أ. د. عادل الأسطة - اليهود في الرواية العربية

في العام ٢٠١٦ أنجزت الباحثة أمل أبو حنيش رسالة دكتوراه ، في الجامعة الأردنية ، عنوانها " صورة اليهودي وصورة العربي في نماذج من الرواية العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين " وفي عدد مجلة " الجديد " ، الصادرة في بداية شهر كانون الأول من العام ٢٠١٩ ، ويشرف عليها الناقد العراقي عواد علي والشاعر السوري نوري الجراح ، ملف كامل عن اليهود في الرواية العربية شارك فيه نقاد عرب منهم الدكتور عبدالله ابراهيم والكاتب ابراهيم عادل والناقد ممدوح فراج النابي والكاتب زياد الأحمد والناقد مصطفى بيومي والدارسة أسماء معيكل وآخرون ، وأدلى فيه قسم من الروائيين ، مثل مايا أبو الحيات وابراهيم الجبين وعلي المقري ، بشهاداتهم .
والتفات الدارسة أمل أبو حنيش ومجلة " الجديد " لهذا الموضوع لم يكن مفاجئا ، فهو استمرار لدراسات عكف عليها دارسون أسسوا للموضوع ورصدوا الالتفات إليه في الأدب العربي والرواية العربية . ومن الدارسين المشاركين في ملف " الجديد " من رصد الأعمال الأدبية ودرسها ومنهم من ركز على علم روائي بعينه .
أتت أمل أبو حنيش في أطروحتها على الدراسات السابقة ، وقد رصدها أيضا ممدوح النابي في إحدى دراستيه في مجلة " الجديد " .
ربما ما يبدو مفاجئا في الموضوع هو هذا الفيضان الروائي في الكتابة عن اليهود في مطلع القرن الحادي والعشرين ، قياسا إلى ما كتب عنهم في القرن العشرين .
في رسالة أبو حنيش وفي دراسة النابي يلحظ المرء توقفهما أمام عدد لا بأس به من الروايات ، وحين يلقي المرء نظرة على مصادر الدارسة يقرأ ما لا يقل عن عشرين عنوانا صدرت في مطلع القرن الحادي والعشرين ، بالإضافة إلى بضعة عناوين صدرت في القرن العشرين ، وهناك روايات أخرى صدرت خلال إنجاز الرسالة وبعده مثل رواية الياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " و " أولاد الغيتو : نجمة البحر " وروايات : الحبيب السائح " أنا وحاييم " وسليم بركات " ماذا عن السيدة اليهودية راحيل ؟ " و د . وليد أسامة خليل " أحببت يهودية " وسهيل كيوان " بلد المنحوس " وربعي المدهون " مصائر " وكميل أبو حنيش " مريم مريام " ، وأحمد أبو سليم " كوانتوم " ، وعبد الجبار ناصر " اليهودي الأخير " .
قسم من الروايات السابقة درسها ممدوح النابي وقسم منها لم يدرسه . هذا إذا غضضنا النظر عن روايات صدرت قبل أن تنجز الدارسة أطروحتها مثل رواية الطاهر وطار " الزلزال " وروايتي واسيني الأعرج " البيت الأندلسي " و" سوناتا لأشباح القدس " ولم يلتفت إليها ممدوح النابي أيضا . وهناك روايات مغاربية مثل رواية الجزائري الذي يكتب بالفرنسية ويثير ضجة وهو أمين زاوي " اليهودي الأخير من تمنطيط " التي درسها عبد الوهاب الشعلان . الرواية المغاربية وصورة اليهود فيها موضع رسالة دكتوراه تنجزها الآن Chahra Blg ، كما عقبت على مقال لي ، وقد أخبرتني أن الرواية المغاربية في الموضوع مهملة من الدارسين ، وكنت شخصيا التفت إلى صورة اليهود في رواية الطاهر وطار " الزلزال " وفي روايتي واسيني الأعرج المذكورتين ، فكتبت عن الروايات الجزائرية في الجريدة .
لقد لاحظ ممدوح النابي أحد المشاركين في ملف " الجديد " تسيد دال " اليهودي " في العناوين ، مثلما طغى حضور اليهود في المنجز الروائي العربي المعاصر ، وتساءل عن أسباب هذا الحضور والتسيد ، وهو حقا محق في تساؤله .
شخصيا وعلى صفحتي في الفيسبوك التفت إلى صورة الفلسطيني في الرواية العربية مقابل صورة اليهودي واقترحت على المجلة أن تخصص ملفا كاملا حتى تكتمل الصورة ، وقد وعد الناقد علي عواد بإنجاز هذا الملف .
اللافت هو تناول بعض الدارسين الروايات العربية التي كتبها روائيون عرب يهود . هنا أشير إلى دراسة العراقي الدكتور عبد الله ابراهيم لروايات اليهود العراقيين ، وقد انشغل ، من قبل ، بهذا الجانب وأنجز غير بحث عارضا لأعمال نعيم قطان وسمير نقاش وشمعون بلاص ومتوقفا أمام سؤال الهوية الذي أرق هؤلاء الكتاب في رواياتهم ، وفي حياتهم أيضا . لقد دفع قسم من الكتاب اليهود العراقيين ثمنا باهظا بعد الخروج من وطنهم الأم العراق . حقا كيف نتعامل مع روايات هؤلاء ونحن نكتب عن صورة اليهود ، إذا ما اعتمدنا منهج المرايا المتقابلة ، وإذا ما توقفنا أمام اللغة أو الدين أو المكان كمعايير لتحديد هوية الأدب ؟
اليهودي هنا يكتب بالعربية ، وهي لغته الأم ، وهو عربي والعراق وطنه ، وحين يكتب مصورا حياته وحياة أبناء الديانة اليهودية لا يكتب عن آخر يهودي وإنما يكتب عن ذاته عربيا وعراقيا ويهوديا ، ولا يكون العربي هو آخره ، فآخره ، حين يهاجر إلى فلسطين ، هو اليهودي الغربي المتعالي ، وهو ما صوره عموما بعض الفلسطينيين مثل سميح القاسم في " الصورة الأخيرة في الألبوم " . ويعد عبدالله ابراهيم رائدا في هذا الجانب ، وتعد دراساته ذات أهمية ، بل وفتحا في الالتفات إلى ما كتبه اليهود العرب الذين ولدوا في العراق واضطر قسم منهم إلى الرحيل إلى فلسطين بسبب أحداث الفرهود وحرب ١٩٤٨ ، وإن اختار قسم منهم بلدانا غربية للإقامة فيها ، لا الهجرة إلى فلسطين . ما التفت إليه د . عبدالله ابراهيم عن معاناة الكتاب اليهود العراقيين سوف يتجسد روائيا في رواية الكاتب اللبناني الياس خوري " أولاد الغيتو : نجمة البحر " ، ففيها نقرأ عن أستاذ جامعي هاجر من العراق في العام ١٩٤٨ وعاش اغترابا في الدولة العبرية .
عدا دراسة عبد الله ابراهيم هناك دراستا ممدوح النابي الذي لم يقتصر فيهما على الأعمال الروائية ، وإنما كان يلجأ إلى مقاربة صورة اليهود في الرواية في ضوء الصورة التي قدمت لهم في السينما المصرية ، ويبدو أنه كان مطلعا اطلاعا جيدا على نماذج منها . صحيح أنه درس صورة اليهود في الرواية في مطلع القرن الحالي ، ولكنه التفت إلى صورتهم في الأدب المصري في القرن العشرين ، فتوقف أمام صورتهم في بعض روايات نجيب محفوظ مثل " زقاق المدق " و " المرايا " وإحسان عبد القدوس في العديد من كتاباته الروائية وبعض قصصه ومقالاته مثل " لا تتركوني هنا وحدي " و" أين ذهبت صديقتي اليهودية؟ " ، وما كتبه عبد القدوس يركز على المصريين من أتباع الديانة اليهودية .
إن ما كتبه الروائيان ؛ محفوظ وعبد القدوس يختلف كثيرا عما كتبه روائيون كثر في القرن الحادي والعشرين ، فهما لم يعودا إلى مصادر ومراجع ليعتمدا عليها في الكتابة ، ولم يتخيلا شخصيات وأزمنة وأمكنة لا يعرفانها . لقد كتبا عن اليهود في مصر قبل العام ١٩٤٨ وبعده ، فقد ظل قسم من اليهود المصريين في بلدهم مصر ولم يهاجروا إلى فلسطين . وفي دراسة ثانية توقف الدارس أمام روايتين حللهما بقدر من التوسع وهما رواية سليم بركات " ماذا عن السيدة راحيل ؟ " ورواية حجي جابر " رغوة سوداء " ، والنابي يقدم لرواية بركات وهو يكتب عنها نقدا فنيا أيضا بالإضافة إلى الكتابة عن صورة اليهود فيها ، ويثير السؤال عن دافع كتابة الرواية في هذه الفترة التاريخية - أي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، وهو مثل كتاب ونقاد وسياسيين كثر يضعون إشارات استفهام حول الكتابة عن اليهود بعد اتفاقية أوسلو حتى قبل أن ينجز الفلسطينيون أي حل مقبول .
ما لم يلتفت إليه النابي من روايات في الرواية المصرية تناوله مصطفى بيومي الذي خصص دراسته لرواية رضوى عاشور " قطعة من أوروبة " وكتب عن اليهود في مصر من خلالها ، ويبدو أن رضوى كتبت عن حضور اليهود في مصر متكئة على كتب ودراسات علمية أكثر مما كتبت عن نماذج عرفتها أو احتكت بها - هنا لاحظت شخصيا أن ما ورد في الرواية حضر جزء منه في مسلسل " حارة اليهود " الذي عرض قبل أربع سنوات - وهذا بدوره يثير السؤال عن مصادر كتابة الروائيين العرب عن اليهود . ترفدنا الشهادات التي قدمها الروائيون في العثور على أجوبة تعبر عن وجهات نظر ، ولكن قبل الالتفات إلى شهاداتهم تجدر الإشارة إلى أعمال روائية مصرية تناول كتابها فيها حضور اليهود في مدن أخرى غير القاهرة التي كانت البيئة التي كتب عنها محفوظ وعبد القدوس ورضوى عاشور . ثمة روائيون اختاروا مدينة الاسكندرية وكتبوا عن اليهود فيها قبل هجرتهم " آخر يهود الاسكندرية " .
من أين استمد الروائيون معلوماتهم عن نماذجهم التي كتبوا عنها ؟
وما هي صلتهم باليهود ؟ هل هي صلة ناجمة عن معايشة ومعرفة عن قرب أم أنها تتكيء على الكتب والمراجع ؟
إن شهادتي ابراهيم الجبين وعلي المقري تقولان لنا هذا وذاك ، فالجبين كتب عن يهود دمشق وحارتهم من خلال وجوده في المدينة ، وعلي المقري عاد إلى المصادر والمراجع ليكتب عن يهود اليمن في القرن السابع عشر ، وأما مايا أبو الحيات التي ولدت في بيروت وعادت إثر اتفاقات أوسلو إلى رام الله فقد شاهدتهم على الحواجز وفي المدن التي وجدوا فيها .
يتوقف علي المقري أمام سبب كتابته عن اليهود فيكتب :
" أنا نشأت في مجتمع يتعامل مع اليهود كزائدة وطنية ، لا بد من إخضاعها للجسم الكلي - أي أسلمتها ودمجها في الثقافة السائدة ، وما عدا ذلك فهي غير مرغوب فيها " .
إن المحتمع اليمني ، يكتب المقري ، يشتم كل سيء منه باليهودي . هنا نتذكر ما كتبه سارتر في " المسألة اليهودية " . كانت كلمة يهودي في أوروبا وفرنسا شتيمة . إذا أردت أن تشتم شخصا فقل له : " يا يهودي " ، ويرى المقري أن يهود اليمن كان لهم دور مؤثر في الفنون " . إن كتابته لا تنطلق من موقف إيديولوجي أو سياسي أو أخلاقي ، ولهذا لم يقدم إجابات على أسئلته ولم يحدد في روايته مسارات للحل .
في شهادة السوري ابراهيم الجبين " مشانق لليهود ولغير اليهود على صفحات الرواية العربية " يعترف الروائي أنه كثيرا ما تجنب قراءة أو مشاهدة الأعمال العربية التي تتناول الشخصية اليهودية .. ، لأن النمطية المتشكلة عن خيال الكاتب وعن كيفية تناوله لليهودي ، تكاد لا تخرج عن إطار محدد سلفا " فالنمطية لا تقتصر على اليهودي . " إن الأبطال مسيحيين أو مسلمين أو يهود متشابهون " ويرى الجبين أن المعرفة العربية حتى وقت قريب مريضة بالجهل بالآخر مهما كان عرقه أو دينه ، وحين كتب هو عن اليهودي لم يكن لديه تصور مسبق أو سيناريو مسبق أراد تدوينه ، بل كتب عن نماذج عرفها . وفي شهادته يبدو متفاجئا من هذا الحضور اللافت لليهود في الرواية العربية بعد تحاهل سابق :
" هل كان لدى الكتاب العرب عداء للسامية ثم فجأة استيقظ فيهم وعي بضرورة استحضار يهودية جديدة داخل أعمالهم ؟ " . إنه سؤال مهم جدا لا شك .
ما يلفت النظر في شهادة الجبين هو المفارقة بين ما قاله في بدايتها من أنه كثيرا ما تجنب قراءة أو مشاهدة الأعمال العربية التي تتناول الشخصية اليهودية وبين بقية الشهادة التي تنم عن متابعة جيدة للأعمال الأدبية العربية التي أتت على الشخصية اليهودية ، وإلا كيف أصدر حكما عليها يبدو صائبا ؟
ولعل ما ينقص الملف هو شهادات كتاب عرب آخرين من بيئات عربية أخرى كمصر والمغرب ولبنان والأردن ، بخاصة أن الروائيين من هذه البلدان كتبوا في منجزهم الروائي عن شخصيات يهودية .
وإذا عدنا إلى الدرلسات في الملف ثانية ، فماذا نلحظ ؟
هناك دراسات تناولت بعض روايات كتب فيها عن اليهود السود مثل رواية " رغوة سوداء " للكاتب الارتيري جابر حجي ، وقد التفت إليها دارسان هما أسماء معيكل وابراهيم عادل وقدما تحليلا موسعا لها ، علما بأن بطلها لم يكن من أصول يهودية ولكنه تحول إليها وهاجر إلى إسرائيل وعاش فيها فعانى باعتباره يهوديا أسود .
هل اختلفت الكتابة عن اليهود في القرن الحالي عنها في القرن العشرين ، وما الصورة الجديدة لهم إن اختلفت ، وما سبب ذلك ودوافعه ؟ هذان هما السؤالان اللذان راودا الدارسين .
كنت توقفت أمام رأي ابراهيم الجبين فيما يخص صورة اليهود في الأدبيات العربية ، فهل يتفق معه فيها الدارسون ؟
يتوصل ابراهيم عادل الذي كتب تحت عنوان " اليهودي الانسان هل يمكن أن يدعو إلى التعاطف ؟ " ودرس رواية المقري " اليهودي الحالي " ورواية حجي جابر " رغوة سوداء " ، يتوصل إلى الرأي الآتي :
" من هنا وعلى هذا النحو بدا أن لدى الروائيين العرب قدرة ، ولدى الحكايات التي تزخر بها الثقافة العربية في المنطقة الثراء والتنوع ، مما يسمح بعرض وتبادل حكايات وقصص عن اليهود تختلف تماما عن تلك الصورة النمطية السائدة ، بل وتعلي من قدر الانسان مقابل المادة والنظام العالمي الجديد الذي يفرض سيطرته وهيمنته على العالم " .
هنا يثار السؤال :
هل علينا نحن أن ننجز تلك الصورة ليقال إننا انسانيون ، فيما تمعن إسرائيل وأميركا في إعادة الأمة العربية إلى الوراء وإلى البعيد البعيد ؟
وما يستنتجه المرء بعد قراءة الدراسات والمقالات والروايات التي لم تدرس أيضا كروايات الياس خوري وواسيني الأعرج أن نغمة العداء لإسرائيل بدأت تتراجع وأن التركيز على صهيونية الدولة الإسرائيلية بدأ يخفت وأن فكرة أن الفلسطينيين غدوا ضحية الضحية تظهر في بعض الأعمال وأن هذه الفكرة قادت بعض الكتاب إلى العودة إلى زمن خروج المسلمين من الأندلس ( واسيني الأعرج ) وإلى الهولوكست وعذابات اليهود ( الياس خوري وسهيل كيوان ) ، وأن التعايش مع اليهود ممكن فهو ليس بالبدعة أو المحال .
وربما تذكرنا ونحن نقرأ آراء بعض الروائيين الذين يبرزون صورة إيجابية لليهود في ضوء ما يجري في فلسطين ، ربما تذكرنا قصيدة نزار قباني " المهرولون " ، ربما تذكرناها بخاصة حين نقرأ عن حياة أمين زاوي .
الجمعة 20 كانون الأول 2019 .



د. عادل الأسطة

* ( نشر قسم من المقالة في جريدة الأيام الفلسطينية ، والمقالة هنا متوسع فيها ) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى