[ نذكره فى ميلاده...ونذكره بعد رحيله]
إلى صلاح عيسي...صباح الخير يا جميل
***
(القاهرة 2009)
ذات نهار شتوي، شديد البرودة، ذهبتُ إلى مكتب الكاتب الصحفي الكبير صلاح عيسى (1939- 2017) في مقر صحيفة "القاهرة" بحي الزمالك الراقي. وجدتُه يجلس، وأمامه مجموعة من المسودات، التي يدون فيها بعض مشاريع كتبه الجديدة، ليدفع بها إلى المطابع. بعد دقائق جاءت سكرتيرته بفنجان "نسكافيه بلاك" ووضعته أمامه، وبروفة من بروفات عدد من الصحيفة التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت. بعد دقائق خرجت السكرتيرة وشكرها قائلًا: "متشكر يا جميل". ابتسمتُ أنا. سألني: لماذا تبتسم؟ قلت: لأنك يا أستاذ صلاح تُلقب الجميع بـلقب "يا جميل"، سواء كان هذا الجميل جميلًا بالفعل أو قبيحًا في الشكل والفعل، وسواء كان رجلًا أو امرأة! ضحك حتى تحشرجت الضحكة في حلقه، وكادت أن تتسرب إلى قفصه الصدري المُرْهَق، والمُتْعَب، والمُجْهَد، إذْ أرهقته وأتعبته وأجهدته المهنة، مهنة الصحافة، التي عاش لها، وعاش بها، وتحمل قسوتها، حتى وصلت هذه القسوة إلى الذروة، عندما تربص به المُتَرَبِّصُون، ووشى به المُخْبِرُون، وتَنَصَّتَ عليه المُتَنَصِّتُون، وتَلَصَّصَ عليه المُتَلَصِّصُون، وفتش في نيّاته وفي كتاباته المُفَتِّشُون، الذين تسببوا في حرمانه منها، وحرمانها منه، لمدة 10 سنوات كاملة، مُنع فيها من ممارسة المهنة، بعدما فُصل من صحيفة الجمهورية التي كان يعمل بها حينذاك.
****
(نقابة الصحفيين 1987)
هذا التربص، وهذا المنع، وهذا التفتيش، كل ذلك جعله لا يستطيع العودة إليها إلّا بالإضراب عن الطعام، بدأه في شهر مارس من ذلك العام، مما دفع بالفنان الشهيد ناجي العلي - وربما للمرة الأولى في تاريخ الصحافة المصرية - إلى أن ينشر كاريكاتيرًا تاريخيًّا في صحيفة القبس الكويتية، التي كان يعمل بها في ذلك الوقت، رسم فيه حنظلة العرب - حسبما جاء في الكاريكاتير - وهو يعلن تضامنه الكامل والتام مع الصحفي الوطني صلاح عيسى. ومن يشهد له بالوطنية "ناجينا" و"عالينا"، وأصدق من كان فينا، فهذا بالتأكيد يكفيه ويكفينا!.
****
(القاهرة 1969)
ليس هذا فقط - فيما أظن - الذي أرهق وأتعب وأجهد جسده الضعيف، ولكن نضاله منذ مطلع شبابه، نعم نضاله، من أجل وطن يستحق الحرية والكرامة والمساواة والعدالة. هذا الوطن الذي أحبه، وعشقه صلاح عيسى إلى حد الثُّمالة، عَرَّضَهُ للاعتقال شهورًا عديدة وسنوات طويلة، خلف جدران معتقلات الستينيات. بعد عدة شهور من اعتقاله عام 1969، قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لخالد محي الدين الذي توسط لديه للإفراج عنه: "ما تكلمنيش عن الجدع ده تاني.. مش ح يخرج من المعتقل إلّا إذا أنا مُتّ!". ثم تكرر رفض عبد الناصر الإفراج عنه، ومعه الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، عندما زاره "نايف حواتمة" - الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - وكرر التماسه بالإفراج عن هذا الثلاثي. يومها كرَّر عبد الناصر رفضه، وقال لـ "حواتمة" ما قاله لخالد محي الدين: "الجماعة دول مش ح يخرجوا من السجن طول ما أنا عايش!"، وهذا ما حدث بالفعل. ثم جاءت حقبة السبعينيات، التي واصل فيها صلاح عيسى نضاله، وكتاباته، ومواقفه، وقناعاته، التي تسببت له مرة جديدة، مع العهد الجديد، والرئيس الجديد - أنور السادات - في المطاردة والحبس والاعتقال!.
****
(حيّ الزمالك 2009)
أنا مازلتُ أجلس في مكتبه. وهو ما زال أمامي، بنظارته الطبية كبيرة الحجم، وسط مئات الكتب والمراجع التاريخية والأبحاث السياسية. نظرتُ إليه فوجدت ضحكته الطويلة توقفتْ قليلًا، بعد فاصل قصير من السُّعال، أجبره على إطفاء السيجارة التي كانت بين أصابعه. ثم سألني: أراك مندهشًا من لقب "يا جميل!"، هززت رأسي: نعم! رّدَّ: طيب يا أخي، وهو فيه أحسن من الجمال؟ ألا يكفيك القبح الذي يعيش معنا ليلًا ونهارًا. ثم عاد ينظر في الأوراق التي أمامه. بعدها أعاد بروفة الصحيفة إلى السكرتيرة، مصحوبة ببعض التعديلات، والتوجيهات العاجلة. ثم انتبه لي قائلًا: اتفضل .. قول يا جميل .. ماذا كنت تريد؟ قلت وأنا أضحك: خيري (القاهرة 1979)
قلتُ له: في خريف ذلك العام جلستَ أنتَ حزينًا، تكفكفُ دموعك، وتطفئ شموعك، بعدما ماتتْ أُمُّكَ فجأة، حسبما كتبتَ أنتَ في مقالك البديع الذي حمل عنوان "باقة ورد على قبر أمي". وتَرَكَتْكَ، وجَعَلَتْكَ برحيلها المباغت يتيمًا في الأربعين. هل تذكر ذلك اليوم؟ رد بأسًى واضح في نبرة صوته: نعم .. أذكره ولا أنساه.. وكيف أنساه؟. ثم اعتدل في مقعده وشرد بنظره بعيدًا، وقال: ذات صباح يوم حزين، خَرَجَتْ من البيت، بصورة سريعة، ومفاجئة لي، رغم اعتراضي على خروجها أصلًا. قلت لها: يا حاجّة أنت عيانة. استريحي النهاردة وهناكل أيّ حاجة. رَدَّتْ: أنا رايحة للدكتور بس. وحين عُدْتُ أنا بالليل - بعد طواف يوم شاق - دخلتُ حجرتها، فوجدتُها بين اليقظة والمنام. جلست بجوارها على السرير، وأحطتُ كتفيها بذراعي، وقلتُ لها: كل ده أنفلونزا يا حاجّة؟ انتي لازم عايزة تشوفي مَعَزّتك عندنا. هَزَّتْ رأسها ولم ترد. وقتها أَدْرَكْتُ أن جسمها الذي قاوم التهاب الكبد سنوات طويلة آن له أن يعترف بالمرض، وأن يستسلم للضعف، بعدما هاجمت الصفراء تلك المرأة التي عاشت تزرع الخُضرة، وتربي الفراشات والطيور، وتَبْذُرُ الحُبَّ والحَبَّ، وتزوج البنين والبنات. آن لها الآن أن تدخل في غيبوبة، وهى تقف - كالجبل الأشم - على قدميها. وبعد عشرة أيام، حين كَفَّ قلبها عن الخفقان، كشفتُ الملاءة عن وجهها، فوجدته ساكنًا هادئًا، كصفحة النهر. قَبَّلْتُ جبينها، وحملتُ جسدها مع الممرضين إلى عربة المستشفى. وفي غرفة الموتى (المشرحة) رفعتُ جثتها إلى المنضدة. وقبل أن أغادر الغرفة، وعلى يدي آخرُ مَسَّةٍ من الجسد الذي احتضنني أربعين عامًا، ألقيتُ نظرة على منضدة مجاورة لها تحمل طفلة صغيرة لم تتجاوز الثامنة، ثم عُدْتُ ببصري إلى أمي. لحظتها اكتشفت أن شعرها الناعم البسيط الجميل - كشعر جارتها التي لم تتجاوز الثامنة – أسود، كالليل الذي تركتني أنوء تحت ردائه.
***
(سجن المزرعة 1970)
قلتُ: هل كانت تزورك في السجون والمعتقلات؟ قال: حين انْتَقَلَتْ - وقد تَعَدَّتْ الخمسين - لتقيم معنا في القاهرة، كنتُ أقول لها دائمًا: سأفرغ يومًا لكِ يا أمي، وأزور بكِ أهل البيت كما تريدين، ونقرأ الفاتحة للحسين كما تريدين، ونزور ستنا سكينة والإمام الشافعي كما تريدين. ثم نذهب للسينما، كما أريد أنا هذه المرة. تضحك ضحكة خجلى، وتقول: "سيمة آيه يا واد يا مفضوح .. خلي السيما للي زيك!".
***
(مكتبه في الصحيفة، بعد مرور 40 دقيقة)
قال ذلك وهو يبتسم. قلتُ: وما حدث بعد ذلك أنّكَ لم تتفرغ لها.. أليس كذلك؟ هَزَّ رأسه بحزن واضح وقال: نعم. هذا ما حدث بالفعل! ثم بعد دقائق ضغط على جرس بجواره. جاءت السكرتيرة مرة ثانية. طلب منها فنجانين من الشاي. بعد دقائق جاءت بهما مسرعة. ثم عاد يسترسل قائلًا: لقد ظلت أمي منذ تعلمتْ المشي إلى أن ماتتْ تقف على قدميها، تبحث عن أي شيء تفعله، وإن لم يكن لنفسها فهي تفعله للآخرين. وكانت ترفض أن تستريح أو حتى تمرض مثل كل خلق الله. وحين تجاوزتْ الستين من عمرها، قاومتْ بشدة محاولتي لمنعها من تكرار نزول سلم العمارة، خوفًا على صحتها، خاصّةً بعدما اعتادت أن تُمضي معظم أوقاتها تتفقد الجمعيات الاستهلاكية، وتقف في طوابيرها، وتختار صديقاتها من المترددات عليها، وتعود بحصيلة حكايات ممتعة، ترويها لي وهي سعيدة. وكنتُ أسمعها مُعجبًا بتعليقاتها، ومذهولًا من وعيها الفطري الفذّ، وهي التي لم تدخل مدرسة، ولم تقرأ كتابًا، ولم تكتب خطابًا. فإذا ما حاولتُ أن أدفع معها الحديث إلى الاقتراب من السياسة، في محاولة منّي لاستثمار تعليقاتها العفوية، أجدها زاغت وغيرت أفكارها. فقد كانت تعتقد أن السياسة هي التي تحبسني. وحين قيل لها إن اسمي يُنشر في الصحف، احتفظت بأول جريدة نشرت اسمي سنوات طويلة، لكنها فقدت حماسها لما أكتب حين عرفت أنني أدخل السجن بسببه، فكانت كلما رأتني أقرأ أو أكتب تقول: يا ابني بلاش تمقق عينيك.. ما بلاش القراية دي اللي بيحبسوك عشانها. (تَعَدَّتْ كتب صلاح عيسى الثلاثين كتابًا في الشأن السياسي والاجتماعي. كان أولها كتابه عن الثورة العرابية في عام 1972. وقد اعتُقل صلاح عيسى لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966، وتكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته في سنوات 1967 و 1968 و 1970و 1972 و 1975 و 1977 و 1979 و 1981). قلتُ له: إذنْ كانت تزورك في المعتقل كثيرًا؟ رَدَّ: نعم. لقد قضت سنوات عمرها الأخيرة تزورني من سجن إلى آخر. وعرفت محطة باب اللوق. وحفظت خط حلوان. واستطاعت أن تفرق بين الليمان وسجن المزرعة. وعندما كانت تودعني في كل مرة، لا تنسى أن تقول باقتضاب: احنا كويسين.. خلي بالك أنت من نفسك يا صلاح! تقول ذلك ثم تتوشح بعده بالصمت! بعدها تنتهي الزيارة. وأعود حزينًا إلى محبسي في صمت تام!.
***
(معتقل القلعة 1967)
ومن صمت الأم ونصيحتها، إلى صمت جدران المعتقل ونصيحة الضابط عاصم الوكيل، قلتُ له: أظن أن هذا كان في عام الهزيمة؟ رَدَّ قائلًا: نعم. في هذا المعتقل لم أستطع العمل بنصيحة ووصية أمي.. وآخد بالي من نفسي! ولا العمل بنصيحة الرائد عاصم الوكيل الذي عذبني في هذا المعتقل (وصل بعد ذلك إلى رتبة لواء). وعندما أعود بالذاكرة إلى هذه الأيام، أذكر أننا كنا في استراحة قصيرة بين وجبتيْن من وجبات التعذيب، عندما أرسل أثناءها يبحث عن خيزرانة بديلة لتلك التي تحطمت فوق قدمي. يومها قلت للضابط عاصم الوكيل: كيف يكون شعورك إذا اكتشفت بعد كل هذا التعذيب أنني بريء؟ بهدوء تام، وكأنه أجاب على هذا السؤال ألف مرة من قبل، رَدَّ: ولا حاجه! تعذيب ألف بريء "ابن كلب" زيك! أفضل من ترك متآمر واحد حر.. ده أمن دولة يا حمار!.
***
(المعتقل ـ الزنزانة - 3)
قلتُ: وهل اكتفى بضربك للمرة الثانية؟ رَدَّ: لا .. واصل تعذيبه، وأنا مصلوبٌ إلى مشجب حديدي. كنتُ خجلان من عُرْيي، ونزف عرقي كله في وجه كشاف ضخم سلطوه طوال الليل على عينيَّ المجهدتيْن. وبين الحين والآخر، كانوا يعصبون عينيَّ، ويضربونني بالعصا التي تنهال عليَّ في كل مكان من جسدي، ثم يسحلونني، ويمسحون بي بلاط المعتقل من شماله إلى جنوبه، ومن مشرقه إلى مغربه. في هذه اللحظات تبعثرتْ على البلاط أمامي الكتب التي قرأتها، وسقطتْ الأفكار التي عرفتها، والأحلام التي كنت أُتوق إليها، وأبيات الشعر التي ترنمتُ بها كثيرًا. وعند عصر ذلك اليوم المرير، عاد "عاصم الوكيل" إلى الزنزانة، وفي يده زجاجة كوكا كولا، يتناثر رذاذ الثلج على سطحها. بعد فترة صمت قال:
- قول لي يا واد صلاح .. ما رأيك في الكرافتة التي ألبسها الآن؟
- مش حلوة.
- ليه؟
- رأيي كده!
ضربني بحافة الزجاجة التي في يده أسفل ذقني، وواصل الضرب بقوة حتى كاد يخلع فكي. وبعدما أنعشني ملمسها البارد، وملأت رائحتها الشهية خياشيمي، واسترددتُ بعضًا من وعيي الغائب، نتيجة لضرباته المستمرة،
قال: تعرف أنا رايح فين؟
- ..........
- رايح السينما مع بنت زي القمر.. عايز لما أرجع ألاقيك اتكلمت يا ابن القحبة! هنا.. وعند هذه اللحظة، وعند هذه الجملة، وعند هذه الكلمة البذيئة، تذكرت وجه أمي وهي تتوضأ وتصلي صلاة الفجر. وسمعت في الصمت الذي أعقب رحيله عن الزنزانة، صوت دعائها الخاشع في وقت السحر، الذي كانت دائمًا تردد فيه: يارب يبارك في عافيتك يا صلاح يا ابن بطني، ويكفيك شر سِكتك.
***
(مكتبه بعد مرور 80 دقيقة)
دخان سجائره امتلأ به فضاء الحجرة حولنا، وهاتفه رن عدة مرات، والسكرتيرة أعادت له البروفات النهائية، لصفحات من الصحيفة. أمّا أنا فما زلتُ صامتًا، لا أجد ما أقوله له بعد الذي قالته الأم له، وبعد الذي قاله ضابط المعتقل له. وقبل وداعه الذي بدأت الاستعداد له. سألني: هل أمك ما زالتْ على قيد الحياة؟ قلت: نعم! قال: حاول ألّا تكرر معها أخطاءنا، وتَفَرَّغْ لها بعض الوقت. قلتُ: يا أستاذ صلاح .. أمي تعيش في قرية صغيرة، وفقيرة، وبعيدة، في محافطة بني سويف، اسمها كفر أبو شهبة، ولم تخرج منها إلّا مرات تُعَدُّ على أصابع اليد. ولو تجرأتُ ودعوتُها ذات مرة لدخول السينما، فمن المؤكد أنها ستقول: "سيمة آيه يا واد يا مفضوح؟ خلي السيما للي زيك!. قلتُ ذلك وأنا أضحك، وعاد هو من جديد يضحك، حتى أطاح الضحك برأسه إلى مسند المقعد الذي يجلس عليه! ثم تركتُه يواصل ضحكته المجلجلة وهو يودعني قائلًا: "ابقي خليني أشوفك يا جميل"!.
****
(حيّ الزمالك 2009)
أقف الآن في إشارة المرور، أسفل كوبري 26 يوليو، أنتظر الأتوبيس المتجه ناحية وسط البلد. على الأرصفة حولي، وفي الشارع أمامي، أرى وجوهًا متنوعةً ومختلفةً من الناس. هؤلاء الناس ربما يكونون قد عرفوا صلاح عيسى الصحفي والكاتب، لكنهم - فيما أعتقد - لم يعرفوه باحثًا وكاتبًا. وقبل ذلك - وبعد ذلك - لم يعرفوه مناضلًا وطنيًّا حقيقيًّا. نعم.. هم يعرفون اسم صلاح عيسى.. ولكنهم لا يعرفون أن "صلاح" هذا ليس كأي صلاح .. وأن "عيسى" هذا ليس كأي عيسى!.
****
خيري حسن
***
https://alwafd.news/.../3385729-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B5...
إلى صلاح عيسي...صباح الخير يا جميل
***
(القاهرة 2009)
ذات نهار شتوي، شديد البرودة، ذهبتُ إلى مكتب الكاتب الصحفي الكبير صلاح عيسى (1939- 2017) في مقر صحيفة "القاهرة" بحي الزمالك الراقي. وجدتُه يجلس، وأمامه مجموعة من المسودات، التي يدون فيها بعض مشاريع كتبه الجديدة، ليدفع بها إلى المطابع. بعد دقائق جاءت سكرتيرته بفنجان "نسكافيه بلاك" ووضعته أمامه، وبروفة من بروفات عدد من الصحيفة التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت. بعد دقائق خرجت السكرتيرة وشكرها قائلًا: "متشكر يا جميل". ابتسمتُ أنا. سألني: لماذا تبتسم؟ قلت: لأنك يا أستاذ صلاح تُلقب الجميع بـلقب "يا جميل"، سواء كان هذا الجميل جميلًا بالفعل أو قبيحًا في الشكل والفعل، وسواء كان رجلًا أو امرأة! ضحك حتى تحشرجت الضحكة في حلقه، وكادت أن تتسرب إلى قفصه الصدري المُرْهَق، والمُتْعَب، والمُجْهَد، إذْ أرهقته وأتعبته وأجهدته المهنة، مهنة الصحافة، التي عاش لها، وعاش بها، وتحمل قسوتها، حتى وصلت هذه القسوة إلى الذروة، عندما تربص به المُتَرَبِّصُون، ووشى به المُخْبِرُون، وتَنَصَّتَ عليه المُتَنَصِّتُون، وتَلَصَّصَ عليه المُتَلَصِّصُون، وفتش في نيّاته وفي كتاباته المُفَتِّشُون، الذين تسببوا في حرمانه منها، وحرمانها منه، لمدة 10 سنوات كاملة، مُنع فيها من ممارسة المهنة، بعدما فُصل من صحيفة الجمهورية التي كان يعمل بها حينذاك.
****
(نقابة الصحفيين 1987)
هذا التربص، وهذا المنع، وهذا التفتيش، كل ذلك جعله لا يستطيع العودة إليها إلّا بالإضراب عن الطعام، بدأه في شهر مارس من ذلك العام، مما دفع بالفنان الشهيد ناجي العلي - وربما للمرة الأولى في تاريخ الصحافة المصرية - إلى أن ينشر كاريكاتيرًا تاريخيًّا في صحيفة القبس الكويتية، التي كان يعمل بها في ذلك الوقت، رسم فيه حنظلة العرب - حسبما جاء في الكاريكاتير - وهو يعلن تضامنه الكامل والتام مع الصحفي الوطني صلاح عيسى. ومن يشهد له بالوطنية "ناجينا" و"عالينا"، وأصدق من كان فينا، فهذا بالتأكيد يكفيه ويكفينا!.
****
(القاهرة 1969)
ليس هذا فقط - فيما أظن - الذي أرهق وأتعب وأجهد جسده الضعيف، ولكن نضاله منذ مطلع شبابه، نعم نضاله، من أجل وطن يستحق الحرية والكرامة والمساواة والعدالة. هذا الوطن الذي أحبه، وعشقه صلاح عيسى إلى حد الثُّمالة، عَرَّضَهُ للاعتقال شهورًا عديدة وسنوات طويلة، خلف جدران معتقلات الستينيات. بعد عدة شهور من اعتقاله عام 1969، قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لخالد محي الدين الذي توسط لديه للإفراج عنه: "ما تكلمنيش عن الجدع ده تاني.. مش ح يخرج من المعتقل إلّا إذا أنا مُتّ!". ثم تكرر رفض عبد الناصر الإفراج عنه، ومعه الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، عندما زاره "نايف حواتمة" - الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - وكرر التماسه بالإفراج عن هذا الثلاثي. يومها كرَّر عبد الناصر رفضه، وقال لـ "حواتمة" ما قاله لخالد محي الدين: "الجماعة دول مش ح يخرجوا من السجن طول ما أنا عايش!"، وهذا ما حدث بالفعل. ثم جاءت حقبة السبعينيات، التي واصل فيها صلاح عيسى نضاله، وكتاباته، ومواقفه، وقناعاته، التي تسببت له مرة جديدة، مع العهد الجديد، والرئيس الجديد - أنور السادات - في المطاردة والحبس والاعتقال!.
****
(حيّ الزمالك 2009)
أنا مازلتُ أجلس في مكتبه. وهو ما زال أمامي، بنظارته الطبية كبيرة الحجم، وسط مئات الكتب والمراجع التاريخية والأبحاث السياسية. نظرتُ إليه فوجدت ضحكته الطويلة توقفتْ قليلًا، بعد فاصل قصير من السُّعال، أجبره على إطفاء السيجارة التي كانت بين أصابعه. ثم سألني: أراك مندهشًا من لقب "يا جميل!"، هززت رأسي: نعم! رّدَّ: طيب يا أخي، وهو فيه أحسن من الجمال؟ ألا يكفيك القبح الذي يعيش معنا ليلًا ونهارًا. ثم عاد ينظر في الأوراق التي أمامه. بعدها أعاد بروفة الصحيفة إلى السكرتيرة، مصحوبة ببعض التعديلات، والتوجيهات العاجلة. ثم انتبه لي قائلًا: اتفضل .. قول يا جميل .. ماذا كنت تريد؟ قلت وأنا أضحك: خيري (القاهرة 1979)
قلتُ له: في خريف ذلك العام جلستَ أنتَ حزينًا، تكفكفُ دموعك، وتطفئ شموعك، بعدما ماتتْ أُمُّكَ فجأة، حسبما كتبتَ أنتَ في مقالك البديع الذي حمل عنوان "باقة ورد على قبر أمي". وتَرَكَتْكَ، وجَعَلَتْكَ برحيلها المباغت يتيمًا في الأربعين. هل تذكر ذلك اليوم؟ رد بأسًى واضح في نبرة صوته: نعم .. أذكره ولا أنساه.. وكيف أنساه؟. ثم اعتدل في مقعده وشرد بنظره بعيدًا، وقال: ذات صباح يوم حزين، خَرَجَتْ من البيت، بصورة سريعة، ومفاجئة لي، رغم اعتراضي على خروجها أصلًا. قلت لها: يا حاجّة أنت عيانة. استريحي النهاردة وهناكل أيّ حاجة. رَدَّتْ: أنا رايحة للدكتور بس. وحين عُدْتُ أنا بالليل - بعد طواف يوم شاق - دخلتُ حجرتها، فوجدتُها بين اليقظة والمنام. جلست بجوارها على السرير، وأحطتُ كتفيها بذراعي، وقلتُ لها: كل ده أنفلونزا يا حاجّة؟ انتي لازم عايزة تشوفي مَعَزّتك عندنا. هَزَّتْ رأسها ولم ترد. وقتها أَدْرَكْتُ أن جسمها الذي قاوم التهاب الكبد سنوات طويلة آن له أن يعترف بالمرض، وأن يستسلم للضعف، بعدما هاجمت الصفراء تلك المرأة التي عاشت تزرع الخُضرة، وتربي الفراشات والطيور، وتَبْذُرُ الحُبَّ والحَبَّ، وتزوج البنين والبنات. آن لها الآن أن تدخل في غيبوبة، وهى تقف - كالجبل الأشم - على قدميها. وبعد عشرة أيام، حين كَفَّ قلبها عن الخفقان، كشفتُ الملاءة عن وجهها، فوجدته ساكنًا هادئًا، كصفحة النهر. قَبَّلْتُ جبينها، وحملتُ جسدها مع الممرضين إلى عربة المستشفى. وفي غرفة الموتى (المشرحة) رفعتُ جثتها إلى المنضدة. وقبل أن أغادر الغرفة، وعلى يدي آخرُ مَسَّةٍ من الجسد الذي احتضنني أربعين عامًا، ألقيتُ نظرة على منضدة مجاورة لها تحمل طفلة صغيرة لم تتجاوز الثامنة، ثم عُدْتُ ببصري إلى أمي. لحظتها اكتشفت أن شعرها الناعم البسيط الجميل - كشعر جارتها التي لم تتجاوز الثامنة – أسود، كالليل الذي تركتني أنوء تحت ردائه.
***
(سجن المزرعة 1970)
قلتُ: هل كانت تزورك في السجون والمعتقلات؟ قال: حين انْتَقَلَتْ - وقد تَعَدَّتْ الخمسين - لتقيم معنا في القاهرة، كنتُ أقول لها دائمًا: سأفرغ يومًا لكِ يا أمي، وأزور بكِ أهل البيت كما تريدين، ونقرأ الفاتحة للحسين كما تريدين، ونزور ستنا سكينة والإمام الشافعي كما تريدين. ثم نذهب للسينما، كما أريد أنا هذه المرة. تضحك ضحكة خجلى، وتقول: "سيمة آيه يا واد يا مفضوح .. خلي السيما للي زيك!".
***
(مكتبه في الصحيفة، بعد مرور 40 دقيقة)
قال ذلك وهو يبتسم. قلتُ: وما حدث بعد ذلك أنّكَ لم تتفرغ لها.. أليس كذلك؟ هَزَّ رأسه بحزن واضح وقال: نعم. هذا ما حدث بالفعل! ثم بعد دقائق ضغط على جرس بجواره. جاءت السكرتيرة مرة ثانية. طلب منها فنجانين من الشاي. بعد دقائق جاءت بهما مسرعة. ثم عاد يسترسل قائلًا: لقد ظلت أمي منذ تعلمتْ المشي إلى أن ماتتْ تقف على قدميها، تبحث عن أي شيء تفعله، وإن لم يكن لنفسها فهي تفعله للآخرين. وكانت ترفض أن تستريح أو حتى تمرض مثل كل خلق الله. وحين تجاوزتْ الستين من عمرها، قاومتْ بشدة محاولتي لمنعها من تكرار نزول سلم العمارة، خوفًا على صحتها، خاصّةً بعدما اعتادت أن تُمضي معظم أوقاتها تتفقد الجمعيات الاستهلاكية، وتقف في طوابيرها، وتختار صديقاتها من المترددات عليها، وتعود بحصيلة حكايات ممتعة، ترويها لي وهي سعيدة. وكنتُ أسمعها مُعجبًا بتعليقاتها، ومذهولًا من وعيها الفطري الفذّ، وهي التي لم تدخل مدرسة، ولم تقرأ كتابًا، ولم تكتب خطابًا. فإذا ما حاولتُ أن أدفع معها الحديث إلى الاقتراب من السياسة، في محاولة منّي لاستثمار تعليقاتها العفوية، أجدها زاغت وغيرت أفكارها. فقد كانت تعتقد أن السياسة هي التي تحبسني. وحين قيل لها إن اسمي يُنشر في الصحف، احتفظت بأول جريدة نشرت اسمي سنوات طويلة، لكنها فقدت حماسها لما أكتب حين عرفت أنني أدخل السجن بسببه، فكانت كلما رأتني أقرأ أو أكتب تقول: يا ابني بلاش تمقق عينيك.. ما بلاش القراية دي اللي بيحبسوك عشانها. (تَعَدَّتْ كتب صلاح عيسى الثلاثين كتابًا في الشأن السياسي والاجتماعي. كان أولها كتابه عن الثورة العرابية في عام 1972. وقد اعتُقل صلاح عيسى لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966، وتكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته في سنوات 1967 و 1968 و 1970و 1972 و 1975 و 1977 و 1979 و 1981). قلتُ له: إذنْ كانت تزورك في المعتقل كثيرًا؟ رَدَّ: نعم. لقد قضت سنوات عمرها الأخيرة تزورني من سجن إلى آخر. وعرفت محطة باب اللوق. وحفظت خط حلوان. واستطاعت أن تفرق بين الليمان وسجن المزرعة. وعندما كانت تودعني في كل مرة، لا تنسى أن تقول باقتضاب: احنا كويسين.. خلي بالك أنت من نفسك يا صلاح! تقول ذلك ثم تتوشح بعده بالصمت! بعدها تنتهي الزيارة. وأعود حزينًا إلى محبسي في صمت تام!.
***
(معتقل القلعة 1967)
ومن صمت الأم ونصيحتها، إلى صمت جدران المعتقل ونصيحة الضابط عاصم الوكيل، قلتُ له: أظن أن هذا كان في عام الهزيمة؟ رَدَّ قائلًا: نعم. في هذا المعتقل لم أستطع العمل بنصيحة ووصية أمي.. وآخد بالي من نفسي! ولا العمل بنصيحة الرائد عاصم الوكيل الذي عذبني في هذا المعتقل (وصل بعد ذلك إلى رتبة لواء). وعندما أعود بالذاكرة إلى هذه الأيام، أذكر أننا كنا في استراحة قصيرة بين وجبتيْن من وجبات التعذيب، عندما أرسل أثناءها يبحث عن خيزرانة بديلة لتلك التي تحطمت فوق قدمي. يومها قلت للضابط عاصم الوكيل: كيف يكون شعورك إذا اكتشفت بعد كل هذا التعذيب أنني بريء؟ بهدوء تام، وكأنه أجاب على هذا السؤال ألف مرة من قبل، رَدَّ: ولا حاجه! تعذيب ألف بريء "ابن كلب" زيك! أفضل من ترك متآمر واحد حر.. ده أمن دولة يا حمار!.
***
(المعتقل ـ الزنزانة - 3)
قلتُ: وهل اكتفى بضربك للمرة الثانية؟ رَدَّ: لا .. واصل تعذيبه، وأنا مصلوبٌ إلى مشجب حديدي. كنتُ خجلان من عُرْيي، ونزف عرقي كله في وجه كشاف ضخم سلطوه طوال الليل على عينيَّ المجهدتيْن. وبين الحين والآخر، كانوا يعصبون عينيَّ، ويضربونني بالعصا التي تنهال عليَّ في كل مكان من جسدي، ثم يسحلونني، ويمسحون بي بلاط المعتقل من شماله إلى جنوبه، ومن مشرقه إلى مغربه. في هذه اللحظات تبعثرتْ على البلاط أمامي الكتب التي قرأتها، وسقطتْ الأفكار التي عرفتها، والأحلام التي كنت أُتوق إليها، وأبيات الشعر التي ترنمتُ بها كثيرًا. وعند عصر ذلك اليوم المرير، عاد "عاصم الوكيل" إلى الزنزانة، وفي يده زجاجة كوكا كولا، يتناثر رذاذ الثلج على سطحها. بعد فترة صمت قال:
- قول لي يا واد صلاح .. ما رأيك في الكرافتة التي ألبسها الآن؟
- مش حلوة.
- ليه؟
- رأيي كده!
ضربني بحافة الزجاجة التي في يده أسفل ذقني، وواصل الضرب بقوة حتى كاد يخلع فكي. وبعدما أنعشني ملمسها البارد، وملأت رائحتها الشهية خياشيمي، واسترددتُ بعضًا من وعيي الغائب، نتيجة لضرباته المستمرة،
قال: تعرف أنا رايح فين؟
- ..........
- رايح السينما مع بنت زي القمر.. عايز لما أرجع ألاقيك اتكلمت يا ابن القحبة! هنا.. وعند هذه اللحظة، وعند هذه الجملة، وعند هذه الكلمة البذيئة، تذكرت وجه أمي وهي تتوضأ وتصلي صلاة الفجر. وسمعت في الصمت الذي أعقب رحيله عن الزنزانة، صوت دعائها الخاشع في وقت السحر، الذي كانت دائمًا تردد فيه: يارب يبارك في عافيتك يا صلاح يا ابن بطني، ويكفيك شر سِكتك.
***
(مكتبه بعد مرور 80 دقيقة)
دخان سجائره امتلأ به فضاء الحجرة حولنا، وهاتفه رن عدة مرات، والسكرتيرة أعادت له البروفات النهائية، لصفحات من الصحيفة. أمّا أنا فما زلتُ صامتًا، لا أجد ما أقوله له بعد الذي قالته الأم له، وبعد الذي قاله ضابط المعتقل له. وقبل وداعه الذي بدأت الاستعداد له. سألني: هل أمك ما زالتْ على قيد الحياة؟ قلت: نعم! قال: حاول ألّا تكرر معها أخطاءنا، وتَفَرَّغْ لها بعض الوقت. قلتُ: يا أستاذ صلاح .. أمي تعيش في قرية صغيرة، وفقيرة، وبعيدة، في محافطة بني سويف، اسمها كفر أبو شهبة، ولم تخرج منها إلّا مرات تُعَدُّ على أصابع اليد. ولو تجرأتُ ودعوتُها ذات مرة لدخول السينما، فمن المؤكد أنها ستقول: "سيمة آيه يا واد يا مفضوح؟ خلي السيما للي زيك!. قلتُ ذلك وأنا أضحك، وعاد هو من جديد يضحك، حتى أطاح الضحك برأسه إلى مسند المقعد الذي يجلس عليه! ثم تركتُه يواصل ضحكته المجلجلة وهو يودعني قائلًا: "ابقي خليني أشوفك يا جميل"!.
****
(حيّ الزمالك 2009)
أقف الآن في إشارة المرور، أسفل كوبري 26 يوليو، أنتظر الأتوبيس المتجه ناحية وسط البلد. على الأرصفة حولي، وفي الشارع أمامي، أرى وجوهًا متنوعةً ومختلفةً من الناس. هؤلاء الناس ربما يكونون قد عرفوا صلاح عيسى الصحفي والكاتب، لكنهم - فيما أعتقد - لم يعرفوه باحثًا وكاتبًا. وقبل ذلك - وبعد ذلك - لم يعرفوه مناضلًا وطنيًّا حقيقيًّا. نعم.. هم يعرفون اسم صلاح عيسى.. ولكنهم لا يعرفون أن "صلاح" هذا ليس كأي صلاح .. وأن "عيسى" هذا ليس كأي عيسى!.
****
خيري حسن
***
https://alwafd.news/.../3385729-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B5...