كنت كثيرا ما اتسآءل ، قبل مطالعة كتاب "الاستشراق " عن الجديد الذي اتى به ادوارد سعيد حتى حظي كتابه بكل هذا الاهتمام بين المثقفين الردكاليين في الغرب والشرق على السواء. فقد ارتبط الاستشراق ، في اذهان الكثيرين منذ انفتاح الشرق العربي الاسلامي على أوربا ، بالاستعمار وبالتبعية الثقافية والحضارية للغرب . فقد نظر التقليديون و انصار الحركات الدينية السلفية الى بحوث المستشرقين عن الاسلام والحضارة العربية ، بقدر كبير من الشك والريبة ، لاعتقادهم ان هذه البحوث والكتابات بالرغم ما تدعيه من صرامة منهجية الا انها تدفعها الرغبة في تحريف الاسلام وتشويه تاريخ المسلمين والنيل من الثقافة العربية.
وشملت هذه النظرة حتى المفكرين العرب التجديديين امثال طه حسين وعلى عبد الرازق اذ كان ينظر اليهم كتلاميذ للمستشرقين والى مساهماتهم في تجديد الفكر العربي والاسلامي بوصفها ترديدا لمقولات المستشرقين الهادفة الى تشويه التاريخ الاسلامي والحضارة العربية . ويمكن الاكتفاء هنا بالاشارة بصفة خاصة الى كتابات الشيخ محمود محمد شاكر الذي بدا في نشرها منذ الثلاثينات وحتى الستينيات بمجلة "الرسالة " وغيرها ضد اسهامات طه حسين ولويس عوض وتوفيق الحكيم ومحمد مندور وغيرهم ويصفهم ساخرا بصبيان المستشرقين ، وكان يردد : " الاستعمار ، والتبشير ، والاستشراق ، ثلاثة اسماء لشيء واحد " !! وقد جمع هذه المساجلات ونشرها في كتاب من عدة اجزاء اسماه " أباطيل واسمار".
صدر كتاب "الاستشراق " للمفكر العربي الفلسطيني ، ذي الخلفية الماركسية ، ادوارد سعيد ، باللغة الانجليزية سنة 1978 . وصدرت ترجمته الى اللغة العربية بقلم الناقد والاستاذ الجامعي ، كمال أبو ديب سنة 1981 . وبعد ان تيسر لي الاطلاع على الكتاب وجدت ان تساؤلاتي كانت في محلها . فمن حيث المضمون ليس هنالك جديد في طرح ادوارد سعيد . فقد كرر ذات الاتهامات والادانات القديمة ضد الاستشراق والمستشرقين . كما انه تبني اطروحات المفكر الماركسي انور عبد الملك في إدانة الاستشراق بوصفه أداة إمبريالية لتكريس التخلف والتبعية الثقافية للغرب . وكان عبد الملك قد نشر سنة 1963 بمجلة يوجين الفرنسية مقالة بعنوان ( الاستشراق في أزمة ).
ولم تخرج افكار سعيد في جوهرها عما ورد في مقالة أنور عبد الملك . لكن اذا كان انور عبد الملك قد استثنى الماركسية والاستشراق الروسي من دائرة الادانة . فقد ذهب سعيد بعيدا الى حد وصف ماركس نفسه ، أكبر ثائر ضد الرأسمالية الغربية ، بانه كان استشراقيا اي انه كان خادما للنظرة الامبريالية في محاولته اثابت نظريته من خلال حديثه عن نموذج الانتاج الاسيوي . حتى ان سعيد دبج الصفحة الاولى من كتابه بايراد قول ماركس : " انهم عاجزون عن تمثيل انفسهم ، ينبغي ان يمثلوا " مقتبسا من (برومير الثامن عشر للويس بونابرت ) ، وذلك في اشارة للشرقيين حسب تأويل سعيد . الامر الذي أثار حفيظة المفكر ، مهدي عامل ، وحدا به الى تجريد كتيبا في الرد على سعيد ومنهجه ، يعد من اجود ما كتب، عامل ، اسماه " هل القلب للشرق والعقل للغرب - ماركس في استشراق ادوارد سعيد".
لكن ما الجديد في كتاب ادوارد سعيد ؟!
الجديد هو المنهج الذي نظر من خلاله الى الاستشراق واللغة ذات المفردات والصياغات المراوغة التي يستصحبها ذلك المنهج . فقد وظف سعيد مفهوم (الخطاب ) عند الفيلسوف البنيوي ميشيل فوكو . يقول في مقدمة الكتاب : " لقد وجدت استخدام مفهوم ميشيل فوكو لتحديد الخطاب ذا فائدة لتحديد هوية الاستشراق . ما أطرحه هنا هو اننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه خطابا فلن يكون في وسعنا ابدا ان نفهم هذا الحقل المنظم تنظيما عاليا و الذي استطاعت الثقافة الغربية من خلاله ان تتدبر الشرق بل حتى ان تنتجه سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا في مرحلة ما بعد عصر التنوير."
ولتقريب الصورة يمكنا ان نحدد الخطاب هنا بوصفه ( مجموعة التصورات التي تشكل الفضاء المعرفي لفرد أو مجموعة بشرية في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي محدد ) . بهذا المفهوم يكاد الخطاب يتطابق مع التعريف الماركسي للايدولوجيا بوصفها تصورات أو مفاهيم غير (علمية) تتلبس لبوس الحقيقة الموضوعية .الفرق بين المفهومين هو انه إذا كان ماركس ينظر إلى الايديلوجيا كوعي زائف ، بمعنى إن هنالك وعي علمي غير زائف ، فان فوكو لا يقر بهذا التمييز فكل وعي هو خطاب والخطاب تمثيل (تصور ) للحقيقة وليس الحقيقة ذاتها . وبهذا المنظور لا وجود لمعرفة موضوعية مستقلة خارج نظام الخطاب . فالخطاب يستمد مشروعيته ومرجعيته من منطقه ونسقه الداخلي لا من الخارج او بالمقارنة مع الخطابات والانساق الأخرى . بلى ، انها المثالية الذاتية عينها في ثياب بلاغية جديدة . فلا حقيقة الا ما تراه انت كذلك . وبالتالي لا لوجود لحقيقة او معرفة موضوعية مشتركة في الخارج . هنالك فقط خطابات وصراعات بين هذه الخطابات.
من هنا يستنتج فوكو أن المعرفة سلطة. وبهذا المعنى نظر سعيد إلى الاستشراق بوصفه معرفة بالشرق أنتجت سلطة. هذه السلطة قادت أوربا الى الهيمنة على الشرق واستعماره والسيطرة عليه .إذن المعرفة بالشرق التي وفرها الاستشراق هي التي مكنت أوربا من فرض نفوذها الإمبريالي على الشرق .ومن هنا يخلص سعيد الى ان " الاستشراق هو اسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه " وهو " مؤسسة امبريالية " و ان " جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية"!
ولكن بالرغم من ان المعرفة بالشرق مكنت الغرب من السيطرة على الشرق، فإنها معرفة غير حقيقية ، فحسب نظرية المعرفة التي يحكتم اليها سعيد ، ليس هنالك حقيقة . هنالك فقط تصورات (تمثيلات ) و التمثيل هو تشكيل للحقيقة وتشويه لها يتم عبر اللغة والثقافة السائدة ومؤسساتها المهيمنة . و الاستشراق بما انه معرفة بالشرق فهو تمثيل او اعادة تشكيل وتشويه لحقيقة الشرق. انها ليست معرفة حقيقية بطبيعة الشرق وإنما مجموعة تصورات (تمثيلات ) للشرق وليس الشرق ذاته . فعندما يتحدث المستشرق عن الشرق، كما يقول سعيد ، فهو لا يتحدث عن الشرق (الحقيقي ) او الطبيعي ، وانما عما يتصور انه الشرق . " فالشرق كتمثيل في اوربا يشكل ويفسد تشكيله ويشوه " . وبالتالي لا تنتج معرفة الاستشراق بالشرق الا صورة مشوهة عنه. وانطلاقا من هذه الفرضية ينتهي سعيد الى وصم الاستشراق بانه " اختراع غربي للشرق ". وانه "شكل من اشكال العصاب التوهمي بارنويا ومعرفة من نمط مختلف عن المعرفة التاريخية العادية " وانه " نمط من الاسقاط الغربي على الشرق وارادة السيطرة عليه".
لا شك ان الإدانة المطلقة للاستشراق انطلاقا من مقولة كل معرفة سلطة و ان معرفة أوربا بالشرق عبر الاستشراق ، قادت الى السيطرة عليه قول ينطوي على تعميم مخل . صحيح كانت هنالك كتابات تحمل افكارا عدوانية عن الشرق وتتسم بروح التعالي ونبرة التفوق العنصري والثقافي وبعضها ذو دوافع استعمارية . لكن يصعب على المرء الاتفاق مع ادوارد سعيد ان كل ما قام به المستشرقون من حفريات وفك لرموز الحضارات واللغات القديمة وتحقيق للمخطوطات التاريخية مثلا مجرد تشويه لتلك اللغات والحضارات؟
وان تلك الجهود الجبارة والمخاطرات العظيمة بحيواتهم لا يعدو ان يكون الدافع من وراءها خدمة المطامع الاستعمارية والتوسع الامبريالي؟!
لكن اذا كان اداورد سعيد يفترض ان الاستشراق نشا لخدمة الاهداف الاستعمارية لاوربا ، وذلك استنادا لنظرية المعرفة = السلطة . فان الكثيرين يخالفونه الراي ويرون ان الاستشراق وليد النزعة الانسية (الهيومانيزم ) التي سادت في عصر النهضة الأوربية . فقد ظهر الاهتمام بدراسة الحضارات الشرقية في إطار البحث عن الإنسان الكوني والأرث الإنساني المشترك باعتبار ان الحضارات الانسانية مكملة لبعضها البعض كما يقول المستشرق الماركسي ، مكسيم رودنسون . وكمثال على هذه النزعة الانسية تاتي الإشارة الى أعمال كبار الرومانسيين أمثال غوته وفيكتور هيجو الذي كتب بمقدمة ديوانه (الشرقيات ) الذي افتتحه بثلاث ابيات للشاعر الفارسي سعدي قائلا : " لم تحرز الدراسات الشرقية مثل التقدم الذي احرزته اليوم .. فقد كان الناس في عهد لويس الرابع عشر هيلينين ، واما اليوم فقد أصبحوا شرقيين".
تاكيدا لذلك ، يقول المستشرق الإيطالي فرانسيسكو غابرييلي ، في رده على انور عبدالملك ، لا شك ان الاستشراق ساعد على " استكشاف للحضارات الشرقية القديمة وساهم هذا الاستكشاف في بيان حجم مساهمة الحضارات في التاريخ العام للبشرية وقيمة هذه المساهمة . صحيح ان هذه الاستكشاف كان قد ساعد أوربا احيانا على تغلغلها الاقتصادي والسياسي في الشرق الحديث من اجل استعباده واستغلاله . هذا شيء لا يمكن لاي مفكر شريف ان ينكره ولكن من العدل والإنصاف والشرف ايضا الا نعمم هذه الحالات والأحداث الخاصة ونشمل بادانتنا كل البحث الاستشراقي . فهذه الإدانة قائمة على خلط الأمور والمغالطة . صحيح انه وجد بعض المستشرقين كعملاء لهذا الاستعمار وكادوات له : نذكر منهم القناصلة والسفراء والتجار والمبشرين والعسكريين والتقنيين . ولكن عددا لا باس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم بل انهم وقفوا ضد هذه الأهداف في بعض الاحيان."
ومن ابرز الدلائل التي يستدل بها نقاد ادوارد سعيد على قصور الفرضية التي ينطلق منها في ربط الاستشراق بالاستعمار استنادا الى علاقة المعرفة بالسلطة ، الإسهام الضخم للاستسراق الالماني . فالمانيا لم تكن قوة استعمارية مهيمنة مثل انجلترا وفرنسا حتى يقال ان الاستشراق الالماني كان لخدمة اهدافها الاستعمارية وتوسعها الامبريالي . لكن سعيد لم يتوقف لتفسيره هذه الظاهرة ربما خوفا من ان تفسد عليه صحة منطلقاته النظرية في الادانة الاجمالية للاستشراق . فلو كان المستشرقون كما يقول لويس برنارد : " يبحثون عن معرفة الشعوب الشرقية من أجل الهيمنة عليها ، ولو كان البحث عن السلطة بواسطة المعرفة و الباعث الوحيد او الباعث الاساسي للاستشراق ، فلماذا ازدهرت هذه الدراسات الاستشراقية في بعض البلدان الاوربية التي لم تساهم اطلاقا في الهيمنة على العالم العربي - المقصود المانيا ؟ " ويضيف " في الواقع ان كتابة تاريخ الدراسات العربية في أوريا بدون الالمان لا معنى لها مثلما انه لا معنى لكتابة اريخ الموسيقى أو الفلسلفة الاوربية بدون ذكرهم".
ومن مظاهر التعميم والانتقائية ، التي استم بها كتاب سعيد ، الخلط بين الاستشراق كتخصص اكاديمي صارم وبين كتابات بعض الرحالة والصحفيين والادرايين الاستعماريين . يقول المستشرق الفرنسي كلود كوهين : " ونظرا لانه – اي سعيد - لا يميز بالشكل الكافي بين الأدبيات الاستشراقية المبتذلة او الصحفية وبين بحوث العلماء الحقيقيين ، فانه يرتكب أخطا فاحشة ويقع في ظلم كبير " . ويوافقه على ذلك بيرنارد لويس بقوله ان سعيد : " يلجا احيانا الى حشر سلسلة من الكتاب في دائرة الاستشراق دون ان يكون لهم اي علاقة بها . نذكر من بيهم اديبين من امثال شاتوبريان وجيرار دو نيرفال او مدراء امبراطوريين كاللورد كرومر او غيره . لا ريب ان اعمال هؤلاء قد ساهمت في تشكيل المواقف الثقافية الغربية ، ولكن لاعلاقة لها اطلاقا بالتراث الاكاديمي للاستشراق ،اي بالشيء الاساسي المستهدف من قبل السيد ادوارد سعيد."
اما الفرضية الثانية القائلة ان الحقيقة ما هي الا تصور وتمثيل ، وان معرفتنا بالأخر لا تملك الا تنتج صورة مشوهة لذاك الأخر ، فليست اقل دلالة على تعسف سعيد في تطبيق نظرية ميشيل فوكو من الفرضية الأولى. يقول ادوارد سعيد : " تكمن المشكلة في ما اذا كان بالامكان وجود تصور صادق عن اي شيء .. ان جميع التصورات (التمثيلات ) بلا استثناء وبحكم كونها تصورات مدفونة في لغة صاحب التصور وفي ثقافته ومؤسساته واجوائه السياسية (من ثم ) علينا عندئذ ان نكون مستعدين للقبول بالواقع القائل ان كل تصور يختلط حكما باشياء كثيرة غير الحقيقة .. مع العلم بان الحقيقة نفسها هي تصور ليس الا."
فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا لماذا اذن نؤاخذ الغرب على تصوره المشوه – المفترض - للشرق ؟ لماذا نلوم الاستشراق الذي هو وليد الثقافة الغربية طالما انه لا سبيل الى معرفة موضوعية بالآخر او تصوره تصورا حقيقيا؟
بعبارات اخرى ، اذا كان صحيحا - كما يقول المفكر جلال صادق العظم: " ان الشرق الذي يدرسه الاستشراق ليس الا صورة مشوهة في خيال الغرب وتصورا مزيفا في عقله ، كما يكرر ادوارد سعيد في شجب صاحب الصورة والتصور ولومه وتقريعه ، او ليس صحيحا كذلك ان الغرب يكون بفعله هذا قد سلك سلوكا طبيعيا وسويا وفقا للمبدأ العام الذي يقول لنا ادوارد انه يتحكم بآلية تلقي ثقافة ما لثقافة أخرى غريبة عنها ؟ بعبارة أخرى يؤدي بنا الموقف الابستمولوجي الذي تبناه ادوارد الى نتيجة تقول انه حين حاول الغرب التعامل مع الواقع الخام للشرق بغية تمثله وهضمه عبر مؤسسة الاستشراق ،قام بكل ما كانت تقوم به اية ثقافة أخرى في ظل الشروط ذاتها مما ، من شانه ان يرفع عتب ادوارد سعيد على الغرب وان يحيد لومه للاستشراق."
وعطفا على هذه الإشارة اللماحة لجلال العظم نقول إن ادوارد سعيد كان قد حاول تلمس المعاذير للمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون قائلا : " ليس في وسع باحث حتى ولو كان ماسنيون ان يقاوم ضغوط امته و ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه. " . وهو يقصد بذلك ان لا احد بقادر ان يفلت من سلطة الخطاب السائد في مجتمعه ، حتى لو كان كارل ماركس ، او ماسينيون بوصفه المستشرق الوحيد تقريبا الذي يعده سعيد قد نحج في قراءة الشرق من داخله ولذاته. ولكن بذات المنطق نفسه وبذات النظرية ، لماذا لم يجد سعيد العذر للمستشرقين الذي أدانهم وكرس كتابه لفضحهم مثلما وجد لماسنيون ما دام لم يكن لدي هؤلاء المستشرقين الفرصة حسب نظام الخطاب ، في الإفلات من ثقافة أممهم السائدة في التعاطي مع الشرق ؟! خاصة وانه باقرار سعيد نفسه ، ان افكار ماسينيون ظلت استشراقية وتقليدية تماما . اي لا فرق في النهاية بينه وبين اؤلئك المستشرقين؟؟؟!!
تكمن المشكلة تكمن في ان سعيد قد اخلص للمنهج اكثر من اخلاصه لموضوعه محل البحث وهو الاستشراق . وقد قاده ذلك الى التعسف والتناقض احيانا . صحيح يمكنا القول اجمالا مع فوكو ان السلطة دائما توظف المعرفة لمصلحتها وان الثقافة السائدة والمسيطرة هي ثقافة الطبقة الحاكمة والغالبة والمسيطرة دائما ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان السلطة وحدها هي الحافز على انتاج المعرفة.
وهنا لا نملك الا ان نتساءل مع هاشم صالح ، المتخصص في ترجمة اعمال محمد اركون من الفرنسية وفي دراسة اتجاهات الحداثة وما بعدها : هل تعني هذه النظرية انه لا توجد معرفة من دون سلطة او ان السلطة هي المعرفة والمعرفة هي السلطة او ان الحقيقة لا يمكن ان توجد بشكل بريء ومنزه عن كل علاقات القوة والهمينة والسلطة ؟
ثم ينتهي هاشم صالح الى القول : " ان الشيء الذي يمكنا ان نلومه عليه (اي سعيد ) هو التطرف في التطبيق ، اي أعتبار المعرفة مجرد خادم مطيع للسلطة ، ونفي اي استقلالية ذاتية عنها . وهنا نقع في خطر التشكيك بامكانية وجود المعرفة من أساسها وبالتالي وجود الحقيقة في مجال العلم اي علم . فالحقيقة ضمن هذا المنظور غير موجودة ولا يمكن ان توجد والشيء الموجود فقط هو ذلك الصراع الدائر ابديا وعلى مدار التاريخ بين ارادات الهيمنة والقوة الشيء الموجود هو صراع الخطابات الحاملة لارادات الهيمنة والسلطة وتناطحها في ما بينها .. هنا يكمن خطر العدمية الذي كاد ميشيل فوكو ان يسقط فيه ، بل سقط فيه بحسب راي البعض ، والذي يهدد ايضا كتاب ادوراد سعيد على رغم ذكائه وألمعيته."
وتاكيدا لجدية هذا التحذير من الوقوع في العدمية واللاعلمية ، يذهب صادق العظم الى ان كتاب سعيد : " لا يخلو من موافق مناهضة للعلم والتفكير العلمي المنظم . على سبيل المثال تجلى هذه المواقف في هجومه على الاستشراق الثقافي – الاكاديمي وتنديده به لانه قام بتصنيف الشرق وتبيويبه وجدولته وتدوينه وفهرسته وتخطيطه وتشريحه واختزاله وكأن هذه العلمليات ، التي لا يستقيم بدونها اي تفكير منتظم او جدي مهما كانا مبتدئين ، شريرة ابحد ذاتها وغير مناسبة على الاطلاق لتحصيل اي فهم حقيقي للمجتمعات البشرية وثقافتها ولغاتها الخ ، لان العلمليات العقلية المذكورة لا بد ، وان تشوه واقع هذه المجتمعات وتزيف أحوالها."
وفي السياق نفسه ينتهي ، المستشرق ، مكسيم رودنسون ، والذي يمتع بسمعة طيب في الوطن العربي ، الى ذات النتيجة التي انتهي اليها هاشم صالح ، ويحذر من التهور المنهجي في تطبيق النظريات الحديثة مثل البنيوية وغيرها والتي يقول انه لا اعتراض له عليها من حيث المبدا لكنها : " ليست مبرأة من العيوب كما يتوهم بعض الشباب المتسرعين المبهوريين بكل ما هو حديث " ، الذين حالما يتبنون هذه المناهج يشعرون بالزهو والفخر ظانيين ان هذه المناهج قادرة على تفسير كل شيء لكن ذلك مجرد خداع ، فهي ، جزئية في معالجاتها وتفتقر الى الرؤيا الكلية - على حد تعبيره . وفي اشارة الى نظرية المعرفة عند فوكو يقول : " ان الذين يعتبرون ان الموضوعية اسطورة او خرافة ، هم اؤلئك الذين يريدون هدم كل موضوعية وكل مسئولية ." ثم يدعو الى التمسك بافضل ما في الاستشراق الكلاسيكي : التقشف العلمي والموضوعية والدقة البحثية.
فيما تقدم تحدثنا عن ان ادوارد سعيد ربط بين الاستشراق والاستعمار استنادا الى العلاقة الحتمية المفترضة بين المعرفة والسلطة او بين المعرفة وارادة الهيمنة والقوة . ومن ناحية اخرى افترض سعيد ان اي معرفة ، تمثيل (تصور ) . والتمثيل هو تشويه للحقيقة وليس الحقيقة ذاتها وبالتالي فان تصور الغرب للشرق جاء تصورا مشوها . وهذه الفرضية النظرية الاخيرة لو صحت ، كما اوضحنا، تنهار معها كل دعاوى سعيد ضد الاستشراق.
اما الفكرة المحورية الاخرى التي بنى عليها سعيد كتابه في نقد الاستشراق التقليدي هي القول بان العالم ينقسم إلى شرق وغرب ، وان لكل منهما خصائص جوهرية وطبائع أزلية ثابتة تميز بينهما . كالتمييز بين الجنس السامي والجنس الأري ، والزعم مثلا ان الاول روحاني والثاني عقلاني ، ومن المستشرقين الذين روجوا لهذا التمييز ارنست رينان . و ترسخت هذه النظرية بسبب سيادة علم الاجناس البيولوجي في القرن التاسع عشر.
وقد استعار سعيد هذه الفكرة في نقد الاستشراق من أنور عبد الملك في مقالته المشار اليها في بداية الجزء الاول من هذه الدراسة . يقول عبد الملك : " يتبنى الاستشراق تصورا جوهرانيا للبلدان والامم والشعوب الشرقية موضع الدراسة تصورا يعبر عن نفسه عبر علم أنماط عرقي مبني على خصوصية حقيقية ، لكنها معزولة عن التاريخ ومتصورة."
وهو ما يصفه سعيد بقوله : " الاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب " و " الاستشراق في نهاية المطاف رؤيا سياسية للواقع روجت بنيتها للفرق بين الغرب المالوف (نحن ) وبين الشرق الغريب (هم ). " ويخلص الى ان " منظومة الاستشراف المركزية هي أسطورة تطور الساميين المعاق".
الا ان المفارقة اللافتة ان سعيد لا ينتهي في تحليلاته الى تقويض هذه الاسطورة كما يصفها ، بل ينتهي إلى عكس ما يريد اي ينتهي الى تكريسها وتثبيتها . و يتجلى ذلك في مثالين . الاول ارجاعه جذور الفكر الاستشراقي الذي يتوجه اليه بالادانة ، الى العصر اليوناني الكلاسيكي ، الى هوميروس واسخيلويس ويربيدوس . اي انه يجعل النظرة الدونية الى الشرق شيء ملازم لطبيعة الفكر الغربي منذ فجر تكوينه وليس مجرد ظاهرة تاريخية بزرت مع التوسع الاستعماري في القرن الثامن عشر.
يقول : " .. وبوسع هذا الاستشراق ان يفسح مكانا ليستوعب ايسخليس وهوجو ودانتي وكارل ماركس " ويضيف أن : " الفصل بين الشرق والغرب يبدو انه بدا حادا ومميزا مع ظهور الإلياذة .. ومسرحية ايسخليس (الفرس ) ومسرحية يربيدوس (الباكنتيون ) .." هذه الأعمال المسرحية : " رسمت حدا فاصلا بين قارتين : أوربا قوية وفصيحة ، وآسيا مهزومة ونائية".
وبالتالي لا تعود ظاهرة الاستشراق كما يقول جلال صادق العظم : " وليدة شروط تاريخية معينة واستجابة لمصالح وحاجات حيوية ناشئة صاعدة ، بل تاخذ شكل الافراز الطبيعي العتيق والمستمر الذي يولده العقل الغربي المفطور بطبيعته على انتاج واعادة انتاج تصورات مشوهة عن واقع الشعوب الاخرى ومحقرة لمجتمعاتها وثقافاتها ولغاتها ودياناتها في سبيل تاكيد ذاته والاعلاء من شان تفوقه وقوته وسطوته. اي وفقا لهذه الاطروحة يبدو العقل الاوربي من الشاعر هوميروس الى المستشرق هاملتون جيب ، مرورا بكارل ماركس وكأنه يتصف بنزعة متاصلة لا يحيد عنها لتشويه الشرق وتزييف واقعه وتحقير وجوده . يبدو لي ان هذا المنحي في تفسير ظاهرة الاستشراق وتطورها مع النتائج المترتبة عليها يعمل على احباط الاهداف الاساسية التي من اجلها وضع ادوارد سعيد دراسته النقدية."
إن النتيجة المنطقية لهذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق ، والحديث للعظم : " هي العودة بنا من الباب الخلفي الى اسطورة الطبائع الثابتة التي يريد ادوارد سعيد تدميرها بخصائصها الجوهرية التي لا تحول ولا تزول والى ميتافيزيقيا الاستشراق التي كتب ادوارد كتابه ليفضحها ويجهز عليها بمقولتيها المطلقتين الشرق شرق والغرب غرب ولكل منهما طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المميزة."
الشاهد الثاني ان ادوارد سعيد ينتهي في تحليلاته الى تثبيت التوصيف (الروحاني ) للشرق كخاصية جوهرانية ينفرد بها في مقابل الغرب العقلاني . وذلك من خلال انحيازه الكامل لرؤية المستشرق الفرنسي لويس ماسنينون ( 1882-1962 ) للشرق . فبرغم ان سعيد يقرر بان أفكار ماسنيون عن الشرق ظلت تقليدية واستشراقية تبرز الثنائية الضدية : الشرق والغرب بشكل غريب - على حد تعبيره . وانه كان يؤمن ايمانا راسخا ان" الشرق الاسلامي ، روحاني ، سامي ، قبلي ، لا آرى " وان " جوهر الفرق بين الشرق هو الفرق بين الحداثة والتراث القديم " . كما يقرر سعيد ان " شرق ماسينيون متناغما كلية مع عالم النيام السبعة - أهل الكهف " . بل الادهى ان سعيد يقرر : " ان مشورة ماسينيون كانت مطلوبة على نطاق واسع كخبير في الشؤون الاسلامية من الحكومات الاستعمارية".
رغم كل ذلك يصف ادوارد سعيد ، ماسينيون ، بانه صاحب "الإسهام الأعظم " ويصف أعماله بأنها " أفضل الأعمال الاستسراقية خلال فترة ما بين الحربين " . فهو يرى ان ماسينيون ، لما يتمتع به من "حدس فردي روحي " استطاع النظر الى الشرق من " الداخل " وقد مكنه ذلك من استيعاب " القوى الحيوية التي تنفح الثقافة الشرقية " ومن النفاذ الى جوهر الطبيعة " الصوفية للإسلام ، التي تتميز بنزعتها الذاتية واللاعقلانية التي لا تقبل التفسير والتعليل".
إذن ما يصفه سعيد بالإسهام الأعظم لماسينيون ، ليس أكثر من تكريس أسطورة الطبائع الجوهرانية التي تميز بين الغرب والشرق . اذ لم يزد ماسينيون ان وصف الشرق بكونه ذو طبيعة "روحانية "والغرب ذو طبيعة "عقلانية".
اكثر من ذلك ان هدف ماسينيون كان تكريس هذا الفرق بين الشرق التقليدي والغرب الحديث من خلال نصيحته لفرنسا الاستعمارية بان تبقي على الشرق تقليديا اي ان تقف مع التقليد ضد الحداثة . حيث ينقل عنه سعيد قوله : "قد اصبح واجبا على فرنسا ان ترتبط برغبة المسلمين في الدفاع عن ثقافتهم التلقيلدية وقاعدة حياتهم السلالية وميراث المؤمنين " . وذلك حتى يظل الشرق محتفظا بروحانيته التي تميزه عن الغرب العقلاني على حسب تصوره.
هنا يأتي استنكار صادق جلال العظم في محله حين يقول : " في الواقع لا ادري كيف أفسر تماما قيام أهم ناقد للاستشراق مثل سعيد بتعظيم ماسينيون ومديحه إلى هذا الحد!.. يتضح من مناقشة ادوارد لأعمال ماسينيون ونظراته ، ان هذا المستشرق الفرنسي لم يتخل في يوم من الأيام عن العقيدة الاستشراقية الأساسية - التي يهاجمها ادوارد أعنف هجوم - والقائلة ان العالم ينشطر الى شطرين غير متكافئين بحيث يتصف كل منهما بطبيعة جوهرية خاصة به . إن ما عده ادوارد عند ماسينيون فهما داخليا متعاطفا مع القوى الحية التي تحرك الثقافات الإسلامية والشرقية عموما والتقاطا للبعد الروحي الذي تحمله تلك الثقافات ليس في الحقيقة الا تاكيدا جديدا للتصور الاستشراقي الكلاسيكي عن الاسلام والشرق الذي كان دوما - حسب نقد سعيد نفسه له - يمجد في الشرق روحانيته وبداءته وقدمه وأحديته."
وينتهي ، مهدي عامل، الى ذات النتيجة ويقول ان سعيد يثبت بذلك ان : " المقاربة الوحيدة التي بامكانها ان تنجو من خطر الوقوع في منطق الفكر الغربي هي المقاربة الروحية للشرق ، فهي الوحيدة التي في توحد مع موضوعها.! أليس في هذا القول تأكيد لمقولة الفكر الاستشراقي التقليدي نفسه التي تميز بين روحانية الشرق ومادية الغرب . أليس في هذا القول ما يدل على ان النص السعيدي لم ينجح في الإفلات من منطق الفكر الاستشراقي ، بل ظل في نقده له ، أسيره ؟. "
وأظن انه من هنا ، استوحى مهدي عامل العنوان الرئيسي لكتابه في الرد على ، سعيد : " هل القلب للشرق والعقل للغرب – ماركس في استشراق ادوارد سعيد؟"
ويحاول جلال العظم إيجاد تفسير لموقف سعيد من اطروحات ماسينيون والذي يتناقض مع مقدماته النظرية بل يهزم القضية الاساسية التي انجز كتابه من أجلها ، قائلا : " التفسير الوحيد الذي خطر لي الان هو ان ادوارد يرتاح كثيرا لتأويلات ماسينيون الميتافيزيقي الصوفية للإسلام باعتبارها تنسجم مع نزعاته المثالية على المستوى الايديلوجي والذاتية النسبية على المستوى الابستمولوجي".
وهو يشير بذلك إلى نظرية (الخطاب ) عند ميشيل فوكو كما طبقها ادوارد سعيد والتي لدي التحليل الأخير ، لا تختلف عن المثالية الذاتية في شيء.
لكني أري إن تعاطف سعيد مع ماسينيون ربما يرجع إضافة إلى ما ذكره جلال صادق العظم إلى أسباب أخرى.
فقد لفت نظري عند مطالعة كتاب ، الاستشراق ، أن سعيد لم يتخلص من إحساسه كفلسطيني وهو يعالج موضوع الاستشراق . وان شبح الصراع العربي الاسرائيلي كان ماثلا بقوة على الدوام . وليس أدل على ذلك من انه بدا مؤلفه بالفصل الأول ، بالحديث عن اللود بلفور وزير خارجية بريطانيا الاسبق وصاحب الوعد الشهير بإيجاد وطن بديل للاسرائليين في فلسطين.
ولقد اثر ذلك سلبا في مقاربته للموضوع إلى الحد الذي جعله لا يبدي عن اي قدر من التقدير إلا للمستشرقين الذين ابدوا قدرا من التعاطف مع القضية الفلسطينية . أمثال لويس ماسينون ومكسيم وردنسون وجاك بيرك . وكان ماسينيون من أشد المدافعين عن الحق الفلسطيني . و يصف سعيد هذا الموقف بقوله :" وكان ماسينيون محاربا لا يكل من أجل الحضارة الإسلامية ، كما تشهد مقالاته ورسائله العديدة بعد عام 1948 تأييدا للاجئيين الفلسطينين ودعما لحقوق العرب المسلمين والمسيحين في فلسطين ضد الصهيونية".
أما المستشرق والأكاديمي العتيد بيرناند لويس مثلا الذي يتهم بالتعاطف مع اسرائيل ، رغم تأييده قيام دولة فلسطينية ، فلم يلق من سعيد سوي العداء والاستعداء وسوء الفهم والتخريج . وهنا اورد مثالا على تعسف ادوارد سعيد في معالجة بعض النصوص الاستشراقية . يستدل سعيد بحديث لبرنارد لويس عن مفهوم (الثورة) في الفكر الاسلامي العربي يتقصى فيه، لويس ، جذر كلمة ثورة من المعاجم العربية الكلاسيكية المعروفة وتطور دلالتها . ولكن سعيد يأول كلام برنارد لويس عن مواضعه ويصرفه عن جادته ويقول ان هذا المستشرق اراد بذلك الحديث الحط من مكانة الثورة عند العرب والاساءة اليهم.
وكان برنارد لويس قد نشر مقالة بعنوان : " التصورات الاسلامية للثورة " وذلك بمجلد صادر عن معهد الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن عن الثورة في الشرق الاوسط . من ضمن ما ذكره لويس في هذه المقالة ، وأورده سعيد ، ان لفظ ثورة مصطلح حديث نسبيا وان الفاظ مثل : فتنة ، وبغي ، وتمرد ، كانت مستعملة للدلالة على الثورة في التاريخ الاسلامي . ثم يتقصى معاني كلمة ثورة بالاستشهاد بمعجم "الصحاح " للجوهري ، ويقول جذر الثورة هو ثور، بالفتح ، والفعل ثار يثور وتعني ، نهض وقام ( نهوض جمل مثلا ) وثور ، تعني استثار وحرك . والمصدر ثورة وثوران وإثارة (فتنة ) ومن معانيها : الهيجان ، ويورد قول الجوهري :" انتظر حتى تسكن هذه الثورة " .ثم يختم بقوله الذي ينقله عنه سعيد : " والثورة هو المصطلح الذي استخدمه الكتاب العرب في القرن التاسع عشر للثورة الفرنسية ثم صار يستخدم اليوم من قبل الكتاب العرب لوصف الثورات المقبولة داخليا وخارجيا."
ولكن ادوارد سعيد يذهب بعيدا في تأويل حديث لويس قائلا :" لماذا تقحم فكرة الجمل الناهض كجذر اشتقاقي للثورة العربية الحديثة . إن غرض لويس هو إن يحط الثورة من المكانة السامية المعاصرة لها ، بحيث لا تعدو في نبلها جملا يكاد يرفع نفسه من الأرض . إن ربط لويس بين الثورة وبين جمل ينهض وبالهيجان بشكل عام لا بالصراع من اجل القيم ، فيه إيحاء بان العربي لا يكاد يكون أكثر من كائن عصابي جنسي . ان الألفاظ : حرك ، أثار ، قام ، هيجان ، التي استعملها لمعاني الثورة ذات إيحاءات جنسية سيئة ، بمعنى إن العرب غير مهيئين للأعمال الجادة و ان هيجان العرب الجنسي بالنسبة له ، لا يجاوز في نبله جملا يقوم.."!
قبل ان أصل الى خاتمة هذا الحديث الذي يبدو انه طال ، أود ان أعلق على اللوحتين اللتين جعلهما سعيد على الغلاف الأمامي لكل من الطبعة الإنجليزية لسنة 1995 الصادرة عن بنجوين ، والنسخة العربية التي ترجمها كمال ابو ديب والصادرة عن المؤسسة العربية للأبحاث ببيروت (الطبعة الرابعة).
حمل غلاف النسخة الإنجليزية لوحة لرسام أوربي يدعى لوديج دتش تسمي" الحارس وعازف القيثار " ، وهي لعربي في كامل أبهته يجلس داخل صالون فخيم وهو يعزف على الغيثار منفردا بينما يقف على باب الصالون حارس أفريقي اسود متمنطقا بسلاحه . وحيث إنني حصلت على النسخة الإنجليزية أولا ظننت أن الناشر هو الذي وضع هذه اللوحة دون موافقة المؤلف.
ولكني فؤجئت عندما رأيت غلاف النسخة العربية أيضا يحمل لوحة شبيه باللوحة الأولى في فكرتها ، وقد علق عليها الناشر أسفل الصفحة الثانية من الكتاب بقوله :" صورة الغلاف بعنوان : بيت الأمير- باب الحريم الخاص في القرن السابع عشر عن كتاب مستوحى من معالم القاهرة للفرنسي بريز دافن " . و يظهر في الرسم أيضا حارس أفريقي اسود (عبد) يجلس خارج باب الحريم وتقف على مسافة منه سيدة ترتدي الخمار تتحدث إليه كأنها تسأله الدخول ا. فوقر في نفسي أن ذلك لا يمكن أن يكون حدث صدفة وظللت أتساءل عن السر وراء اختيار المؤلف لذينك اللوحتين!
إلى أن عثرت أثناء إعدادي لهذه الدراسة ، على مقال بالانجليزية * يقول فيه كاتبه ان ادوارد سعيد كان قد أقام سنة 1998 بسيدني باستراليا معرضا ،احتوى المعرض على مجموعة من الرسوم والصور الفوتوغرافية لفنانين اوربيين من القرن التاسع عشر عن موضوعات من شمال أفريقيا وحوض المتوسط . وان فكرة سعيد من إقامة ذلك المعرض ، كما تم الإعلان عنها ، هو التدليل كيف ان الفن الأوربي ساهم في ترسيخ الفكر الاستشراقي المتحيز ضد العالم العربي الإسلامي . وان اللوحتين المذكورتين ، كانتا من ضمن الصور والرسوم المعروضة.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ، لماذا اختار سعيد هاتين اللوحتين تحديدا لتزينان غلاف كتابه ؟ فاذا كان هدفه من ذلك فضح تحامل الغرب على الشرق الاسلامي رغم ان اللوحتين لا يحملان ما يدل على ذلك ، فان ذلك يمكن ان يؤدي إلى نتيجة عكسية اذ ان انصار الاستشراق الذي يتوجه اليه سعيد بالادانة ، يمكنهم المحاججة بالقول مثلا ان صورة الحارس الافريقي الاسود المتكررة في الرسمين بشكل لافت ، تجسد حقيقة استعمار واستعباد العرب لشعوب افريقيا السوداء وهو الشيء نفسه الذي فعلته اوربا في القرنيين الثامن والتاسع عشر!!
وعودا على بدء ، نرجع الى الاستهلال الذي بدانا به هذه المقالة وهو سبب الاحتفاء المبالغ فيه بكتاب " الاستشراق " خصوصا في امريكا . هذا ليس تقليلا من جهد ادوارد سعيد باية حال ، ولكن كانت هنالك مبالغة في الاحتفاء بذلك الكتاب دون ادنى ريب . يذهب البعض الى انها " الرغبة المازوشسية في جلد الذات " ، او ما يسمي بعقدة الذنب الليبرالية التي تطارد المجتمعات الغربية بسبب الأرث الاستعماري ، وهذا هو راي برنارد لويس.
ولكني أرجح عامل آخر ، وهو الظرف التاريخي الذي صدر فيه الكتاب . فقد شهدت نهاية السبعينات في الغرب ذروة الافتتان باطروحات الحداثة وما بعد الحداثة وقد وجدت هذه الاتجاهات في نقد العقلانية الغربية والنموذج الأوربي أرضية خصبة لها في امريكا وسط بعض الدوائر الاكاديمية التي احتفت بكتاب سعيد وقد ضاعف من ذلك تعالي نبرة العداء للمركزية الاوربية الثقافية والعرقية في ذلك الوقت من قبل اليسار الجديد وحركات التصحيح السياسي وغيرها من الاتجاهات التي تولى اهتماما خاصا بالثقافات المهمشة في محاولة لكسر المركزية الغربية والبحث عن مسارات أخرى للتطور بخلاف المسار الأوربي . وقد توج كل ذلك بتدشين مرحلة فكرية جديدة في مناهضة الاستعمار والامبريالية سميت "ما بعد الكولونيالية " جعلت من ادوارد سعيد عميدا لها.
انتهي .
عبد المنعم عجب الفيا
المراجع :
1- Edward W. Said ,Orientalism , Western Conceptions of the Orient, Penguin 1995
2- الاستشراق : المعرفة ،السلطة، الانشاء – ادوارد سعيد – ترجمة كمال أبو ديب – مؤسسة الابحاث العربية – بيروت - الطبعة الرابعة 1995 .
3- الاستشراق والاستشراق معكوسا – صادق جلال العظم – نشر بمجلة الحياة الجديدة فبراير 1981 واعيد نشره بكتابه : ذهنية التحريم – دار المدى –بيروت - الطبعة الثانية 2004
4- مهدي عامل - هل القلب للشرق والعقل للغرب ؟ ماركس في استشراق ادوارد سعيد – دار الفارابي – بيروت – الطبعة الثالثة 2006
5- الاستشراق بين دعاته ومعارضيه : مكسيم رودنسون ، فرانسيسكو غابريلي ، كلود كوهين ، بيرنارد لويس ،محمد اركون ، آلان روسيون - ترجمة واعداد هاشم صالح – دار الساقي الطبعة الثانية 2000
* Keith Windschuttle, Edward Said Orientalism" revisited”, The New Criterion: The New Criterion
وشملت هذه النظرة حتى المفكرين العرب التجديديين امثال طه حسين وعلى عبد الرازق اذ كان ينظر اليهم كتلاميذ للمستشرقين والى مساهماتهم في تجديد الفكر العربي والاسلامي بوصفها ترديدا لمقولات المستشرقين الهادفة الى تشويه التاريخ الاسلامي والحضارة العربية . ويمكن الاكتفاء هنا بالاشارة بصفة خاصة الى كتابات الشيخ محمود محمد شاكر الذي بدا في نشرها منذ الثلاثينات وحتى الستينيات بمجلة "الرسالة " وغيرها ضد اسهامات طه حسين ولويس عوض وتوفيق الحكيم ومحمد مندور وغيرهم ويصفهم ساخرا بصبيان المستشرقين ، وكان يردد : " الاستعمار ، والتبشير ، والاستشراق ، ثلاثة اسماء لشيء واحد " !! وقد جمع هذه المساجلات ونشرها في كتاب من عدة اجزاء اسماه " أباطيل واسمار".
صدر كتاب "الاستشراق " للمفكر العربي الفلسطيني ، ذي الخلفية الماركسية ، ادوارد سعيد ، باللغة الانجليزية سنة 1978 . وصدرت ترجمته الى اللغة العربية بقلم الناقد والاستاذ الجامعي ، كمال أبو ديب سنة 1981 . وبعد ان تيسر لي الاطلاع على الكتاب وجدت ان تساؤلاتي كانت في محلها . فمن حيث المضمون ليس هنالك جديد في طرح ادوارد سعيد . فقد كرر ذات الاتهامات والادانات القديمة ضد الاستشراق والمستشرقين . كما انه تبني اطروحات المفكر الماركسي انور عبد الملك في إدانة الاستشراق بوصفه أداة إمبريالية لتكريس التخلف والتبعية الثقافية للغرب . وكان عبد الملك قد نشر سنة 1963 بمجلة يوجين الفرنسية مقالة بعنوان ( الاستشراق في أزمة ).
ولم تخرج افكار سعيد في جوهرها عما ورد في مقالة أنور عبد الملك . لكن اذا كان انور عبد الملك قد استثنى الماركسية والاستشراق الروسي من دائرة الادانة . فقد ذهب سعيد بعيدا الى حد وصف ماركس نفسه ، أكبر ثائر ضد الرأسمالية الغربية ، بانه كان استشراقيا اي انه كان خادما للنظرة الامبريالية في محاولته اثابت نظريته من خلال حديثه عن نموذج الانتاج الاسيوي . حتى ان سعيد دبج الصفحة الاولى من كتابه بايراد قول ماركس : " انهم عاجزون عن تمثيل انفسهم ، ينبغي ان يمثلوا " مقتبسا من (برومير الثامن عشر للويس بونابرت ) ، وذلك في اشارة للشرقيين حسب تأويل سعيد . الامر الذي أثار حفيظة المفكر ، مهدي عامل ، وحدا به الى تجريد كتيبا في الرد على سعيد ومنهجه ، يعد من اجود ما كتب، عامل ، اسماه " هل القلب للشرق والعقل للغرب - ماركس في استشراق ادوارد سعيد".
لكن ما الجديد في كتاب ادوارد سعيد ؟!
الجديد هو المنهج الذي نظر من خلاله الى الاستشراق واللغة ذات المفردات والصياغات المراوغة التي يستصحبها ذلك المنهج . فقد وظف سعيد مفهوم (الخطاب ) عند الفيلسوف البنيوي ميشيل فوكو . يقول في مقدمة الكتاب : " لقد وجدت استخدام مفهوم ميشيل فوكو لتحديد الخطاب ذا فائدة لتحديد هوية الاستشراق . ما أطرحه هنا هو اننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه خطابا فلن يكون في وسعنا ابدا ان نفهم هذا الحقل المنظم تنظيما عاليا و الذي استطاعت الثقافة الغربية من خلاله ان تتدبر الشرق بل حتى ان تنتجه سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا في مرحلة ما بعد عصر التنوير."
ولتقريب الصورة يمكنا ان نحدد الخطاب هنا بوصفه ( مجموعة التصورات التي تشكل الفضاء المعرفي لفرد أو مجموعة بشرية في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي محدد ) . بهذا المفهوم يكاد الخطاب يتطابق مع التعريف الماركسي للايدولوجيا بوصفها تصورات أو مفاهيم غير (علمية) تتلبس لبوس الحقيقة الموضوعية .الفرق بين المفهومين هو انه إذا كان ماركس ينظر إلى الايديلوجيا كوعي زائف ، بمعنى إن هنالك وعي علمي غير زائف ، فان فوكو لا يقر بهذا التمييز فكل وعي هو خطاب والخطاب تمثيل (تصور ) للحقيقة وليس الحقيقة ذاتها . وبهذا المنظور لا وجود لمعرفة موضوعية مستقلة خارج نظام الخطاب . فالخطاب يستمد مشروعيته ومرجعيته من منطقه ونسقه الداخلي لا من الخارج او بالمقارنة مع الخطابات والانساق الأخرى . بلى ، انها المثالية الذاتية عينها في ثياب بلاغية جديدة . فلا حقيقة الا ما تراه انت كذلك . وبالتالي لا لوجود لحقيقة او معرفة موضوعية مشتركة في الخارج . هنالك فقط خطابات وصراعات بين هذه الخطابات.
من هنا يستنتج فوكو أن المعرفة سلطة. وبهذا المعنى نظر سعيد إلى الاستشراق بوصفه معرفة بالشرق أنتجت سلطة. هذه السلطة قادت أوربا الى الهيمنة على الشرق واستعماره والسيطرة عليه .إذن المعرفة بالشرق التي وفرها الاستشراق هي التي مكنت أوربا من فرض نفوذها الإمبريالي على الشرق .ومن هنا يخلص سعيد الى ان " الاستشراق هو اسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه " وهو " مؤسسة امبريالية " و ان " جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية"!
ولكن بالرغم من ان المعرفة بالشرق مكنت الغرب من السيطرة على الشرق، فإنها معرفة غير حقيقية ، فحسب نظرية المعرفة التي يحكتم اليها سعيد ، ليس هنالك حقيقة . هنالك فقط تصورات (تمثيلات ) و التمثيل هو تشكيل للحقيقة وتشويه لها يتم عبر اللغة والثقافة السائدة ومؤسساتها المهيمنة . و الاستشراق بما انه معرفة بالشرق فهو تمثيل او اعادة تشكيل وتشويه لحقيقة الشرق. انها ليست معرفة حقيقية بطبيعة الشرق وإنما مجموعة تصورات (تمثيلات ) للشرق وليس الشرق ذاته . فعندما يتحدث المستشرق عن الشرق، كما يقول سعيد ، فهو لا يتحدث عن الشرق (الحقيقي ) او الطبيعي ، وانما عما يتصور انه الشرق . " فالشرق كتمثيل في اوربا يشكل ويفسد تشكيله ويشوه " . وبالتالي لا تنتج معرفة الاستشراق بالشرق الا صورة مشوهة عنه. وانطلاقا من هذه الفرضية ينتهي سعيد الى وصم الاستشراق بانه " اختراع غربي للشرق ". وانه "شكل من اشكال العصاب التوهمي بارنويا ومعرفة من نمط مختلف عن المعرفة التاريخية العادية " وانه " نمط من الاسقاط الغربي على الشرق وارادة السيطرة عليه".
لا شك ان الإدانة المطلقة للاستشراق انطلاقا من مقولة كل معرفة سلطة و ان معرفة أوربا بالشرق عبر الاستشراق ، قادت الى السيطرة عليه قول ينطوي على تعميم مخل . صحيح كانت هنالك كتابات تحمل افكارا عدوانية عن الشرق وتتسم بروح التعالي ونبرة التفوق العنصري والثقافي وبعضها ذو دوافع استعمارية . لكن يصعب على المرء الاتفاق مع ادوارد سعيد ان كل ما قام به المستشرقون من حفريات وفك لرموز الحضارات واللغات القديمة وتحقيق للمخطوطات التاريخية مثلا مجرد تشويه لتلك اللغات والحضارات؟
وان تلك الجهود الجبارة والمخاطرات العظيمة بحيواتهم لا يعدو ان يكون الدافع من وراءها خدمة المطامع الاستعمارية والتوسع الامبريالي؟!
لكن اذا كان اداورد سعيد يفترض ان الاستشراق نشا لخدمة الاهداف الاستعمارية لاوربا ، وذلك استنادا لنظرية المعرفة = السلطة . فان الكثيرين يخالفونه الراي ويرون ان الاستشراق وليد النزعة الانسية (الهيومانيزم ) التي سادت في عصر النهضة الأوربية . فقد ظهر الاهتمام بدراسة الحضارات الشرقية في إطار البحث عن الإنسان الكوني والأرث الإنساني المشترك باعتبار ان الحضارات الانسانية مكملة لبعضها البعض كما يقول المستشرق الماركسي ، مكسيم رودنسون . وكمثال على هذه النزعة الانسية تاتي الإشارة الى أعمال كبار الرومانسيين أمثال غوته وفيكتور هيجو الذي كتب بمقدمة ديوانه (الشرقيات ) الذي افتتحه بثلاث ابيات للشاعر الفارسي سعدي قائلا : " لم تحرز الدراسات الشرقية مثل التقدم الذي احرزته اليوم .. فقد كان الناس في عهد لويس الرابع عشر هيلينين ، واما اليوم فقد أصبحوا شرقيين".
تاكيدا لذلك ، يقول المستشرق الإيطالي فرانسيسكو غابرييلي ، في رده على انور عبدالملك ، لا شك ان الاستشراق ساعد على " استكشاف للحضارات الشرقية القديمة وساهم هذا الاستكشاف في بيان حجم مساهمة الحضارات في التاريخ العام للبشرية وقيمة هذه المساهمة . صحيح ان هذه الاستكشاف كان قد ساعد أوربا احيانا على تغلغلها الاقتصادي والسياسي في الشرق الحديث من اجل استعباده واستغلاله . هذا شيء لا يمكن لاي مفكر شريف ان ينكره ولكن من العدل والإنصاف والشرف ايضا الا نعمم هذه الحالات والأحداث الخاصة ونشمل بادانتنا كل البحث الاستشراقي . فهذه الإدانة قائمة على خلط الأمور والمغالطة . صحيح انه وجد بعض المستشرقين كعملاء لهذا الاستعمار وكادوات له : نذكر منهم القناصلة والسفراء والتجار والمبشرين والعسكريين والتقنيين . ولكن عددا لا باس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم بل انهم وقفوا ضد هذه الأهداف في بعض الاحيان."
ومن ابرز الدلائل التي يستدل بها نقاد ادوارد سعيد على قصور الفرضية التي ينطلق منها في ربط الاستشراق بالاستعمار استنادا الى علاقة المعرفة بالسلطة ، الإسهام الضخم للاستسراق الالماني . فالمانيا لم تكن قوة استعمارية مهيمنة مثل انجلترا وفرنسا حتى يقال ان الاستشراق الالماني كان لخدمة اهدافها الاستعمارية وتوسعها الامبريالي . لكن سعيد لم يتوقف لتفسيره هذه الظاهرة ربما خوفا من ان تفسد عليه صحة منطلقاته النظرية في الادانة الاجمالية للاستشراق . فلو كان المستشرقون كما يقول لويس برنارد : " يبحثون عن معرفة الشعوب الشرقية من أجل الهيمنة عليها ، ولو كان البحث عن السلطة بواسطة المعرفة و الباعث الوحيد او الباعث الاساسي للاستشراق ، فلماذا ازدهرت هذه الدراسات الاستشراقية في بعض البلدان الاوربية التي لم تساهم اطلاقا في الهيمنة على العالم العربي - المقصود المانيا ؟ " ويضيف " في الواقع ان كتابة تاريخ الدراسات العربية في أوريا بدون الالمان لا معنى لها مثلما انه لا معنى لكتابة اريخ الموسيقى أو الفلسلفة الاوربية بدون ذكرهم".
ومن مظاهر التعميم والانتقائية ، التي استم بها كتاب سعيد ، الخلط بين الاستشراق كتخصص اكاديمي صارم وبين كتابات بعض الرحالة والصحفيين والادرايين الاستعماريين . يقول المستشرق الفرنسي كلود كوهين : " ونظرا لانه – اي سعيد - لا يميز بالشكل الكافي بين الأدبيات الاستشراقية المبتذلة او الصحفية وبين بحوث العلماء الحقيقيين ، فانه يرتكب أخطا فاحشة ويقع في ظلم كبير " . ويوافقه على ذلك بيرنارد لويس بقوله ان سعيد : " يلجا احيانا الى حشر سلسلة من الكتاب في دائرة الاستشراق دون ان يكون لهم اي علاقة بها . نذكر من بيهم اديبين من امثال شاتوبريان وجيرار دو نيرفال او مدراء امبراطوريين كاللورد كرومر او غيره . لا ريب ان اعمال هؤلاء قد ساهمت في تشكيل المواقف الثقافية الغربية ، ولكن لاعلاقة لها اطلاقا بالتراث الاكاديمي للاستشراق ،اي بالشيء الاساسي المستهدف من قبل السيد ادوارد سعيد."
اما الفرضية الثانية القائلة ان الحقيقة ما هي الا تصور وتمثيل ، وان معرفتنا بالأخر لا تملك الا تنتج صورة مشوهة لذاك الأخر ، فليست اقل دلالة على تعسف سعيد في تطبيق نظرية ميشيل فوكو من الفرضية الأولى. يقول ادوارد سعيد : " تكمن المشكلة في ما اذا كان بالامكان وجود تصور صادق عن اي شيء .. ان جميع التصورات (التمثيلات ) بلا استثناء وبحكم كونها تصورات مدفونة في لغة صاحب التصور وفي ثقافته ومؤسساته واجوائه السياسية (من ثم ) علينا عندئذ ان نكون مستعدين للقبول بالواقع القائل ان كل تصور يختلط حكما باشياء كثيرة غير الحقيقة .. مع العلم بان الحقيقة نفسها هي تصور ليس الا."
فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا لماذا اذن نؤاخذ الغرب على تصوره المشوه – المفترض - للشرق ؟ لماذا نلوم الاستشراق الذي هو وليد الثقافة الغربية طالما انه لا سبيل الى معرفة موضوعية بالآخر او تصوره تصورا حقيقيا؟
بعبارات اخرى ، اذا كان صحيحا - كما يقول المفكر جلال صادق العظم: " ان الشرق الذي يدرسه الاستشراق ليس الا صورة مشوهة في خيال الغرب وتصورا مزيفا في عقله ، كما يكرر ادوارد سعيد في شجب صاحب الصورة والتصور ولومه وتقريعه ، او ليس صحيحا كذلك ان الغرب يكون بفعله هذا قد سلك سلوكا طبيعيا وسويا وفقا للمبدأ العام الذي يقول لنا ادوارد انه يتحكم بآلية تلقي ثقافة ما لثقافة أخرى غريبة عنها ؟ بعبارة أخرى يؤدي بنا الموقف الابستمولوجي الذي تبناه ادوارد الى نتيجة تقول انه حين حاول الغرب التعامل مع الواقع الخام للشرق بغية تمثله وهضمه عبر مؤسسة الاستشراق ،قام بكل ما كانت تقوم به اية ثقافة أخرى في ظل الشروط ذاتها مما ، من شانه ان يرفع عتب ادوارد سعيد على الغرب وان يحيد لومه للاستشراق."
وعطفا على هذه الإشارة اللماحة لجلال العظم نقول إن ادوارد سعيد كان قد حاول تلمس المعاذير للمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون قائلا : " ليس في وسع باحث حتى ولو كان ماسنيون ان يقاوم ضغوط امته و ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه. " . وهو يقصد بذلك ان لا احد بقادر ان يفلت من سلطة الخطاب السائد في مجتمعه ، حتى لو كان كارل ماركس ، او ماسينيون بوصفه المستشرق الوحيد تقريبا الذي يعده سعيد قد نحج في قراءة الشرق من داخله ولذاته. ولكن بذات المنطق نفسه وبذات النظرية ، لماذا لم يجد سعيد العذر للمستشرقين الذي أدانهم وكرس كتابه لفضحهم مثلما وجد لماسنيون ما دام لم يكن لدي هؤلاء المستشرقين الفرصة حسب نظام الخطاب ، في الإفلات من ثقافة أممهم السائدة في التعاطي مع الشرق ؟! خاصة وانه باقرار سعيد نفسه ، ان افكار ماسينيون ظلت استشراقية وتقليدية تماما . اي لا فرق في النهاية بينه وبين اؤلئك المستشرقين؟؟؟!!
تكمن المشكلة تكمن في ان سعيد قد اخلص للمنهج اكثر من اخلاصه لموضوعه محل البحث وهو الاستشراق . وقد قاده ذلك الى التعسف والتناقض احيانا . صحيح يمكنا القول اجمالا مع فوكو ان السلطة دائما توظف المعرفة لمصلحتها وان الثقافة السائدة والمسيطرة هي ثقافة الطبقة الحاكمة والغالبة والمسيطرة دائما ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان السلطة وحدها هي الحافز على انتاج المعرفة.
وهنا لا نملك الا ان نتساءل مع هاشم صالح ، المتخصص في ترجمة اعمال محمد اركون من الفرنسية وفي دراسة اتجاهات الحداثة وما بعدها : هل تعني هذه النظرية انه لا توجد معرفة من دون سلطة او ان السلطة هي المعرفة والمعرفة هي السلطة او ان الحقيقة لا يمكن ان توجد بشكل بريء ومنزه عن كل علاقات القوة والهمينة والسلطة ؟
ثم ينتهي هاشم صالح الى القول : " ان الشيء الذي يمكنا ان نلومه عليه (اي سعيد ) هو التطرف في التطبيق ، اي أعتبار المعرفة مجرد خادم مطيع للسلطة ، ونفي اي استقلالية ذاتية عنها . وهنا نقع في خطر التشكيك بامكانية وجود المعرفة من أساسها وبالتالي وجود الحقيقة في مجال العلم اي علم . فالحقيقة ضمن هذا المنظور غير موجودة ولا يمكن ان توجد والشيء الموجود فقط هو ذلك الصراع الدائر ابديا وعلى مدار التاريخ بين ارادات الهيمنة والقوة الشيء الموجود هو صراع الخطابات الحاملة لارادات الهيمنة والسلطة وتناطحها في ما بينها .. هنا يكمن خطر العدمية الذي كاد ميشيل فوكو ان يسقط فيه ، بل سقط فيه بحسب راي البعض ، والذي يهدد ايضا كتاب ادوراد سعيد على رغم ذكائه وألمعيته."
وتاكيدا لجدية هذا التحذير من الوقوع في العدمية واللاعلمية ، يذهب صادق العظم الى ان كتاب سعيد : " لا يخلو من موافق مناهضة للعلم والتفكير العلمي المنظم . على سبيل المثال تجلى هذه المواقف في هجومه على الاستشراق الثقافي – الاكاديمي وتنديده به لانه قام بتصنيف الشرق وتبيويبه وجدولته وتدوينه وفهرسته وتخطيطه وتشريحه واختزاله وكأن هذه العلمليات ، التي لا يستقيم بدونها اي تفكير منتظم او جدي مهما كانا مبتدئين ، شريرة ابحد ذاتها وغير مناسبة على الاطلاق لتحصيل اي فهم حقيقي للمجتمعات البشرية وثقافتها ولغاتها الخ ، لان العلمليات العقلية المذكورة لا بد ، وان تشوه واقع هذه المجتمعات وتزيف أحوالها."
وفي السياق نفسه ينتهي ، المستشرق ، مكسيم رودنسون ، والذي يمتع بسمعة طيب في الوطن العربي ، الى ذات النتيجة التي انتهي اليها هاشم صالح ، ويحذر من التهور المنهجي في تطبيق النظريات الحديثة مثل البنيوية وغيرها والتي يقول انه لا اعتراض له عليها من حيث المبدا لكنها : " ليست مبرأة من العيوب كما يتوهم بعض الشباب المتسرعين المبهوريين بكل ما هو حديث " ، الذين حالما يتبنون هذه المناهج يشعرون بالزهو والفخر ظانيين ان هذه المناهج قادرة على تفسير كل شيء لكن ذلك مجرد خداع ، فهي ، جزئية في معالجاتها وتفتقر الى الرؤيا الكلية - على حد تعبيره . وفي اشارة الى نظرية المعرفة عند فوكو يقول : " ان الذين يعتبرون ان الموضوعية اسطورة او خرافة ، هم اؤلئك الذين يريدون هدم كل موضوعية وكل مسئولية ." ثم يدعو الى التمسك بافضل ما في الاستشراق الكلاسيكي : التقشف العلمي والموضوعية والدقة البحثية.
فيما تقدم تحدثنا عن ان ادوارد سعيد ربط بين الاستشراق والاستعمار استنادا الى العلاقة الحتمية المفترضة بين المعرفة والسلطة او بين المعرفة وارادة الهيمنة والقوة . ومن ناحية اخرى افترض سعيد ان اي معرفة ، تمثيل (تصور ) . والتمثيل هو تشويه للحقيقة وليس الحقيقة ذاتها وبالتالي فان تصور الغرب للشرق جاء تصورا مشوها . وهذه الفرضية النظرية الاخيرة لو صحت ، كما اوضحنا، تنهار معها كل دعاوى سعيد ضد الاستشراق.
اما الفكرة المحورية الاخرى التي بنى عليها سعيد كتابه في نقد الاستشراق التقليدي هي القول بان العالم ينقسم إلى شرق وغرب ، وان لكل منهما خصائص جوهرية وطبائع أزلية ثابتة تميز بينهما . كالتمييز بين الجنس السامي والجنس الأري ، والزعم مثلا ان الاول روحاني والثاني عقلاني ، ومن المستشرقين الذين روجوا لهذا التمييز ارنست رينان . و ترسخت هذه النظرية بسبب سيادة علم الاجناس البيولوجي في القرن التاسع عشر.
وقد استعار سعيد هذه الفكرة في نقد الاستشراق من أنور عبد الملك في مقالته المشار اليها في بداية الجزء الاول من هذه الدراسة . يقول عبد الملك : " يتبنى الاستشراق تصورا جوهرانيا للبلدان والامم والشعوب الشرقية موضع الدراسة تصورا يعبر عن نفسه عبر علم أنماط عرقي مبني على خصوصية حقيقية ، لكنها معزولة عن التاريخ ومتصورة."
وهو ما يصفه سعيد بقوله : " الاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب " و " الاستشراق في نهاية المطاف رؤيا سياسية للواقع روجت بنيتها للفرق بين الغرب المالوف (نحن ) وبين الشرق الغريب (هم ). " ويخلص الى ان " منظومة الاستشراف المركزية هي أسطورة تطور الساميين المعاق".
الا ان المفارقة اللافتة ان سعيد لا ينتهي في تحليلاته الى تقويض هذه الاسطورة كما يصفها ، بل ينتهي إلى عكس ما يريد اي ينتهي الى تكريسها وتثبيتها . و يتجلى ذلك في مثالين . الاول ارجاعه جذور الفكر الاستشراقي الذي يتوجه اليه بالادانة ، الى العصر اليوناني الكلاسيكي ، الى هوميروس واسخيلويس ويربيدوس . اي انه يجعل النظرة الدونية الى الشرق شيء ملازم لطبيعة الفكر الغربي منذ فجر تكوينه وليس مجرد ظاهرة تاريخية بزرت مع التوسع الاستعماري في القرن الثامن عشر.
يقول : " .. وبوسع هذا الاستشراق ان يفسح مكانا ليستوعب ايسخليس وهوجو ودانتي وكارل ماركس " ويضيف أن : " الفصل بين الشرق والغرب يبدو انه بدا حادا ومميزا مع ظهور الإلياذة .. ومسرحية ايسخليس (الفرس ) ومسرحية يربيدوس (الباكنتيون ) .." هذه الأعمال المسرحية : " رسمت حدا فاصلا بين قارتين : أوربا قوية وفصيحة ، وآسيا مهزومة ونائية".
وبالتالي لا تعود ظاهرة الاستشراق كما يقول جلال صادق العظم : " وليدة شروط تاريخية معينة واستجابة لمصالح وحاجات حيوية ناشئة صاعدة ، بل تاخذ شكل الافراز الطبيعي العتيق والمستمر الذي يولده العقل الغربي المفطور بطبيعته على انتاج واعادة انتاج تصورات مشوهة عن واقع الشعوب الاخرى ومحقرة لمجتمعاتها وثقافاتها ولغاتها ودياناتها في سبيل تاكيد ذاته والاعلاء من شان تفوقه وقوته وسطوته. اي وفقا لهذه الاطروحة يبدو العقل الاوربي من الشاعر هوميروس الى المستشرق هاملتون جيب ، مرورا بكارل ماركس وكأنه يتصف بنزعة متاصلة لا يحيد عنها لتشويه الشرق وتزييف واقعه وتحقير وجوده . يبدو لي ان هذا المنحي في تفسير ظاهرة الاستشراق وتطورها مع النتائج المترتبة عليها يعمل على احباط الاهداف الاساسية التي من اجلها وضع ادوارد سعيد دراسته النقدية."
إن النتيجة المنطقية لهذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق ، والحديث للعظم : " هي العودة بنا من الباب الخلفي الى اسطورة الطبائع الثابتة التي يريد ادوارد سعيد تدميرها بخصائصها الجوهرية التي لا تحول ولا تزول والى ميتافيزيقيا الاستشراق التي كتب ادوارد كتابه ليفضحها ويجهز عليها بمقولتيها المطلقتين الشرق شرق والغرب غرب ولكل منهما طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المميزة."
الشاهد الثاني ان ادوارد سعيد ينتهي في تحليلاته الى تثبيت التوصيف (الروحاني ) للشرق كخاصية جوهرانية ينفرد بها في مقابل الغرب العقلاني . وذلك من خلال انحيازه الكامل لرؤية المستشرق الفرنسي لويس ماسنينون ( 1882-1962 ) للشرق . فبرغم ان سعيد يقرر بان أفكار ماسنيون عن الشرق ظلت تقليدية واستشراقية تبرز الثنائية الضدية : الشرق والغرب بشكل غريب - على حد تعبيره . وانه كان يؤمن ايمانا راسخا ان" الشرق الاسلامي ، روحاني ، سامي ، قبلي ، لا آرى " وان " جوهر الفرق بين الشرق هو الفرق بين الحداثة والتراث القديم " . كما يقرر سعيد ان " شرق ماسينيون متناغما كلية مع عالم النيام السبعة - أهل الكهف " . بل الادهى ان سعيد يقرر : " ان مشورة ماسينيون كانت مطلوبة على نطاق واسع كخبير في الشؤون الاسلامية من الحكومات الاستعمارية".
رغم كل ذلك يصف ادوارد سعيد ، ماسينيون ، بانه صاحب "الإسهام الأعظم " ويصف أعماله بأنها " أفضل الأعمال الاستسراقية خلال فترة ما بين الحربين " . فهو يرى ان ماسينيون ، لما يتمتع به من "حدس فردي روحي " استطاع النظر الى الشرق من " الداخل " وقد مكنه ذلك من استيعاب " القوى الحيوية التي تنفح الثقافة الشرقية " ومن النفاذ الى جوهر الطبيعة " الصوفية للإسلام ، التي تتميز بنزعتها الذاتية واللاعقلانية التي لا تقبل التفسير والتعليل".
إذن ما يصفه سعيد بالإسهام الأعظم لماسينيون ، ليس أكثر من تكريس أسطورة الطبائع الجوهرانية التي تميز بين الغرب والشرق . اذ لم يزد ماسينيون ان وصف الشرق بكونه ذو طبيعة "روحانية "والغرب ذو طبيعة "عقلانية".
اكثر من ذلك ان هدف ماسينيون كان تكريس هذا الفرق بين الشرق التقليدي والغرب الحديث من خلال نصيحته لفرنسا الاستعمارية بان تبقي على الشرق تقليديا اي ان تقف مع التقليد ضد الحداثة . حيث ينقل عنه سعيد قوله : "قد اصبح واجبا على فرنسا ان ترتبط برغبة المسلمين في الدفاع عن ثقافتهم التلقيلدية وقاعدة حياتهم السلالية وميراث المؤمنين " . وذلك حتى يظل الشرق محتفظا بروحانيته التي تميزه عن الغرب العقلاني على حسب تصوره.
هنا يأتي استنكار صادق جلال العظم في محله حين يقول : " في الواقع لا ادري كيف أفسر تماما قيام أهم ناقد للاستشراق مثل سعيد بتعظيم ماسينيون ومديحه إلى هذا الحد!.. يتضح من مناقشة ادوارد لأعمال ماسينيون ونظراته ، ان هذا المستشرق الفرنسي لم يتخل في يوم من الأيام عن العقيدة الاستشراقية الأساسية - التي يهاجمها ادوارد أعنف هجوم - والقائلة ان العالم ينشطر الى شطرين غير متكافئين بحيث يتصف كل منهما بطبيعة جوهرية خاصة به . إن ما عده ادوارد عند ماسينيون فهما داخليا متعاطفا مع القوى الحية التي تحرك الثقافات الإسلامية والشرقية عموما والتقاطا للبعد الروحي الذي تحمله تلك الثقافات ليس في الحقيقة الا تاكيدا جديدا للتصور الاستشراقي الكلاسيكي عن الاسلام والشرق الذي كان دوما - حسب نقد سعيد نفسه له - يمجد في الشرق روحانيته وبداءته وقدمه وأحديته."
وينتهي ، مهدي عامل، الى ذات النتيجة ويقول ان سعيد يثبت بذلك ان : " المقاربة الوحيدة التي بامكانها ان تنجو من خطر الوقوع في منطق الفكر الغربي هي المقاربة الروحية للشرق ، فهي الوحيدة التي في توحد مع موضوعها.! أليس في هذا القول تأكيد لمقولة الفكر الاستشراقي التقليدي نفسه التي تميز بين روحانية الشرق ومادية الغرب . أليس في هذا القول ما يدل على ان النص السعيدي لم ينجح في الإفلات من منطق الفكر الاستشراقي ، بل ظل في نقده له ، أسيره ؟. "
وأظن انه من هنا ، استوحى مهدي عامل العنوان الرئيسي لكتابه في الرد على ، سعيد : " هل القلب للشرق والعقل للغرب – ماركس في استشراق ادوارد سعيد؟"
ويحاول جلال العظم إيجاد تفسير لموقف سعيد من اطروحات ماسينيون والذي يتناقض مع مقدماته النظرية بل يهزم القضية الاساسية التي انجز كتابه من أجلها ، قائلا : " التفسير الوحيد الذي خطر لي الان هو ان ادوارد يرتاح كثيرا لتأويلات ماسينيون الميتافيزيقي الصوفية للإسلام باعتبارها تنسجم مع نزعاته المثالية على المستوى الايديلوجي والذاتية النسبية على المستوى الابستمولوجي".
وهو يشير بذلك إلى نظرية (الخطاب ) عند ميشيل فوكو كما طبقها ادوارد سعيد والتي لدي التحليل الأخير ، لا تختلف عن المثالية الذاتية في شيء.
لكني أري إن تعاطف سعيد مع ماسينيون ربما يرجع إضافة إلى ما ذكره جلال صادق العظم إلى أسباب أخرى.
فقد لفت نظري عند مطالعة كتاب ، الاستشراق ، أن سعيد لم يتخلص من إحساسه كفلسطيني وهو يعالج موضوع الاستشراق . وان شبح الصراع العربي الاسرائيلي كان ماثلا بقوة على الدوام . وليس أدل على ذلك من انه بدا مؤلفه بالفصل الأول ، بالحديث عن اللود بلفور وزير خارجية بريطانيا الاسبق وصاحب الوعد الشهير بإيجاد وطن بديل للاسرائليين في فلسطين.
ولقد اثر ذلك سلبا في مقاربته للموضوع إلى الحد الذي جعله لا يبدي عن اي قدر من التقدير إلا للمستشرقين الذين ابدوا قدرا من التعاطف مع القضية الفلسطينية . أمثال لويس ماسينون ومكسيم وردنسون وجاك بيرك . وكان ماسينيون من أشد المدافعين عن الحق الفلسطيني . و يصف سعيد هذا الموقف بقوله :" وكان ماسينيون محاربا لا يكل من أجل الحضارة الإسلامية ، كما تشهد مقالاته ورسائله العديدة بعد عام 1948 تأييدا للاجئيين الفلسطينين ودعما لحقوق العرب المسلمين والمسيحين في فلسطين ضد الصهيونية".
أما المستشرق والأكاديمي العتيد بيرناند لويس مثلا الذي يتهم بالتعاطف مع اسرائيل ، رغم تأييده قيام دولة فلسطينية ، فلم يلق من سعيد سوي العداء والاستعداء وسوء الفهم والتخريج . وهنا اورد مثالا على تعسف ادوارد سعيد في معالجة بعض النصوص الاستشراقية . يستدل سعيد بحديث لبرنارد لويس عن مفهوم (الثورة) في الفكر الاسلامي العربي يتقصى فيه، لويس ، جذر كلمة ثورة من المعاجم العربية الكلاسيكية المعروفة وتطور دلالتها . ولكن سعيد يأول كلام برنارد لويس عن مواضعه ويصرفه عن جادته ويقول ان هذا المستشرق اراد بذلك الحديث الحط من مكانة الثورة عند العرب والاساءة اليهم.
وكان برنارد لويس قد نشر مقالة بعنوان : " التصورات الاسلامية للثورة " وذلك بمجلد صادر عن معهد الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن عن الثورة في الشرق الاوسط . من ضمن ما ذكره لويس في هذه المقالة ، وأورده سعيد ، ان لفظ ثورة مصطلح حديث نسبيا وان الفاظ مثل : فتنة ، وبغي ، وتمرد ، كانت مستعملة للدلالة على الثورة في التاريخ الاسلامي . ثم يتقصى معاني كلمة ثورة بالاستشهاد بمعجم "الصحاح " للجوهري ، ويقول جذر الثورة هو ثور، بالفتح ، والفعل ثار يثور وتعني ، نهض وقام ( نهوض جمل مثلا ) وثور ، تعني استثار وحرك . والمصدر ثورة وثوران وإثارة (فتنة ) ومن معانيها : الهيجان ، ويورد قول الجوهري :" انتظر حتى تسكن هذه الثورة " .ثم يختم بقوله الذي ينقله عنه سعيد : " والثورة هو المصطلح الذي استخدمه الكتاب العرب في القرن التاسع عشر للثورة الفرنسية ثم صار يستخدم اليوم من قبل الكتاب العرب لوصف الثورات المقبولة داخليا وخارجيا."
ولكن ادوارد سعيد يذهب بعيدا في تأويل حديث لويس قائلا :" لماذا تقحم فكرة الجمل الناهض كجذر اشتقاقي للثورة العربية الحديثة . إن غرض لويس هو إن يحط الثورة من المكانة السامية المعاصرة لها ، بحيث لا تعدو في نبلها جملا يكاد يرفع نفسه من الأرض . إن ربط لويس بين الثورة وبين جمل ينهض وبالهيجان بشكل عام لا بالصراع من اجل القيم ، فيه إيحاء بان العربي لا يكاد يكون أكثر من كائن عصابي جنسي . ان الألفاظ : حرك ، أثار ، قام ، هيجان ، التي استعملها لمعاني الثورة ذات إيحاءات جنسية سيئة ، بمعنى إن العرب غير مهيئين للأعمال الجادة و ان هيجان العرب الجنسي بالنسبة له ، لا يجاوز في نبله جملا يقوم.."!
قبل ان أصل الى خاتمة هذا الحديث الذي يبدو انه طال ، أود ان أعلق على اللوحتين اللتين جعلهما سعيد على الغلاف الأمامي لكل من الطبعة الإنجليزية لسنة 1995 الصادرة عن بنجوين ، والنسخة العربية التي ترجمها كمال ابو ديب والصادرة عن المؤسسة العربية للأبحاث ببيروت (الطبعة الرابعة).
حمل غلاف النسخة الإنجليزية لوحة لرسام أوربي يدعى لوديج دتش تسمي" الحارس وعازف القيثار " ، وهي لعربي في كامل أبهته يجلس داخل صالون فخيم وهو يعزف على الغيثار منفردا بينما يقف على باب الصالون حارس أفريقي اسود متمنطقا بسلاحه . وحيث إنني حصلت على النسخة الإنجليزية أولا ظننت أن الناشر هو الذي وضع هذه اللوحة دون موافقة المؤلف.
ولكني فؤجئت عندما رأيت غلاف النسخة العربية أيضا يحمل لوحة شبيه باللوحة الأولى في فكرتها ، وقد علق عليها الناشر أسفل الصفحة الثانية من الكتاب بقوله :" صورة الغلاف بعنوان : بيت الأمير- باب الحريم الخاص في القرن السابع عشر عن كتاب مستوحى من معالم القاهرة للفرنسي بريز دافن " . و يظهر في الرسم أيضا حارس أفريقي اسود (عبد) يجلس خارج باب الحريم وتقف على مسافة منه سيدة ترتدي الخمار تتحدث إليه كأنها تسأله الدخول ا. فوقر في نفسي أن ذلك لا يمكن أن يكون حدث صدفة وظللت أتساءل عن السر وراء اختيار المؤلف لذينك اللوحتين!
إلى أن عثرت أثناء إعدادي لهذه الدراسة ، على مقال بالانجليزية * يقول فيه كاتبه ان ادوارد سعيد كان قد أقام سنة 1998 بسيدني باستراليا معرضا ،احتوى المعرض على مجموعة من الرسوم والصور الفوتوغرافية لفنانين اوربيين من القرن التاسع عشر عن موضوعات من شمال أفريقيا وحوض المتوسط . وان فكرة سعيد من إقامة ذلك المعرض ، كما تم الإعلان عنها ، هو التدليل كيف ان الفن الأوربي ساهم في ترسيخ الفكر الاستشراقي المتحيز ضد العالم العربي الإسلامي . وان اللوحتين المذكورتين ، كانتا من ضمن الصور والرسوم المعروضة.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ، لماذا اختار سعيد هاتين اللوحتين تحديدا لتزينان غلاف كتابه ؟ فاذا كان هدفه من ذلك فضح تحامل الغرب على الشرق الاسلامي رغم ان اللوحتين لا يحملان ما يدل على ذلك ، فان ذلك يمكن ان يؤدي إلى نتيجة عكسية اذ ان انصار الاستشراق الذي يتوجه اليه سعيد بالادانة ، يمكنهم المحاججة بالقول مثلا ان صورة الحارس الافريقي الاسود المتكررة في الرسمين بشكل لافت ، تجسد حقيقة استعمار واستعباد العرب لشعوب افريقيا السوداء وهو الشيء نفسه الذي فعلته اوربا في القرنيين الثامن والتاسع عشر!!
وعودا على بدء ، نرجع الى الاستهلال الذي بدانا به هذه المقالة وهو سبب الاحتفاء المبالغ فيه بكتاب " الاستشراق " خصوصا في امريكا . هذا ليس تقليلا من جهد ادوارد سعيد باية حال ، ولكن كانت هنالك مبالغة في الاحتفاء بذلك الكتاب دون ادنى ريب . يذهب البعض الى انها " الرغبة المازوشسية في جلد الذات " ، او ما يسمي بعقدة الذنب الليبرالية التي تطارد المجتمعات الغربية بسبب الأرث الاستعماري ، وهذا هو راي برنارد لويس.
ولكني أرجح عامل آخر ، وهو الظرف التاريخي الذي صدر فيه الكتاب . فقد شهدت نهاية السبعينات في الغرب ذروة الافتتان باطروحات الحداثة وما بعد الحداثة وقد وجدت هذه الاتجاهات في نقد العقلانية الغربية والنموذج الأوربي أرضية خصبة لها في امريكا وسط بعض الدوائر الاكاديمية التي احتفت بكتاب سعيد وقد ضاعف من ذلك تعالي نبرة العداء للمركزية الاوربية الثقافية والعرقية في ذلك الوقت من قبل اليسار الجديد وحركات التصحيح السياسي وغيرها من الاتجاهات التي تولى اهتماما خاصا بالثقافات المهمشة في محاولة لكسر المركزية الغربية والبحث عن مسارات أخرى للتطور بخلاف المسار الأوربي . وقد توج كل ذلك بتدشين مرحلة فكرية جديدة في مناهضة الاستعمار والامبريالية سميت "ما بعد الكولونيالية " جعلت من ادوارد سعيد عميدا لها.
انتهي .
عبد المنعم عجب الفيا
المراجع :
1- Edward W. Said ,Orientalism , Western Conceptions of the Orient, Penguin 1995
2- الاستشراق : المعرفة ،السلطة، الانشاء – ادوارد سعيد – ترجمة كمال أبو ديب – مؤسسة الابحاث العربية – بيروت - الطبعة الرابعة 1995 .
3- الاستشراق والاستشراق معكوسا – صادق جلال العظم – نشر بمجلة الحياة الجديدة فبراير 1981 واعيد نشره بكتابه : ذهنية التحريم – دار المدى –بيروت - الطبعة الثانية 2004
4- مهدي عامل - هل القلب للشرق والعقل للغرب ؟ ماركس في استشراق ادوارد سعيد – دار الفارابي – بيروت – الطبعة الثالثة 2006
5- الاستشراق بين دعاته ومعارضيه : مكسيم رودنسون ، فرانسيسكو غابريلي ، كلود كوهين ، بيرنارد لويس ،محمد اركون ، آلان روسيون - ترجمة واعداد هاشم صالح – دار الساقي الطبعة الثانية 2000
* Keith Windschuttle, Edward Said Orientalism" revisited”, The New Criterion: The New Criterion