سمير الفيل - طاهر أبوفاشا.. ذلك المغني الحزين .. الذي حببنا في " ألف ليلة وليلة" ..

1
عرفت طاهر أبوفاشا قبل أن التقيه. عرفته بالسماع . فقد كنا أطفالا ، نشتغل في الورش، وكنا نعشق البرنامج الإذاعي الفريد الذي كتبه مبكرا : " ألف ليلة وليلة" من إخراج الإذاعي القدير محمد محمود شعبان الملقب ب" بابا شارو " ، إذ كان البرنامج جماهيريا ممتعا بحكاياته الساحرة ؛ لأنه نقل أنواعا من التراث من متن الكتب المقروءة إلى فضاء الأثير المفتوح .
كان الرجل قد ذاع صيته ، وحلق في الآفاق الأسطورية للكتابة الإذاعية عبر مئات الحلقات التي جعلت منه نجما من نجوم الفن الرفيع.
2
وقد واكب ذلك ، أو لحق به كتابته لأغاني فيلم " رابعة العدوية" حين تصدى لتأليف عدة أغاني ، لاقت نجاحا كبيرا خاصة أنها من غناء السيدة أم كلثوم ، التي سمعنا صوتها دون أن تظهر هي في الفيلم. وهذا لم يقلل من نجاح العمل خاصة مع اللحن البديع لأغنية" حانة الأقدار" . نحن نستطيع أن نقبض على الحالة الصوفية التي وجد طاهر أبوفاشا نفسه فيها وهو يبحث عن شخصية " رابعة" البصرية الزاهدة التي قررت أن تبيع الدنيا في مقابل السلام النفسي.
وقد نجح الكاتب الشاعر في أن يصيغ أغنياته عبر لغة شفافة تفيض بالمعاني الثرة. من تلك الأغنيات: الرضا والنور، لغيرك ما مددت يدا، عرفت الهوى ، حانة الأقدار، يا بهجة الروح، مددت يدي.
وقد وظف أشعارها وزاد عليها ، ومنها:
" أحبك حبين: حب الهوى = وحباً لأنك أهل لذاكا.
فأما الذى هو حب الهوى = فشغلى بذكرك عمن سواكا.
و أما الذى أنت أهل له = فكشفك للحجب حتى أراكا.
فلا الحمد فى ذا و لا ذاك لي = ولكن لك الحمد في ذا وذاكا ".
3
كان بيت جدي الحاج توفيق الفيل ، يقع خلف مقهى شاهين قرب شارع سوق الحسبة، وكنت أرى طاهر أبو فاشا جالسا مع صحبته التي يرتاح إليها ، في إجازاته الشهرية ، التي يختطفها من زحام عمله بالإذاعة ، تراهم يصخبون ويرتحلون هنا وهناك مع خياله الجميل .
ومن الشلة الأدبية التي كانت تحضر الجلسات الليلية التي كانت تنتهي في الساعات الأولى من الصباح ، كل من : سعد الدين عبدالرازق.. مدير الثقافة الشعبية ، وزكريا الحزاوي . رئيس تحرير جريدة " أخبار دمياط" ، عبدالوهاب شبانة .. القيادة السياسية وأمين عام الاتحاد الاشتراكي العربي لفترات طويلة، الأستاذ عيد حسنين، الأستاذ يسري الصواف مدرس الفلسفة ، الأستاذ أحمد وفائي ، والأستاذ محمد زغدان .. بمركز الأعلام. وبالطبع هناك آخرين لم أكن أعرفهم وقتها ، إذ كان بيت الجد يقع في مواجهة عمارة أبوصير ، ويسكن فيها زميلي وصديقي عبده كمال عوضين وشقيقه طاهر ، وهم أقارب صديقنا مصطفى نور الدين وأشقائه الكرام. .
4
كانت جريدة " أخبار دمياط " ، تناصب الأدباء العداء ، وترفض نشر أعمالهم باستثناء قصص قليلة للأديب مصطفى الأسمر ، الأمر الذي جعل طاهر أبوفاشا ينظر نحوهم نظرة ريبة وتخوف أو استعلاء.. ربما.. وكان ينظر لشعراء العامية فيهم نظرة متوجسة ، تحمل الرفض والترفع .
وحدث أن جاء عيد دمياط القومي وأُرسل طاهر أبوفاشا إلى مسقط رأسه دمياط، وفي محاضرته الأولى حدث ما يشبه الشجار مع شباب الأدباء ، غير أنه استوعب تلك الخلافات بسعة صدره ، وراح يزرع شتلات الحب في أرض كانت حتى عهد قريب قفر ، مجدبة .
سرعان ما نمت فكرة الحوار بيننا وبينه ، فكرر تجربة الحضور. وكان يبيت في منزل أقارب له في حارة " الشيخ علي السقا " ـ متفرع من شارع النقراشي ـ بقلب دمياط. فنصحبه ويسير معنا وهو ينشدنا بعض أشعاره.
5
يحمل حقيبة دبلوماسية " سمسونايت" فيها مخطوطاته وغالبا ما تصحبه من القاهرة شاعرة من اثنتين: زينب أبو النجا ، أو حياة أبو النصر.
أتذكر في ندوة حضرها أن أنشدت الشاعرة حفصة الغزل قصيدة " أبويا" ، رثاء في والدها الحرفي النجار البسيط ، فبكى الرجل ، وقام من مكانه يقبل رأس الشاعرة الصاعدة التي تنبأ لها بمستقبل زاهر غير أنها اختفت في زحمة الحياة. أتذكر صورة من قصيدتها " ونشارة الخشب في شعره.. هو وسام تقدير".. أو تركيب قريب من هذا المعنى.
في إحدى جلساته الصيفية ، دخل علينا شاب بملابس " كجوال" ، وأشار بيده طالبا مفتاح السيارة فخاطبه طاهر ابوفاشا : تعال ، اسمع زملائك قصيدة لك".
رفض فيصل طاهر أبوفاشا الطلب بتكبر لا يليق بشاب في مثل سنه ، ومضى في طريقه. وتعجبنا حينها من هذا المسلك.
6
كان الدكتور أبوالفتوح شريف يعد كل عام مؤتمرا ثقافيا بكلية تربية دمياط يحضره أصدقاء لنا من مختلف المحافظات، مؤتمر " أعلام دمياط " وفي أحيان قليلة يحضر طاهر أبوفاشا وينشد قصائده التي أعجبتنا رغم قالبها العمودي ، إذ كانت حركة التجديد التي قادها شعراء من طراز السيد النماس وأنيس البياع ، ومصطفى العايدي والدكتور عيد صالح وعزة بدر ، تنتصر لقصيدة التفعيلة دون غيرها .وكان قد ظهر جيل جديد من الشعراء بعد السيد الجنيدي ، منهم: محمد علوش، محمد الزكي ، عبدالعزيز حبة ، مجدي الجلاد، سمير الفيل، وغيرهم .. من شعراء العامية .
زارنا مرة الشاعر فتحي سعيد ، وأقام في نفس فندق " الرياض" برأس البر ، وهو صاحب قصيدة " مصر لم تنم"..
وفي مرة ثانية جاء طاهر ابوفاشا من القاهرة ، وأيضا الشاعر عبدالعليم القباني من الإسكندرية . وتم التقاط صورة وجدتها وسط كتبي منذ سنوات ، فوضعتها على شبكة الأنترنت ، يظهر فيها الزملاء: عزت الطيري، عبدالستار سليم، منير فوزي ، محمد القدوسي ، منال قشطة ، إبراهيم الباني ، أحمد الشربيني ، محمد الزكي ، والدكتور يسري العزب ( حاملا طفلا من المصطافين بين يديه ) ، سمير الفيل ، محروس الصياد ، وآخرين.
يمسك طاهر أبوفاشا بحقيبته السوداء ويبتسم للعدسة المصوبة نحوه. وكان محمد عبدالمنعم يشغل وقتها منصب مدير الفرع وثمة نشاط شهري دائم. وقد حضر تلك الندوة حسب ذاكرتي الدكتور أحمد جويلي محافظ دمياط.
7
حين تمتنت العلاقة بيني وبين الشاعر الكبير طاهر أبوفاشا، أهداني في فترات متباعدة ثلاثة كتب من أعماله ، وهي : ديوان" دموع لا تجدف" في رثاء زوجته الراحلة نازلي، وديوان " الليالي" ، وكتاب ثالث هو تحقيق لقصيدة أبو شادوف والكتاب الأخير ممهور بتوقيعه مع جملة أسعدتني وقتها : " إلى الكاتب الصاعد سمير الفيل " ..
وأذكر أنه حينما كنت مقررا لنادي الأدب منذ سنة 1982 بعد ترشيح عم محمد النبوي سلامة شيخ أدباء دمياط لي عقد احتفال بسيط لنقل العصا ..وحدث أنني أعددت بطاقة صغيرة ليكتب فيها الزوار معلومات عنهم. مددت يدي في بهو الفندق لطاهر أبوفاشا ، تمعن في الموجودين حوله ، ألقى نظرة عابرة على الورقة ثم كتب اسمه بخط مرتعش وجاء أمام حقل الوظيفة ، فكتب : " مكوجي رجل" وقد احتفظت بالبطاقة مع بطاقات أخرى اتسمت بالجدية لعدد من الزوار منهم: حلمي سالم، حسن طلب، جمال القصاص ، ماجد يوسف، سيد حجاب ، عبدالرحمن الأبنودي، عبدالمنعم الانصاري ، محمد مكيوي ، أحمد فضل شبلول ، جابر بسيوني ، وآخرين.
8
لا ينسى رواد قصر ثقافة دمياط المرة التي اصطحب فيها طاهر أبوفاشا صديقه الشيخ سيد مكاوي إلى دمياط . في الطريق كتب طاهر أبو فاشا أغنية بديعة غناها بعوده وبصوته : " على دمياط.. ياخدني الشوق.. أدق الباب واشوف الاحباب.. وامسي ع الجمال والذوق " . وقد لحنها سيد مكاوي ببراعة واستمعت للأغنية من البلكون حيث أن الصالة كانت قد اكتظت بالجمهور .
9
عندما أسند إلى جمال الغيطاني إعداد ملف عن الحركة الأدبية بمحافظة دمياط مع الصحافي القدير مصطفى عبدالله وذلك في أغسطس 1998 ، اختار فاروق شوشة أن يكتب عن معلمه طاهر أبوفاشا ، وهو الذي سبقه إلى الإذاعة ، ونقل من خلال برنامجه الشهير هو" ألف ليلة وليلة " .
كتب فاروق شوشة عن معلمه مقالا ضافيا بعنوان " طاهر أبوفاشا .. المبدع الشامل " ، وفيه يوضح تلك الصلة الحميمة بينهما ، يقول في مقاله البديع : " أحببنا أستاذنا كما لم نحب أستاذا آخر ، وعشقنا حصة اللغة العربية كما لم نعشق درسا آخر ، أما إذا بقينا في حجرة الدراسة ولم ننزل إلى فناء المدرسة ، فإنه يقص علينا حكايات شهرزاد وشهريار ، قبل أن يصنع منها إبداعه الفني الإذاعي في حلقات ألف ليلة وليلة ، بعد ذلك بعشرة سنوات. واكتشفنا خلال عام دراسي واحد أنه ليس مجرد مدرس أو معلم ، فهو مؤلف للأناشيد المدرسية ، وملحن لها ، ومؤلف للتمثيليات التي يقدمها التلاميذ على مسرح المدرسة في ختام العام ومخرج لها ، وشارك بالتمثيل في بعض مشاهدها ، وهو أيضا مصمم الحركات والإيماءات وصانع الألوان ، وصانع الملابس ".
ويواصل فاروق شوشة استعراض تجربة أستاذه طاهر أبوفاشا بإبراز عناصر فنية في بعض دواوينه التي أصدرها ، فقد أصدر ديوانه الأول " الأشواك " سنة 1938 وانقطع سنوات طويلة بعد ان أوقعته الإذاعة في احابيلها ، ثم عاد للكتابة الشعرية مجددا مع ديوان " راهب الليل " سنة 1983 ، أي طوال خمسة وأربعين عاما شغلته فيها الحياة مدرسا في التعليم ثم موظفا في مصلحة البريد ثم في الشئون العامة للقوات المسلحة.
يقول شوشة : " في شعر طاهر ابوفاشا توهج روحه وقلقها بحثا عن الجديد والمختلف ، وعزوف دائم عن المألوف والمشترك . وفي معجمه الشعري خلاصة ثقافته التراثية الراسخة المتكئة على جذور قوية ، وانفتاح على الثقافة العصرية بكل أبعادها القومية والعالمية من خلال متابعة شديدة اليقظة التنبه لكل ما يدور ويحدث حول الشاعر ووطنه ، وفيه أيضا إيمانه الثابت الذي لا يتزعزع بالعدل الاجتماعي وقيم الحرية ، والتحرر ، من مرتبة الجهل والخرافة والتقاليد ، وكل ما يشد إلى التخلف ولا يفضي إلى التقدم ".
10
تولى أحمد جويلي مهمة محافظة دمياط في الفترة من 18 أكتوبر 1984 إلى 20 مارس 1991 ، وقد شهد عهده اهتماما بالغا بالثقافة ، وحدث سنة 1988 أنه اتفق مع الدكتور فخري شوشة ، شقيق الشاعر على عقد ندوة بمقر كلية الزراعة بالقاهرة.
يسكن فاروق شوشة الزمالك ، وقد جاء مبكرا ليستقبل الشعراء من أهل بلده ، بحفاوة وأريحية ، وفي إطار ندوة يحضرها الآلاف من طلاب الجامعة ، وكان هو الأكثر شهرة غير أنه صمم أن يكون في نهاية قائمة من يلقون الشعر حتى لا ينصرف الطلاب من القاعة بعد الاستماع إليه. وحدث أنه راح يعقب على من سبقوه في إلقاء قصائدهم بقدر كبير من السماحة والمحبة واللماحية ، محاولا الشد على أيديهم بقوة ، ذلك أنه يدرك ان الجيل الذي أتى بعده امتداد له ، وقد اختص استاذه طاهر أبوفاشا بتقديم فريد يستحقه الرجل.
11
ولد طاهر أبوفاشا في 22 ديسمبر 1908، ورحل عن عالمنا يوم 12 مايو 1989 . حين رحل طاهر أبوفاشا ، كلفتني إدارة قصر ثقافة دمياط بإعداد عمل مسرحي حول الراحل . وقد انجزت النص فعلا تحت عنوان: " راهب الليل وأنشودة الرحيل".. من ألحان توفيق فودة ، وإخراج الأستاذ أحمد شبكة.
قدمت المسرحية في المسرح الكبير ليلة 8 سبتمبر 1986، وحظي العرض المسرحي بجمهور كبير ، كان منه الشاعر عبدالعليم عيسى .من قرية كفر المياسرة ( 1920 ـ 1998 ) وهو من رموز المدرسة الكلاسيكية في الشعر .
12
كان طاهر أبوفاشا يحمل صفتين متناقضتين، فهو تحت تأثير كتابة أغاني رابعة العدوية قد قرأ في كتب التصوف وعرف الزهد والاستغناء والانجذاب لقوى علوية .. وهو من جانب آخر مجبول على المرح والتلقائية وإثارة الضحك أينما كان متواجدا.
أذكر أنه مر عليّ يوما في محل أحذية قرب جامع البحر ، كنت أعمل به ، فلما ناديته أن يأتي ليشرب الشاي وعرفني . اقترب مني وسلم علي ّ وقال بجدية مشوبة بمرح خفي : أنت من أصحاب الحرفتين : الشعر وبيع الأحذية.
كانت مفارقة لطيفة ظلت سرا بيني وبين الرجل الذي عاني الأمرين برحيل زوجته المحبوبة ، وموت ابن له في ريعان شبابه. كان يكتب الشعر وتلحن له القصائد ، والشهرة تناوشه أينما حط رحاله، فيما هو محطم كأب وزوج وإنسان ، وقلبه موجوع.
هكذا يمضي الأدباء في سبيلهم ، تحت رايات أحزان ، ترفرف فوقهم، طلبا لنسائم بحرية ، أينما ولوا وجوههم..
.....................
رحم الله طاهر أبوفاشا..






سمير الفيل. / مصر
أعلى