لاحظنا أن الياس خوري في " الوجوه البيضاء " أسطر فدائي مرحلة الستينيات وجعل منه نموذجا إيجابيا في المطلق ، وفي الوقت نفسه رصد التحولات التي طرأت عليه في مرحلة السبعينيات ، وهي تحولات لم تكن لصالحه .( انظر مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ ٢٢و٢٩ آذار ٢٠٢٠ )
أخذ فدائي السبعينيات ، بحكم ملاحقته وانشغاله - مجبرا - في شؤون البلد الذي انطلق منه ، وتدفق أموال الدول النفطية على المنظمة ، وتحول العمل الفدائي من السر إلى العلن ، أخذ فدائي حقبة السبعينيات يهتم بالمظاهر والتظاهر وإبراز العضلات والانشغال في أمور اجتماعية وما شابه ، وتخلى نسبيا عن الأهداف الرئيسة أو أشغل بغيرها عنها .
تركت منظمة التحرير الفلسطينية بيروت مكرهة وخلفت وراءها شعبا ارتكبت بحقه مجزرة مرعبة وأوضاعا فلسطينية مأساوية أدت إلى حرب بين الفلسطينيين أنفسهم هي حرب المخيمات التي استمرت ثلاثة أعوام تقريبا .
أصدر الياس خوري في هذه الأثناء مجموعة قصص " المبتدأ والخبر " ١٩٨٤ ورواية " رحلة غاندي الصغير " ، وفي العام ١٩٩٣ أصدر روايته " مملكة الغرباء " وفيها كتب عن غرباء هذا العالم ؛ كتب عن فئات اجتماعية في المجتمع اللبناني متعددة الجذور والديانات والأصول ، من المسيح فالشركس إلى اليهود اللبنانيين والرهبان المسيحيين والمسيحيين فالفلسطينيين ، وبدا أكثر هؤلاء - إن لم يكونوا كلهم - غرباء في هذا العالم ، وهو ما يقوله عموما العنوان .
كان حضور الفلسطينيين في الرواية لافتا وبدوا مثل غيرهم ، في لبنان ، غرباء .
تحفل الرواية بشخصيات فلسطينية حقيقية لها تاريخها الشخصي الخاص وملامحها الفردية الخاصة أيضا مثل علي أبو طوق وأنيس صايغ ونبيلة سلباق وحنة شاهين .
استشهد علي أبو طوق في حرب المخيمات ، وقتلت نبيلة ، مع أنها مسيحية ، لأنها فلسطينية ، واستشهدت حنة إثر نسف
مركز الأبحاث الفلسطيني حيث كانت موظفة هناك ، وفيصل مات قبل أن تكتمل قصته هو الذي نجا من مجزرة شاتيلا التي قتلت فيها عائلته .
إن الموت غير الطبيعي هو مصير هؤلاء الفلسطينيين الأربعة ، ولقد قتلوا بأيدي جهات مختلفة ؛ بأيدي الكتائب - وقتل قسم من أهلهم بطائرات الإسرائيليين - وبمسدسات مقنعين أغلب الظن أنهم عنصريون من القوات اللبنانية ، وبأيد فلسطينية تدعمها جهات لبنانية وربما سورية في أثناء حرب المخيمات .
فما هو التاريخ الشخصي لكل شخصية من هؤلاء ؟
أول هذه الشخصيات شخصية علي أبو طوق وهو فلسطيني حقيقي من لحم ودم قاتل في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وكان قائد قواتها في الحرب التي استمرت ثلاث سنوات . كان شجاعا ومحبوبا أحبه من عرفه ومنهم الطبيب اليوناني الذي مات علي بين يديه " كان هذا الرجل أقرب إنسان إلي . كنت وحدي في هذا المخيم المحاصر بالدمار والخوف . كنت وحدي ، ولولاه لمت خوفا من الوحدة ."
وكانت تربطه بالراوي علاقة صداقة ، فقد قضيا معا ، في الخنادق والبرد والموت وتحت مطر القذائف ، سنوات الحرب الأهلية ، ثم افترقت خطاهما :
" علي تحول إلى فدائي في كتيبة " الجرمق " ، وأنا صرت ما أنا . وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ ، غاب علي في السفن اليونانية التي نقلت الفدائيين إلى منافيهم الجديدة . عام ١٩٨٤ ، بعد انتفاضة ٦ شباط ، وانسحاب المارينز الأمريكيين ، عاد إلى بيروت ، بلحيته القصيرة ، وعصاه ، ليتحول إلى القائد العسكري لمخيم شاتيلا . عاد ليصير رجل الحصار ، ثلاث سنوات من الحصار والدمار ، والمخيم يضيق ببيوته المدمرة ، حتى تحول إلى كمشة من البيوت التي يسند دمار واحدها دمار الآخر .
ومات علي " .
فيصل هو الفلسطيني الثاني الذي يحضر في الرواية ، وفيصل كما ذكرت لاجيء فلسطيني من مخيم شاتيلا رأى المجزرة التي قتلت فيها عائلته ونجا بأعجوبة ، مع أنه أصيب بثلاث رصاصات في خاصرته ويده .
يعيش فيصل ، في المنفى ، واقع اللجوء المأساوي ويظل يحلم بالعودة إلى فلسطين بلده الذي ظل أبوه يحدثه عنها الكثير وصار يحلم بأنه عاد إليها ، وما كان يؤرقه هو مستقبل علاقته ، بعد العودة ، مع أصدقائه ، فإن عاد كل إلى مدينته وقريته الأصلية فكيف سيجتمعون ؟ ويقترح فيصل ، أيضا في الحلم ، على أصحابه أن يعمروا في فلسطين بلدا صغيرا " بلد أو قرية أو مخيم ، شي زي شاتيلا يللي كنا عايشين فيه . رحت دغري أدور على أصحابي تقول لهم ، تعالوا نعمر بلد بقلب فلسطين ، تجمعنا مع بعض ، وتكون زي المخيم ، بس لحظتها فقت " .
ومثل علي أبو طوق فعندما رجع إلى شاتيلا ليقاتل في حرب المخيمات التي دامت ثلاث سنوات ، وليعيش الحصار الطويل في مخيم شاتيلا ، كان يبحث عن طريقة للذهاب إلى فلسطين . " فلسطين جاءته على شكل طلقة في الرأس ، وقبر في جامع " .
يتساءل الراوي وهو يحكي عن فيصل السؤال الآتي :
"- كيف أصفه ؟"
ويصفه على النحو الآتي ، وأعتقد أن هذا الوصف ينطبق على فيصل في العام ١٩٨٢ ، وحين استشهد بعد خمس سنوات كان في السادسة عشرة :
" فتى في الحادية عشرة ، أسمر مثل الفلسطينيين ، أو كما نتخيل الفلسطينيين ، يشبه هؤلاء الفتيان الذين يرمون الحجارة في شوارع غزة ونابلس . لكنه كان مهدما . هل سبق لكم أن رأيتم فتى مهدما ؟ عادة نستخدم كلمة مهدم لنصف رجلا كهلا أصيب بكارثة . وأما هذا الفتى فكان مهدما ولم يكن يشبه الكهول .وجه أسمر ناصع ، عينان صغيرتان ترقصان في الوجه ، أنف مستقيم ، شفة ممتلئة تتدلى ، وكلام " .
ليس لحنة شاهين حضور لافت ، فلا هي شخصية رئيسة ولا هي شخصية ثانوية بالمعنى المتعارف عليه لمفهوم الشخصيات في العمل الروائي ، وما حدث معها حدث مع جموع عديدة من الشعب الفلسطيني والفرق بينها وبين الجموع يكمن في ذكر اسمها وفي كونها مثقفة عاملة . وكما أوردت سابقا فإنه يؤتى على ذكرها حين يقص السارد عما جرى لمركز الأبحاث الفلسطيني الذي نسف بسيارة مفخخة ، وحول بعد الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢ إلى مقبرة " فماتت حنة شاهين القادمة من " فسوطة " في الجليل ، وصارت سعاد كسيحة ، ودخل ثلاثون من العاملين فيه المستشفيات ، وبقيت أشلاء الموتى في شارع " كولومباني " ثلاثة أيام قبل أن يأتي عمال التنظيفات ويرشوا الحي بالماء والمبيدات " .
وبعد السرد السابق يتساءل الراوي تساؤلا افتراضيا حول علي لو كتبت له الحياة وعاش الكهولة وروى ذكرياته ، فماذا سيروي ؟
" هل سيجد متسعا في الذاكرة ليميز بين معارك أيلول ١٩٧٠ في الأردن ، وبين حصار مخيم شاتيلا في بيروت عام ١٩٨٥ ؟" .
ثمة هجرة لا تنتهي يعيشها الفلسطينيون منذ ١٩٤٨ وثمة مجازر ترتكب بحقهم يتكرر حدوثها هنا وهناك .
هل يمكن أن نقول شيئا مختلفا عن الفلسطينية المسيحية نبيلة سلباق عما قلناه عن حنة شاهين ؟
ليست نبيلة شخصية رئيسة أو حتى شخصية ثانوية ، ولكنها صفيت على انفراد ولم تقتل قتلا جماعيا .
في العام ١٩٦٢ كانت نبيلة في الصف الثانوي الخامس وكانت تروي للراوي وصحبه عن فلسطين ، وقد أهدته كتابا لنقولا الدر عنوانه :" هكذا ضاعت وهكذا تعود " ، وحين ينجح الراوي ، وتنجح، في التوجيهي يزورها في منزلها في عين الرمانة " وهناك التقيت بشقيقتها الصغرى التي سحرني جمال عينيها " .
وفي العام ١٩٧٦ " دخلت الميليشيا الكتائبية المنزل في عين الرمانة ، وكان فيه الأب والأم والأخت الصغرى الجميلة العينين ، وقتلوهم . وجدت جثة الفتاة الصغيرة مختبئة قرب السرير ، وهي مذبوحة بالبلطة .
وفي العام ١٩٨٦ وهي عائدة من عملها " اليونسيف " بسيارة أجرة ، حيث كانت مسؤولة عن برامج المساعدات الإنسانية والطبية للمخيمات الفلسطينية ، إلى بيتها في محلة " البربير " ، أوقف ثلاثة مسلحين السيارة وأفرغوا في نبيلة بنادقهم الرشاشة. " أقول لك إنهم قتلوك لأنك فلسطينية " ولم يشفع لها كونها مسيحية .
هنا نسأل : من هو الراوي ؟
الراوي هو دارس لبناني يدرس الحكاية الشعبية الفلسطينية في جامعة نيويورك ، وكان التحق بالمقاومة الفلسطينية بعد هزبمة حزيران ١٩٦٧ ، وتعرف إلى الفلسطينيين وربطته بهم صداقة قبل العام ١٩٦٧ . تقدم للتوجيهي في العام ١٩٦٦ وزار نبيلة سلباق في بيتها في عين الرمانة ، وعمل أيضا في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت ، وأكثر المعلومات السابقة إن قابلناها بما قرأناه عن المؤلف الحقيقي -أي الياس خوري - تقول لنا إن هناك تطابقا بين المؤلفين ؛ الحقيقي والضمني .
وإذا ما نظرنا في الشخصيات الروائية الأخرى ؛ اللبنانية وغير اللبنانية واليهودية والمسيحية والشركسية، فإننا نلحظ أن الراوي لا يكتب عن غربة الفلسطينيين وحسب ، بل عن غربة شخوصه كلهم ، ولذلك اختار لروايته عنوانها " مملكة الغرباء " وكان أول الغرباء هو السيد المسيح ، ولا يختلف عنه الراهب المسيحي في الرواية .
وعموما فإن الياس خوري في روايته هذه لا ينتقد ممارسات الفدائيين وسلوكاتهم في لبنان ، كما في روايته الأسبق " الوجوه البيضاء " ، وتكاد صورة علي أبو طوق تقترب من صورة أبو جاسم في روايته المذكورة .
تنتهي الرواية في حديثها عن الفلسطينيين بعبارة لافتة لا بأس من تكرارها في نهاية هذه الكتابة وهي :
" هل هذه الأرض التي اسمها فلسطين هي مجرد حكاية تسحرنا بأسرارها وطلاسمها ؟
ولماذا حين نستمع إلى هذه الحكاية لا ننام ... بل نموت " .
هل كان غريبا أن تموت الشخصيات الفلسطينية الأربعة في الرواية ، هذا إذا غضضنا النظر عن مجزرة صبرا وشاتيلا والموت الجماعي فيها .
نابلس
٣٠ آذار ٢٠٢٠ .
أخذ فدائي السبعينيات ، بحكم ملاحقته وانشغاله - مجبرا - في شؤون البلد الذي انطلق منه ، وتدفق أموال الدول النفطية على المنظمة ، وتحول العمل الفدائي من السر إلى العلن ، أخذ فدائي حقبة السبعينيات يهتم بالمظاهر والتظاهر وإبراز العضلات والانشغال في أمور اجتماعية وما شابه ، وتخلى نسبيا عن الأهداف الرئيسة أو أشغل بغيرها عنها .
تركت منظمة التحرير الفلسطينية بيروت مكرهة وخلفت وراءها شعبا ارتكبت بحقه مجزرة مرعبة وأوضاعا فلسطينية مأساوية أدت إلى حرب بين الفلسطينيين أنفسهم هي حرب المخيمات التي استمرت ثلاثة أعوام تقريبا .
أصدر الياس خوري في هذه الأثناء مجموعة قصص " المبتدأ والخبر " ١٩٨٤ ورواية " رحلة غاندي الصغير " ، وفي العام ١٩٩٣ أصدر روايته " مملكة الغرباء " وفيها كتب عن غرباء هذا العالم ؛ كتب عن فئات اجتماعية في المجتمع اللبناني متعددة الجذور والديانات والأصول ، من المسيح فالشركس إلى اليهود اللبنانيين والرهبان المسيحيين والمسيحيين فالفلسطينيين ، وبدا أكثر هؤلاء - إن لم يكونوا كلهم - غرباء في هذا العالم ، وهو ما يقوله عموما العنوان .
كان حضور الفلسطينيين في الرواية لافتا وبدوا مثل غيرهم ، في لبنان ، غرباء .
تحفل الرواية بشخصيات فلسطينية حقيقية لها تاريخها الشخصي الخاص وملامحها الفردية الخاصة أيضا مثل علي أبو طوق وأنيس صايغ ونبيلة سلباق وحنة شاهين .
استشهد علي أبو طوق في حرب المخيمات ، وقتلت نبيلة ، مع أنها مسيحية ، لأنها فلسطينية ، واستشهدت حنة إثر نسف
مركز الأبحاث الفلسطيني حيث كانت موظفة هناك ، وفيصل مات قبل أن تكتمل قصته هو الذي نجا من مجزرة شاتيلا التي قتلت فيها عائلته .
إن الموت غير الطبيعي هو مصير هؤلاء الفلسطينيين الأربعة ، ولقد قتلوا بأيدي جهات مختلفة ؛ بأيدي الكتائب - وقتل قسم من أهلهم بطائرات الإسرائيليين - وبمسدسات مقنعين أغلب الظن أنهم عنصريون من القوات اللبنانية ، وبأيد فلسطينية تدعمها جهات لبنانية وربما سورية في أثناء حرب المخيمات .
فما هو التاريخ الشخصي لكل شخصية من هؤلاء ؟
أول هذه الشخصيات شخصية علي أبو طوق وهو فلسطيني حقيقي من لحم ودم قاتل في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وكان قائد قواتها في الحرب التي استمرت ثلاث سنوات . كان شجاعا ومحبوبا أحبه من عرفه ومنهم الطبيب اليوناني الذي مات علي بين يديه " كان هذا الرجل أقرب إنسان إلي . كنت وحدي في هذا المخيم المحاصر بالدمار والخوف . كنت وحدي ، ولولاه لمت خوفا من الوحدة ."
وكانت تربطه بالراوي علاقة صداقة ، فقد قضيا معا ، في الخنادق والبرد والموت وتحت مطر القذائف ، سنوات الحرب الأهلية ، ثم افترقت خطاهما :
" علي تحول إلى فدائي في كتيبة " الجرمق " ، وأنا صرت ما أنا . وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ ، غاب علي في السفن اليونانية التي نقلت الفدائيين إلى منافيهم الجديدة . عام ١٩٨٤ ، بعد انتفاضة ٦ شباط ، وانسحاب المارينز الأمريكيين ، عاد إلى بيروت ، بلحيته القصيرة ، وعصاه ، ليتحول إلى القائد العسكري لمخيم شاتيلا . عاد ليصير رجل الحصار ، ثلاث سنوات من الحصار والدمار ، والمخيم يضيق ببيوته المدمرة ، حتى تحول إلى كمشة من البيوت التي يسند دمار واحدها دمار الآخر .
ومات علي " .
فيصل هو الفلسطيني الثاني الذي يحضر في الرواية ، وفيصل كما ذكرت لاجيء فلسطيني من مخيم شاتيلا رأى المجزرة التي قتلت فيها عائلته ونجا بأعجوبة ، مع أنه أصيب بثلاث رصاصات في خاصرته ويده .
يعيش فيصل ، في المنفى ، واقع اللجوء المأساوي ويظل يحلم بالعودة إلى فلسطين بلده الذي ظل أبوه يحدثه عنها الكثير وصار يحلم بأنه عاد إليها ، وما كان يؤرقه هو مستقبل علاقته ، بعد العودة ، مع أصدقائه ، فإن عاد كل إلى مدينته وقريته الأصلية فكيف سيجتمعون ؟ ويقترح فيصل ، أيضا في الحلم ، على أصحابه أن يعمروا في فلسطين بلدا صغيرا " بلد أو قرية أو مخيم ، شي زي شاتيلا يللي كنا عايشين فيه . رحت دغري أدور على أصحابي تقول لهم ، تعالوا نعمر بلد بقلب فلسطين ، تجمعنا مع بعض ، وتكون زي المخيم ، بس لحظتها فقت " .
ومثل علي أبو طوق فعندما رجع إلى شاتيلا ليقاتل في حرب المخيمات التي دامت ثلاث سنوات ، وليعيش الحصار الطويل في مخيم شاتيلا ، كان يبحث عن طريقة للذهاب إلى فلسطين . " فلسطين جاءته على شكل طلقة في الرأس ، وقبر في جامع " .
يتساءل الراوي وهو يحكي عن فيصل السؤال الآتي :
"- كيف أصفه ؟"
ويصفه على النحو الآتي ، وأعتقد أن هذا الوصف ينطبق على فيصل في العام ١٩٨٢ ، وحين استشهد بعد خمس سنوات كان في السادسة عشرة :
" فتى في الحادية عشرة ، أسمر مثل الفلسطينيين ، أو كما نتخيل الفلسطينيين ، يشبه هؤلاء الفتيان الذين يرمون الحجارة في شوارع غزة ونابلس . لكنه كان مهدما . هل سبق لكم أن رأيتم فتى مهدما ؟ عادة نستخدم كلمة مهدم لنصف رجلا كهلا أصيب بكارثة . وأما هذا الفتى فكان مهدما ولم يكن يشبه الكهول .وجه أسمر ناصع ، عينان صغيرتان ترقصان في الوجه ، أنف مستقيم ، شفة ممتلئة تتدلى ، وكلام " .
ليس لحنة شاهين حضور لافت ، فلا هي شخصية رئيسة ولا هي شخصية ثانوية بالمعنى المتعارف عليه لمفهوم الشخصيات في العمل الروائي ، وما حدث معها حدث مع جموع عديدة من الشعب الفلسطيني والفرق بينها وبين الجموع يكمن في ذكر اسمها وفي كونها مثقفة عاملة . وكما أوردت سابقا فإنه يؤتى على ذكرها حين يقص السارد عما جرى لمركز الأبحاث الفلسطيني الذي نسف بسيارة مفخخة ، وحول بعد الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢ إلى مقبرة " فماتت حنة شاهين القادمة من " فسوطة " في الجليل ، وصارت سعاد كسيحة ، ودخل ثلاثون من العاملين فيه المستشفيات ، وبقيت أشلاء الموتى في شارع " كولومباني " ثلاثة أيام قبل أن يأتي عمال التنظيفات ويرشوا الحي بالماء والمبيدات " .
وبعد السرد السابق يتساءل الراوي تساؤلا افتراضيا حول علي لو كتبت له الحياة وعاش الكهولة وروى ذكرياته ، فماذا سيروي ؟
" هل سيجد متسعا في الذاكرة ليميز بين معارك أيلول ١٩٧٠ في الأردن ، وبين حصار مخيم شاتيلا في بيروت عام ١٩٨٥ ؟" .
ثمة هجرة لا تنتهي يعيشها الفلسطينيون منذ ١٩٤٨ وثمة مجازر ترتكب بحقهم يتكرر حدوثها هنا وهناك .
هل يمكن أن نقول شيئا مختلفا عن الفلسطينية المسيحية نبيلة سلباق عما قلناه عن حنة شاهين ؟
ليست نبيلة شخصية رئيسة أو حتى شخصية ثانوية ، ولكنها صفيت على انفراد ولم تقتل قتلا جماعيا .
في العام ١٩٦٢ كانت نبيلة في الصف الثانوي الخامس وكانت تروي للراوي وصحبه عن فلسطين ، وقد أهدته كتابا لنقولا الدر عنوانه :" هكذا ضاعت وهكذا تعود " ، وحين ينجح الراوي ، وتنجح، في التوجيهي يزورها في منزلها في عين الرمانة " وهناك التقيت بشقيقتها الصغرى التي سحرني جمال عينيها " .
وفي العام ١٩٧٦ " دخلت الميليشيا الكتائبية المنزل في عين الرمانة ، وكان فيه الأب والأم والأخت الصغرى الجميلة العينين ، وقتلوهم . وجدت جثة الفتاة الصغيرة مختبئة قرب السرير ، وهي مذبوحة بالبلطة .
وفي العام ١٩٨٦ وهي عائدة من عملها " اليونسيف " بسيارة أجرة ، حيث كانت مسؤولة عن برامج المساعدات الإنسانية والطبية للمخيمات الفلسطينية ، إلى بيتها في محلة " البربير " ، أوقف ثلاثة مسلحين السيارة وأفرغوا في نبيلة بنادقهم الرشاشة. " أقول لك إنهم قتلوك لأنك فلسطينية " ولم يشفع لها كونها مسيحية .
هنا نسأل : من هو الراوي ؟
الراوي هو دارس لبناني يدرس الحكاية الشعبية الفلسطينية في جامعة نيويورك ، وكان التحق بالمقاومة الفلسطينية بعد هزبمة حزيران ١٩٦٧ ، وتعرف إلى الفلسطينيين وربطته بهم صداقة قبل العام ١٩٦٧ . تقدم للتوجيهي في العام ١٩٦٦ وزار نبيلة سلباق في بيتها في عين الرمانة ، وعمل أيضا في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت ، وأكثر المعلومات السابقة إن قابلناها بما قرأناه عن المؤلف الحقيقي -أي الياس خوري - تقول لنا إن هناك تطابقا بين المؤلفين ؛ الحقيقي والضمني .
وإذا ما نظرنا في الشخصيات الروائية الأخرى ؛ اللبنانية وغير اللبنانية واليهودية والمسيحية والشركسية، فإننا نلحظ أن الراوي لا يكتب عن غربة الفلسطينيين وحسب ، بل عن غربة شخوصه كلهم ، ولذلك اختار لروايته عنوانها " مملكة الغرباء " وكان أول الغرباء هو السيد المسيح ، ولا يختلف عنه الراهب المسيحي في الرواية .
وعموما فإن الياس خوري في روايته هذه لا ينتقد ممارسات الفدائيين وسلوكاتهم في لبنان ، كما في روايته الأسبق " الوجوه البيضاء " ، وتكاد صورة علي أبو طوق تقترب من صورة أبو جاسم في روايته المذكورة .
تنتهي الرواية في حديثها عن الفلسطينيين بعبارة لافتة لا بأس من تكرارها في نهاية هذه الكتابة وهي :
" هل هذه الأرض التي اسمها فلسطين هي مجرد حكاية تسحرنا بأسرارها وطلاسمها ؟
ولماذا حين نستمع إلى هذه الحكاية لا ننام ... بل نموت " .
هل كان غريبا أن تموت الشخصيات الفلسطينية الأربعة في الرواية ، هذا إذا غضضنا النظر عن مجزرة صبرا وشاتيلا والموت الجماعي فيها .
نابلس
٣٠ آذار ٢٠٢٠ .