د. أماني فؤاد - المبدع أم النَّصُّ؟

بعيدا عن كل الصيغ والأحكام الحدية، التي تضع القضية على صورة هذه المواجهة:" شخص المبدع أم النَّص"، مَن الأهم، ومَن له الحضور الأكثر جذبا، ومَن فيهما قد يخلد؟
وبعيدا أيضا عن كل صيغ أفعل التفضيل، وتصوُّرنا حول ضرورة أن يتغلب طرف على الطرف الآخر، وما تصنعه طريقة التفكير تلك من تطرُّف وتغييب للموضوعية، نطرح السؤال ذاته بطريقة أخرى، ونحاول أن نناقش محاوره بتؤدة، في محاولة فك الحدود القصوى المتناقضة عن العقلية العربية.
كيف يؤثر وهج وحضور الكُتاب المبدعين بشخوصهم في انتشار نصوصهم الإبداعية، هل حضور الكاتب وتواصله مع المتابعين له على وسائط التواصل الاجتماعي يؤثر في حيوية حضور نصوصه لدى المتلقين، وهل تواصُل الكاتب مع المتابعين يحقق عملية قراءة جادة وحقيقية لنصوصه سواء على الواقع الافتراضي أو الحقيقي؟ هل أصبح شخص الكاتب وتفاعله مع المتابعين الدعمَ الحقيقي لنَصِّه الإبداعي، أم أن النَّص بمجرد إصداره ونشره يُعد عالَمًا مستقلا بذاته؟
تخضع الظواهر الأدبية عادة لنوع من فرقعات إعلامية وتصريحات، فتارة المؤلف هو الأساس، وهو الأهم، وأخرى يتم إعلان موته ووفاته كما صرح بهذا (رولان بارت) لفترة، وأيضا لم يكتفوا بموت المؤلف، بل تحدَّث (رونان ماكدونالد) عن موت الناقد تارة أخرى؛ ليكون النَّص هو الأساس، وبنيته وتقنيات كتابته ولغته وبنية شخوصه، ومنظومة كاملة من الآليات والأدوات التي تآلفت وكونته، تارة أخرى فالنَّص نتاج مجتمع قام بتشييده في نوع من المِرآوية أو الانعكاس، وأخرى يتوارى حضوره أمام طغيان حضور كاتبه وطريقته في شَغل الرأي العام.
طرأت منذ سنوات بعض الظواهر على الواقع الثقافي الأدبي، وغالبا ما كانت من نتائج وسائط التواصل الاجتماعي، وكثرة المنصات التكنولوجية: الفيسبوك والتويتر ومجموعات الواتس آب وغيرها من وسائط، وظهرت أيضا مدونات الكُتَّاب، وما يضعونه عليها من مقتطفات لنصوصهم، أو نصوصهم القصيرة كاملة، على هذه الوسائط تلتقي وتتعارف مجموعات بالمبدعين، وينشر الكُتَّاب أدبهم، وما ينتجونه من إبداعات؛ وتتحقق خاصية التواصل السريع مباشرة، ومعرفة ردود الأفعال. هل يمكن أن نستبدل المقاهي الثقافية أيام نجيب محفوظ بوسائط التواصل الاجتماعي وما يحدث بها من تفاعل؟ مع الأخذ في الحسبان اختلاف ما تتيحه التقنية من سرعة انتقال الثقافي وكثرة عدد المتفاعلين؟
لأول مرة نسمع عن الألتراس الأدبي مثل الألتراس الكروي، وهم مجموعة من المعجبين داخل شريحة عمرية تتراوح بين العشرين والثلاثين، يشِيدُون بكاتب روائي أو بنَصٍّ من كتاباته، ويهتفون من أجله ويصوِّتون له، ويدخلون صراعات للترويج له وتشجيعه والدفاع عنه، ونشْر أعماله أو مقتطفات منها، وفي الغالب هم قراء غير متخصصين، أعجبهم كاتب ما، من خلال تدويناته وما يكتبه من بوستات، وغالبا لم يقرأوا نصوصه كاملة، لكن تغازلهم كتابته بشكل ما، يكتب حول يومياتهم، وما يشغلهم من قضايا تلتصق بحياتهم اليومية: عواطفهم، انقطاع التواصل مع عائلاتهم، أحلامهم وإخفاقاتهم، تمسهم الكتابة بشكل ما، وتُشبِع لديهم الرغبة في المغامرة والتشويق، تصل بمشاعرهم مجتمِعةً إلى قمة التوتر في إخراج الأحداث، والوصول للحد الأقصى من الانفعالات.
لبعض هؤلاء المبدعين والكُتَّاب حضور برَّاق على وسائط التواصل الاجتماعي، يتفاعلون مع متابعيهم، ويمتلكون الكاريزما التي تجتذب المتابعين، فتتكون حولهم هالة من المعجبين والأصدقاء، وخاصة حين يُؤججون هذا الحضور ببعض التصريحات والمقولات، التي تتضمن نوعا من الجرأة، وخروجها عما اعتاده الناس، يروِّجون لنصوصهم بحفلات توقيع للكتب والروايات، وبتحويل بعض الروايات والكتب إلى نصوص تُسمع من خلال بعض المنصات والمواقع، فكلنا يعلم أننا شعوب تقل فيها نِسَبُ القراءة قياسا إلى السماع والمشاهدة، وتزداد الظاهرة سطوعا عندما تتحول بعض نصوصهم إلى أعمال درامية وسينمائية.
تتشكل المفارقة الحقيقية - فيما أرى - حين يتكشف مع الوقت - بعد القراءة الفاحصة - ضَعف هذه النصوص على المستوى الفني والفكري، وسطحية تناوُلها للجوانب الإنسانية العميقة أيضا، افتقارها لأسئلة الوجود الكبرى، وقتها يفقد الكاتب بريقه وجاذبيته، مهما اتسعت مساحات شغْلِه للرأي العام على وسائط التواصل، ويستشعر المتلقي الواعي أنه أمام ضجيج بلا طحن، أو سلعة متوسطة القيمة لكن يروَّج لها باحترافية.
ربما يحلو لي طرح الأمر بطريقة أخرى، ماذا بعد وهج شخص المؤلف وحضوره، تصريحاته، ندواته، بعض مقولاته التي يُطْلقها؛ ليصنع ما يشبه صدمة للوعي أو الذائقة، هل لو أن النقاد أو القراء الواعين قاموا بقراءة النَّص، ووجدوه نَصًّا سطحيا أو استهلاكيا، يؤجج المشاعر والانفعالات فقط، دون أن يترك أثرا عميقا، دون أن تشعر أنك اختلفت بشكل ما بعد قراءته؛ هل سيظل للكاتب أو الكاتبة حضور أو وهج؟
لكن في حالة إذا دعم حضور وجاذبية الكاتب الشخصية، نصوصًا جيدة بالفعل، مشتبكة مع الهم الإنساني بوعي، عالية القيمة الفنية والفكرية، وقتها ازدادت جاذبية الكُتاب والنصوص معا، وتعمقت أشكال تأثيراتهم على المجتمع حتى لو فارقوا الحياة.
ليس لكل الكُتاب هذا الوجود المؤثر على البيئة الاجتماعية، ولا على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم تمتع إنتاجهم الأدبي الإبداعي أحيانا بعلو القيمة والجدارة.
التأثير في الآخَرين وجذْبهم إلى ما تبدعه يتطلب شخوصا قادرة على تحريك الرأي العام، تسويق نفْسها، دور نشْر محترفة تجيد الاشتغال على الكاتب والنَّص معا، حفلات توقيع وندوات لمناقشة المنتَج، الاشتراك في معارض دولية، اللقاءات ضمن برامج تليفزيونية، مقالات صحفية متخصصة، ترجمة النصوص.
تحتل بعض الأسماء العربية والمصرية مثل واسيني الأعرج، أحلام مستغانمي، أحمد مراد، وجودا جاذبا مع القراء، سواء من خلال التواصل مع المتابعين على وسائط التواصل، أو الحفلات والندوات والمؤتمرات، من خلال جودة الترويج لهم من دور النشر التي يتعاقدون معها، أو من خلال نشْر وتناقُل مقولاتهم على الوسائط، وجذْبها لآذان متلقيها. وسواء اختلفنا أو اتفقنا على قيمة تلك النصوص، لكن يظل للبعض ممن يكتبون من الشباب درجة أقل من المتابعة على وسائط التواصل، رغم امتلاكهم بالفعل لمشاريع روائية وسردية تتضمن تجربتها الثرية، مثل: سعود السنوسي، أحمد عبد اللطيف، هاني عبد المريد، محمد الفخراني، طارق إمام، وغيرهم الكثيرين، ربما يعود الانتشار المحدود - رغم حصولهم على الجوائز - لنوعية النصوص السردية، وعمق تجربتها الفنية والفكرية، فلا تُعَد نصوصهم مجرد سرديات لنقل الحكايات والمشاعر، فلا تستطيع كل الشرائح الوعي بمضمونها العميق، أو تجربتها السردية التجريبية.
هناك ما يسمَّى بتجاور الحضور، المبدع والنَّص معا دون مغالبة، دون تراتبية، بل بنوع من تكامُل الصورة، وفتْح أبواب أكثر اتساعا للنقاشات والحوارات حول الأعمال الإبداعية من خلال تلك المنصات، علينا أن نزن الظواهر من خلال تأمُّل أن الظواهر لا تصنعها أسباب وحيدة منفردة، بل تصنعها مجموعة أو حزمة من العوامل. أحسب أن المستقبل لو صحَّت معطيات ثقافته؛ سيعلي القيمة، القيمة التي تتجسد في النَّص وكاتبه، الذي يتعين عليه أن يوصل تلك القيم الجمالية والفكرية في أجلَى وأبهى صورها، القادر أيضا على مواكبة التغيرات، التي تفرضها التقنيات الحديثة، وإدخال أنواع فنية أخرى بجوار فِعْلِ الكتابة الأدبية في عملية تكامُل عبْر نوعية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى