قصي مجدي سليم - معاوية محمد نور: استعراض واستقصاء المثقف الحق

أكثر تلاميذي نجابةً ونبوغاً وذا مستقبل واعد، صبيٌ نحيل الجسم وسيم الطلعة يدعى معاوية نور
(ادوارد عطية)
لو عاش معاوية لكان نجما مفردا في سماء الفكر العربي
(العقاد)
أميز ما يميز معاوية عندي، هو أنه لم يحس بالدونية تجاه أحد من العالمين
(النور محمد حمد)


في مقال له ممتاز الصنعة واللغة والموضوع تناول الأستاذ الفنان النور حمد جانبا من حياة وفكر معاوية نور(1909-1941-او ربما 1942)[1].. لم يقف المقال عند حد التعريف بمعاوية وأعماله كما يفعل الناس عادة بل تناول المقال جانبا مهما في علاقة المستعمِر بمستعمَريه وروح الدونية التي تصاحب المستعمَر وبإستشهادات ذكية خلص المقال الى ما يميز معاوية نور عند الكاتب..
وما يميز معاوية عندي أنه بالإضافة لبرءه من عقدة الدونية – التي اشار لها استاذي الفاضل/ النور محمد حمد- فهو قد زاوج بين بغضه للإستعمار في شكله الإستغلالي وبين حبه للحضارة الغربية في شكلها الفني والأدبي والعلمي!
هذا التزاوج قد أنتج لنا الفنان المفكر المبدع، والثائر الرافض والوطني الغيور في بوتقة متوائمة قل أن تجدها في انسان..
ومعاوية الفنان قد قرأ وتثقف بثقافة عصره، ثم انه ناضل من أجل أن ينال هذا التثقيف في بيئة لا شأن لها بالفكر ولا حاجة لها بالثقافة!! قرأ وهو صبيا (برنارد شو وأناتول فرانس وجين أوستن وأولدس هكسلي)[2] وغيرهم من الأدباء والمفكرين فاستحق بجدارة الإهتمام والملاحظة من استاذه ادوارد عطية الذي التحق بالتدريس حوالي عام 1925فلحظ في الصبي ما لحظ من ذكاء ونبوغ.
ناضل معاوية حتى حقق رغبته وأقنع (خاله)، رب أسرته، بالسفر الى بيروت للدراسة بالجامعة الأمريكية هناك بعد أن تخلى عن كلية الطب بالسودان. وبعد أن فرغ من دراسة الأدب الإنكليزي ذهب الى مصر واتصل بالعقاد.. ولقد حكى لي استاذي المرحوم/ عمر علي أحمد التروِّس، ولقد كان عليه رحمة الله من المداومين على ندوة العقاد بالقاهرة، حكى لي عن أول لقاء جمع العقاد بأديبنا معاوية.. لقد كان العقاد يجلس في مكتبة ومعه مجموعة من أصدقائه وفجأة يدخل شاب في مفتتح الشباب وخواتيم الصبا أسود اللون وسيم الطلعة ويبدأ في إنتقاء مجموعة من الكتب وعندما هم بالخروج نده عليه العقاد قائلا:
-تعال يلا
فذهب معاوية نحوه بثقة وإعتداد، فأخذ العقاد من يديه الكتب وقلبها وقال:
-مين باعتك بالكتب دي؟
أجاب معاوية بهدوء:
-هذه الكتب لي
قال العقاد:
-إنت تقرأ للكاتب ده (ولوح بكتاب)
قال معاوية وإبتسامة في شفتيه:
-قرأت له قبلها كتاب كذا وكذا وكذا وكذا.....
نظر العقاد الى أحدهم وقال:
-قوم يا بغل.. إجلس يابني..
***
لقد بهر نور معاوية كل من قاربه.. لقد كان شهابا يمضي بسرعة فيغشي الأبصار أو كما قال الأديب الفنان النور حمد:
(خرج معاوية على الحياة الفكرية السودانية في عشرينات القرن الماضي كما الشهاب، متوهجاً، مندفعاً في قوة، وكما الشهاب أيضاً، انطفأ، وتفتت، وتناثرت طاقته الجبارة، في ظلمة السديم الشاسعة.)
وعندما يقرأ المرء موسم الهجرة الى الشمال وينظر في الوصف الأريب لمصطفى سعيد ولعقله الذي يعمل كالمدية الحادة ثم يقرأ لمعاوية نور يجد تلك المدية العقلية حاضرة مع فارق الوعي الزائد الذي وائم بكل بساطة ووضوح بين المكتسبات البشرية الحضارية وبين الأخطاء الإستعمارية الكولونولية، فلم تأخذه العقدة ليقف حائرا متخبطا بين رغبة دفينة للإنتقام وبين حضارة غربية ينهل منها.. فهو يرد على كاتب فاضل رأى أنه لا يمكن للعرب أن يعيشوا من منهل الثقافة الغربية فقال له معاوية:
(فليست هنالك حضارة غربية محضة أولاً ثم حضارة شرقية خالصة ثانياً. وليس من السهل أن نتكلم في شؤون الفكر والفن فنقول هذا لهذا وهذا لذاك!. وإنما الثقافة تراث إنساني ليس لإنجلترا أو النمسا أو الصين أن تستأثر به وتقول للآخذ منه "هذا لي وليس لك فيه أي حق")
الى أن يقول:
(والثقافة حق مشاع، وليس لأي شعب أن يستأثر بها. وهي حق الإنسان وحق الإنسانية وصلت إليه بعد تاريخ طويل من التضحيات وقيام مدنيات وإنهيار أخرى.)
الى أن يقول:
(فإذا فرغنا من هذا الذي نقرر وددنا أن ننتقل إلى فكرة أخرى بديهية ولكنها في مصر تحتاج الى تقرير وإثبات! وهي أن الآداب في أي أمة من الأمم لا تنتعش ولا تثمر إلا تحت تأثير ثقافة أجنبية تخفزها. هذا ما حصل في العصر العباسي، وما حصل في عصر النهضة الأوروبية، وما يحصل كل يوم بين كل الشعوب. وهو ما يحصل في مصر الآن وما نود أن يحصل بصورة أتم وأجلى.)
اذن فمعاوية الدارس للغرب ولأدبه وفنونه لم يتعامل مع الأمر من منطلق الدونية أو الإنمحاق المُذهِب للكينونة البشرية.. بل هو التفاعل الإنساني الذي يأخذ القيمة من الحضارة ويترك القشور مستلهما التاريخ الإنساني الطويل وصراعه الممتد لإنشاء الإرث الإنساني ككل.
هذا أكثر ما يمز معاوية نور عن الحركة الفكرية والسياسية والفنية السودانية في تلك الحقبة التي عاش فيها ولو صبر قليلا لما وجد أكثرهم مثله.
ما يميز معاوية أيضا هو شجاعته منقطعة النظير والتي سولت له أن ينتقد من هم أباطرة في عالمنا العربي وآلهة لا تعبد ولا تمس.. ولقد كان معاوية مركا لخطورة دوره لا مجرد متهور لا يعلم ما يصنع فيقول في مقاله أصدقائي الشعراء:
(ولقد كان في نيتي ألا أتعرض لهذه الدواوين بخير أو شر، لأن نفوس الأدباء بمصر تضيق ذرعاً بالملاحظة والنقد، ولا تتسع الصدور لكلمة الحق، ويقل التسامح، وتغلق أبواب النظر وسعة الفكر ورحابة العطف الفكري. ولأن معظم من يكتب أو ينظم الشعر يعتقد أن الأدب نوع من الملكية الفردية يسوء صاحبها ألا نقول كلمة إطراء عن بضاعته.)
فهو هنا يعلم السايكلوجية المصرية وضيقها بالنقد والملاحظة.. أكثر من هذا فإنه لا تغلق أبواب سعة الفكر فقط بل ضيق الفكر قد يغلق في وجهه أبواب الرزق أيضا.. ولكن هل كان يأبه!! هل كان يكترث؟!! بالطبع لا.. لقد وجه نقده "لناجي" و"للمهندس" ولكنه لم يكتف بهذا بل إمتد به النقد حتى طال "شوقي" و"المازني" بل و"طه حسين" نفسه.. وهل مع هذا كان مجرد يافع يحاول أن يصنع لنفسه مجدا بنقد الكبار؟!! بالطبع لا.. فأنت عندما تقرأ نقد معاوية للمازني يروعك أمران:
أولهما: سرقات المازني الأدبية التي تعصف به ككاتب فني
وثانيهما: سعة إطلاع معاوية التي لا تقف عند حد
يقول معاوية:
(ويجب أن نقرر ونحن نتحدث عن سرقات المازني أن الأديب الذي يعثر له النقاد على أشياء كثيرة مسروقة تقل قيمته عندهم، والسرقة في الأدب داء. والمازني مصاب بهذا الداء لا يستطيع أن يقرأ قطعة فكاهة جميلة "لمارك توين" أو هنري أو غيرهما من كتاب الفكاهة في أمريكا والمانيا وإنجلترا إلا ويركبه عفريته الذي إستراح إلى كتفه كما يقول يغريه بسرقتها وإدعائها لنفسه. ولا أدري كيف يستسيغ المازني ذلك وهو يعرف أن في البلاد أناساً يقرأون مثل ما يقرأ على الأقل، وهم لا بد عاثرون اليوم أو غداً على ما كتب وادعاه لنفسه !)
أكثر من هذا فإن معاوية يخبرك من أين أتى "طه حسين" بفكرة كتابه (في الشعر الجاهلي) و من أين أتى ب(حديث الاربعاء) وكيف لم يوفق شوقي في مجاراة شكسبير وكيف أخذ "لاشين" مسرحية تشكوف –وأظن أن معاوية قد كان يقصد مسرحية الدب لتشيكوف- وحولها لقصة بعنوان (لكنها الحياة)!! والقائمة تطول ولا سبيل لحصرها اليوم
لهذا فعندما يتسائل كاتب مصري (لماذا لا نأخذ جائزة نوبل) فإن معاوية يمتلك الجواب برؤية علمية وصدق وصبر، يحكي له لماذا وكيف..
وعندما يتسائل آخر (هل نعيش على موائد الغرب الى الأبد) كانت اجابته حاضرة ب(لا) ثم يردف:
(ولكننا نسأل الكاتب الفاضل الذي أزعجنا بالحديث عن الحطيئة وأمثاله من الشعراء "هل نعيش على أدب العرب إلى الأبد؟ ذلك ما أود الجواب عليه!. وليفهم حضرة الكاتب الفاضل أن الحديث عن الأدب العربي وفضله عن كل أدب وثقافة، هو حديث سطحي لا يدل على علم ولا بصر بحقيقة الأمور.)
لا.. لم يهادن معاوية، فالفكر عنده إلتزام صادق وروح دائمة مشتعلة تنقح وتبحث وتناقش وهي مع هذا روح جادة ملتزمة بقضية الفكر وبقضية الأدب هذا هو ما يجعلك تظن عندما تراه بأنه سيعيش الى الأبد!! فكأنه خلاصة الحياة الفكرية ونهايتها لهذا تجده في تجدد مستمر وتطور لا يتوقف وكأنه يسير بك الى السرمد..هذا ما دفع العقاد للقول:
بكائي على ذاك الشبابِ الذي ذوى = وأغصانه تَخْتالُ في الروض نامية
تبينت فيه الخلد يوم رأيته = وما بان لي أن المنية آتية
وأظن أنه لولا معاوية الناقد لما شهد وادي النيل عملاقيه (نجيب محفوظ) و (الطيب صالح).. فكلاهما –وبلا شك عندي- قد إهتدى بهديه في الإلتزام الأدبي وامتثل له في النقد الفني فنراهما يتركان ما ناشد به أن يترك ويفعلان ما طالب به أن يفعل.
ومعاوية هذا الذي نتحدث عنه لا يلاقي من الاجلال والإحترام حقه الكافي "كشأن العباقرة في بلادي" بل في بعض الأحيان تجد الإشارة له بصورة غير دقيقة.. أكثر من هذا فإن كثيرين لا يعرفون من هو معاوية نور حتى!! وان عرفوا جهلوا له أدوارا ريادية في القصة والنقد!!
لقد كان معاوية هو الرايد الأول للقصة القصيرة (الناضجة) في الوطن العربي والرايد الأوحد للقصة القصيرة التحليلية في العالم العربي وأفريقيا..فهل هناك من يبحث في هذا؟! وهل هناك من "يفلق" رأسنا كما يفعل المصريون بكتابهم؟! بالطبع لا.. هذي بلاد لو مر منها نبي لما حفلوا به!!
ومعاوية الوطني:
فمعاوية ليس مجرد أديب-والسلام- إنه رجل مفكر في المقام الأول (كما أعدنا وكررنا ولن ننفك) رجل يمتلك رؤية لما يجب أن تكون عليه الأحوال.. فقط.. وربما.. أنه لا يعرف لهذه الرؤية سبيلا واضحا يهتدي به فهناك إشارات أن معاوية قد كان ذو ميولا شيوعية الا أنه تخلى عن تلك الميول لاحقا وفي أواخر سنين حياته لصالح عقله الحر الذي لا يكل عن البحث والتنقيب –وإن صحت هذه الإشارات فإن معاوية يكون قد سجل موقفا جديدا في الالتزام الفكري. لهذا فإن معاوية ما انفك معارضا للسياسات الاستعمارية فاهما لأبعادها الاستغلالية وكاشفا لمخططاتها التوسعية(هذا مع تزامن فكري وفصله للجانب الايجابي في الحضارة الغربية كما اشرنا)..
ومعاوية لا تعجبه –بالطبع- الحالة السياسية العامة ورغم أن الوقت لم يكن قد حان بعد لمواجهة الإستعمار الانكليزي بصورة ناضجة ومكتملة الا أن معاوية قد وجه نقده للسياسات الانكليزية في السودان.. خصوصا في تخطيط المدن ومعالجة الفقر ونشر التعليم ورفضه للإدارة الأهلية فكانت سلسلة (ماذا يحدث في السودان).. ولعل من الطريف أن مقالا كتبه معاوية عن امدرمان في اواخر العقد الثاني من القرن الماضي ينفع أن يكتب عن أمدرمان الآن خصوصا ما ذكره عن سوق العناقريب والمراكيب وعن البؤس والملاريا والفقر وسوء التخطيط وكأن أمدرمان قد كتب عليها التهميش من الجميع..
يغيظه أن يرى بلاده تعاني الفقر والمرض والجهل، وهو -مع هذا- ذو نزعة إشتراكية واضحة يؤلمه وجع الناس ويؤرق مضجعه البؤس والمعاناة.. ففي مأساته (في القطار) صور لنا بطريقة مريعة أقصى درجات البؤس الانساني في صراعه المستمر من أجل البقاء مع أقصى درجات الامبالة التي تحولنا الى كائنات غريبة لا تمتلك حتى الإحساس الحيواني المتبلد.. فصورة الأم وإبنها وهما يحاولان –دون جدوى- بيع شاييهما الذي أنفقا فيه قرشين والموقف الدرامي المؤثر للأم وهي توبخ إبنها ثم ذهابهما متعانقين باكيين يقابله بكل (جليطة):
(وابتعد القطار رويدا رويدا، وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملوء لوعة واسى (( شا... آآ..آي)) ما زال يرن في أذني، وإذا بصراخ أفندية القطار يقطع علي تفكيري وذكراي فهو ينادي الجرسون (واحد بيرة، بس خلي الثلج يكون كثير شوية، فاهم! ) وقام البعض يلبس ملابسه ويصلح من هندامه استعدادا لطعام العشاء، وقال احدهم وهو يربط رباط الرقبة (يالله .. أيه ... يا ولاه.... آنت ليه ما جبتش الكرافتات الحرير؟ ابق ذكرني علشان ما ناخذ دسته من دفس براين!!) واتي من بعد ذلك خادم (الرستوران) مشيرا الى ان طعام العشاء قد آن، فقام البعض في مشية متثاقلة كلها خيلاء وكبرياء، وراينا هناك نفرا من الموظفين الانجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات المضحكة ويدخنون. وكنت تسمع الافندية من ركاب الدرجة الاولى والثانية وهم على مائدة الطعام الانيقة ينادون بين حين واخر ( واحد توست) بينما القطار في عدوه لا يلوى على شيء.)
هل هذه هي عوالم معاوية؟! بالطبع لا.. فالشاب الذي قضى في الثانية(أو الثالثة) والثلاثين لم يك سهل المراس ولم يك خامل النشاط ولم يكُ قليل الانتاج.. ولو عاش، ربما، لكان كما قال العقاد في مفتتح المقال (نجما مفردا في سماء الفكر)!! لهذا فإن الدخول في عوالم معاوية يقتضي تأدبا وتفهما وصبرا ودقة لا أظن أن هذا المقال ولا عشرات مثله تتسع لهذا.. ولكن حسبنا أن نحاول في هذه البركة الساكنة أن نثير في شخص ما رغبة ما فيقوم ويفعل ما عجزنا عنه..
هذا دون أن ننسى ما قام به آخيرا الأستاذ (السني بانقا) من دراسة طريفة نشرت في كتاب صغير الحجم قدم له الأديب الراحل (الطيب صالح).. وأيضا لا ننسى جهد الأستاذين (الطاهر محمد علي و رشيد عثمان خالد) لقد كان الأول هو من أخرج أول مجموعة مقالات لنور صدرت حوالي عام 1970 ورغم أن الأستاذ رشيد عثمان قد جمع مجموعته في فترة متأخرة عن ذلك التاريخ (حوالي عام 1964) الا أنها لم ترى النور الا في العام 1994 لهذا فإننا قد نشأنا على مجموعة الأستاذ الطاهر نتداولها وكأنها كتاب سري ونحافظ عليها بأرواحنا، وكانت على قلة ما فيها تمثل لنا عالما كاملا..
ولكن( تزداد قيمة نشرة الأستاذ رشيد لآثار معاوية نور أمام نشرة الطاهر في أنها لم تقتصر على الآثار الأدبية؛ بل أضافت مقالات سياسية في هجوم الاستعمار وضعها المحرر تحت باب "ماذا في
السودان".)[3]هذا بالإضافة لمجموعة الطاهر نفسها مضمنة فيها كل هذا في طبعة جديدة فخمة لم يأكل الدهر منها ولم يشرب فهرعنا اليها بقوة واقتنينا منها أكثر من نسخة (شرفة مننا) وشوقا لمعاوية الذي قرأنا له.
هذا جانب من معاوية الأديب ومعاوية السياسي ومعاوية المفكر ومعاوية الناقد ومعاوية القارئ لقد كان مبرزا في كل هذا ثم كان مبرزا في جانب آخر الا وهو معاوية (المحاور).. فعندما زار الكاتب أنرية موروا مصر قال معاوية:
(إنتهزت فرصة زيارته لمصر – في شهر مارس الماضي وطلبت منه أن أتحدث اليه في شئون الأدب والفن فأجابني الى طلبي، في أريحية وظرف)
لقد كان لقاءا رائعا ذكي الاسئبلة والتتابع ولطيف الاجابات وعميق الأفكار.. أكثر من هذا فإن معاوي قد أبان أوجهه العدة في ذلك اللقاء فتراه قد قرأ لأندرية مقالات يستشهد له بها في معرض اسئلته فيجيبه ذاك مبتسما.. وتراه ينقده في بعض ما قاله فيتجهم وجه أندرية لجدية الطرح ويوافقه في بعض الجوانب ويصحح ما يريد قوله بالضبط وليس من سبيل غي أن أنقل لك جانبا من ذلك الحوار الممتع:
نور: أذكر أنني قرأت لكم في أحد أعداد مجلة الأتلانتيك الأمريكية خطاباً لصديق فرنسي يرغب في زيارة إنجلترا، تنصحون له وتحدثونه عن الخلق الإنجليزي. وقد قلتم لذلك الصديق في مقالكم المذكور في فكاهه ظاهرة " أن الإنجليزي يدعوك لآن تزوره في كوخه الصغير في القرية الفلانية ، فإذا ذهبت تجد ذلك الكوخ قصراً كبيراً !! . وأنك سوف تحب الكتب الإنجليزية أكثر من كل شيء آخر، ولكن أياك أن تتحدث عن حبك لها – الى آخر ما قلت لذلك الصديق من هذا القبيل فهل ترون في ذلك إحتشاماً وتواضعاً أو هو نفاق وكبرياء؟
فابتسم وقال:
إنني أذكر ذلك المقال جيداً . والإحتشام medesty ربما جاء من فرط الضعف أو فرط القوة والطمانينة ، ومصدر إحتشام الإنجليزي وعدم تحدثه عن ممتلكاته ومعارفه بتأكيد والحاح هو أنه شاعر بقوته، واثق من نفسه. وأغلب ما يكون الرجل الكثير الكلام الكثير التأكيد ضعيفاً غير واثق مما يقول. فيلجأ الى الحديث ليوهم نفسه بوجود ماليس له وجود. وعليه فأنا لا أرى في هذه الصفة أي نفاق أو كبرياء ، وأنما أرى فيها إحتشاماً وأدباً وقوة خلق.
نور: أذكر أنكم عقدتم فصلا خاصاً في كتابكم "نواحي الترجمة" عنوانه "الترجمة[4]كتعبير ذاتي ومؤدى ذلك الفصل أن المؤلف يجب أن يأخذ حياة بطله الى نفسه وأن يعبر عنه بعد أن يرى رأيه، ويدير هواجسه في وجدانه وأفكاره في مطارح فكرة. أفلا ترون أن ذلك النهج حري بأن ينأي بالمؤلف عن محجة الصواب والوقائع، فيضع أشياء وأفكاراً وعواطف لا أصل لها في حياة البطل أو هي لم توجد بذلك القدر وعلى ذلك الوجه؟
أندريه: ذلك صحيح ولكنني لا |أعني التعبير عن النفس حرفياً و لا أقول بوضع أشياء لا وجود لها فعلاً في حياة البطل، وإنما أقول بضرورة العطف وتفهم وجه نظر من نترجم له"
تم إستأنف حديثه قائلاً وقد بدت عليه علائم التفكير وإستجماع الذهن:
"ولكي تصبح الترجمة عملاً فنياً يجب على المترجم أن يلاحظ عنصر التناسب في تخطيط كتابه، وأن يجعله من هذه الناحية مفهوماً واضحاً من غير أن يظهر أثر الذهن الذي يوضح ويقوم بعملية التخطيط والتوزيع".
هذا جانب آخر من جوانب معاوية.. فهل يمكن استقصاء جوانبه..
بالطبع لا..
[1] هناك اشارتان لتاريخ وفاة معاوية نور –راجع كتاب الطاهر محمد علي – وكتاب رشيد عثمان خالد-مجموعتي مقالات معاوية
[2] ادوارد عطية
[3]معاوية نورالآثاروالنشر :الفكي علي عبداللطيف
[4] مقصود بالترجمة هنا: الكتابة عن الاشخاص وسيرتهم لا الترجمة والنقل عن لغة أخرى.
.
أعلى