبهة الشرقية فقد كان القتال يدور فيها بين روسيا من جهة وألمانيا ومناصريها من جهة أخرى، إلى جانب جبهات أخرى ثانوية كالجبهة التركيّة وفلسطين.
وكان مصطفى سعيد قد وصل لندن سنة 1916، أي بعد عامين من نشوب الحرب العالميّة الأولى التي امتدت لمدة أربع سنوات (1914 - 1918). وفي ذات العام الذي وصل فيه دارت بالجبهة الغربيّة أكبر المعارك كلفة وهي معركة السوم ومعركة فردان بشمال فرنسا.
من هنا اتّخذ مصطفى سعيد من هذه الحرب، ومن معركتي السوم وفردان على وجه التحديد، رمزاً على العنف الأوروبي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب حيث يقول في مناجاة له بالرواية:
"إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان. جرثومة مرض فتّاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنّني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السمّ الذي حقنتم به شرايين التاريخ". انتهى.
وقد كان مصطفى سعيد يراقب مجريات الحرب، ويتتبّع أخبار النّصر والهزيمة، وينتقد الطريقة التي أُنهيت بها الحرب في فرساي، بينما يواصل حربه هو الآخر ليلاً بالقوس والسيف والنشّاب مع فتيات الإنجليز، انتقامًا من ذلك العنف الأوروبي الذي فتك بالعالم. وبالنّهار يواصل تأليف الكتب في فضح الاستعمار والهيمنة الإمبرياليّة، فقد كتب: "اقتصاد الاستعمار" و"الاستعمار والاحتكار" و"الصليب والبارود" و"اغتصاب أفريقيا".
فقد عُيّن سعيد عند تخرجه من جامعة أكسفورد، محاضراً في الاقتصاد في الجامعة نفسها وهو في سنّ الرابعة والعشرين. وإلى جانب تفوّقه الأكاديمي كان مصطفى سعيد ناشطاً سياسيّاً وفكريّاً. فقد كان رئيسًا لجمعية تحرير أفريقيا، وعضواً في الحركة الاشتراكيّة الفابيّة وكان يقيم الندوات لنشر دعوته الإنسانيّة إلى الاقتصاد القائم على العدالة والمساواة والاشتراكيّة:
يقول عن نفسه بالرواية: "كنتُ أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنّهار، وباللّيل أواصل الحرب بالقوس والسيف والنشّاب. رأيت الجنود يعودون، يملؤهم الذّعر من حرب الخنادق والقمل والوباء. رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي. ورأيت ديفيد لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهيّة". انتهى.
الإشارة هنا إلى معاهدة (فرساي) التي أنهت الحرب الأولى بين ألمانيا والحلفاء، وقد أملت الاتفاقية على ألمانيا شروطًا مذلّة، كان من نتائجها أن أشعلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية في 1939. لذلك قال مصطفى سعيد "رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي". وديفيد لويد جورج هو رئيس وزراء بريطانيا عن حزب الأحرار والذي اضطر إلى خوض الحرب إلى جانب حليفته فرنسا وبقية الحلفاء، وكان قد أدخل إصلاحات اقتصاديّة واجتماعيّة جعلت من بريطانيا دولة شبه اشتراكيّة. ويبدو أن مصطفى سعيد بحكم ميوله اليسارية وانتمائه للإشتراكية الفابية كان متعاطفاً معه.
التناصص مع واقعة أسر الأمير محمود ود أحمد:
ولد بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) مصطفى سعيد بالخرطوم في أغسطس 1898م. وهذا التاريخ له مغزى ودلالة خاصة فهو العام الذي أكمل فيه الجنرال الإنجليزي كتشنر احتلال السودان والاستيلاء على مدينة أم درمان العاصمة الوطنية بعد أن هزم جيوش الدولة المهدية في معركة كرري، الفاصلة، على مشارف أم درمان شمالا.
لكن قبل معركة كررى كانت هناك معركة كبرى انتصر فيها كتشر ومهدت له الطريق إلى أم درمان وهي معركة أتبرا (عطبرة) أو بالأحرى معركة (النخيلة) شرق بربر والتي وقعت في سبتمبر 1898م وكان قد واجه فيها الجيش الغازي الجيش السوداني بقيادة الأمير الشاب محمود ود أحمد الذي أسر في المعركة وأرسل منفيا إلى مصر حتى توفي هناك.
وقد تناصصت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) مع واقعة أسر الأمير ود أحمد وذلك في مونولوج داخلي طاف بمخيلة مصطفى سعيد بينما كان جالسأ في قفص الاتهام يحاكم بتهمة قتل زوجته (جين مورس) والتسبب في انتحار فتاتين من صديقاته قبلها. يقول في جانب من ذلك المونولوج محدثاً نفسه:
"حين جيء لكتشنر بمحمود ود احمد وهو يرسف في الاغلال بعد ان هزمه في موقعة أتبرا قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا، فليكن ذلك أيضاً شأني معهم". ص 127،128
غير أن بعض النّقاد السودانيين قد اعترض على الطيب صالح لعدم التزامه بحرفية وقائع التاريخ في الحوار الذي دار بين محمود ود أحمد وقائد حملة احتلال السودان كتشنر. فقد رأوا في جملة: "وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا" التي أدخلها الطيب صالح من عنده، مطعنا في كرامة وإباء محمود ود أحمد. فالأمير ود أحمد بحسب الروايات التاريخية التي يستندون إليها "لم يطاطىء الرأس" قدام كتشنر كما جاء وصفه في الرواية وإنما وقف أمامه نداً لند، مرفوع الرأس في عزة ورباطة جأش.
وهذه النظرة النقدية التي تحاكم النص الإبداعي بمعايير وقائع التاريخ تغفل خصوصية الكتابة الأدبية كما تغفل وظيفة التناصص التي تحدثنا عنها فتصادر حق الكاتب في معالجة وقائع التاريخ بما يلائم غرضه الفني والبلاغي.
ونحن نعلم أن هناك نوعا من الروايات يسمى (الرواية التاريخية) وهي تقوم أصلاً على حرية الكاتب في المزج بين وقائع التاريخ والخيال الأدبي، فما بالك بحريته في الروايات الابتداعية المحض. إن الرواية الأدبية من حيث هي، ليست مصدرا لحقائق التاريخ ولا ينبغي لها أن تكون، ومن أراد الحقيقة التاريخية المجردة من ملابسات الفن، فليلتمسها في مظانها ومصادرها وهي كتب التاريخ.
وحتى قبل ظهور الرواية التاريخية، لو نظرنا إلى أدب الإغريق والرومان نجده لا يعدو أن يكون تناصصاً مع الأساطير والتاريخ في غير ما تقيّد بحرفية وقائع التاريخ وحبكة الأسطورة في الأصل. بل أن كتّاب المسرح الأوربي الكلاسيكي وعلى رأسهم شكسبير نجدهم لا يلزمون أنفسهم بحرفية وقائع التاريخ التي يستلهمونها ويتناصصون معها في مسرحياتهم بل يعيدون انتاجها ويعالجونها بالطريقة التي تخدم رؤاهم الأدبية والفنية.
ومع موجة ما بعد الحداثة برز اتجاه في كتابة الرواية يمتزج فيه التاريخ وينشبك بوقائع الحياة اليومية المعاشة وملابسات السيرة الذاتية وأفكار الكاتب وتختلط الحقيقة بالوهم والواقع بالمتخيل والمعقول باللامعقول. ومن ذلك مثلاً روايات الإيطالي امبرتكو إيكو: (اسم الوردة، وبندول فوكو) ورواية (شفرة دافنشي) للأمريكي دان بروان، ورواية (عزازيل) للمصري يوسف زيدان وغيرها كثير.
من هنا يستمد تصرف الطيب صالح في الحوار الذي دار بين كتشنر ومحمود ود وكتشنر مشروعيته فهو إنما فعل ذلك وفقاً لما تجيزه له المعايير النقدية للكتابة الابداعية وتوحي له به المقتضيات الفنية والبلاغية التي يمكن الكشف عنها وتبريرها نقدياً بمنطق عالم الرواية وشبكة علاقتها الداخلية على النحو الذي سوف يرد بيانه.
فالمؤلف لم ينظر الى تلك المواجهة ولم يتعامل معها بعين المؤرخ وانما بعين الروائي الفنان. فهو لم يكن يهدف الى إعطاء صورة واقعية حرفية للمواجهة بين كتشنر ومحمود ود أحمد كما وردت في المصادر التاريخية، بقدر ما كان يطمح الى رسم صورة لتلك المواجهة بحسه الروائي وبما يلائم رؤيته الفنية وغرضه البلاغي.
وأبعد ما يكون عن الحقيقة القول إنه أراد بذلك التقليل من الجسارة والصمود الذي واجه به الأمير ود أحمد صلف كتشنر عند استجوابه له على النحو الذي تحدثت عنه الروايات التاريخية.
فبيت القصيد في ذلك المشهد (الميلودرامي) بالرواية الذي يحدث فيه مصطفى سعيد نفسه، هو سؤال كتشنر عند استجوابه لمحمود ود احمد: "لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض!!!"
كتشنر هو الذي قال ذلك لمحمود ود أحمد. لقد قلبت هذه المفارقة الغليظة، حقائق الأشياء رأساً على عقب وأحالت المحتل الغازي الى مالك للأرض، وصاحب الأرض الى دخيل وغازي. وإزاء هذه (الكوميديا السوداء) لا يملك صاحب الأرض إلا أن يلوذ بالصمت، لا ذلاً ولا صغاراً، وإنما سخرية وربما مسايرة لهذا الموقف (التراجيوكوميدي)!
فالصمت هنا، في تقدير الكاتب، أبلغ من الكلام. كمن يسالك سؤالا سخيفا أو يبدي لك ملاحظة متعجرفة فتكتفي في الرد عليه بالنظرة الهازئة أو الابتسامة الماكرة أو الصمت المتعالي المتغابي.
وأغلب الظن أن الطيب صالح اطلع على ذلك الحوار بكتاب The River War (حرب النهر) للجنرال ونستون تشرشل والذي شارك في الحملة ثم صار فيما بعد رئيساً لوزراء بريطانيا في أكثر من دورة وهو من قادة أوربا البارزين. يصف تشرشل الحوار الذي دار كما يلي:
سأل كتشنر، محمود ود أحمد: "ماذا أتى بك الى بلدي؟ فأنا أنفذ الأوامر".
فيرد عليه محمود: "وأنا أيضاً مثلك أنفذ الأوامر".
ثم يضيف محمود مخاطباً كتشنر ما معناه: "سوف تدفع الثمن عند المعركة الحاسمة بأم درمان".
ويلاحظ القارئ أن إجابة الأمير محمود وفق المصادر التاريخية لم تتضمن الرد على افتراء وعنجهية كتشنر بأن البلد بلده، في سؤاله الأمير محمود: "لماذا جئت إلى بلدي تخرب وتنهب"! وهذا مربض الفرس كما يقولون.
ولم يجد المؤلف ما كان، يمكن أن يرد به، محمود ود أحمد، على هذه الفرية سوى الصمت البليغ الساخر. ومن هنا تأتي القيمة الفنية لاستحضار ذلك المشهد التاريخي في الرواية. وهذا ما تكشف عنه قراءة المشهد في سياقه الروائي كاملا والذي يضيء لنا خلفية هذه الصورة وغرض المؤلف من توظيف قصة محمود ود أحمد مع كتشنر.
فقد ورد التناصص مع واقعة محمود ود أحمد على لسان مصطفى سعيد في سياق مونولوج داخلي، تتقاطع وتتداخل صوره في مخيلته وذلك أثناء جلوسه في قفص الاتهام بالمحكمة بلندن، أمامه القضاة والمحامين والمحلفين الذين يقول عنهم:
"كل واحد منهم في هذه المحكمة، سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته. وأنا احس تجاههم بنوع من التفوق، فالاحتفال مقام أصلا بسببي، وأنا فوق كل شيء مستعمِر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره. حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الاغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا، قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا. فليكن أيضا ذلك شأني معهم". ص 97
لقد أراد مصطفى سعيد أن يلعب دور كتشنر مع محمود ود احمد: "فليكن أيضا ذلك شأني معهم". إنه يريد أن يقلب المعادلة هو الآخر ليحولهم هم أصحاب الأرض ومواطني النساء اللائي انتهك (شرفهن) وتسبب في انتحار بعضهن وقتل من تزوجها منهن، الى متهمين، مع أنه هو الذي جاءهم غازياً ليحاكمهم في بلدهم. قال لهم: "جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ"؟
كأنما أراد أن ينتقم بطريقته "الملتوية"، بحسب تعبير الرواية، لمحمود ود أحمد ولالآف الضحايا الذين فقدوا أرواحهم في معركة اتبرا وكرري وغيرها من المعارك التي خاضها السودانيون مع الإنجليز.
لقد قلب مصطفى سعيد "الآية" وصار هو المستعمِر(بالكسر). وهنا تكمن المفارقة الجمالية، فهو الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره على يد هؤلاء المحلفين الذين "كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته"، ليخلصه من حبل المشنقة. غير أنهم حرموه النهاية التي يريد، واكتفوا بالحكم عليه سبع سنوات سجنا. مثلما حرموا من قبل محمود ود أحمد من الشهادة التي كان يرتجيها وأرسلوه أسيرا الى مصر وظل في الأسر إلى أن توفي سنة 1906.
التناصص مع مسرحية شكسبير (عطيل):
ومن أمثلة التناص القائم على الحوار والمقابلة ثم التضاد والمفارقة، في الرواية، تناصص الكاتب مع مسرحية (أوثيلو) أو عطيل، لوليم شكسبير المعروفة، وذلك بغرض المناظرة والمفارقة بين سيرة عطيل وسيرة مصطفى سعيد في المجتمعات الأوربية. وهو ما وصفه الطيّب صالح بالصدام أو المجابهة بين شخصيّة من عصر وشخصيّة من عصر آخر.
ففي بداية الرواية يشبّه مصطفى سعيد نفسه بعطيل ويتماهى معه، ثمّ يعود في نهاية أحداث الرواية ليعلن أنّه ليس عطيلاً. عطيل كان أكذوبة. وما يلبث أن يعلن أنّه هو نفسه أكذوبة؟!!
فما دلالة مماهاة مصطفى سعيد مع "عطيل" في البداية، ثمّ التنكّر له، بل التنكّر لحقيقة وجوده التاريخي، وحقيقته هو نفسه (أي سعيد)؟
المعروف أن عطيل أو أوثيلوOthello من أشهر مسرحيات وليم شكسبير التراجيديّة، ومن أكثر المسرحيات التي لا يزال يعاد إخراجها وتمثيلها لما تثيره من قضايا إنسانيّة تتعلّق بطبيعة النّفس البشريّة، في كلّ زمان ومكان، كالغيرة والخيانة والحب القاتل، واختلاف الثّقافة واللّون.
تدور أحداث المسرحيّة بفينيسيا (البندقية) بإيطاليا إبّان عصر النّهضة الأوروبية. وعطيل هذا ينحدر من سلالة سوداء من شمال أفريقيا، كانوا يعرفون في ذلك الوقت بالمورMoor التي جاءت منهاMorocco أو مراكش (المغرب). وأصل اللفظ (مور) فينيقي وكان الإغريق والرومان يصفون به سكان شمال أفريقيا من بربر وسودانيين وأثيوبيين وغيرهم من الأفارقة وذلك قبل الفتح العربي للمغرب العربي وأسبانيا.
كان عطيل وسيماً وذو مهارة فائقة في فنون القتال، فتدرج في الرتب العسكريّة حتى عُيّن قائدًا في الجيش. ولبسالته وتفوّقه في فنون القتال ووسامته، أحبّته ديدمونة، وهي من بنات إحدى الأسر الارستقراطيّة النبيلة في البندقية. أبوها سيناتور في مجلس أعيان فينيسيا. لم يكن أبوها راضياً بزواجها من عطيل؛ لكن ديدمونة استطاعت، بعنادها وحبّها الشديد لعطيل، أنّ تتزوجه، مفضلة إيّاه على بعض النّبلاء الذين تقدّموا لخطبتها.
بعد زواجهما يُعيِّن حاكم البندقية عطيل قائدًا لقوّةٍ من الجيش لدحر الأتراك عن قبرص. ينجح عطيل في دحر الأتراك، ولكنّ أحد ضباطه المقريين كان ناقماً عليه لترقيته ضابطاً آخر إلى رتبة أعلى منه، فيدبّر له مكيدة للإيقاع بينه وبين ديدمونة واشيًا له أنّ ديدمونة تخونه مع أحد الضباط.
لم يصدِّق عطيل في البداية، ولكنّ ذلك الضابط يتمكّن من سرقة المنديل الذي أهداه عطيل لديدمونة علامةً لحبّه وإخلاصه لها، ويعطيه للضابط الذي زعم لعطيل أنّها تخونه معه. عندها يصدق عطيل الفرية، فيقرّر أن يقتل ديدمونة. وبعد قتلها يكتشف براءتها، وأنّ المنديل سُرق منها، فيندم ويقتل نفسه أسفًا عليها، ويُلحق بالضابط الذي دبّر المكيدة جراحًا بليغة، ويتركه يتعذّب حتى الموت.
وبالمقابل كان مصطفى سعيد في بدايات اندماجه في المجتمع الإنجليزي وتعيينه محاضرًا بجامعة أكسفورد وإحرازه القبول الاجتماعي بين أوساط الأرستقراطيين واليساريين وجماعات الكويكرز، مثل عطيل في المجتمع الإيطالي، ويشبّه حاله بالنّجاح الذي أصابه في إنجلترا القرن العشرين بالنجاح الذي أحرزه عطيل في البندقية في عصر النهضة الإيطاليّة. ففي أوّل لقاء لمصطفى سعيد مع ايزابيلا سيمور تسأله:
- "ما جنسك؟"
- "أنا مثل عطيل عربي أفريقي".
- "هل تدري أنّ أمّي أسبانيّة؟"
فأجاب: "هذا إذن يفسّر كلّ شيء. يفسّر لقاءنا صدفة وتفاهمنا تلقائيًّا كأنّنا تعارفنا منذ قرون. لا بدّ أنّ جدّي كان جنديًّا في جيش طارق بن زياد، ولا بدّ أنّه قابل جدّتك وهي تجني العنب في بستان في إشبيلية، ولا بدّ أنّه أحبّها من أوّل نظرة، وهي أيضًا أحبّته وعاش معها فترة من الزمن، ثمّ تركها وذهب إلى أفريقيا. وهنالك تزوّج؛ وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا، وأنت جئت من سلالته في أسبانيا". انتهى.
هكذا كان مصطفى سعيد، راضياً بأن يلعب دور عطيل في المجتمع الأوروبي. وحينما يصل الصراع ذروته مع المجتمع الإنجليزي وتقع المأساة، ويقتل زوجته جين موريس بتهمة الخيانة وإذلاله إذلالاً متعمّداً، ويقدّم للمحاكمة، عندها يتنكّر مصطفى سعيد لعطيل ويقول إنّه ليس عطيلاً، وأنّ عطيل كان أكذوبة.
فقد حاول أن يمثّل دور عطيل ولمّا لم ينجح اتّخذ من فشله ذريعة للتشكيك في وجود عطيل أصلاً. يقول: "نعم يا سادتي، إنّني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السمّ الذي حقنتم به شرايين التّاريخ. أنا لست عطيل. عطيل كان أكذوبة".
عطيل كان أكذوبة، من وجهة نظر مصطفى سعيد، لان الأخير لم يعد يستوعب حكاية تقبّل المجتمع الأوروبي في عصر النّهضة لرجل أفريقي بهذه السهولة. لا يمكن أن تكون مأساة عطيل هي فقط في الغيرة على زوجته. لا بدّ أن يكون لاختلاف الثقافة والجنس واللون دورٌ في كلِّ ذلك. إنّ سعيد يريد بذلك أن يحوّل الصراع من صراع فردي إلى صراع حضاري ثقافي عرقي. مثلما حوّل بروفسور ماكسويل، محامي مصطفى سعيد وأستاذه في إكسفورد، المحكمة إلى صراع بين عالمين، مصطفى سعيد أحد ضحاياه.
وهذه هي "وجهة نظري أنا في الموضوع" يقول الطيّب صالح. إذ يرى الطيب صالح أنّ "نقطة الضّعف في مسرحية مأساة عطيل هي أنّ عطيل، مهما كان أمره فلا يمكن أن يقبل بدوره بهذه السهولة، ويصبح الصراع حول ديدمونة فقط. وأعتقد أنّ بعض النقّاد يشير إلى ذلك". عبقري الرواية العربية ص 132.
لقد رسم شكسبير عطيل، والحديث للطيب، "كشخص استقبل استقبالاً كاملاً من قبل المجتمع الأوروبي كما كان المجتمع أيامها. فينيسيا كانت قمّة الحضارة الأوروبية وقتها، وكان هو قائدًا للجيش، وتزوّج ديدمونة، ولم يكن الصراع بينه وبين ديدمونة عاطفيّاً، لقد خلق هو هذا الصراع".
بعبارات أخرى يرى الطيب صالح، أنّ شكسبير، أسقط الفوارق الحضاريّة وحصر القضيّة في الجانب الشخصي فقط. ولمّا كان مصطفى سعيد لا يمثّل نفسه في الدور الذي يلعبه، وإنّما يمثّل اللاشعور الجمعي للشرق العربي والأفريقي ضدّ الغرب فإنّه لم يرضَ بالدور الذي رسمه شكسبير لعطيل. لذلك قال: "أنا لست عطيل. عطيل كان أكذوبة". حوار الطيب صالح – عبقري الرواية العربية ص 132،133.
وفوق ذلك لم يكتفِ مصطفى سعيد بالتشكيك في وجود عطيل كما رسمه شكسبير، وإنّما شكّك في وجوده هو نفسه. فقد خطر له أن يقف ويصرخ في المحكمة: "أنا لست عطيلاً. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي وتقتلون الأكذوبة".
وهو هنا لم يشكّك في وجوده كفرد، وإنما في وجوده كممثل للدور الحضاري الذي كان يلعبه. فهو قد جاء إلى أوروبا غازياً ليصفّى حساباته مع الغربيين، وليحرّر أفريقيا بفحولته. ولما تكشّف له وهم ما كان يقوم به وصف نفسه بأنّه هو أيضاً كان أكذوبة. إنّه الإحساس بالفشل، الفشل في الدور الذي حاول أن يلعبه.
ديسمبر 2020
مراجع وهوامش:
1- الطيّب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، بيروت، ط 1987.
2- Tayeb Salih, Season of Migration to the North. Heinemann: London, 1969.
3- الطيب صالح، ملامح من سيرة ذاتية، إعداد طلحة جبريل، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، الطبعة الأولى 1996
4- الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح: في المعاني والبيان والبديع، المكتبة العصرية، لبنان، طبعة 2002
5- Shakespeare,Sourse of Othello,Signet Classic,1998,p.134
6- T. S. Eliot, The Wasteland and Other Poems. Faber &Faber: London, 1994.
7- ونستون تشرشل، حرب النهر، ترجمه عز الدين محمود بعنوان: (تاريخ الثورة المهدية والاحتلال البريطاني للسودان) دار الشروق، القاهرة ط1، 2006 ص 225،226
8- عبقري الرواية العربية، حوار الطيّب صالح مع محي الدين صبحي وخلدون الشمعة، دار العودة ، بيروت ، ط1، 1981 ص 132،133.
9- عبد المنعم عجب الفيا، في عوالم الطيب صالح، دار الفكر، بيروت، 2010
10- عبد المنعم عجب الفيا، تي اس إليوت والأدب العربي – دراسة في التأثير والتأثر، نينوي للنشر، دمشق، 2011
ويتراوح التناصص من صيغته البسيطة مثل تضمين بيت من الشعر أو الإحالة إليه أو الاستدلال بمقولة مأثورة، إلى صيغه الأكثر تعقيداً كالحوار والمقابلة والتناظر والتضاد والمفارقة مع النص المستدعى. وأحياناً يتحوّل النّص المتناصص معه إلى خلفيّة فقط في الذاكرة الجماليّة تضيء فضاء الابداعي وتكشف عن بعض سياقاته التاريخية وأبعاده الجمالية والقيمية.
وعُرف التناصص بهذا المفهوم في البلاغة العربية القديمة بالاقتباس والتضمين، وهو من المحسنات البديعية المعنوية، ويعرّفه كتاب البلاغة الواضحة بأنه: "تضمين النثر أو الشعر شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما، ويجوز أن يُغيّر في الأثر المُقتبس قليلا".
على أن التناصص في البلاغة العربية القديمة، يتجاوز التضمين والاقتباس من القرآن والحديث، ويمتد ليشمل تضمين شعر الآخرين والإحالة إلى الأقوال المأثورة والأخبار والتاريخ والسِّير والأساطير. (انظر: الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح: في المعاني والبيان والبديع).
وتعد المفارقة paradox أحد أهم أغراض التناصص البلاغية والجمالية في النص الحداثي. فالكاتب عندما يستدعي نصا ما فهو لا يطمح من وراء ذلك بالضرورة إلى تكراره وإعادة تأكيد ما يقوله، وإنما يهدف في كثير من الأحيان إلى توظيفه وإعادة انتاجه برؤية مختلفة قد تنتهي به إلى التجاوز والمفارقة.
وقد تنبه بعض علماء البلاغة العرب القدماء إلى أن للتضمين والاقتباس وظيفة أبعد من مجرد الاستدعاء بغرض التكرار لتقوية الأثر الفني، ومن هؤلاء الخطيب القزويني الذي يرى أن "أجود التضمين وأحسنه ما زاد في البيت المضمّن نكتة بلاغية كالتورية والتشبيه". ص 218، وهو يشير بالنكتة البلاغية هنا إلى إحداث مفارقة جمالية مع النص المقتبس أو المضمّن.
وفي روايةُ (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، نجد المؤلف يستحضر ويتناصص مع عدد من النصوص الشعرية والتاريخية حيث ينفتح نص الرواية ويتداخل وينشبك مع هذه النصوص، يكررها أو يتقاطع معها ويعيد إنتاجها، وذلك تبعًا لما تمليه الرؤية الفنية للمؤلّف.
فمن أمثلة التناصص في صورته التقليدية التي لا تتجاوز مجرد الاقتباس والتضمين إحالته إلى بيت شعر لأحمد شوقي وذلك في قول الراوي في مفتتح الرواية:
"عدتُ وبي شوقٌ عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النّيل. سبعة أعوام وأنا أحنّ إليهم وأحلم بهم. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أحسست كأنّ ثلجًا يذوب في دخيلتي. ذاك دفء الحياة في العشيرة فقدته زمانًا، في بلادٍ تموت من البرد حيتانها".
الجملة الأخيرة في هذا الاقتباس هي تضمين لعجز بيت الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي يقول فيه:
وأين التماسيح من لجّةٍ * تموتُ من البردِ حيتانُها
ومن النماذج التي تشكّل خلفيّة لإضاءة النّص، والكشف عن بعض سياقاته التاريخيّة، استدعاء المؤلف لقصيدة من قصائد الحرب العالمية الأول وهي قصيدة "انتويرب" Antwerp للشاعر فورد مادوكس هويفر أحد جنود الحرب العالميّة الأولى.
فقد ظلّ مصطفى سعيد في قرية ود حامد ولا أحد يدري شيئًا عن ماضيه في أوروبا حتى عاد الراوي ابن القرية من أوروبا بعد أن نال درجة الدكتوراه في الأدب. فكانت عودة الرواي بمثابة انكشاف سر مصطفى سعيد والبداية الحقيقية للرواية.
فعند عودة الراوي إلى قريته، لمح من بين المرحبين به رجلاً غريبًا لم يره بالقرية من قبل. سأل عنه فقالوا له هذا مصطفى سعيد "ليس من أهل البلد، لكنّه من نواحي الخرطوم جاء إلى البلد منذ خمسة أعوام. اشترى أرضًا تفرّق وارثوها، وتزوّج حسنة بت محمود. رجل في حاله لا يعلمون عنه الكثير".
وقال جدّه في الثناء على مصطفى "طول إقامته في البلد لم يبدُ منه شيء منفّر، وإنّه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وإنه يسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح".
كان يمكن لحياة مصطفى سعيد أن تسير كالمعتاد في تلك القرية كما أراد لها هو، ولكنّ شيئًا لم يكن في الحسبان حدث رغماً عنه أدّى للتشكيك في حقيقة أمره، ومن ثمّ إلى انشكاف سرّ حياته الأخرى التي عاشها في أوروبا.
كان الراوي في مجلس شرابٍ ببيت محجوب، عندما حضر مصطفى سعيد دون ترتيب للتحدّث في أمرٍ ما مع محجوب، ولكن محجوب طلب منه الجلوس والانضمام إليهم في مجلس الشراب، إلا أنّه رفض. فحلف عليه محجوب بالطلاق أن يجلس ويشرب. فانصاع مصطفى سعيد بامتعاض وجلس وشرب وحينما دبّت الخمرُ في بدنه، واستبدت به نشوة السُّكر، طفق ينشد شعراً إنجليزيّاً بلغةٍ سليمة، وهو ممسكٌ الكأسَ بكلتا يديه، مادّاً رجليه، دافناً قامته في المقعد:
Those women of Flanders,
Await the lost,
Await the lost who never will leave the harbor,
They await the lost whom the train never will bring
To the embrace of those women with dead faces,
They await the lost, who lie dead in the trenches,
The barricads and the mud,
In the darkness of night,
This is Charing Cross Station, the hour past one,
There was a faint light,
There was a great pain.
وهذه الأبيات أو الأشطر جاءت بخواتيم قصيدة (انتويرب) كما وردت بالترجمة الإنجليزية. وسوف يلاحظ القارئ الذي تتاح له فرصة الاطلاع على أصل القصيدة المبذول بالشبكة العنكبوتية وجود اختلافات طفيفة في بعض الكلمات، وأغلب الظن أن المؤلف والمترجم اعتمدا نسخة أخرى لأصل القصيدة. وأما ترجمة هذه الأبيات فقد جاءت بالأصل العربي للرواية كما يلي:
هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة،
ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل،
هذه محطّة تشارنغ كروس، الساعة تجاوزت الواحدة،
ثمّة ضوء ضئيل،
ثمّة ألم عظيم.
"لم يصدّق الراوي أذنيه. قفز من مكانه ووقف فوق الرجل وصاح فيه: ما هذا الذي تقول؟ ما هذا الذي تقول؟ لم يرد مصطفى سعيد بكلمة بل هبّ واقفًا ودفع الراوي بعنف بيده، وخرج من الغرفة. وكان محجوب مشغولاً يضحك مع بعض من بالمجلس فلم ينتبه لما حدث".
هذه الواقعة أكدت للرواي أنّ مصطفى سعيد شخصٌ آخر غير ما يزعم. ذهب إليه في حقله ثاني يوم وتعمد أن يبادر سؤال مصطفى سعيد باللغة الإنجليزية. ولكن مصطفى سعيد رد عليه بقوله هل أنستك إقامتك في أوروبا العربي؟ فرد عليه: ولكنك البارحة كنت تقرأ شعراً إنجليزيّاً. فأجاب مصطفى سعيد: السكران لا يؤاخذ على كلامه. فقرّر الراوي أن يرغمه على الكشف عن حقيقته وإلا سوف يكون له معه شأن آخر.
فخاف مصطفى سعيد من أن يشيع عنه الراوي بين أهل القرية ما يمكن أن يثير الشكوك ويعكر صفاء الحياة التي يعيشها بينهم، فقرر أن يفضي للراوي بقصته على النحو الوارد بالرواية.
وفلاندرز الوارد ذكرها في القصيدة، إقليم في بلجيكا ويشمل أجزاء من شمال فرنسا وكان يمثل أكبر مسرح للحرب العالميّة الأولى، وهو ما عرف بالجبهة الغربيّة للحرب حيث دارت العديد من المعارك الشرسة المدمرة طوال فترة الحرب من أكتوبر 1914 وحتى نهايتها في نوفمبر 1918.
وأما (انتويرب) Antwerp عنوان القصيدة، فهي إحدى أكبر مدن إقليم فلاندرز ببلجيكا، وقد شهدت أشرس المعارك وظلّت محاصرة من قبل الألمان إلى أن انتهت الحرب. وتتكوّن القصيدة من ستّة مقاطع اختار الطيّب صالح هذه الأبيات من المقطوعة الأخيرة، والتي تعدّ أكثر أجزاء القصيدة رمزيّةً وغنائيّةً.
وكانت معارك فلاندرز بالجبهة الغربية قد ألهمت الكثير من الشعراء الجنود والأدباء وكتاب القصة والرواية. ومن القصائد التي كتبت عن معارك هذه الجبهة، قصيدة In the fields of Flanders "في ميادين القتال بفلاندرز" للشاعر الطبيب محارب جون ماكريJohn McCrae من كندا.
هذا، وقد قُتل في تلك الحرب عددٌ من الشعراء منهم روبرت بروك والشاعر تي. اي. هيلوم. كما شارك فيها كثير من الكُتّاب والشعراء منهم برخيت وتوماس هاردي وهربرت ريد وريديارد كبلنج وآخرون.
على أنّ أهم وأشهر قصيدة كتبت في أعقاب الحرب وكانت بوحي مباشر من الويلات التي خلفتها، هي قصيدة "(لأرض الخراب) The Wasteland (لأرض الخراب) للشاعر الإنجليزي الأمريكي الأصل رائد الحداثة الشعرية في القرن العشرين تي. اس. إليوت. وقد فقد إليوت في هذه الحرب صديقه الحميم جان فردينال الذي قُتل في الإنزال البحري في غاليبولي على خليج الدردنيل على الجبهة التركية.
ومن الأعمال السينمائيّة التي خلّدت ذكرى الحرب فيلم "كلّ شيء هاديء على الجبهة الغربية"، وهو الفيلم المأخوذ من رواية الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك التي نشرت سنة 1929 وتحمل ذات الاسم "All Quiet On The Western Front" .
وأما الجبهة الشرقية فقد كان القتال يدور فيها بين روسيا من جهة وألمانيا ومناصريها من جهة أخرى، إلى جانب جبهات أخرى ثانوية كالجبهة التركيّة وفلسطين.
وكان مصطفى سعيد قد وصل لندن سنة 1916، أي بعد عامين من نشوب الحرب العالميّة الأولى التي امتدت لمدة أربع سنوات (1914 - 1918). وفي ذات العام الذي وصل فيه دارت بالجبهة الغربيّة أكبر المعارك كلفة وهي معركة السوم ومعركة فردان بشمال فرنسا.
من هنا اتّخذ مصطفى سعيد من هذه الحرب، ومن معركتي السوم وفردان على وجه التحديد، رمزاً على العنف الأوروبي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب حيث يقول في مناجاة له بالرواية:
"إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان. جرثومة مرض فتّاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنّني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السمّ الذي حقنتم به شرايين التاريخ". انتهى.
وقد كان مصطفى سعيد يراقب مجريات الحرب، ويتتبّع أخبار النّصر والهزيمة، وينتقد الطريقة التي أُنهيت بها الحرب في فرساي، بينما يواصل حربه هو الآخر ليلاً بالقوس والسيف والنشّاب مع فتيات الإنجليز، انتقامًا من ذلك العنف الأوروبي الذي فتك بالعالم. وبالنّهار يواصل تأليف الكتب في فضح الاستعمار والهيمنة الإمبرياليّة، فقد كتب: "اقتصاد الاستعمار" و"الاستعمار والاحتكار" و"الصليب والبارود" و"اغتصاب أفريقيا".
فقد عُيّن سعيد عند تخرجه من جامعة أكسفورد، محاضراً في الاقتصاد في الجامعة نفسها وهو في سنّ الرابعة والعشرين. وإلى جانب تفوّقه الأكاديمي كان مصطفى سعيد ناشطاً سياسيّاً وفكريّاً. فقد كان رئيسًا لجمعية تحرير أفريقيا، وعضواً في الحركة الاشتراكيّة الفابيّة وكان يقيم الندوات لنشر دعوته الإنسانيّة إلى الاقتصاد القائم على العدالة والمساواة والاشتراكيّة:
يقول عن نفسه بالرواية: "كنتُ أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنّهار، وباللّيل أواصل الحرب بالقوس والسيف والنشّاب. رأيت الجنود يعودون، يملؤهم الذّعر من حرب الخنادق والقمل والوباء. رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي. ورأيت ديفيد لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهيّة". انتهى.
الإشارة هنا إلى معاهدة (فرساي) التي أنهت الحرب الأولى بين ألمانيا والحلفاء، وقد أملت الاتفاقية على ألمانيا شروطًا مذلّة، كان من نتائجها أن أشعلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية في 1939. لذلك قال مصطفى سعيد "رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي". وديفيد لويد جورج هو رئيس وزراء بريطانيا عن حزب الأحرار والذي اضطر إلى خوض الحرب إلى جانب حليفته فرنسا وبقية الحلفاء، وكان قد أدخل إصلاحات اقتصاديّة واجتماعيّة جعلت من بريطانيا دولة شبه اشتراكيّة. ويبدو أن مصطفى سعيد بحكم ميوله اليسارية وانتمائه للإشتراكية الفابية كان متعاطفاً معه.
التناصص مع واقعة أسر الأمير محمود ود أحمد:
ولد بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) مصطفى سعيد بالخرطوم في أغسطس 1898م. وهذا التاريخ له مغزى ودلالة خاصة فهو العام الذي أكمل فيه الجنرال الإنجليزي كتشنر احتلال السودان والاستيلاء على مدينة أم درمان العاصمة الوطنية بعد أن هزم جيوش الدولة المهدية في معركة كرري، الفاصلة، على مشارف أم درمان شمالا.
لكن قبل معركة كررى كانت هناك معركة كبرى انتصر فيها كتشر ومهدت له الطريق إلى أم درمان وهي معركة أتبرا (عطبرة) أو بالأحرى معركة (النخيلة) شرق بربر والتي وقعت في سبتمبر 1898م وكان قد واجه فيها الجيش الغازي الجيش السوداني بقيادة الأمير الشاب محمود ود أحمد الذي أسر في المعركة وأرسل منفيا إلى مصر حتى توفي هناك.
وقد تناصصت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) مع واقعة أسر الأمير ود أحمد وذلك في مونولوج داخلي طاف بمخيلة مصطفى سعيد بينما كان جالسأ في قفص الاتهام يحاكم بتهمة قتل زوجته (جين مورس) والتسبب في انتحار فتاتين من صديقاته قبلها. يقول في جانب من ذلك المونولوج محدثاً نفسه:
"حين جيء لكتشنر بمحمود ود احمد وهو يرسف في الاغلال بعد ان هزمه في موقعة أتبرا قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا، فليكن ذلك أيضاً شأني معهم". ص 127،128
غير أن بعض النّقاد السودانيين قد اعترض على الطيب صالح لعدم التزامه بحرفية وقائع التاريخ في الحوار الذي دار بين محمود ود أحمد وقائد حملة احتلال السودان كتشنر. فقد رأوا في جملة: "وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا" التي أدخلها الطيب صالح من عنده، مطعنا في كرامة وإباء محمود ود أحمد. فالأمير ود أحمد بحسب الروايات التاريخية التي يستندون إليها "لم يطاطىء الرأس" قدام كتشنر كما جاء وصفه في الرواية وإنما وقف أمامه نداً لند، مرفوع الرأس في عزة ورباطة جأش.
وهذه النظرة النقدية التي تحاكم النص الإبداعي بمعايير وقائع التاريخ تغفل خصوصية الكتابة الأدبية كما تغفل وظيفة التناصص التي تحدثنا عنها فتصادر حق الكاتب في معالجة وقائع التاريخ بما يلائم غرضه الفني والبلاغي.
ونحن نعلم أن هناك نوعا من الروايات يسمى (الرواية التاريخية) وهي تقوم أصلاً على حرية الكاتب في المزج بين وقائع التاريخ والخيال الأدبي، فما بالك بحريته في الروايات الابتداعية المحض. إن الرواية الأدبية من حيث هي، ليست مصدرا لحقائق التاريخ ولا ينبغي لها أن تكون، ومن أراد الحقيقة التاريخية المجردة من ملابسات الفن، فليلتمسها في مظانها ومصادرها وهي كتب التاريخ.
وحتى قبل ظهور الرواية التاريخية، لو نظرنا إلى أدب الإغريق والرومان نجده لا يعدو أن يكون تناصصاً مع الأساطير والتاريخ في غير ما تقيّد بحرفية وقائع التاريخ وحبكة الأسطورة في الأصل. بل أن كتّاب المسرح الأوربي الكلاسيكي وعلى رأسهم شكسبير نجدهم لا يلزمون أنفسهم بحرفية وقائع التاريخ التي يستلهمونها ويتناصصون معها في مسرحياتهم بل يعيدون انتاجها ويعالجونها بالطريقة التي تخدم رؤاهم الأدبية والفنية.
ومع موجة ما بعد الحداثة برز اتجاه في كتابة الرواية يمتزج فيه التاريخ وينشبك بوقائع الحياة اليومية المعاشة وملابسات السيرة الذاتية وأفكار الكاتب وتختلط الحقيقة بالوهم والواقع بالمتخيل والمعقول باللامعقول. ومن ذلك مثلاً روايات الإيطالي امبرتكو إيكو: (اسم الوردة، وبندول فوكو) ورواية (شفرة دافنشي) للأمريكي دان بروان، ورواية (عزازيل) للمصري يوسف زيدان وغيرها كثير.
من هنا يستمد تصرف الطيب صالح في الحوار الذي دار بين كتشنر ومحمود ود وكتشنر مشروعيته فهو إنما فعل ذلك وفقاً لما تجيزه له المعايير النقدية للكتابة الابداعية وتوحي له به المقتضيات الفنية والبلاغية التي يمكن الكشف عنها وتبريرها نقدياً بمنطق عالم الرواية وشبكة علاقتها الداخلية على النحو الذي سوف يرد بيانه.
فالمؤلف لم ينظر الى تلك المواجهة ولم يتعامل معها بعين المؤرخ وانما بعين الروائي الفنان. فهو لم يكن يهدف الى إعطاء صورة واقعية حرفية للمواجهة بين كتشنر ومحمود ود أحمد كما وردت في المصادر التاريخية، بقدر ما كان يطمح الى رسم صورة لتلك المواجهة بحسه الروائي وبما يلائم رؤيته الفنية وغرضه البلاغي.
وأبعد ما يكون عن الحقيقة القول إنه أراد بذلك التقليل من الجسارة والصمود الذي واجه به الأمير ود أحمد صلف كتشنر عند استجوابه له على النحو الذي تحدثت عنه الروايات التاريخية.
فبيت القصيد في ذلك المشهد (الميلودرامي) بالرواية الذي يحدث فيه مصطفى سعيد نفسه، هو سؤال كتشنر عند استجوابه لمحمود ود احمد: "لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض!!!"
كتشنر هو الذي قال ذلك لمحمود ود أحمد. لقد قلبت هذه المفارقة الغليظة، حقائق الأشياء رأساً على عقب وأحالت المحتل الغازي الى مالك للأرض، وصاحب الأرض الى دخيل وغازي. وإزاء هذه (الكوميديا السوداء) لا يملك صاحب الأرض إلا أن يلوذ بالصمت، لا ذلاً ولا صغاراً، وإنما سخرية وربما مسايرة لهذا الموقف (التراجيوكوميدي)!
فالصمت هنا، في تقدير الكاتب، أبلغ من الكلام. كمن يسالك سؤالا سخيفا أو يبدي لك ملاحظة متعجرفة فتكتفي في الرد عليه بالنظرة الهازئة أو الابتسامة الماكرة أو الصمت المتعالي المتغابي.
وأغلب الظن أن الطيب صالح اطلع على ذلك الحوار بكتاب The River War (حرب النهر) للجنرال ونستون تشرشل والذي شارك في الحملة ثم صار فيما بعد رئيساً لوزراء بريطانيا في أكثر من دورة وهو من قادة أوربا البارزين. يصف تشرشل الحوار الذي دار كما يلي:
سأل كتشنر، محمود ود أحمد: "ماذا أتى بك الى بلدي؟ فأنا أنفذ الأوامر".
فيرد عليه محمود: "وأنا أيضاً مثلك أنفذ الأوامر".
ثم يضيف محمود مخاطباً كتشنر ما معناه: "سوف تدفع الثمن عند المعركة الحاسمة بأم درمان".
ويلاحظ القارئ أن إجابة الأمير محمود وفق المصادر التاريخية لم تتضمن الرد على افتراء وعنجهية كتشنر بأن البلد بلده، في سؤاله الأمير محمود: "لماذا جئت إلى بلدي تخرب وتنهب"! وهذا مربض الفرس كما يقولون.
ولم يجد المؤلف ما كان، يمكن أن يرد به، محمود ود أحمد، على هذه الفرية سوى الصمت البليغ الساخر. ومن هنا تأتي القيمة الفنية لاستحضار ذلك المشهد التاريخي في الرواية. وهذا ما تكشف عنه قراءة المشهد في سياقه الروائي كاملا والذي يضيء لنا خلفية هذه الصورة وغرض المؤلف من توظيف قصة محمود ود أحمد مع كتشنر.
فقد ورد التناصص مع واقعة محمود ود أحمد على لسان مصطفى سعيد في سياق مونولوج داخلي، تتقاطع وتتداخل صوره في مخيلته وذلك أثناء جلوسه في قفص الاتهام بالمحكمة بلندن، أمامه القضاة والمحامين والمحلفين الذين يقول عنهم:
"كل واحد منهم في هذه المحكمة، سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته. وأنا احس تجاههم بنوع من التفوق، فالاحتفال مقام أصلا بسببي، وأنا فوق كل شيء مستعمِر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره. حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الاغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا، قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا. فليكن أيضا ذلك شأني معهم". ص 97
لقد أراد مصطفى سعيد أن يلعب دور كتشنر مع محمود ود احمد: "فليكن أيضا ذلك شأني معهم". إنه يريد أن يقلب المعادلة هو الآخر ليحولهم هم أصحاب الأرض ومواطني النساء اللائي انتهك (شرفهن) وتسبب في انتحار بعضهن وقتل من تزوجها منهن، الى متهمين، مع أنه هو الذي جاءهم غازياً ليحاكمهم في بلدهم. قال لهم: "جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ"؟
كأنما أراد أن ينتقم بطريقته "الملتوية"، بحسب تعبير الرواية، لمحمود ود أحمد ولالآف الضحايا الذين فقدوا أرواحهم في معركة اتبرا وكرري وغيرها من المعارك التي خاضها السودانيون مع الإنجليز.
لقد قلب مصطفى سعيد "الآية" وصار هو المستعمِر(بالكسر). وهنا تكمن المفارقة الجمالية، فهو الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره على يد هؤلاء المحلفين الذين "كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته"، ليخلصه من حبل المشنقة. غير أنهم حرموه النهاية التي يريد، واكتفوا بالحكم عليه سبع سنوات سجنا. مثلما حرموا من قبل محمود ود أحمد من الشهادة التي كان يرتجيها وأرسلوه أسيرا الى مصر وظل في الأسر إلى أن توفي سنة 1906.
التناصص مع مسرحية شكسبير (عطيل):
ومن أمثلة التناص القائم على الحوار والمقابلة ثم التضاد والمفارقة، في الرواية، تناصص الكاتب مع مسرحية (أوثيلو) أو عطيل، لوليم شكسبير المعروفة، وذلك بغرض المناظرة والمفارقة بين سيرة عطيل وسيرة مصطفى سعيد في المجتمعات الأوربية. وهو ما وصفه الطيّب صالح بالصدام أو المجابهة بين شخصيّة من عصر وشخصيّة من عصر آخر.
ففي بداية الرواية يشبّه مصطفى سعيد نفسه بعطيل ويتماهى معه، ثمّ يعود في نهاية أحداث الرواية ليعلن أنّه ليس عطيلاً. عطيل كان أكذوبة. وما يلبث أن يعلن أنّه هو نفسه أكذوبة؟!!
فما دلالة مماهاة مصطفى سعيد مع "عطيل" في البداية، ثمّ التنكّر له، بل التنكّر لحقيقة وجوده التاريخي، وحقيقته هو نفسه (أي سعيد)؟
المعروف أن عطيل أو أوثيلوOthello من أشهر مسرحيات وليم شكسبير التراجيديّة، ومن أكثر المسرحيات التي لا يزال يعاد إخراجها وتمثيلها لما تثيره من قضايا إنسانيّة تتعلّق بطبيعة النّفس البشريّة، في كلّ زمان ومكان، كالغيرة والخيانة والحب القاتل، واختلاف الثّقافة واللّون.
تدور أحداث المسرحيّة بفينيسيا (البندقية) بإيطاليا إبّان عصر النّهضة الأوروبية. وعطيل هذا ينحدر من سلالة سوداء من شمال أفريقيا، كانوا يعرفون في ذلك الوقت بالمورMoor التي جاءت منهاMorocco أو مراكش (المغرب). وأصل اللفظ (مور) فينيقي وكان الإغريق والرومان يصفون به سكان شمال أفريقيا من بربر وسودانيين وأثيوبيين وغيرهم من الأفارقة وذلك قبل الفتح العربي للمغرب العربي وأسبانيا.
كان عطيل وسيماً وذو مهارة فائقة في فنون القتال، فتدرج في الرتب العسكريّة حتى عُيّن قائدًا في الجيش. ولبسالته وتفوّقه في فنون القتال ووسامته، أحبّته ديدمونة، وهي من بنات إحدى الأسر الارستقراطيّة النبيلة في البندقية. أبوها سيناتور في مجلس أعيان فينيسيا. لم يكن أبوها راضياً بزواجها من عطيل؛ لكن ديدمونة استطاعت، بعنادها وحبّها الشديد لعطيل، أنّ تتزوجه، مفضلة إيّاه على بعض النّبلاء الذين تقدّموا لخطبتها.
بعد زواجهما يُعيِّن حاكم البندقية عطيل قائدًا لقوّةٍ من الجيش لدحر الأتراك عن قبرص. ينجح عطيل في دحر الأتراك، ولكنّ أحد ضباطه المقريين كان ناقماً عليه لترقيته ضابطاً آخر إلى رتبة أعلى منه، فيدبّر له مكيدة للإيقاع بينه وبين ديدمونة واشيًا له أنّ ديدمونة تخونه مع أحد الضباط.
لم يصدِّق عطيل في البداية، ولكنّ ذلك الضابط يتمكّن من سرقة المنديل الذي أهداه عطيل لديدمونة علامةً لحبّه وإخلاصه لها، ويعطيه للضابط الذي زعم لعطيل أنّها تخونه معه. عندها يصدق عطيل الفرية، فيقرّر أن يقتل ديدمونة. وبعد قتلها يكتشف براءتها، وأنّ المنديل سُرق منها، فيندم ويقتل نفسه أسفًا عليها، ويُلحق بالضابط الذي دبّر المكيدة جراحًا بليغة، ويتركه يتعذّب حتى الموت.
وبالمقابل كان مصطفى سعيد في بدايات اندماجه في المجتمع الإنجليزي وتعيينه محاضرًا بجامعة أكسفورد وإحرازه القبول الاجتماعي بين أوساط الأرستقراطيين واليساريين وجماعات الكويكرز، مثل عطيل في المجتمع الإيطالي، ويشبّه حاله بالنّجاح الذي أصابه في إنجلترا القرن العشرين بالنجاح الذي أحرزه عطيل في البندقية في عصر النهضة الإيطاليّة. ففي أوّل لقاء لمصطفى سعيد مع ايزابيلا سيمور تسأله:
- "ما جنسك؟"
- "أنا مثل عطيل عربي أفريقي".
- "هل تدري أنّ أمّي أسبانيّة؟"
فأجاب: "هذا إذن يفسّر كلّ شيء. يفسّر لقاءنا صدفة وتفاهمنا تلقائيًّا كأنّنا تعارفنا منذ قرون. لا بدّ أنّ جدّي كان جنديًّا في جيش طارق بن زياد، ولا بدّ أنّه قابل جدّتك وهي تجني العنب في بستان في إشبيلية، ولا بدّ أنّه أحبّها من أوّل نظرة، وهي أيضًا أحبّته وعاش معها فترة من الزمن، ثمّ تركها وذهب إلى أفريقيا. وهنالك تزوّج؛ وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا، وأنت جئت من سلالته في أسبانيا". انتهى.
هكذا كان مصطفى سعيد، راضياً بأن يلعب دور عطيل في المجتمع الأوروبي. وحينما يصل الصراع ذروته مع المجتمع الإنجليزي وتقع المأساة، ويقتل زوجته جين موريس بتهمة الخيانة وإذلاله إذلالاً متعمّداً، ويقدّم للمحاكمة، عندها يتنكّر مصطفى سعيد لعطيل ويقول إنّه ليس عطيلاً، وأنّ عطيل كان أكذوبة.
فقد حاول أن يمثّل دور عطيل ولمّا لم ينجح اتّخذ من فشله ذريعة للتشكيك في وجود عطيل أصلاً. يقول: "نعم يا سادتي، إنّني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السمّ الذي حقنتم به شرايين التّاريخ. أنا لست عطيل. عطيل كان أكذوبة".
عطيل كان أكذوبة، من وجهة نظر مصطفى سعيد، لان الأخير لم يعد يستوعب حكاية تقبّل المجتمع الأوروبي في عصر النّهضة لرجل أفريقي بهذه السهولة. لا يمكن أن تكون مأساة عطيل هي فقط في الغيرة على زوجته. لا بدّ أن يكون لاختلاف الثقافة والجنس واللون دورٌ في كلِّ ذلك. إنّ سعيد يريد بذلك أن يحوّل الصراع من صراع فردي إلى صراع حضاري ثقافي عرقي. مثلما حوّل بروفسور ماكسويل، محامي مصطفى سعيد وأستاذه في إكسفورد، المحكمة إلى صراع بين عالمين، مصطفى سعيد أحد ضحاياه.
وهذه هي "وجهة نظري أنا في الموضوع" يقول الطيّب صالح. إذ يرى الطيب صالح أنّ "نقطة الضّعف في مسرحية مأساة عطيل هي أنّ عطيل، مهما كان أمره فلا يمكن أن يقبل بدوره بهذه السهولة، ويصبح الصراع حول ديدمونة فقط. وأعتقد أنّ بعض النقّاد يشير إلى ذلك". عبقري الرواية العربية ص 132.
لقد رسم شكسبير عطيل، والحديث للطيب، "كشخص استقبل استقبالاً كاملاً من قبل المجتمع الأوروبي كما كان المجتمع أيامها. فينيسيا كانت قمّة الحضارة الأوروبية وقتها، وكان هو قائدًا للجيش، وتزوّج ديدمونة، ولم يكن الصراع بينه وبين ديدمونة عاطفيّاً، لقد خلق هو هذا الصراع".
بعبارات أخرى يرى الطيب صالح، أنّ شكسبير، أسقط الفوارق الحضاريّة وحصر القضيّة في الجانب الشخصي فقط. ولمّا كان مصطفى سعيد لا يمثّل نفسه في الدور الذي يلعبه، وإنّما يمثّل اللاشعور الجمعي للشرق العربي والأفريقي ضدّ الغرب فإنّه لم يرضَ بالدور الذي رسمه شكسبير لعطيل. لذلك قال: "أنا لست عطيل. عطيل كان أكذوبة". حوار الطيب صالح – عبقري الرواية العربية ص 132،133.
وفوق ذلك لم يكتفِ مصطفى سعيد بالتشكيك في وجود عطيل كما رسمه شكسبير، وإنّما شكّك في وجوده هو نفسه. فقد خطر له أن يقف ويصرخ في المحكمة: "أنا لست عطيلاً. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي وتقتلون الأكذوبة".
وهو هنا لم يشكّك في وجوده كفرد، وإنما في وجوده كممثل للدور الحضاري الذي كان يلعبه. فهو قد جاء إلى أوروبا غازياً ليصفّى حساباته مع الغربيين، وليحرّر أفريقيا بفحولته. ولما تكشّف له وهم ما كان يقوم به وصف نفسه بأنّه هو أيضاً كان أكذوبة. إنّه الإحساس بالفشل، الفشل في الدور الذي حاول أن يلعبه.
ديسمبر 2020
مراجع وهوامش:
1- الطيّب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، بيروت، ط 1987.
2- Tayeb Salih, Season of Migration to the North. Heinemann: London, 1969.
3- الطيب صالح، ملامح من سيرة ذاتية، إعداد طلحة جبريل، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، الطبعة الأولى 1996
4- الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح: في المعاني والبيان والبديع، المكتبة العصرية، لبنان، طبعة 2002
5- Shakespeare,Sourse of Othello,Signet Classic,1998,p.134
6- T. S. Eliot, The Wasteland and Other Poems. Faber &Faber: London, 1994.
7- ونستون تشرشل، حرب النهر، ترجمه عز الدين محمود بعنوان: (تاريخ الثورة المهدية والاحتلال البريطاني للسودان) دار الشروق، القاهرة ط1، 2006 ص 225،226
8- عبقري الرواية العربية، حوار الطيّب صالح مع محي الدين صبحي وخلدون الشمعة، دار العودة ، بيروت ، ط1، 1981 ص 132،133.
9- عبد المنعم عجب الفيا، في عوالم الطيب صالح، دار الفكر، بيروت، 2010
10- عبد المنعم عجب الفيا، تي اس إليوت والأدب العربي – دراسة في التأثير والتأثر، نينوي للنشر، دمشق، 2011