د. عادل الأسطة - إبراهيم الجبين... السوري الناصح الأمين

لا أعرف إبراهيم الجبين صاحب رواية "يوميات يهودي من دمشق" (2007) شخصياً، ولم أقرأ له إلا روايته الوارد عنوانها آنفا، الرواية التي أنجزت عنها مقالاً حمل عنوانه عنوانها، وقد عقبت قارئة اسمها سماح على المقال لتدافع عن إبراهيم، كأنها اشتمت من مقالي أنني أهاجمه، هو الذي استقال مؤخراً من التلفاز السوري احتجاجاً على ما يجري في بلاده. وسأعرف من سماح أن الجبين كان قبل ست سنوات كتب رسالة إلى الرئيس السوري بشار الأسد يصارحه فيها بأوضاع في بلاده لا تسر، أوضاع تحتاج إلى إصلاح، وكان صاحب الرسالة جريئاً لا ينافق ولا يتملق كما ينافق المنافقون وكما يتملقون. لقد كان إبراهيم، حسب تعقيب سماح، الناصح الأمين. ولم أكتف بما أوردته عن إبراهيم، فقد أخذت أقرأ، على الشبكة العنكبوتية، عن إبراهيم ما تيسر. وسأعرف أنه كان يقدم، في الفضائية السورية، برنامجاً عنوانه "علامة" أوقفه مسؤول إعلامي بارز، وسأعرف أن إبراهيم شاعر، وحين أبحث عن صورته أجدها تتطابق والصورة التي على الغلاف الأخير من روايته المذكورة.

اكتشاف خطأ متأخر:
في إحدى مقالاتي التي تقارب صورة اليهود في الأدب العربي أتيت على الكتّاب العرب الذين صوروا اليهود في نصوصهم؛ ذكرت أمين معلوف في "موانئ المشرق" وجاسم المطير في "عاشقان من بلاد الرافدين" وممدوح عدوان في "أعدائي" والياس خوري في "باب الشمس"، وقلت إن الصورة التي يبرزها هؤلاء لليهود هي الصورة التي يبرزها العرب غير اليهود لليهود، وفي المقال نفسه، وكان عن رواية "العشيق الفلسطيني لغولدا مائير" لجاسم نصيب تساءلت عن الصورة التي يقدمها اليهود العرب لأنفسهم في الروايات التي كتبوها، وكانت رواية نصيب، وهو يهودي من أصول لبنانية يقيم في باريس، واحدة من الروايات التي كتبها يهود عرب، وسيخدعني عنوان رواية إبراهيم الجبين، وسأظنه يهودياً سورياً يقدم صورة لليهود العرب، وسأكتشف، من خلال تعقيب سماح، أنه ليس كذلك، وأنه سوري ابن سوري، وحر ابن حر. – طبعاً يمكن أن يكون السوري مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، وهكذا لم تأت هي على ديانته.

لماذا اهتممت بهويته الدينية؟
هل كان من الضروري الالتفات إلى هويته الدينية وأنا أكتب عن روايته؟ لا أريد أن أناقش ثانية تركيز المستشرقين على أصول الكاتب، وإنْ كنت أراها ضرورية، لأن ثقافة العربي اليهودي تغاير، ولو جزئياً، ثقافة العربي المسيحي أو ثقافة العربي المسلم. فهذا أو ذاك أو الثالث سيتشرب في المنزل، هذا إن لم يذهب إلى مدرسة خاصة بطائفته الدينية، سيتشرب طقوسه الدينية وسيلم بها كما لم يلم بها غيره، وهذه ستنعكس في كتاباته. هل وظف شاعر مسلم، مهما بلغت ثقافته بالرموز المسيحية، الرموز المسيحية كما وظفها خليل حاوي في أشعاره؟ لا أظن ذلك، ومَن لديه الدليل فليفصح، ومنه أستفيد. وكما ذكرت آنفاً فقد التفت إلى سؤال الهوية لأنني كنت أريد أن أكتب عن صورة الذات والآخر في النص.
تقول الرواية شيئاً مما يجري الآن:
صدرت رواية "يوميات يهودي من دمشق" في العام 2007، ولم يكن الربيع العربي قد بدأ. وعلى ذمة سماح فقد كان إبراهيم الجبين كتب إلى الرئيس السوري بشار الأسد رسالة يفاتحه فيها بما يجري في سورية. ويبدو أن الجبين كان يتحسس أن هناك خللاً ما في الدولة، أن هناك فساداً ما سيقود إلى ما لا تحمد عقباه، إلى ربيع ثوري قد يزلزل البلاد. هل نلحظ شيئاً من هذا في الرواية؟
في بعض اليوميات، إذا اعتبرنا كل مقطع إحداها أو يومية ما، يأتي كاتب اليومية على زيارته بيروت، وفي بيروت يفكر في العودة إلى الشام، ولأنه كاتب وله صداقات مع يساريين عراقيين ولبنانيين، فإنه يحسب حساب العودة، هو الذي سافر إلى بيروت وقطع الحدود لاجئاً إلى الرشوة، بل إنه وهو في بيروت يفكر في أمر نظام بلاده الذي قد يلاحقه:
"هل هذه بيروت؟!
هناك ما ينطمر في غبار الحداثة؟
بسام حجار ويوسف بزي أحياء..
كنت مطارداً.. والأرواح السوداء تلاحقني.. كتبت (نهاية التاريخ السوري) في ملحق النهار.. لم أشعر أنني خارج الأرض التي تلاحقني.. معي ورق ينبغي ألاّ يراه أحد..
لا شيء في بيروت في بيروت يذكرني بأنني خرجت من حدود الراية الحمقاء للعنف...."ص14
"ماذا أفعل؟!
هل أعود إلى دمشق؟!
ستطاردني الأرواح السوداء..
وسأترك زوجتي وطفلتي في مهب الرياح الشريرة..
ريح من شر، تهب من دمشق" (ص16)
وعموماً فإن الرواية تلمح ولا تصرح، وتبدو –كما ذكرت في مقالة سابقة- مربكة للقارئ، وقد أثرت سؤالاً هو: أمرد الغموض إلى خوف الكاتب من نظام حكم بلاده؟ (للأسف وقع خطأ مطبعي في مفردة: "أمرّد").
هل إشارات الجبين فريدة من نوعها؟
هل كان الجبين هو الكاتب الوحيد الذي لمح إلى النظام القمعي في بلاده؟ هذا إذا ذهبنا إلى أنه نظام قمعي وأقررنا بذلك، وأردنا أن نحدد موقفنا. (أنا ضد التوريث، وضد الاستمرارية في الحكم حتى الأبد..).
ربما يتذكر المرء أشعار مظفر النواب التي قيلت في سبعينيات ق20، وهي أشعار لم تبرئ أي نظام عربي من ممارسة القمع. ربما يتذكر المرء أيضاً رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط"، وهي رواية تأتي على شرق المتوسط كله، فلا تبرئ أحداً. ربما يتذكر القارئ أشعار معين بسيسو في ديوانه "الآن خذي جسدي كيساً من رمل"، وربما يتذكر أيضاً رواية مصطفى خليفة "القوقعة: يوميات متلصص"، ورواية خالد خليفة "مديح الكراهية"، وهذا غيض من فيض. هل ننسى حلقات برنامج "أدب السجون" الذي بثته فضائية الجزيرة عن سجون الشام؟ وعموماً فإن "يوميات يهودي من دمشق" هي الأقل ملامسة لممارسات النظام السوري القاسية. إنها تكاد تشير. تلمح ولا تأتي على التفاصيل. [أنا شخصياً ليس لي تجربة، وبالتالي فإنني أبرز الصورة التي أبرزها الكتّاب الواردة أسماؤهم].
من هو اليهودي في الرواية، ثانية؟
يحضر إبراهيم الجبين في الرواية من خلال اسمه واسم عائلته، ويكون صديقاً لإخاد اليهودي. وهو كما يروي موضع سؤال. إنه شخص إشكالي، فالبعض يظنه يهودياً، وآخرون يظنونه مسيحياً، وفئة ثالثة تظنه مسلماً، وفي نهاية الرواية تساؤل عن هويته السياسية: هل هو CIA؟ هل هو مخابرات سورية؟.. الخ.. الخ، مما يذكرني بنصي "ليل الضفة الطويل" المدرج على الشبكة العنكبوتية منذ سنوات، والمكتوب في العام 1993، وفيه أثير السؤال حول هوية المخاطب، الأنت في النص. وسأنقل الفقرة من نصي:
"من أنت بالضبط؟" سألتك أندريا. وهنا تصنف كل يوم على اتجاه – ويحتار الجميع في أمرك: هل أنت مع عرفات؟ مع ياسر عبد ربه، مع نايف حواتمة، مع جورج حبش، مع الملك حسين؟. هل أنت ألماني؟ هل أنت مستقل؟ هل أنت مع الحوار أم ضد الحوار؟ من أنت بالضبط؟ هل أنت منشق؟ مع مَن أنت؟ مع أبو موسى. تؤيد أبو صالح؟".
صورة يهود دمشق:
ما كان يهمني وأنا أقرأ الرواية هو البحث عن صورة اليهود فيها، لأنني أود متابعة الكتابة في الموضوع الذي بدأت الكتابة فيه منذ العام 1987.
تبدأ الرواية في دمشق، وتحتل حارة اليهود الحضور الأكبر فيها. ويهودي دمشق الذي كان يرفض مغادرتها إلى فلسطين هو إخاد، وهو يهودي أشقر – الطريف أن صورة إبراهيم على الغلاف الأخير تظهره أشقر -، أشقر مريباً، وله أختان هما زينب وراحيل، وتوفي أبوه الذي قرر الهجرة إلى فلسطين، توفي يوم أراد الهجرة. وكانت زينب تريد الهجرة مثل أبيها خلافاً لأختها راحيل التي قررت البقاء في دمشق، فلها صديق مسيحي هو نجيب، ذهب إلى الحرب في العام 1967، ولم يعد، وظلت تنتظر عودته.
اللافت أن الأب لم يصر على تربية ابنه تربية دينية، فلم يكن يشجعه على الاحتكاك بالحاخامات، وكان يفضل أن يبقى دون ثياب سوداء ودون ضفيرتين تتدليان قرب أذنه (ص28). وتلتزم الأختان بيتهما في الشام ولا تخرجان (عزلة اليهود)، ولهما لغة خاصة هي لغة يهود دمشق، فهما تمطان الكلمات والحروف وتطيلانها "كعادة يهود دمشق" (ص38)، بل إن إخاد له أنف معقوف، وهذه صورة تقليدية، (ص37)، ومن تقاليدهم أنهم لا يدخلون الخيط في ثقب الإبرة يوم السبت (ص30)، وبعض يهود دمشق اعتنقوا الإسلام، وراجت إشاعة في الشام أنهم في ق19 قتلوا مسيحياً هو توما الكبوشي وشربوا دمه (ص28).
هذه صورة اليهود الذين بقوا يهوداً، ويشير صاحب اليوميات فيها إلى يهود اعتنقوا الإسلام وصاروا شيوخاً. وهذه فكرة برزت بوضوح في رواية زياد قاسم "الزوبعة"، وظلوا يمارسون التجارة التي أثروا منها، كأنما اعتنقوا الإسلام لذر الرماد في العيون، وليواصلوا ما يسري في دمهم ـ حسب رواية قاسم ـ.
وأعتقد أن الكتابة عن تصور الكاتب لليهود العرب تحتاج إلى المزيد، فثمة رؤى فكرية لا يجدر أن يمر المرء عليها مرور الكرام. حقاً مَن هو إبراهيم الجبين.. السوري الناصح الأمين في روايته؟؟


د. عادل الأسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى