النص الثاني من كتاب "الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه" للدكتور مصطفى الشكعة تحت عنوان ولادة وابن زيدون : "إن ولادة مقرونة بأبي الوليد أحمد بن زيدون المخزومي الوزير الشاعر، الذي منحته الكثير من الحب ووهبته الوفير من الود فقال فيها أجمل الغزل وأرقه، وأنشأت بدورها فيه الرائق من الأبيات اللطاف، والعذب من القصائد الآسرة"( ).
ولا أدري من أين استقى معلوماته هذه؟ بل نجده يبالغ عندما يصفها أنها تهيم بالشاعر، ويقرر أيضا أنها تلتقي بابن زيدون ويجمع بين أشعار ليلفق منها قصة، ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما يقرر أن ولادة "كثيرا ما كانت تترجم عن مشاعرها تجاه ابن زيدون وحبها إياه في غزل رقيق"( )، مع العلم أن ولادة لم تكن شاعرة غزل ولم تورد لها المصادر شعرا في الغزل . ويكمل قصته بجعل ابن زيدون يملك زمام قلبها . والغريب أنه يورد بعد ذلك أخبارا كان أولى به أن يقف عندها ليدرسها ويحللها ليصل منها إلى الحقيقة وهي قوله : "وكانت تعتبره أستاذا لها وكثيرا ما كانت تطلب إليه أن ينقد ما في شعرها من هنات، ويلفت نظرها إلى ما قد يكون فيه من مآخذ"( ) . والأبيات التي بعثت بها ولادة لابن زيدون، أبيات غزل يتيمة هي كل ما رواه الأقدمون من أشعار الغزل لولادة، ويظهر أن هذه الأشعار كانت باكورة إنتاجها الشعري لذلك أرسلت بها إلى ابن زيدون ليصححها وينتقدها ويقوم بتصويبها، والغريب أن الدارس يشهد بهذا في قوله : "ثم يمضي ابن زيدون في درسه لولادة مبينا لها أن بيتا آخر في نفس المناسبة يعتبر أجود"( ) .
النص الثالث من كتاب " تاريخ الأدب الأندلسي عصر الطوائف والمرابطين " للدكتور إحسان عباس، في معرض حديثه عن الغزل في هذا العصر، عرض لقصة الشاعر ابن الحداد وغزله في نويرة وابن زيدون وغزله في ولادة . بدأ الباحث موضوعه بداية سليمة لو أنه وقف عندها مليا و ناقشها ليميز بين الواقع والملفق، فقد قال :"ويبدو أن ابن زيدون أضفى على هذا الحب شيئا حين سجله في مذكرات أو ترجمة ذاتية، أو رواه متلذذا بذكريات الماضي ."( ) وقال في الصفحة الموالية " وكل هذا أورده لأدل على أن ابن زيدون نفسه جعل من ذلك الحب قصة مكتوبة أو مروية في نطاق آخر مستقل عن نطاق ديوانه"( ) . إلا أن الباحث ينسى هذين القولين ويعمد إلى الحديث عن هذه العلاقة حديث غيره مسلما بالحكاية، فيقع في تناقض واضح لم يعرف كيف يخرج منه حين علق على هجاء ابن زيدون وتعريضه بولادة في قوله :"وهذا يومئ إلى حرص ابن زيدون على استبقاء الصداقة بينه وبين ابن عبدوس بعد إذ خاب ظنه في الحب . وقد تم هذا بعد الرسالة الهزلية التي كان ابن زيدون يحرص فيها على استبقاء الحب وإن أدى به إلى فقد الصديق . "( ) وينهي حديثه عن هذه العلاقة بحكم آخر بعيد كل البعد عن الواقع والحقيقة حين قال :"وانصرفت ولادة عن ابن زيدون إلى ابن عبدوس، وظل الثاني يكفل لها العيش اللين بجوده بعد إذ تحيف الدهر المستطيل حالها وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين ( )". وفي نهاية الحديث يقع في تناقض آخر وهو يدلي برأيه في موقف ولادة من ابن زيدون – وإن كان في مجال التقدير لا التقرير- يقول "مما يؤخذ سببا لتعليل غضب ولادة على ابن زيدون، إذ نقدر أنها أنفت من أن يتهمها هذا الاتهام في سبيل أن يرجح كفته على ابن عبدوس فاختارت ابن عبدوس نكاية به وتقريعا له ودفعا لهذه التهمة ."( ) ولا أدري على أي أساس حكم على ولادة أنها اختارت ابن عبدوس؟ ولا من أي مصدر استقى معلوماته ؟
وللوقوف على حقيقة الأمر كان لزاما علي الرجوع إلى المصادر التي تحدثت عن ولادة وعن ابن زيدون وأي المصادر أورد القصة ؟
انطلقت الحكاية أولا من كتاب" المطرب من أشعار أهل المغرب" لابن دحية . فقد ترجم لولادة معتمدا على نقول من " الصلة " لابن بشكوال، ثم من" الذخيرة" لابن بسام ، وفي نقله هذا من" الذخيرة" تَصَّرُفٌ أخل بجوهر الترجمة، إذ كتب مباشرة "وكتبت إلى ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن زيدون المخزومي القرطبي :
" ترقب إذا جن الظلام زيارتي ........إلخ"، دون أن ينقل الخبر كما أورده ابن بسام، فأصبح ما ورد في المقامة على لسان ابن زيدون وكأنه خبر مروي عن ابن بسام، مع العلم أن ابن دحية بعد إيراده للبيتين الشهيرين يقول مباشرة "إلى أن يقول ابن زيدون " ويورد باقي المقامة، مما يدل على أن هذا الكلام بقية كلام ابن زيدون وإن لم يذكره أولا .
ثم يأتي المقري في" النفح " ليورد أخبار ولادة من مصادر متفرقة وبتصّرف أيضا وإذا به يورد البيتين كما في رواية "المطرب" دون الإشارة إلى أن مصدر هذه الأخبار والأحاديث إنما هي في الأصل مذكرات للشاعر ابن زيدون كتبها في مقامة أدرجها ابن بسام في "الذخيرة"، ثم جعل النقلُ منها بِتَصَرُّف أخبارا حقيقية لاصقة بحياة ولادة، ومن هنا امتلأت الموضوعات المتعلقة بابن زيدون وولادة بأخبار هذه العلاقة، فصاغ منها الكتاب ما شاءوا كما صاغت منها أحاديث العامة والحكايات الشعبية قبل ذلك ما شاءت .
وهكذا اختلفت الأخبار بين المصادر فلا نجد في بعضها أي أثر للحديث عن علاقة ولادة بابن زيدون، وهي المصادر التي تنتمي إلى الفترة التي عاشت فيها ولادة والمدينة التي نشأت بها، أليس غريبا أن يؤلف ابن حزم ( ت 456هـ )ـ وهو معاصرها وبلديها ـ رسالته الشهيرة "طوق الحمامة"، ذاكرا فيها أخبار المحبين ـ حتى من الخلفاء وعلية القوم( )، ولم يشر إلى هذه العلاقة، مع العلم أنه كان من رجال الخليفة عبدالرحمان بن هشام الناصري المستظهر، واعتقله الخليفة المستكفي والد ولادة بعد توليه الخلافة ؟
وفي " الصلة" لابن بشكوال- وهي أقدم المصادر التي ترجمت لولادة وأقربها إلى العصر- ذكر ابن بشكوال شهادة شاهد عيان عاش في نفس الفترة التي عاشت فيها ولادة، وفي نفس المدينة أيضا، وهو شيخه أبو عبد الله ابن مكي " يصف نباهتها وفصاحتها، وحرارة نادرتها وجزالة منطقها". وقال أيضا ينتقد سلوكها :"ولم يكن لها تصاون يطابق شرفها ." وأضع خطا تحت هذه الجملة لأنها أضرت بسمعة ولادة، واعتبرها البعض شهادة على انحلال أخلاقها، ويجب أن نميز هنا بين قولين : أن يقول : " لم يكن لها تصاون " ، ويسكت، فهذا حتما سيدل على انحلال أخلاقها وسوء سلوكها، وبين أن يقول : " لم يكن لها تصاون يطابق شرفها "، فنفي التصاون هنا مشروط بمكانتها الأرستقراطية العالية، إذ هي في أول الأمر وفي آخره أميرة مروانية ابنة خليفة وحفيدة خلفاء عظام حكموا الأندلس، تنتمي إلى أعلى الطبقات في مجتمع طبقي يحرص كل الحرص على ان يظل التميز الطبقي واضحا جليا بين طبقاته، فجلوسها إلى عامة الأدباء والشعراء يقلل من قيمتها، وهو ما كان ينتقد عليها ولاشيء سواه، بدليل انها كانت تحظى باحترام الناس، العامة منهم والخاصة، وكانت تزور وتزار، كما كانت ترتاد المجتمعات الأندلسية العالية فتستقبل وتكرم، فهذا أبو عبد الله جعفر بن محمد بن مكي، أحد وزراء قرطبة يشهد أنها جاءته معزية في والده سنة 474 هـ، وقد جاوزت السبعين من عمرها . فلو كان لها سلوك مشين يمس شرفها وأخلاقها، ولو عرفت حقا بغرامياتها وعلاقاتها المتعددة، وبتنقل عواطفها بين رجل وآخر، هل كان بنو أمية يسمحون بذلك ؟ وهل كانت الأسر والطبقات الأرستقراطية تسمح لها بزيارتها أو باستقبالها ؟ قطعا كان بنوا أمية – وفي فترة الاضطرابات السياسية كل شيء ممكن وقوعه- وجدوا إلى التخلص منها بدل الوسيلة ألف وسيلة، ولكانت الطبقات الاجتماعية المتميزة ضربت عليها الحصار، وأوصدت الأبواب في وجهها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا انتقلنا إلى العصر الموالي لعصرها، نجد ابن بسام في ترجمته يشهد لها بقوله :"كانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب ."( ) وهذه شهادة واضحة منه، وإن كان يتحرج في ذكر أخبارها دون التأكد منها، وعندما قال :" على أنها- سمح الله لها، وتغمد زللها- اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها ."قال بعد هذا الكلام وكأنه يعلله :"كتبت- زعموا-" واستعمل لفظ زعموا للدلالة على أن هذا القول قد يحتمل الصدق وقد يحتمل الكذب . وبعد أن أورد ما زعمه الناس قال بعده :" هكذا وجدت هذا الخبر، وأبرأ إلى الله من عهدة ناقليه، وإلى الأدب من غلط النقل إن كان وقع فيه ."
وابن بسام وإن أورد مقالة ابن زيدون في ترجمة ولادة إلا أنه لم يتحدث مطلقا عن علاقتها به وبغيره، ولم يخض في هذا الحديث، بل على العكس أشار ومن طرف خفي إلى كثرة القيل والقال، وصعوبة التحقق منه . قال :"ولها مع أبي الوليد بن زيدون أخبار، طوال وقصار، يفوت إحصاؤها، ويشق استقصاؤها ."
وبالرجوع إلى تراجم ابن زيدون في عصره والقريبة من عصره، لا نجد أي حكاية من هذا النوع، فكل الإشارات الواردة كانت تشير إلى حبه لولادة، وتعلقه بها .
في كتاب "المغرب من أشعار أهل المغرب" لابن سعيد- ينقل عن" القلائد"قول الفتح بن خاقان :"وقال تغزل في ولادة بنت المستكفي التي كان يهواها وكانت شاعرة"( ) . وفي مكان آخر"وله في ولادة القصيدة التي ضربت في الإبداع بسهم ."( )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي كتاب"المعجب" لعبد الواحد المراكشي من ترجمة ابن زيدون" ومن نسيبه الذي يختلط بالروح رقة، ويمتزج بأجزاء الهواء لطافة قصيدته التي قال فيها يتشوق ابنة المهدي ولادة وهي بقرطبة وهو بإشبيلية"( ) .
ومن المؤلفات المشرقية نجد لابن زيدون ترجمة في "وفيات الأعيان " لابن خلكان( ) لم يرد فيها أي شيء عن ولادة .
وفي" تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون" نجد "الصفدي" يذكرها ويصفها بالعفة . يقول :"وله مع ولادة هذه أخبار تطرب القلوب، وتشنف المسامع، لأنه خلع فيها عذاره، وأعطى هواه فيها فضل زمامه . وكانت ولادة هذه من أهل بيت الخلافة، ابنة محمد المستكفي بن عبد الرحمان، وهي واحدة زمانها، لمشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة . وكانت مشهورة بالصيانة والعفاف"( ) . وذكر في مكان آخر:"وكانت ولادة تهوى ابن زيدون، ثم مالت عنه إلى الوزير ابن عبدوس"( ) .
وفي" سرح العيون" ساق ابن نباتة المصري بعض أخبارها، كما ساق شعرا في هجائها لابن زيدون عقب عليه بقوله :"وكان سبب قولها فيه هذا الشعر، أنه اتهمها بمواصلة الوزير أ بي عامر بن عبدوس"( ) .
وفي "الأعلام" قال في ترجمتها الزركشي :" اشتهرت بأخبارها مع الوزيرين ابن زيدون وابن عبدوس، وكانا يهويانها، وهي تود الأول وتكره الثاني، حتى وقع بينهما ما وقع، وكتب ابن زيدون رسالته التهكمية المعروفة إلى ابن عبدوس"( ) .
وفي" أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام" اكتفى عمر رضا كحالة بنقل ما في كتب التراجم كالذخيرة والمغرب ( ) .
بعد هذا العرض السريع والمختصر لبعض المصادر، أود أن أعرف بولادة و بابن زيدون للوصول إلى الحقيقة، أو على الأقل التقرب منها . وأقصد في التعريف بهما إلى ذكر جوانب شخصية كل منهما وحقيقة العلاقة بينهما . فمن هي ولادة هذه ؟
ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمان بن عبيد الله بن الناصر عبد الرحمان، أميرة أندلسية من أميرات الدولة الأموية بقرطبة، ولدت في بيت خلافة، جدها عبد الرحمان هو حفيد عبد الرحمان الناصر، وابنة الخليفة المستكفي بالله الذي تولى ملك الأمويين ما بين سنة 414 هـ و 416 هـ . لم تحدد المصادر التي ترجمت لولادة تاريخ ميلادها، بينما حددت تاريخ وفاتها سنة 484 هـ ، وحددت بالتقريب عمرها . ذكر ابن بشكوال في "الصلة" أنها توفيت يوم مقتل الفتح بن محمد بن عباد يوم الأربعاء لليلتين خلتا من صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة"( ) . وذكر ابن بسام أنها عاشت حتى أربت على الثمانين، فعلى هذا يمكن تحديد ميلادها ما بين 400 و403 هـ .
ولدت بقرطبة في أسرة بني مروان الحاكمة، وسميت باسم عمة جدها، ولادة بنت عبد الرحمان الناصر( ) . والظاهر أن الأمويين كانوا يتفاءلون بهذا الاسم، إذ أن ولادة الأولى كانت بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جزيمة العبسي، زوجة عبد الملك بن مروان التي أنجبت اثنين من خلفاء بني أمية : سليمان والوليد ابني عبد الملك( ) .
نشأت أديبتنا تنشئة الأمراء، فتربت وتعلمت يساعدها في ذلك ذكاء حاد، وقريحة وقادة، ونباهة وفصاحة، فأقبلت على الشعر والموسيقى، ونبغت وكونت مدرسة لتعليم الناشئات ممن توسمت فيهن الموهبة والذكاء، كمهجة بنت التياني، إذ" أن أباها كان يبيع التين، وكانت تدخل عند ولادة، وكانت من أجمل نساء زمانها، وأخفهن روحا، فعلقت بها ولادة ولزمت تأديبها حتى أصبحت شاعرة"( ) .
كانت ولادة بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العينين، وهي صفات موروثة عن بني أمية، إذ أن جماعة خلفائهم كانوا على هذا الشكل، وابن حزم نص على هذه الصفات في كتابه"طوق الحمامة" قائلا :" وأما جماعة خلفاء بني مروان – رحمهم الله- ولاسيما ولد الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأينا من رآهم من لدن دولة الناصر إلى الآن، فما منهم إلا أشقر، نزاعا إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشا سليمان الظافر -رحمه الله- فإني رأيته أسود اللحية، وأما الناصر والحكم المستنصر-رضي الله عنهما- فحدثني الوزير أبي –رحمه الله-وغيره، أنهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي وعبد الرحمان المرتضى -رحمهم الله-، فإني قد رأيتهم شقرا شهلا وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم ."( )
ولا أدري من أين استقى معلوماته هذه؟ بل نجده يبالغ عندما يصفها أنها تهيم بالشاعر، ويقرر أيضا أنها تلتقي بابن زيدون ويجمع بين أشعار ليلفق منها قصة، ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما يقرر أن ولادة "كثيرا ما كانت تترجم عن مشاعرها تجاه ابن زيدون وحبها إياه في غزل رقيق"( )، مع العلم أن ولادة لم تكن شاعرة غزل ولم تورد لها المصادر شعرا في الغزل . ويكمل قصته بجعل ابن زيدون يملك زمام قلبها . والغريب أنه يورد بعد ذلك أخبارا كان أولى به أن يقف عندها ليدرسها ويحللها ليصل منها إلى الحقيقة وهي قوله : "وكانت تعتبره أستاذا لها وكثيرا ما كانت تطلب إليه أن ينقد ما في شعرها من هنات، ويلفت نظرها إلى ما قد يكون فيه من مآخذ"( ) . والأبيات التي بعثت بها ولادة لابن زيدون، أبيات غزل يتيمة هي كل ما رواه الأقدمون من أشعار الغزل لولادة، ويظهر أن هذه الأشعار كانت باكورة إنتاجها الشعري لذلك أرسلت بها إلى ابن زيدون ليصححها وينتقدها ويقوم بتصويبها، والغريب أن الدارس يشهد بهذا في قوله : "ثم يمضي ابن زيدون في درسه لولادة مبينا لها أن بيتا آخر في نفس المناسبة يعتبر أجود"( ) .
النص الثالث من كتاب " تاريخ الأدب الأندلسي عصر الطوائف والمرابطين " للدكتور إحسان عباس، في معرض حديثه عن الغزل في هذا العصر، عرض لقصة الشاعر ابن الحداد وغزله في نويرة وابن زيدون وغزله في ولادة . بدأ الباحث موضوعه بداية سليمة لو أنه وقف عندها مليا و ناقشها ليميز بين الواقع والملفق، فقد قال :"ويبدو أن ابن زيدون أضفى على هذا الحب شيئا حين سجله في مذكرات أو ترجمة ذاتية، أو رواه متلذذا بذكريات الماضي ."( ) وقال في الصفحة الموالية " وكل هذا أورده لأدل على أن ابن زيدون نفسه جعل من ذلك الحب قصة مكتوبة أو مروية في نطاق آخر مستقل عن نطاق ديوانه"( ) . إلا أن الباحث ينسى هذين القولين ويعمد إلى الحديث عن هذه العلاقة حديث غيره مسلما بالحكاية، فيقع في تناقض واضح لم يعرف كيف يخرج منه حين علق على هجاء ابن زيدون وتعريضه بولادة في قوله :"وهذا يومئ إلى حرص ابن زيدون على استبقاء الصداقة بينه وبين ابن عبدوس بعد إذ خاب ظنه في الحب . وقد تم هذا بعد الرسالة الهزلية التي كان ابن زيدون يحرص فيها على استبقاء الحب وإن أدى به إلى فقد الصديق . "( ) وينهي حديثه عن هذه العلاقة بحكم آخر بعيد كل البعد عن الواقع والحقيقة حين قال :"وانصرفت ولادة عن ابن زيدون إلى ابن عبدوس، وظل الثاني يكفل لها العيش اللين بجوده بعد إذ تحيف الدهر المستطيل حالها وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين ( )". وفي نهاية الحديث يقع في تناقض آخر وهو يدلي برأيه في موقف ولادة من ابن زيدون – وإن كان في مجال التقدير لا التقرير- يقول "مما يؤخذ سببا لتعليل غضب ولادة على ابن زيدون، إذ نقدر أنها أنفت من أن يتهمها هذا الاتهام في سبيل أن يرجح كفته على ابن عبدوس فاختارت ابن عبدوس نكاية به وتقريعا له ودفعا لهذه التهمة ."( ) ولا أدري على أي أساس حكم على ولادة أنها اختارت ابن عبدوس؟ ولا من أي مصدر استقى معلوماته ؟
وللوقوف على حقيقة الأمر كان لزاما علي الرجوع إلى المصادر التي تحدثت عن ولادة وعن ابن زيدون وأي المصادر أورد القصة ؟
انطلقت الحكاية أولا من كتاب" المطرب من أشعار أهل المغرب" لابن دحية . فقد ترجم لولادة معتمدا على نقول من " الصلة " لابن بشكوال، ثم من" الذخيرة" لابن بسام ، وفي نقله هذا من" الذخيرة" تَصَّرُفٌ أخل بجوهر الترجمة، إذ كتب مباشرة "وكتبت إلى ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن زيدون المخزومي القرطبي :
" ترقب إذا جن الظلام زيارتي ........إلخ"، دون أن ينقل الخبر كما أورده ابن بسام، فأصبح ما ورد في المقامة على لسان ابن زيدون وكأنه خبر مروي عن ابن بسام، مع العلم أن ابن دحية بعد إيراده للبيتين الشهيرين يقول مباشرة "إلى أن يقول ابن زيدون " ويورد باقي المقامة، مما يدل على أن هذا الكلام بقية كلام ابن زيدون وإن لم يذكره أولا .
ثم يأتي المقري في" النفح " ليورد أخبار ولادة من مصادر متفرقة وبتصّرف أيضا وإذا به يورد البيتين كما في رواية "المطرب" دون الإشارة إلى أن مصدر هذه الأخبار والأحاديث إنما هي في الأصل مذكرات للشاعر ابن زيدون كتبها في مقامة أدرجها ابن بسام في "الذخيرة"، ثم جعل النقلُ منها بِتَصَرُّف أخبارا حقيقية لاصقة بحياة ولادة، ومن هنا امتلأت الموضوعات المتعلقة بابن زيدون وولادة بأخبار هذه العلاقة، فصاغ منها الكتاب ما شاءوا كما صاغت منها أحاديث العامة والحكايات الشعبية قبل ذلك ما شاءت .
وهكذا اختلفت الأخبار بين المصادر فلا نجد في بعضها أي أثر للحديث عن علاقة ولادة بابن زيدون، وهي المصادر التي تنتمي إلى الفترة التي عاشت فيها ولادة والمدينة التي نشأت بها، أليس غريبا أن يؤلف ابن حزم ( ت 456هـ )ـ وهو معاصرها وبلديها ـ رسالته الشهيرة "طوق الحمامة"، ذاكرا فيها أخبار المحبين ـ حتى من الخلفاء وعلية القوم( )، ولم يشر إلى هذه العلاقة، مع العلم أنه كان من رجال الخليفة عبدالرحمان بن هشام الناصري المستظهر، واعتقله الخليفة المستكفي والد ولادة بعد توليه الخلافة ؟
وفي " الصلة" لابن بشكوال- وهي أقدم المصادر التي ترجمت لولادة وأقربها إلى العصر- ذكر ابن بشكوال شهادة شاهد عيان عاش في نفس الفترة التي عاشت فيها ولادة، وفي نفس المدينة أيضا، وهو شيخه أبو عبد الله ابن مكي " يصف نباهتها وفصاحتها، وحرارة نادرتها وجزالة منطقها". وقال أيضا ينتقد سلوكها :"ولم يكن لها تصاون يطابق شرفها ." وأضع خطا تحت هذه الجملة لأنها أضرت بسمعة ولادة، واعتبرها البعض شهادة على انحلال أخلاقها، ويجب أن نميز هنا بين قولين : أن يقول : " لم يكن لها تصاون " ، ويسكت، فهذا حتما سيدل على انحلال أخلاقها وسوء سلوكها، وبين أن يقول : " لم يكن لها تصاون يطابق شرفها "، فنفي التصاون هنا مشروط بمكانتها الأرستقراطية العالية، إذ هي في أول الأمر وفي آخره أميرة مروانية ابنة خليفة وحفيدة خلفاء عظام حكموا الأندلس، تنتمي إلى أعلى الطبقات في مجتمع طبقي يحرص كل الحرص على ان يظل التميز الطبقي واضحا جليا بين طبقاته، فجلوسها إلى عامة الأدباء والشعراء يقلل من قيمتها، وهو ما كان ينتقد عليها ولاشيء سواه، بدليل انها كانت تحظى باحترام الناس، العامة منهم والخاصة، وكانت تزور وتزار، كما كانت ترتاد المجتمعات الأندلسية العالية فتستقبل وتكرم، فهذا أبو عبد الله جعفر بن محمد بن مكي، أحد وزراء قرطبة يشهد أنها جاءته معزية في والده سنة 474 هـ، وقد جاوزت السبعين من عمرها . فلو كان لها سلوك مشين يمس شرفها وأخلاقها، ولو عرفت حقا بغرامياتها وعلاقاتها المتعددة، وبتنقل عواطفها بين رجل وآخر، هل كان بنو أمية يسمحون بذلك ؟ وهل كانت الأسر والطبقات الأرستقراطية تسمح لها بزيارتها أو باستقبالها ؟ قطعا كان بنوا أمية – وفي فترة الاضطرابات السياسية كل شيء ممكن وقوعه- وجدوا إلى التخلص منها بدل الوسيلة ألف وسيلة، ولكانت الطبقات الاجتماعية المتميزة ضربت عليها الحصار، وأوصدت الأبواب في وجهها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا انتقلنا إلى العصر الموالي لعصرها، نجد ابن بسام في ترجمته يشهد لها بقوله :"كانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب ."( ) وهذه شهادة واضحة منه، وإن كان يتحرج في ذكر أخبارها دون التأكد منها، وعندما قال :" على أنها- سمح الله لها، وتغمد زللها- اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها ."قال بعد هذا الكلام وكأنه يعلله :"كتبت- زعموا-" واستعمل لفظ زعموا للدلالة على أن هذا القول قد يحتمل الصدق وقد يحتمل الكذب . وبعد أن أورد ما زعمه الناس قال بعده :" هكذا وجدت هذا الخبر، وأبرأ إلى الله من عهدة ناقليه، وإلى الأدب من غلط النقل إن كان وقع فيه ."
وابن بسام وإن أورد مقالة ابن زيدون في ترجمة ولادة إلا أنه لم يتحدث مطلقا عن علاقتها به وبغيره، ولم يخض في هذا الحديث، بل على العكس أشار ومن طرف خفي إلى كثرة القيل والقال، وصعوبة التحقق منه . قال :"ولها مع أبي الوليد بن زيدون أخبار، طوال وقصار، يفوت إحصاؤها، ويشق استقصاؤها ."
وبالرجوع إلى تراجم ابن زيدون في عصره والقريبة من عصره، لا نجد أي حكاية من هذا النوع، فكل الإشارات الواردة كانت تشير إلى حبه لولادة، وتعلقه بها .
في كتاب "المغرب من أشعار أهل المغرب" لابن سعيد- ينقل عن" القلائد"قول الفتح بن خاقان :"وقال تغزل في ولادة بنت المستكفي التي كان يهواها وكانت شاعرة"( ) . وفي مكان آخر"وله في ولادة القصيدة التي ضربت في الإبداع بسهم ."( )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي كتاب"المعجب" لعبد الواحد المراكشي من ترجمة ابن زيدون" ومن نسيبه الذي يختلط بالروح رقة، ويمتزج بأجزاء الهواء لطافة قصيدته التي قال فيها يتشوق ابنة المهدي ولادة وهي بقرطبة وهو بإشبيلية"( ) .
ومن المؤلفات المشرقية نجد لابن زيدون ترجمة في "وفيات الأعيان " لابن خلكان( ) لم يرد فيها أي شيء عن ولادة .
وفي" تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون" نجد "الصفدي" يذكرها ويصفها بالعفة . يقول :"وله مع ولادة هذه أخبار تطرب القلوب، وتشنف المسامع، لأنه خلع فيها عذاره، وأعطى هواه فيها فضل زمامه . وكانت ولادة هذه من أهل بيت الخلافة، ابنة محمد المستكفي بن عبد الرحمان، وهي واحدة زمانها، لمشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة . وكانت مشهورة بالصيانة والعفاف"( ) . وذكر في مكان آخر:"وكانت ولادة تهوى ابن زيدون، ثم مالت عنه إلى الوزير ابن عبدوس"( ) .
وفي" سرح العيون" ساق ابن نباتة المصري بعض أخبارها، كما ساق شعرا في هجائها لابن زيدون عقب عليه بقوله :"وكان سبب قولها فيه هذا الشعر، أنه اتهمها بمواصلة الوزير أ بي عامر بن عبدوس"( ) .
وفي "الأعلام" قال في ترجمتها الزركشي :" اشتهرت بأخبارها مع الوزيرين ابن زيدون وابن عبدوس، وكانا يهويانها، وهي تود الأول وتكره الثاني، حتى وقع بينهما ما وقع، وكتب ابن زيدون رسالته التهكمية المعروفة إلى ابن عبدوس"( ) .
وفي" أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام" اكتفى عمر رضا كحالة بنقل ما في كتب التراجم كالذخيرة والمغرب ( ) .
بعد هذا العرض السريع والمختصر لبعض المصادر، أود أن أعرف بولادة و بابن زيدون للوصول إلى الحقيقة، أو على الأقل التقرب منها . وأقصد في التعريف بهما إلى ذكر جوانب شخصية كل منهما وحقيقة العلاقة بينهما . فمن هي ولادة هذه ؟
ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمان بن عبيد الله بن الناصر عبد الرحمان، أميرة أندلسية من أميرات الدولة الأموية بقرطبة، ولدت في بيت خلافة، جدها عبد الرحمان هو حفيد عبد الرحمان الناصر، وابنة الخليفة المستكفي بالله الذي تولى ملك الأمويين ما بين سنة 414 هـ و 416 هـ . لم تحدد المصادر التي ترجمت لولادة تاريخ ميلادها، بينما حددت تاريخ وفاتها سنة 484 هـ ، وحددت بالتقريب عمرها . ذكر ابن بشكوال في "الصلة" أنها توفيت يوم مقتل الفتح بن محمد بن عباد يوم الأربعاء لليلتين خلتا من صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة"( ) . وذكر ابن بسام أنها عاشت حتى أربت على الثمانين، فعلى هذا يمكن تحديد ميلادها ما بين 400 و403 هـ .
ولدت بقرطبة في أسرة بني مروان الحاكمة، وسميت باسم عمة جدها، ولادة بنت عبد الرحمان الناصر( ) . والظاهر أن الأمويين كانوا يتفاءلون بهذا الاسم، إذ أن ولادة الأولى كانت بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جزيمة العبسي، زوجة عبد الملك بن مروان التي أنجبت اثنين من خلفاء بني أمية : سليمان والوليد ابني عبد الملك( ) .
نشأت أديبتنا تنشئة الأمراء، فتربت وتعلمت يساعدها في ذلك ذكاء حاد، وقريحة وقادة، ونباهة وفصاحة، فأقبلت على الشعر والموسيقى، ونبغت وكونت مدرسة لتعليم الناشئات ممن توسمت فيهن الموهبة والذكاء، كمهجة بنت التياني، إذ" أن أباها كان يبيع التين، وكانت تدخل عند ولادة، وكانت من أجمل نساء زمانها، وأخفهن روحا، فعلقت بها ولادة ولزمت تأديبها حتى أصبحت شاعرة"( ) .
كانت ولادة بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العينين، وهي صفات موروثة عن بني أمية، إذ أن جماعة خلفائهم كانوا على هذا الشكل، وابن حزم نص على هذه الصفات في كتابه"طوق الحمامة" قائلا :" وأما جماعة خلفاء بني مروان – رحمهم الله- ولاسيما ولد الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأينا من رآهم من لدن دولة الناصر إلى الآن، فما منهم إلا أشقر، نزاعا إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشا سليمان الظافر -رحمه الله- فإني رأيته أسود اللحية، وأما الناصر والحكم المستنصر-رضي الله عنهما- فحدثني الوزير أبي –رحمه الله-وغيره، أنهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي وعبد الرحمان المرتضى -رحمهم الله-، فإني قد رأيتهم شقرا شهلا وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم ."( )