الجزء الأول
ظهرت في الشهور الأخيرة عدة دواوين شعرية، فأثارت كثيراً من اللغط في الصحف، وكثرت الكتابة الرديئة والحسنة، شاع الحديث بمناسبتها عن الشعر والأدب.
ولقد كان في نيتي ألا أتعرض لهذه الدواوين بخير أو شر، لأن نفوس الأدباء بمصر تضيق ذرعاً بالملاحظة والنقد، ولا تتسع الصدور لكلمة الحق، ويقل التسامح، وتغلق أبواب النظر وسعة الفكر ورحابة العطف الفكري. ولأن معظم من يكتب أو ينظم الشعر يعتقد أن الأدب نوع من الملكية الفردية يسوء صاحبها ألا نقول كلمة إطراء عن بضاعته.
غير أن الحديث قد تشعب في الأونة الأخيرة في الصحف والمجلات الأدبية عن هذه الدواوين، ويسوء الناقد أن يرى أن معظم ما كتب في هذا الموضوع لا يوجه القاريء الراغب في الفهم، ولا يصلح الأذواق الأدبية ويوجهها وجه الصدق وطريق الصلاح الأدبي.
وسبب آخر كان ينأى بنا عن الكتابة في هذا الموضوع، وهو أن صاحب " وراء الغمام" صديق عزيز علينا، أهدى إلينا ديوانه ليلة ظهوره، وكذلك فعل صاحب "الملاح التائه" . وهما بلا شك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس إلى صحبتهما، غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيراً هذين الأديبين إلى ما هو أخطر وأبعد شأناً ، تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة، وأن الأقلام قد خطت في هذا الطريق بكلام نعد معظمه خطراً على الحركة الأدبية في مصر، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي تفهم به في الوقت الحاضر.
ولهذا رغبنا في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم، ولكن لندلي برأي في الشعر كما نقرأه ونفهمه، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه..
وأول ما يلاحظ على هاتين المجموعتين أن ديوان "وراء الغمام" يكاد ينحصر في الحب ومطالبه، وأن موضوعات "الملاح التائه" تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة الكبرى كالبحر والليل، , وأن أكثر أخيلته وألفاظه هي عن النسائم والأمواج والشواطيء العامرة أو المهجورة ، وما إليها من "الشعريات" التي تواضع العرف الدارج على أنها "الطبيعة" فأولهما إذن يمكن تسميته "بشاعر الحب" والثاني "بشاعر الطبيعة" فكيف يفهم صاحبنا الأول الحب. وكيف يعي الثاني بالطبيعة، وإلى أي شيء منها يتلفت ذهنه؟ .
والمفروض بالبداهة أن مثل هذا الشعر يكتب ليقرأه الرجل المصري أو العربي المثقف . الملم بشيء من حضارة هذا العصر وثقافته، الشاعر "يعي" هذا الزمن الذي يعيش فيه. والذي تشغله آراء ومسائل تثير شكوكه أو تبعثه على التفكير والتأمل والإنتاج الفني.
فلنتكلم عن الحب كموضوع شعري يتناوله أي شاعر عصري، يود أن يقرأه أي مخلوق حي شاعر في القرن العشرين، فليس ثمة شك في أن الحب كحاجة "فسيولوجية" هو كحاجة أي مخلوق حي إلى الأكل والنوم. وهو مظهر عادي تشترك جميع الأحياء فيه "ويمكن أن يقال أن النبات والجماد يعرفان الحب أيضاً والسلب والأيجاب من قوانين الكون بأجمعه) .
حينما أجلس إلى أي صديق هاديء فيحدثني عن متاعبه، وما يستحسن من الأكل وما يستهجن وعما يحب أو يكره من ألوان الثياب، ولكني لا أطيق كقاريء حي أن أستمع إلى شعر لا يتعدى نغمه مثل ذكر تلك الأشياء الأولية وإلا لكان كل فرد منا شاعراً، لأن لكل فرد حاجاته وأذواقه وشئونه التي تتعلق بالحب والأكل والنوم والمجي والذهاب. فأنما هذه أبجدية كل أنسان.
أصدقائي ! .. أن هذا الشيء الذي نمسيه شعراً والذي نود أن نقرأه نحن الأحياء العارفين لعالم الحبر والورق، هو خلاف "الكلام الحسن" عن الأشياء العادية. أنه يتطلب وجود شاعر يأكل كبقية الناس ولا شك، ويحب مثلهم، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية "غير عادي" . وهو شيء آخر خلاف ما يحس عامة الناس ويقفون عنده. ومن هنا كانت قيمة الشاعر الحق. أي أنه (ولو أنني لا أود استعمال الكلمة ولكنها كبير الدلالة) فيلسوف. فالحب يصبح موضوعاً جديراً بالشعر كما تصبح أية حاجة إنسانية أخرى حينما يكتشف لنا الشاعر معنى ونغماً وراء مظاهره المعروفة ومصاحباتها العادية.
أما الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، (مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع) لا يعدو أن يكون إنساناً لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجاته البسيطة المتعارفة، وهو يشبه العليل الذي أكتشف لذة الخبز لأول مرة، أو الرجل الصحيح الذي حيل بينه وبين النوم ، فيفرح الأول حينما يتناول وجبة فاخرة، ويتألم الثاني لذلك النوم الهنيء الذي طلقه الآن، وهذه ولا شك أشياء إنسانية عادية لا غبار عليها ولا نقد فيها، ولكن ليس فيها ما يبرر وضعها فناً يسترعي إهتمام القاريء الصحيح، ‘وربما يصلح مثل هذا الشعر ويحمل عند أناس هم دون طبقة هذا "الكوكب الجديد" الذي أكتشف "قارة الأكل" أو "قارة المرأة" ثم وقف يسبح بحمدهما
. والدكتور ناجي بعد كل هذا قرأ بعض قصائد "د هـ لورنس) وت. س إليوت " وأضرابهما من الشعراء المحدثين والقدماء عن الحب، أولئك الشعراء الذين تراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهم "وحقيبة وعيه" ملأى بالأحاسيس المختلفة، والأفكار المريرة أو العذبة، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي يسمو إلى طبقات السماء، وبالسحر الذي يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يعلب به صغار الأطفال".
ونحن لا نريد من هذا الحديث أن يقلد أي أديب أحاسيس غريبة عن نفسه بعيدة عن مطارح فكره، ولكن كقراء مخلصين نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويسعد ويشجي القاريء المعاصر، أن يريحنا ولا يكلف نفسه هذا الجهد. ففي الحياة من التفاهات اليومية، وفي إطراد هذه الحاجات التي نتشعر بها في صباحنا ومسائنا ما يجعلها عسيرة الإحتمال، ويضاعف مشقة العيش، فليس بنا ثمة حاجة إلى أن نقرأها في عالم الورق.
والشاعر العصري ـــ سواء في مصر أو في الصين ـــ الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر ، وإكتشافاته ومتاعبه، والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب في نظام حياتنا الحاضرة، أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر، أو ألوان تسترعى الإهتمام في نسيج الثوب الذي يلفنا، أو فراغ في إنسان باديء الإمتلاء أو أغنية في زاوية من زوايا بيتنا المعنوي، ليس له، بل لنا الحق في ألا نعده في عداد الشعراء المخلصين.
والظاهر أن شعراءنا يعيشون في أجسام محدودة الفكر والإحساس بحدود جسدها وغرفتها التي تسكن، وأن الأشياء التي تبعث الرجل المعاصر على أن يفكر ويضطرب أو يغني لا تدنو منه أو هو لم يعرفها قط . أن نظرة واحدة حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلاً في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكار تصلح لأن تكون قصيدة جيدة اذا كان له من الشعر نصيب.
والذي يبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أيضاً أن ليس في حياتهم الفكرية والشعورية أي شيء يشبه الصحاري العارية الجرداء، أوالظلمات الحالكة ، أو البرق الخاطف ، أو الخبرة الشاعرة أو أي إشتغال جدي بأي ناحية من نواحي حياتنا الراهنة. وأن الشكوك والمذاهب والقيم الفكرية التي تحرك الفنان العصري في أوروبا إلى الثورة حينا، وإلى السأم حينا آخر ، أو إلى أي فلسفة أو "عدم فلسفة" يكتشفها الفنان المرهف الإحساس، الواسع العطف، القدير الفهم، وراء مظاهر الحياة اليومية من عمل ونوم وأكل وحب ، ومال وجنس، ما يجعله يقف وقفة قصيرة أو طويلة يحاسب العالم بأجمعه، أو يجرؤ على حوار مع الطبيعة أو الأحياء أو ما وراءهما، لم تدن منه أو هو لم يعرفها أبداً .
ليس الشعر أيها الأصدقاء بالمادة الكاملة الصنع التي يمكن أن نشتريها جميعاً من الحانوت، أو يمكن صنعها كما تصنع الثياب على هذا الطراز أو ذاك، إنما الشعر هو تجربة حية يحسها شخص حي ، ويبصرها وجدان نير، وهي تجربة فريدة لم تحصل ولم تر إلا كما حصلت وكما رآها ذلك الشخص الحي، ثم يحاول نقلها وإيصالها عن طريق الكلام والإيقاع ــ على قدر مهارته ــ إلى أمثاله من الأحياء الشاعرين.
وشعر صديقنا ناجي مازال نغماً واحداً بسيطاً لا يتعدى ــ بعد زخرفة النظم ــ إحساس رجل عادي حينما يرى وجها مشرقاً، أو جسماً جميلاً أو عملاً عظيماً يقف مشدوهاً ويقول: مأحلى ذلك الوجه، وأنها لتبدو لي في بداءتها وطفولتها بما يسمى "رد الفعل" . وليصدقني القاريء أن هذا هو كل ما يخرج به الإنسان من شعر ناجي بعد تجريده من صناعة "الكلام" ورنين القافية.
ظهرت في الشهور الأخيرة عدة دواوين شعرية، فأثارت كثيراً من اللغط في الصحف، وكثرت الكتابة الرديئة والحسنة، شاع الحديث بمناسبتها عن الشعر والأدب.
ولقد كان في نيتي ألا أتعرض لهذه الدواوين بخير أو شر، لأن نفوس الأدباء بمصر تضيق ذرعاً بالملاحظة والنقد، ولا تتسع الصدور لكلمة الحق، ويقل التسامح، وتغلق أبواب النظر وسعة الفكر ورحابة العطف الفكري. ولأن معظم من يكتب أو ينظم الشعر يعتقد أن الأدب نوع من الملكية الفردية يسوء صاحبها ألا نقول كلمة إطراء عن بضاعته.
غير أن الحديث قد تشعب في الأونة الأخيرة في الصحف والمجلات الأدبية عن هذه الدواوين، ويسوء الناقد أن يرى أن معظم ما كتب في هذا الموضوع لا يوجه القاريء الراغب في الفهم، ولا يصلح الأذواق الأدبية ويوجهها وجه الصدق وطريق الصلاح الأدبي.
وسبب آخر كان ينأى بنا عن الكتابة في هذا الموضوع، وهو أن صاحب " وراء الغمام" صديق عزيز علينا، أهدى إلينا ديوانه ليلة ظهوره، وكذلك فعل صاحب "الملاح التائه" . وهما بلا شك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس إلى صحبتهما، غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيراً هذين الأديبين إلى ما هو أخطر وأبعد شأناً ، تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة، وأن الأقلام قد خطت في هذا الطريق بكلام نعد معظمه خطراً على الحركة الأدبية في مصر، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي تفهم به في الوقت الحاضر.
ولهذا رغبنا في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم، ولكن لندلي برأي في الشعر كما نقرأه ونفهمه، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه..
وأول ما يلاحظ على هاتين المجموعتين أن ديوان "وراء الغمام" يكاد ينحصر في الحب ومطالبه، وأن موضوعات "الملاح التائه" تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة الكبرى كالبحر والليل، , وأن أكثر أخيلته وألفاظه هي عن النسائم والأمواج والشواطيء العامرة أو المهجورة ، وما إليها من "الشعريات" التي تواضع العرف الدارج على أنها "الطبيعة" فأولهما إذن يمكن تسميته "بشاعر الحب" والثاني "بشاعر الطبيعة" فكيف يفهم صاحبنا الأول الحب. وكيف يعي الثاني بالطبيعة، وإلى أي شيء منها يتلفت ذهنه؟ .
والمفروض بالبداهة أن مثل هذا الشعر يكتب ليقرأه الرجل المصري أو العربي المثقف . الملم بشيء من حضارة هذا العصر وثقافته، الشاعر "يعي" هذا الزمن الذي يعيش فيه. والذي تشغله آراء ومسائل تثير شكوكه أو تبعثه على التفكير والتأمل والإنتاج الفني.
فلنتكلم عن الحب كموضوع شعري يتناوله أي شاعر عصري، يود أن يقرأه أي مخلوق حي شاعر في القرن العشرين، فليس ثمة شك في أن الحب كحاجة "فسيولوجية" هو كحاجة أي مخلوق حي إلى الأكل والنوم. وهو مظهر عادي تشترك جميع الأحياء فيه "ويمكن أن يقال أن النبات والجماد يعرفان الحب أيضاً والسلب والأيجاب من قوانين الكون بأجمعه) .
حينما أجلس إلى أي صديق هاديء فيحدثني عن متاعبه، وما يستحسن من الأكل وما يستهجن وعما يحب أو يكره من ألوان الثياب، ولكني لا أطيق كقاريء حي أن أستمع إلى شعر لا يتعدى نغمه مثل ذكر تلك الأشياء الأولية وإلا لكان كل فرد منا شاعراً، لأن لكل فرد حاجاته وأذواقه وشئونه التي تتعلق بالحب والأكل والنوم والمجي والذهاب. فأنما هذه أبجدية كل أنسان.
أصدقائي ! .. أن هذا الشيء الذي نمسيه شعراً والذي نود أن نقرأه نحن الأحياء العارفين لعالم الحبر والورق، هو خلاف "الكلام الحسن" عن الأشياء العادية. أنه يتطلب وجود شاعر يأكل كبقية الناس ولا شك، ويحب مثلهم، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية "غير عادي" . وهو شيء آخر خلاف ما يحس عامة الناس ويقفون عنده. ومن هنا كانت قيمة الشاعر الحق. أي أنه (ولو أنني لا أود استعمال الكلمة ولكنها كبير الدلالة) فيلسوف. فالحب يصبح موضوعاً جديراً بالشعر كما تصبح أية حاجة إنسانية أخرى حينما يكتشف لنا الشاعر معنى ونغماً وراء مظاهره المعروفة ومصاحباتها العادية.
أما الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، (مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع) لا يعدو أن يكون إنساناً لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجاته البسيطة المتعارفة، وهو يشبه العليل الذي أكتشف لذة الخبز لأول مرة، أو الرجل الصحيح الذي حيل بينه وبين النوم ، فيفرح الأول حينما يتناول وجبة فاخرة، ويتألم الثاني لذلك النوم الهنيء الذي طلقه الآن، وهذه ولا شك أشياء إنسانية عادية لا غبار عليها ولا نقد فيها، ولكن ليس فيها ما يبرر وضعها فناً يسترعي إهتمام القاريء الصحيح، ‘وربما يصلح مثل هذا الشعر ويحمل عند أناس هم دون طبقة هذا "الكوكب الجديد" الذي أكتشف "قارة الأكل" أو "قارة المرأة" ثم وقف يسبح بحمدهما
. والدكتور ناجي بعد كل هذا قرأ بعض قصائد "د هـ لورنس) وت. س إليوت " وأضرابهما من الشعراء المحدثين والقدماء عن الحب، أولئك الشعراء الذين تراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهم "وحقيبة وعيه" ملأى بالأحاسيس المختلفة، والأفكار المريرة أو العذبة، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي يسمو إلى طبقات السماء، وبالسحر الذي يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يعلب به صغار الأطفال".
ونحن لا نريد من هذا الحديث أن يقلد أي أديب أحاسيس غريبة عن نفسه بعيدة عن مطارح فكره، ولكن كقراء مخلصين نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويسعد ويشجي القاريء المعاصر، أن يريحنا ولا يكلف نفسه هذا الجهد. ففي الحياة من التفاهات اليومية، وفي إطراد هذه الحاجات التي نتشعر بها في صباحنا ومسائنا ما يجعلها عسيرة الإحتمال، ويضاعف مشقة العيش، فليس بنا ثمة حاجة إلى أن نقرأها في عالم الورق.
والشاعر العصري ـــ سواء في مصر أو في الصين ـــ الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر ، وإكتشافاته ومتاعبه، والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب في نظام حياتنا الحاضرة، أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر، أو ألوان تسترعى الإهتمام في نسيج الثوب الذي يلفنا، أو فراغ في إنسان باديء الإمتلاء أو أغنية في زاوية من زوايا بيتنا المعنوي، ليس له، بل لنا الحق في ألا نعده في عداد الشعراء المخلصين.
والظاهر أن شعراءنا يعيشون في أجسام محدودة الفكر والإحساس بحدود جسدها وغرفتها التي تسكن، وأن الأشياء التي تبعث الرجل المعاصر على أن يفكر ويضطرب أو يغني لا تدنو منه أو هو لم يعرفها قط . أن نظرة واحدة حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلاً في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكار تصلح لأن تكون قصيدة جيدة اذا كان له من الشعر نصيب.
والذي يبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أيضاً أن ليس في حياتهم الفكرية والشعورية أي شيء يشبه الصحاري العارية الجرداء، أوالظلمات الحالكة ، أو البرق الخاطف ، أو الخبرة الشاعرة أو أي إشتغال جدي بأي ناحية من نواحي حياتنا الراهنة. وأن الشكوك والمذاهب والقيم الفكرية التي تحرك الفنان العصري في أوروبا إلى الثورة حينا، وإلى السأم حينا آخر ، أو إلى أي فلسفة أو "عدم فلسفة" يكتشفها الفنان المرهف الإحساس، الواسع العطف، القدير الفهم، وراء مظاهر الحياة اليومية من عمل ونوم وأكل وحب ، ومال وجنس، ما يجعله يقف وقفة قصيرة أو طويلة يحاسب العالم بأجمعه، أو يجرؤ على حوار مع الطبيعة أو الأحياء أو ما وراءهما، لم تدن منه أو هو لم يعرفها أبداً .
ليس الشعر أيها الأصدقاء بالمادة الكاملة الصنع التي يمكن أن نشتريها جميعاً من الحانوت، أو يمكن صنعها كما تصنع الثياب على هذا الطراز أو ذاك، إنما الشعر هو تجربة حية يحسها شخص حي ، ويبصرها وجدان نير، وهي تجربة فريدة لم تحصل ولم تر إلا كما حصلت وكما رآها ذلك الشخص الحي، ثم يحاول نقلها وإيصالها عن طريق الكلام والإيقاع ــ على قدر مهارته ــ إلى أمثاله من الأحياء الشاعرين.
وشعر صديقنا ناجي مازال نغماً واحداً بسيطاً لا يتعدى ــ بعد زخرفة النظم ــ إحساس رجل عادي حينما يرى وجها مشرقاً، أو جسماً جميلاً أو عملاً عظيماً يقف مشدوهاً ويقول: مأحلى ذلك الوجه، وأنها لتبدو لي في بداءتها وطفولتها بما يسمى "رد الفعل" . وليصدقني القاريء أن هذا هو كل ما يخرج به الإنسان من شعر ناجي بعد تجريده من صناعة "الكلام" ورنين القافية.