د. عادل الأسطة - مريد البرغوثي: من إعادة التكوين بعد الهزيمة إلى جنازتنا الجماعية

تقول عناوين مجموعات مريد البرغوثي ونغمة قصائده أنه لم يشذ عن خط شعراء المقاومة. وكأنما ألقت المرحلة تلك- أي مرحلة حزيران 1967 وما بعدها- بظلالها على جيل كامل من الشعراء، في الداخل وفي الخارج، وهذا ما يختلف في أدب النكبة الذي بدا تفاؤليا في أشعار درويش والقاسم وزياد، وغلب عليه طابع البكاء في أشعار شعراء المنفى ومن أبرزهم أبو سلمى.

نشر مريد عام 1972 مجموعته الشعرية الاولى "الطوفان وإعادة التكوين"، وكانت تضم قصائد كتبها ما بين آب 1967 وآذار 1971، وأصدر عام 1974 مجموعته الثانية "فلسطيني في الشمس"، وقد أشار في القصيدة التي حمل اسمها عنوان المجموعة الى الفلسطيني الصغير في البلاد، هذا الذي يريد خرق الدائرة. وأصدر في عام 1978 ديوان "نشيد للفقر المسلح"، وفيه كتب عن زمن الاشتباك، ووصف البطل الذي حملته الريح ما لا يحتمل، وغنى له، لان الثورة - حلوة النبعة - تجيء في الأوقات الصعبة وتمنح الوعد الجريء لجريء يستحقه. وكان مريد متفائلا، فاذا كان الليل مكتملا، فإن الصبح ايضا يكتمل:

"ومغالق الطرق التي انفتحت

يرتادها البطل

والبادئون مسيرة الفقراء

لابد ان يصلو" (أ.ك، بيروت 1997، ص 630)

وينشر في العام نفسه "الأرض تنشر أسرارها" ويكتب فيها عن سعيد القروي وحلوة النبعة، ويأتي الشاعر على مشاركة سعيد الرمز في الثورة منذ 1935. يهاجم عز الدين القسام في تشرين ثان 1935، وتنكشف مواقعه فيحثه سعيد على الانسحاب، وهنا يأتي صوت الأول: "موتوا شهداء"، وتقفر الشوارع في عام 1936 ويصبح ذلك اليوم علامة مضيئة، ويختلف الأمر عام النكبة، فمنذ يوم الخروج "فقد الأطفال طفولتهم"، ويتعلم سعيد في عام 1967 أن يقرأ "غص في قاع القبر"، وفي عام 1970 يأتيه صوت الشيخ:

"كل وقت صالح للبدء، فابدأ

إنما الحاضر ماض

والى مستقبل الأيام نمشي" (ص 597).

ويواصل سعيد الرحلة، وتكون رحلة الوجد الطويلة، و "كلما قالوا انتهى فاجأتهم أني ابتدأت". وهكذا كانت الثورة تخرج من كل معركة أشد وأقوى. حقا إن بعض "قصائد للرصيف" (1980) لا تخلو من حس تشاؤمي سوداوي، الا أن الامل ظل ملازما للشاعر. ويظل ملازما له ايضا إثر الخروج من بيروت. يدرك الشاعر أن الهجمة شرسة ويرى الصمت العربي الذي بلغ درجة التخاذل، ومع ذلك نجده في قصيدته الجميلة جدا، القصيدة التي حملت فيما بعد عنوان مجموعة شعرية، نجده يختتمها بقوله:

أنا راكض الدهر اللحــــوح أصيح مـــن
خيم الضيافــــة والجحيم المســــــتتر
ومن المطار من القطار من العــــــوا
صم والقفار مــن الموانيء والجزر
ســـــأصيح صيحة من يعانـــد موتـــــــــه
ســـــأصيح صيحة من يعانـــد موتـــــــــه

ولما كانت الانتفاضة كتب مريد العديد من القصائد التي لا تخلو من حس تفاؤلي. نقرأ في مجموعته "رنة الابرة" (1993) قصيدة "ق. و.م" التي تمجد المنتفضين، فقد تحولت فصولنا كلها؛ الصيف والشتاء والربيع والخريف، الى فصول معطاءة، وهكذا جادت، بعكس نشرة الأخبار، بالمطر:

"ليذهب النشيد عاليا الى مقامهم
قيادة بلا زخارف
وقادة بلا صور
قصورهم طينية
وبرلمانهم حجر" (ص 269).

ويعبر في قصائد الانتفاضة، تماما كما عبر في "طال الشتات"، عن خيبته من الأمة العربية التي وقفت تشاهد ما يجري، وتصبح كلها:

"أمة في البرد
تنظر بين أسلاك الحدود
الى منازلها الحزينة
وهي حائرة الخطى بين الكرامة والركام" (ص 277)

وشعره لا يشذ في هذا عن أشعار درويش والقاسم. وتتخذ الخيبة في مرحلة السلام، والقصيدة السابقة كتبت في اثنائها- أي عام 1992-، بعدا آخر. لا يشعر مريد بالخيبة من الأمة العربية وحسب، وإنما يخيب ظنه في الرفاق الذين كان يسير معهم في الطريق المشترك، وهكذا يخيب الثوري من الثوري الذي كان.

سوف أقف أمام أربع قصائد من قصائد الشاعر الاخيرة وهي: "ذاكرة للنمر" (ص 13) و "على خشبة المسرح" (ص 41) و"رقص" (ص 75) و "صندوق جدتي" (ص 77)، ولن آتي على ديوانه "منطق الكائنات" (1996)، وإن كانت مقطوعة "المكيدة" (ص 100) ذات دلالة مهمة جدا.

"قال المتلهفون على الدخول:
عبثا احتفظنا بمفاتيحنا طوال العمر...
فقد غيروا الأقفال".

ولنا نحن الفلسطينيين أن نقرأها، في هذه المرحلة التاريخية، على هوانا. ولنا أيضا ان نربطها بنصوص نثرية كتبها فلسطينيون متلهفون على الدخول لرؤية قراهم ومدنهم، ودخلوا فوجدوها، بعد زيارتها، وقد تغيرت تماما. وهذا ما بدا في نص يحيى المدروس هنا "نهر يستحم في البحيرة"، ولا أدري بالضبط ما الذي كتبه مريد نفسه في كتابه الصادر مؤخرا عن دار الهلال تحت عنوان "رأيت رام الله"، وقد نشر جزء ضئيل منه في الكرمل (عدد 51).

وتفرض الكتابة عن مريد الوقوف عند نصوصه الشعرية، فعلى الرغم من حضوره
الدائم المستمر على صفحات المجلات المصرية، والمجلات والجرائد الفلسطينية الصادرة هنا، وبخاصة حضور قصائده، الا أن الدارس لا يظفر بمعلومات وفيرة عن آرائه السياسية والشعرية. ومن هنا يبدو الالتصاق بالنصوص أمرا لا مفر منه، ولا تسعفنا لاضاءة النص من خارجه سوى التواريخ التي أثبتها الشاعر في نهاية اكثر قصائده الاخيرة، التواريخ التي تستثير في أذهاننا أحداثا تاريخية مهمة ودالة تجعل من فهم النص وتأويله أمرا يطمئن المرء اليه.

كتب مريد قصيدته "ذاكرة للنمر" في 19/10/1993- أي بعد ستة وثلاثين يوما من توقيع اتفاقية (أوسلو). ويسأل أنا المتكلم فيها أصدقاءه إن كانوا يعرفونه، أو إن كانوا يصغون لصمته في ضجيج الفرجة الكبرى، أو إن كانوا يدرون بما في خاطره ؟ ويستمر في سؤالهم إن كان أي واحد منهم يعرف ما ظل من الذكرى بقلبه نتيجة للمشهد الراهن. ونفهم من هذا كله أنه يعني احتفالات (أوسلو) والمشهد الشرق أوسطي. وثمة غابة غدت، الان، محذوفة من المشهد، ولا يخفى أنها فلسطين، ولم تترك الغابة مساماته وما غابت عنها دقيقة. ويأتي على ذكر الحارس الذي اصبح مشغولا بالزهو وباطمئنانه، ويسأله إن كان لا يذكر الماضي الذي كانه كما كانه انا المتكلم. ويعني هذا أنهما كانا في خندق واحد تشبث به أنا الشاعر، فيما أخذ رفيق دربه يسخر منه، لأنه اصبح:

"يحني جذعه للمال والاعجاب
والدهشة تعلو الزائرين
قبل أن ينتقلوا للفرجة الأخرى
على بيت النسور الراقدة
بين ذكرى قمم الغيم
وقضبان الحقيقة" (ص 14)

وفي قصيدة "على خشبة المسرح" المكتوبة في 22/10/1995 ثمة صخب وموسيقى وحفل راقص في مقبرة، وأيضا ثمة موت وقهقهة في مكان (هنا) فيما (هناك) صمت ورايات مزوقة. وثمة ايضا مخرج أعمى يدير لنا مشاهدنا العجيبة المتمثلة في دس (هملت) المجنون السم لوالده ليلا، وتكون (أوفيليا) البدينة عاهرة. وما بين هنا وهناك، ما بين الموسيقى والرقص والموت والقهقة يبدو الشاعر حزينا:

"المشهد العبثي طال بنا وطال
ومر قاتلنا فملنا نحوه
وكأننا ذنب يميل على أيادي المغفرة" (ص 42)

ويذكرنا هذا المقطع بقصيدة درويش "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس" وتحديدا قول درويش:

"غفروا
للضحية أخطاءها عندما اعتذرت
عن كلام سيخطر في بالها"

وكلا الشاعرين يرى المشهد العبثي، وكلاهما يرى الضحية تميل نحو قاتلها وكأنها ذنب يميل على أيادي المغفرة، لتعتذر عن كلام سيخطر في بالها.

ويطالعنا في قصيدة "رقص" المكتوبة في 9/9/1993 - أي قبل أربعة أيام من توقيع اتفاق (أوسلو) متكلم يطلب من الاخرين أن يأخذوا منه كل ما يريدون، وأن يعطوا ما يريدون للغزاة: مقابر أهله والميرمية والياسمين ونصف الحصان ونصف الرصاص، مقابل رجاء واحد:

"لكن

بلا أي رقص رجاء فإني حزين " (ص 76)

وكان الفلسطينيون، في حينه، ممن وقعوا يرقصون لهذا الانجاز الذي ما رأى فيه أنا الشاعر أي انجاز، لأنه لو رأى فيه انجازا حقيقيا لما اعترته حالة من الحزن، ولربما شاركهم في رقصهم.

ويصدم مطلع "صندوق جدتي" التي كتبت في 23/3/1997، القاريء. ثمة عرس وجنازة:
"زمن مطوى كالشراشف
رتبته من ارتباكات الجفون
أمام سيدها العريس
الى جنازتها القليلة في المطر"

وهي الجدة التي اجبرت، مثل آلاف النساء في الريف الفلسطيني، على الزواج من زوج لا تعرفه، وتحتفظ هذه الجدة بأشياء عزيزة عليها: الطوق العثملية وحجب الادعية ودعوات الخطوبة والزواج والخواتم التي لم تضعها على اصابعها فاتهمت لذلك بأنها بخيلة، وما كان البخل ديدنها، والدليل على ذلك أنها لم تبخل بحياة ابنيها اللذين استشهدا ليستنهضا القرى...الخ. ولكثرة ترحالها، مثل فلسطينيات كثر، كان جيرانها دائما جددا، وعلى الرغم من طول الرحلة ظلت تحتفظ بمفتاح بيت غابر في اللد. ولقد تعلمت التحمل والتغاضي، وكانت مثار تساؤل لحفيدها الشاعر الذي أراد دوما أن يفتش عن ملامح قلبها. وتنتهي القصيدة، كما انتهت رحلة الجدة، بالمقطع التالي المعبر عن حزن وخيبة:

"قومي على كتفي ومري في الزمان غريبة
وتأملي ما تبصرين
من ارتباكات الجفون أمام سيدك العريس
الى جنازتنا جميعا في المطر " (ص 81)

والزوج للجدة مثل الحاكم الذي حكم الفلسطينيين وما أرادوه دوما، لأنه حكمهم دون ارادة منهم وعن غير رغبة، وكأن ارتباكات جفونها أمام سيدها العريس القسري هي ارتباكات شعب كامل منذ بدايات الزواج بما يعنيه من اقبال على الحياة، الى جنازتنا جميعا في المطر. هكذا يرى البرغوثي النهاية التي توصلنا اليها: جنازة جماعية في يوم ماطر، وكم يكون الموت في ذلك اليوم مزعجا!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى