1- حتى العام 1948 :
كيف بدت صورة الخطاب في الكتابة عن اليهود في الادبيات الفلسطينية ؟
هل سادت نغمة واحدة في الكتابة عنهم منذ بدايات الصراع معهم على الأرض ، منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين ؟ أم أن صورتهم تلونت وتغيرت باختلاف الخطاب الفكري والسياسي في فلسطين والعالم العربي ، خلال المائة سنة الأخيرة ؟
أشير ، ابتداء ، إلى أن اليهود عاشوا في فلسطين ، قبل بداية الاستيطان الصهيوني في أربع مدن فلسطينية هي صفد ونابلس والقدس والخليل ، ولم تكن هناك نصوص أدبية تأتي عليهم لتهاجمهم أو لتمدحهم ، وقد يعود هذا إلى أمرين ؛ الأول أنه نظر إليهم على أنهم مواطنون مثل بقية المواطنين ، والثاني أن الأدب في فلسطين كان ضعيفاً ، فعدا الشعر التقليدي لم يكن هناك نثر هو المجال الأرحب للكتابة في موضوعات كهذه .
أول نص أدبي أتى على ذكر اليهود كتبه الشاعر سليمان التاجي الفاروقي في العام ١٩١٣ ، وكان الشاعر بدأ يخشى من المشروع الاستيطاني الذي تنبه إليه بعض المثقفين الفلسطينيين مثل نجيب نصار الذي ترجم في العام ١٩٠٥ ، عن الانجليزية ، مقالاً عن الصهيونية وخطرها .
هاجم الشاعر الفاروقي اليهود بعامة ولم يميز بين يهودي وآخر ؛ يهودي صهيوني ويهودي غير صهيوني ، يهودي قادم من أوروبا وآخر مقيم في فلسطين ، وأسبغ على اليهود الصفات التقليدية مثل حب المال والتعامل بالربا والذل والمسكنة .
في العام ١٩٢٠ سيصدر خليل بيدس ، أول روائي فلسطيني ، روايته " الوارث " وسيكون لليهود فيها حضور لافت ، ولكن أحداث الرواية لا تجري في فلسطين بل في القاهرة ، وهذا ما استغربه الناقد فاروق وادي الذي لاحظ أن بيدس لم يكتب عن اليهودي الجديد - المستوطن ، وإنما كتب عن يهود البلدان العربية ، وقد أبرز بيدس لليهود الصورة التقليدية لهم : الفتاة اليهودية الجميلة التي تسير في طريق الرذيلة ، يساعدها يهود آخرون يحتالون على الآخرين ، وهم في الرواية يتجسدون في بطلها عزيز الذي يعشق استير . واليهود هنا مرابون ومحتالون ولا يكترثون للفضيلة .
الكاتب الثاني الذي أتى على ذكر اليهود في هذه الفترة هو ابراهيم طوقان .
التفت الشاعر ذو الخلفية الإسلامية - بيدس كان مسيحياً - إلى الخطر الصهيوني مبكراً ، وكتب عن اليهود بشكل عام ، وإن كان يقصد اليهود المستوطنين أساساً ، فجل أشعاره تأتي على الأرض والوطن والبلاد والخوف من ضياعها .
هاجم طوقان اليهود هجوماً مراً عنيفاً ، وكان أحياناً يكتب من منطلق الرد على وجهة نظر اليهود المستوطنين في العرب .
كتب شاعر يهودي اسمه رؤبين قصيدة حاقدة هاجم فيها العرب هجوماً عنيفاً ، فرد عليه طوقان بقصيدة لا تقل عنها عنفاً . والقصيدتان عموماً تذكران بشعر شعراء النقائض .
أسبغ الشاعر في مجمل شعره على اليهود الصفات التقليدية والصفات السلبية التي وردت عنهم في القرآن الكريم ، ولكنه في الوقت نفسه أشار ، وهو يعاتب زعماء قومه المتناحرين على المناصب ، إلى جهود اليهود في بناء وطن .
لم يكن طوقان وبيدس والفاروقي الأدباء الوحيدين الذين كتبوا عن اليهود حتى العام ١٩٤٨. لقد كان هناك أدباء آخرون منهم اسحق موسى الحسيني وبرهان الدين العبوشي ومحمد عزة دروزة ونجاتي صدقي، وقد اختلفت صورة اليهود في أدبيات هؤلاء بحسب التوجه الفكري لكل منهم .
كتب محمد عزة دروزة في العام ١٩٣٥ مسرحية عنوانها " الفلاح والسمسار " - في رواية أخرى " الملاك والسمسار " - وأتى فيها على الأرض وبيعها وصور فيها توظيف الحركة الصهيونية للفتيات اليهوديات من أجل شراء الأرض من الفلسطينيين .
كان توجه دروزة توجهاً إسلامياً ، وقد كتب من منظور إسلامي ، فله كتاب عن أنبياء اليهود من خلال أسفارهم ، ذهب فيه إلى أن توظيف اليهود نساءهم من أجل تحقيق أغراضهم يعود إلى أنبيائهم . وللأسف فإن مسرحية دروزة هذه غير متوفرة .
الكاتب اسحق موسى الحسيني الذي أقام في القدس ودرس في لندن كان ليبرالي النزعة ، وكانت له صلات ببعض المثقفين اليهود ، ولا ننسى أنه عاش في القدس التي كان اليهود من سكانها ، قبل بداية المشروع الصهيوني .
في روايته الرمزية " مذكرات دجاجة " ( ١٩٤٣ ) يميز الحسيني بين يهود مقيمين ويهود طارئين ، والأخيرون هم الذين يريدون المأوى/فلسطين ، ويريدون طرد سكانها .
لا ينطلق الكاتب من منطلق تعميمي ، فهو يرى الفضيلة والرذيلة في المجتمعات كلها ، ومنها مجتمعه . إنه لا يلجأ إلى التعميم ، ولهذا نراه يميز بين دجاج مقيم وآخر طارئ ، بل ويتحدث عن بيئته هو فيرى فيها الشرور والطمع والحقد والتنافس .
يختلف عن الحسيني الشاعر برهان الدين العبوشي صاحب مسرحية " وطن الشهيد " ( ١٩٤٦ ) ، فهذا الذي نشأ في بيئة ريفية ونشأ محافظاً يتغنى بالقيم العربية الإسلامية الأصيلة ، وبأخلاق الريف ، يكتب من منطلق كاتب محافظ يخشى على القيم العربية الأصيلة من التلوث إذا ما اختلطت مع قيم الوافدين من أوروبا .
ولعل تصور العبوشي للذات والآخرين يبدو واضحاً في المقدمة التي كتبها للمسرحية ، وهو ما أفصحت عنه في السطور السابقة .
ويحفل نص العبوشي بشخصيات يهودية منها شخصيات نسوية لا تختلف صورتها عن الصورة التي لاحظناها في رواية بيدس ومسرحية دروزة : الفتاة اليهودية اللعوب التي لا تهتم بالعرض ويمكن أن توظف جسدها وتستغله لمنافع مادية أو سياسية .
يختلف نجاتي صدقي عن كثير من هؤلاء .
نشأ صدقي في بيئة مدنية وكان توجهه يسارياً ، ودرس فوق هذا في موسكو وكان أول أمين عام للحزب الشيوعي الفلسطيني ، ثم إنه تأثر بالأدب الروسي ، وتحديداً بقصص أنطون تشيخوف . وهذه الأمور كلها تركت أثرها على خطابه الأدبي .
لم يسبغ صدقي على اليهود كلهم صفات محددة هي الصفات التقليدية ، وإن فعل هذا في قصته " شمعون بوزاجلو ". اليهودي هنا مراب وبخيل ومحب للمال وكاره للنساء ومتدين ومتسول . ولكن هذه الصورة لم تبرز في قصص أخرى لصدقي أبرز فيها شخصيات يهودية .
كتب صدقي قصصاً صور فيها يهوداً أوروبيين تختلف صورتهم كلياً عن صورة شمعون بوزاجلو . هناك نسوة يهوديات يختلفن عن النساء اليهوديات في قصة بوزاجلو . المرأة اليهودية الغربية محبة للحياة وتستمتع بها وبجسدها ، وهي أحياناً منفتحة ، منفتحة مغامرة تقيم علاقات جنسية خارج إطار المؤسسة الأسرية ، كما هي ريتا في قصة " كاتب العرائض " ، أو منفتحة ولكن محافظة على أخلاقها ، تنفتح على الآخرين ومنهم العرب ، ولكنها تحافظ على نفسها .
هكذا لم يبرز صدقي صورة نمطية لليهود ، وهكذا اختلف خطابه .
2 -
تأثير الخطاب السياسي على الخطاب الأدبي :
بين 1948 - 1967
تركت نكبة العام ١٩٤٨ أثرها على بنية الشعب الفلسطيني ، فقد شتته كما مزقت أرضه ، وغدا موزعاً على أماكن جغرافية عديدة ، تماماً كما أصبحت فلسطين مقسمة بين أكثر من دولة؛ فلسطين / إسرائيل والأردن ومصر . غدا ٧٩ ٪ من الأراضي الفلسطينية يعرف بإسرائيل ، وألحقت الضفة الغربية بالأردن ، وأما قطاع غزة فقد غدا تحت الإدارة المصرية . وتوزع الفلسطينيون على هذه الأماكن وعلى أماكن أخرى ؛ سورية والعراق وأبعد من هذه وتلك . وبقي ١٦٥٠٠٠ فلسطيني في مدنهم وقراهم يعيشون تحت حكم الدولة الإسرائيلية الناشئة ، حاصلين ؛ مجبرين ومكرهين ، على هويتها ليعانوا من تمييز قومي عبّر عنه محمود درويش في قصيدته الشهيرة " سجل أنا عربي " .
واختلف الخطاب السياسي العربي من بلد إلى آخر ؛ من خطاب قومي إلى خطاب وطني فإسلامي ، وإن كان الأخير في هذه الفترة ضعيفا . ولا ننسى الخطاب اليساري الذي برز وعلا وضاهى الخطاب القومي ، وإن لم يمتلك اليساريون ، خلافاً للقوميين ، السلطة في أي بلد عربي . ويمكن القول إن الخطابين ؛ القومي واليساري ، كان لهما الحضور الأكبر في أدبيات هذه الفترة ، وإن لم يعدم المرء بروز أدبيات ظل أصحابها فيها يعبرون عن رؤاهم الموروثة المستمدة من ثقافتهم الدينية .
اختلف الخطاب من مكان إلى آخر حسب النظام السياسي الحاكم وحسب قناعات الكاتب بهذا الخطاب أو ذاك . فالفلسطينيون الذين ظلوا في أرضهم ، مثل توفيق زياد ومحمود درويش وحنا ابراهيم وتوفيق فياض وغيرهم ، تأثروا بالأفكار التي اعتنقوها وآمنوا بها ، وهي متنوعة ومختلفة، ما بين ماركسية وقومية وأفكار لم تر في اليهود عدواً أساسياً ، فاليهود والفلسطينيون ضحايا سياسة الإنجليز في فلسطين ؛ سياسة " فرق تسد " وهو ما بدا في قصة مصطفى مرار الذي كان ينشر في صحف السلطة الإسرائيلية الخاضعة للأحزاب الحاكمة ، وفي رواية محمود عباسي " حب بلا غد ".
اعتنق توفيق زياد ، ومثله محمود درويش ، الأفكار اليسارية وانضوى الاثنان تحت راية الحزب الشيوعي الإسرائيلي ( راكاح ) وعبرا فيما كتبا عن طروحاته الفكرية والسياسية ، وهي طروحات تقوم على أساس صراع طبقي لا ينسى أو يتناسى حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة . ولم ير هذان في اليهود كلاً واحداً لا فرق بين أجزائه ، فثمة يهود هم ضحايا الحركة الصهيونية ، كما هو حال الشعب الفلسطيني ، وبالتالي فقد خاطب زياد الأحزاب الصهيونية الحاكمة باعتبارها أحزابا تضطهد الفقراء اليهود والعرب معاً ، وحين كتب عن إضراب عمال مصنع " اتا " خاطب العمال اليهود بـ " يا إخوتي " في النضال .
لم يختلف محمود درويش كثيراً عن زياد ، فقد أحب فتاة يهودية كانت رفيقة له في الحزب، وفيها كتب قصيدته الشهيرة " ريتا والبندقية " التي قال فيها :
" بين ريتا وعيوني
بندقية
والذي يعرف ريتا
ينحني
ويصلي لاله في العيون العسلية "
ولم ينته الحب إلا بعد أن آثرت ريتا الخدمة في الجيش الإسرائيلي .
إن قصيدة درويش " سجل أنا عربي " كانت بالأساس موجهة للضابط الصهيوني العنصري ، لا لكونه يهودياً ، بل لكونه عنصرياً . يختلف توفيق فياض ذو الميول الناصرية القومية ، فقد كتب مسرحية عنوانها " بيت الجنون " وفيها كتب عن رياح " غريبة غربية " جاءت لتقتلع سامي مدرس التاريخ وشعبه . سامي معلم تاريخ في مدرسة يدرس فيها المنهاج الإسرائيلي ، وهو منهاج لا يقر بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني ولا بأرض اسمها فلسطين . وعلى سامي، إن أراد الوظيفة ، أن يعلم الرواية الإسرائيلية ، وهو له روايته التي ترى في اليهود الذين أقاموا دولة إسرائيل يهوداً غرباء وغربيين ، جاؤوا لهدم بيت سامي واقتلاعه . هكذا كان خطاب توفيق فياض مختلفاً ، ولأن إسرائيل لم تكن تسمح بخطاب مثل هذا ، فقد لجأ كاتب المسرحية إلى الكتابة الرمزية .
اختلف الخطاب السياسي العربي ، في هذه الفترة ، وكان الخطاب الأبرز هو الخطاب القومي ، وإن كان هناك خطاب يساري ماركسي ظل ملاحقاً وزج أصحابه في السجون غالباً ، وأما الخطابان الوطني والديني فقد كانا ضعيفين إلى حد ما . وإن كان هناك من يعكسهما في الأدب مثل هارون هاشم رشيد ومحمد العدناني وبرهان العبوشي وآخرين .
ويعد هارون هاشم رشيد من أبرز من كتبوا قصائد تصور واقع اللجوء وتعبر عن حلم العودة ، وفي أثناء ذكره للعدو كان يستخدم دال " اليهود " دون تمييز بين يهودي وآخر وغالبا ما أسبغ عليهم الصفات التقليدية المعروفة عنهم في الأدبيات العربية والعالمية ، وتحديداً الصفات السلبية ، وأبرزها هنا الغدر والمكر والحقد وكره الآخرين وما شابه . ولم يختلف خطاب رشيد إلا بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ حيث بدأ يميز بين اليهود والصهيونية .
الكاتب الفلسطيني الأبرز الذي انعكس الخطاب القومي الناصري في نصوصه هو ناصر الدين النشاشيبي . عاش النشاشيبي في ستينيات القرن العشرين في مصر وتولى رئاسة تحرير صحيفة ناصرية تنطق باسم الناصرية ، ومن الطبيعي أن يطغى على ما يكتب؛ سياسة وأدباً ، الخطاب الرسمي . أصدر النشاشيبي في ١٩٦٢ و ١٩٦٤ روايتين تصوران الصراع الفلسطيني / العربي والصهيوني ؛ الأولى هي " حفنة رمال " والثانية هي " حبات البرتقال " ، وفي كلتيهما يبرز الخطاب القومي الذي يأتيو، أحياناً ، على نظرية الدم . فهناك دماء عربية تجري في شرايين سارة التي ولدت لأب عربي وأم يهودية . يموت والد سارة فتأخذها أمها إلى أهلها ليرعاها أخوالها ، وحين تكبر توظفها الوكالة اليهودية لخدمتها ، فترسلها لشاب عربي يرفض بيع أرضه ، علها تسقطه ، ولكن دماءها العربية تأبى لها هذا فتعترف لثابت بأن دماءها عربية وأنها عربية مثله وأنها مرسلة للإغواء والإسقاط.
الصورة التي تبرز لليهود هنا هي صورة اليهودي المستوطن الذي يريد الأرض ، وفي سبيل هذا لا يتوانى عن أي طريق مهما كان سافلاً وبلا أخلاق . اليهودي الصهيوني هنا يقتل ولا شرف له ويرسل الفتيات اليهوديات إلى الآخرين للإيقاع بهم . إنه دموي قاتل . ولا تختلف صورة اليهود في رواية " حبات البرتقال " . في الرواية يهود صهيونيون يريدون إقامة الوطن القومي اليهودي ولا يتورع هؤلاء عن ارتكاب جرائم وسلوكات غير أخلاقية . يلجأون إلى الخداع والقتل وإرسال الفتيات اليهوديات إلى الآخرين ليضغطوا عليهم لتنفيذ مآرب الحركة الصهيونية وأهدافها . طبعاً وكالعادة يميز النشاشيبي بين يهود ويهود ، فهناك يهوديات جميلات يحببن أن يعشن حياتهن ولا يؤمن بالصهيونية ويقعن ضحية للحركة الصهيونية . بطل الرواية سابا فلسطيني يقيم ، في فترة الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا ، ويقاوم النازية ويسجن لهذا ، وحين تنتهي الحرب يطلق سراحه ويواصل حياته مع صديقاته اليهوديات اللاتي يرفضن الصهيونية وما تطلبه منهن الوكالة اليهودية من أفعال مشينة كتوظيف أجسادهن لخدمة المشروع الصهيوني . وحين يرفضن توقع الوكالة بينهن وبين الفلسطيني سابا وتحول حياة الجميع إلى جحيم ؛ سابا وصديقته وصديقاتها أيضاً . إن الخطاب القومي وانعكاسه في الكتابة عن اليهود يبرز أوضح ما يكون في هاتين الروايتين .
طبعاً لا يعني ما سبق عدم وجود كتابات أخرى تعكس الخطاب القومي وتكتب وهي واقعة تحت تأثيره فغسان كنفاني الذي كانت ميوله في هذه الأثناء ميولاً قومية لم تخل نصوصه من الكتابة عن اليهود . إن رواية " ما تبقى لكم " ( ١٩٦٦ ) تصور الجندي اليهودي وتأتي على ما فعله الإسرائيليون في غزة في ١٩٥٦ ، حيث قتلوا سالماً بلا رحمة . ولكن الجندي الإسرائيلي في الرواية لا يبدو كذلك لأن الفلسطيني حامداً تمكن من أسره . وهكذا يستسلم للقدر علّ رفاقه يبحثون عنه فيقتلون حامداً ويتخلص هو من الأسر .
بدا تأثير الفكر القومي الذي آمن به كنفاني ، في حينه ، في بعض قصص " عن الرجال والبنادق " ، فعدا عن أن هذه القصص تعكس صورة إيجابية لليهود المستوطنين الذين ينزرعون في الأرض ليعمروها ، خلافاً لابن الريف الفلسطيني المتعلم الذي يؤثر حياة المدينة ، فإنها تأتي على يهود صفد الفلسطينيين ، وهم عرب . لقد كان هؤلاء قبل مجيء المستوطنين والحركة الصهيونية عرباً . كانت أسماؤهم عربية وكانت عاداتهم وتقاليدهم مثل عادات بقية سكان البلاد وتقاليدهم ، وكانوا يشاركون السكان في أفراحهم وأتراحهم ، ولم يتغيروا إلا حين بدأ المشروع الصهيوني يقوى . في البدء سكتوا وصمتوا ثم بعد ذلك آثروا الانضمام إلى الحركة الصهيونية . إن صورة اليهود في أدبيات كنفاني في هذه المرحلة تأثرت بالخطاب القومي وهو ما سيختلف لاحقاً ليبدو كنفاني ، بعد هزيمة حزيران ، متأثراً بالفكر اليساري الذي سيترك أثره في تشكيل صورة اليهود .
وماذا عن الخطاب اليساري ؟
لعل المرء يجده في أشعار شاعر مثل معين بسيسو ، ولن تختلف الكتابة عن اليهود في شعره كثيراً عنها في أشعار زياد ودرويش . فقد كان بسيسو شيوعيا يفخر بشيوعيته ويقر بأنه فلسطيني وأممي في الوقت نفسه.
3 - بعد 1967 :
بعد هزيمة حزيران 1967 تراجع الخطاب القومي وتقدم الخطاب الوطني الفلسطيني ، وتعزز الخطاب الماركسي ، وغالباً ما تضافر الخطابان ؛ الوطني والماركسي معاً . وقد ترك هذا كله أثره على تشكل صورة اليهود في الأدبيات الفلسطينية . وهكذا ظهرت ( موتيفات ) لم تكن حضرت من قبل .
سوف نقرأ في الأدبيات الفلسطينية المنجزة إثر الهزيمة عن جندي إسرائيلي يحلم بالزنابق البيض ( محمود درويش ) وتختلف صورة هذا الجندي الإسرائيلي اختلافاً بيناً واضحاً عن صورته في الأدبيات الفلسطينية المكتوبة قبل الهزيمة . ولو توقفنا أمام قصة حنا ابراهيم " المتسللون " لوجدنا جندياً يخدع حتى زوجته ويكذب عليها ، فهو حين يشارك في قتل المرأة الفلسطينية العائدة ، تسللاً، إلى قريتها ، يزعم أنه قتل مخربين . إنه جندي قاتل لا جندي يحلم بالزنابق البيض .
كان محمود درويش في الحزب الشيوعي الإسرائيلي حين كتب قصيدته وكان له صديق إسرائيلي ضد سياسة دولته وضد المشروع الصهيوني وهو ( شلومو ساند ) فكتب قصيدته من وحي تلك العلاقة . إن الكتابة عن جندي إسرائيلي يحلم بالزنابق البيض أثارت ضجة بلغت ذروتها في المقدمة التي كتبها يوسف الخطيب لديوان الوطن المحتل .
ومع الأيام وجدنا الكتابة عن جندي إسرائيلي مضلل ومستغل من قيادته الصهيونية تظهر في أشعار الشيوعي الفلسطيني معين بسيسو ، فقد كتب هذا ، في أثناء حرب الاستنزاف قصيدة عنوانها " نلقاكم في كشوف القتلى على قناة السويس " .
إن ما يختلف هنا في كتابة درويش وبسيسو يكمن في أنهما كتبا عن جندي ضحية . لا عن يهودي عادي مضلل . وسنلحظ أن بعض الكتاب بدأوا يميزون بين اليهودي والإسرائيلي ، مثل هارون هاشم رشيد في روايته " سنوات العذاب " 1970 ، فلم يعد يكتب عن اليهود ، مبرزاً لهم صورة واحدة ، كما كان يكتب في أشعاره قبل 1967. بل وسنجد لازمة جديدة تظهر هي لازمة " اليهودي الفلسطيني " .
قبل 1967 كنا نقرأ عن يهود عرب ، كما هو لدى كنفاني والنشاشيبي ، وهنا، بعد 1967 ، سنقرأ عن يهود فلسطينيين يشعرون بأنهم فلسطينيون بالدرجة الأولى ، وأن انتماءهم هو انتماء لشعبها لا للصهيونية . ظهرت هذه اللازمة لدى الروائي محمود شاهين في روايته " الهجرة إلى الجحيم " ولدى الروائي أفنان القاسم في روايته " الباشا " . في رواية شاهين نقرأ عن يهودي فلسطيني يريد تربية أبنائه من زوجته الفلسطينية تربية فلسطينية . وفي رواية القاسم تعيش المرأة في القرية مع بقية سكانها دون تمييز وتعتز بفلسطينيتها .
كان كنفاني كتب عن يهود صفد باعتبارهم عرباً ، وكتب النشاشيبي عن دماء عربية تجري في شرايين سارة ، وأما ، الآن ، فيكتب الكتّاب عن يهود فلسطينيين . قبل هزيمة 67 كان الكتاب يرون في اليهود ضحايا الحركة الصهيونية ، وبعد الهزيمة ستتعزز لازمتان هما : اليهود العرب هم ضحايا الحركة الصهيونية ، واليهود الفلسطينيون هم كذلك . وستبرز هاتان اللازمتان في كتابات كتاب الداخل والخارج وقد كان لقرار إدانة الصهيونية في سبعينيات القرن الماضي أثر واضح على الكتاب . لو نظرنا في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " لرأيناه يكتب معارضاً الفكر الصهيوني الذي يشعر بالتفوق على الآخرين ، وسيدحض كنفاني أسطورة التفوق هذه .
ينطلق كنفاني في كتابته عن الذات والآخر ، في هذه الأثناء ، من منظور ماركسي ، فقد تحول مع الجبهة الشعبية إلى الماركسية وتبناها كما تبنتها . اليهود ليسوا أفضل من غيرهم . إنهم كما الآخرون ، وإن لجأوا إلى التضليل وشعروا بالاستعلاء . ولم يكن كنفاني الكاتب الوحيد الذي كتب من منظور ماركسي ، فهناك كاتبان آخران - بل كتاب كثر - انطلقا في كتابتهما من المنطلق نفسه ونظرا إلى الصراع من المنظور ذاته . إنهما سميح القاسم وأفنان القاسم .
كتب سميح مسرحية عنوانها " المطعم " ذهب فيها إلى أن العرب واليهود كانوا يعيشون معاً ولم يفرق بينهم سوى الإنجليز ، ثم كتب حكايته الأوتوبيوغرافية " إلى الجحيم أيها الليلك " عام 1977 ورآى أن اليهود هم ضحية النازية ، ودعا إلى التعايش وتقسيم فلسطين إلى قسمين بين اليهود والفلسطينيين - أي لنا ولكم ، لا لكم كلها ولا لنا كلها - وتبنى بوضوح أفكار الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي انضوى تحت لوائه ، وصاغ أفكار الحزب وطروحاته في حكايته . وفي قصته الطويلة " الصورة الأخيرة في الألبوم " عام 1979 ، واصل بث ما آمن به ، ليس اليهود كلهم سواء ، والمجتمع الإسرائيلي مجتمع فيه تناقضات عديدة ، هناك يهود ضحايا وهناك يهود غربيون متغطرسون يضطهدون العرب واليهود الشرقيين . وربما تعد مقولة سميح التي ظهرت في حكايته الأوتوبيوغرافية ملخصاً جيداً لتصوره اليهود وغيرهم في هذه الأثناء . والمقولة هي :
"ً سام أو حام أو يافط ، هذه الأمور الإثنولوجية لا تعنيني كثيرا "
هل اختلف أفنان القاسم المقيم في باريس ، لا في حيفا ، عن سميح المقيم يومها في حيفا ؟ يكتب أفنان ، على لسان بطله، في روايته " المسار " ، حين يخاطب البطل زنجيا يرضى أن يكون مضطهداً، يكتب التالي :
" قلت لك : إني شرير ، شرير هارب ، وهم يتربصون بي ... ليست القضية قضية أسود أو أبيض ، ولا جلد أسود وجلد أبيض ، ولا أفكار أمٍّ تعسة ضالة وأفكار شركة لتصدير واستيراد الرق ، ليست القضية زنجي يدعى كذلك ، أو عربي يدعى كذلك ، أو يهودي يدعى كذلك ، إذا بنيت على هذا الأساس فهي من الأصل خاطئة ". ويقيم أفنان القاسم تصوره اليهود على هذا الأساس .
والخلاصة أن الخطاببن ؛ الوطني الفلسطيني والماركسي تركا أثرهما على صورة اليهود في أدبيات هذه المرحلة بشكل واضح.
4 -
الخطاب الإسلامي ثانية : ظهور حماس وانتفاضة 1987 واوسلو :
قبل الكتابة عن تأثير الإنتفاضة الأولى وظهور حركة حماس وتوقيع اتفاق أوسلو ، على صورة اليهود في الخطاب الأدبي الفلسطيني ، لا بد من الإشارة إلى خطاب آخر برز في المراحل السابقة ، و ظل يحضر باستمرار ، وهو الخطاب الأخلاقي المحافظ ؛ خطاب الكاتب العربي المنحدر من قيمه وماضيه وطبيعة مجتمعه ، في النظر إلى المجتمعات الغربية المنفتحة .
لقد التقى على أرض فلسطين ثقافتان مختلفتان تنتميان إلى عالمين مختلفين ؛ الثقافة العربية المحافظة للمجتمع العربي ، والثقافة الغربية التي حملها المستوطنون الأوروبيون القادمون إلى فلسطين . والصحيح أن أثر الاختلاط بين هذين العالمين وخوف أحدهما ، وهو المجتمع العربي ، من الآخر الغربي ، بدأ منذ فترة مبكرة جداً ، بدأ تحديداً في أشعار الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي ابن مدينة بيت جالا .
لقد نظم البيتجالي قصيدة حذر فيها فتيات مدينة القدس - لم يميز بين فتاة مسيحية أو مسلمة أو حتى يهودية فلسطينية - من الأخلاق التي عليها الفتيات اليهوديات القادمات من أوروبة ، حيث كن على قدر من التحرر والانفتاح ، ورأى الشاعر أن أخلاقهن قد تؤثر على أخلاق بنات القدس . كما بدا هذا واضحاً في المقدمة التي كتبها الشاعر برهان الدين العبوشي لمسرحيته " وطن الشهيد " ( ١٩٤٦ ) .
لقد انحاز العبوشي إلى الريف الفلسطيني وأخلاقه المحافظة ، ورأى في أخلاق اليهود الغربيين تهديداً للأخلاق العربية الأصيلة ، وكتب من منظور أخلاقي شرقي ريفي محافظ يشكل شخصية الإنسان الفلسطيني ، ولم يذكر العبوشي شيئاً عن سكان المدينة الفلسطينية التي كان بعض سكانها منفتحين إلى حد ما .
الاختلاط بين العرب الفلسطينيين واليهود الغربيين القادمين من أوروبة برز في إحدى قصص القاص نجاتي صدقي . ونجاتي من سكان المدينة الفلسطينية ، وكنت أشرت إلى قصته " كاتب العرائض " التي يأتي فيها على علاقات منفتحة بين فلسطيني وامرأة يهودية متزوجة قادمة من أوروبة . على أن صدقي كتب قصة صور فيها العلاقات بين سكان مدينة يافا وسكان مدينة تل أبيب . يذهب فلسطينيان ؛ مدني وريفي إلى تل أبيب لاصطياد نساء يهوديات ، وفي مقهى ما يتعرفان إلى امرأة يهودية مهاجرة ، وكانت هذه ترغب في التعرف على سكان مدينة يافا ، فهي وهم جيران ويجب أن يتعارفا . المرأة المهاجرة هذه أرادت إقامة علاقات إنسانية ليس أكثر ، خلافاً للفلسطينيين اللذين طمعا فيها جسدياً ، وحين يذهبان إلى بيتها ليلاً ، على أمل نيلها ، تطردهما .
صدقي هنا يختلف عن العبوشي والبيتجالي ، ولا عجب ، فقد كان درس في موسكو وسافر إلى إسبانيا وأقام في باريس وكتب عن نماذج بشرية التقاها دون الانطلاق من رؤية مسبقة آمن بها وجعلها معياراً ثابتاً يقيس عليه .
في قصص خليل السواحري وتوفيق فياض ، بعد هزيمة حزيران 1967 ، يأتي هذان على التأثير السلبي للمجتمع اليهودي المنفتح على المجتمع العربي ، بخاصة في القدس . يصور السواحري وفياض واقع مدينة القدس وسياسة الاحتلال الإسرائيلي التي تهدف إلى إفساد الشباب الفلسطيني وإغراقه في الرذيلة حتى لا يقاوم الاحتلال . ويرى الكاتبان أن " وراء الأكمة ما وراءها ".
هناك أخلاق ورجولة يجب أن يتمتع بها الفلسطيني ، وهو ما يكون عليه أبو بلطة الحاضر في قصص خليل السواحري وأبو جابر بطل قصة فياض " أبو جابر الخليلي " . كلا الرجلين رجل . إنهما يتسمان بالشجاعة والحفاظ على الأخلاق العربية التي ترفض الميوعة ، بل وعلى الأخلاق الإسلامية التي ترفض الانحراف من زنى ولواط وحشيش واختلاط ، وهذا كله ما يميز الفتيان والفتيات اليهوديات المتجولين في مدينة القدس المحتلة . وإذا كان أبو بلطة أخذ يتقبل الوضع لأن أوضاعه الاقتصادية تحسنت فإن أبو جابر لا يستسيغ الأمر ، وهكذا يلجأ الى المقاومة التي لم يلجأ إليها أبو بلطة إلا بعد تضرر مصالحه وفرض الضرائب عليه ..
مع بداية الإنتفاضة الأولى عام 1987 ، سيواصل كتاب يساريون الكتابة بالطريقة نفسها وستظل صورة اليهود في الخطاب الأدبي متأثرة بالفكر اليساري . هكذا سيكتب غريب عسقلاني قصة عن جندي إسرائيلي يرفض الخدمة العسكرية في غزة ، فله هناك أصدقاء فلسطينيون " وردة بيضاء من أجل ديفيد " .
ولكن ما يلاحظ هنا أن بعض الكتاب اتكأوا في كتابتهم على العهد القديم ليقدموا صورة الأنا الفلسطيني والآخر اليهودي . يُعد يعقوب الأطرش أفضل مثال لهؤلاء . لقد اتكأ على قصة داوود ، الطفل اليهودي ، وانتصاره على جوليات الفلسطيني ليكتبها معكوسة ، فجوليات ، الطفل الفلسطيني ، في زماننا هو من يهزم بحجره داوود اليهودي المتغطرس والمدجج بالأسلحة .
مع أوسلو عام 1993 ، ستُكتب نصوص عديدة تحضر فيها الشخصيات اليهودية . ولم تقتصر هذه النصوص على الأدباء المقيمين ، إذ ظهرت في نصوص الأدباء العائدين مثل يحيى يخلف وخليل السواحري ومريد البرغوثي وآخرين . ولم تكن الصورة إيجابية ، فعلى الرغم من توقيع اتفاقية سلام إلا أن الصورة بدت سلبية ومخيبة .
انتهت العلاقة في رواية يخلف بما يشبه اليأس من إمكانية إحياء اللقاء ، وأبرز السواحري صورة سلبية في المطلق وكتب عن محتل سافل ومستوطن متذاك لا يهمه إلا أخذ القدس باعتبارها مدينته ، وفعل الشيء نفسه توفيق فياض في روايته " وادي الحوارث " في 1994. وأبرز الصورة السلبية للفتاة اليهودية التي تسخّر جسدها من أجل خدمة المشروع الصهيوني ، وكتب أحمد رفيق عوض عن السمسار وسعي الدولة الإسرائيلية على الاستيلاء على القدس القديمة و …
هنا نأتي على التطور اللافت الذي برز مع ظهور حركة حماس .
برز العديد من الكتاب الذين انضووا تحت لواء هذه الحركة وكتبوا متأثرين بالخطاب الإسلامي ، وحين صوروا في نصوصهم شخصيات يهودية ، صوروها اتكاءً على ما ورد عن اليهود في الأدبيات الإسلامية وأولها القرآن الكريم . واقتصروا على صورة اليهود فيه بعد اختلاف الرسول الكريم معهم ، وهي صورة تخالف ما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل . ستظهر لليهود في أدبيات أدباء حركة حماس صورة واحدة تقريباً : المكر والخداع واحتقار الآخرين و … إن اليهود هم يهود ويظلون يهوداً .
تتجسد هذه الصورة في كتابات الكاتب وليد الهودلي الذي أنفق سنوات طويلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي . لقد كتب الهودلي نصوصاً كثيرة عبر فيها عن تجربته ، وحين أتى على المحقق الإسرائيلي الذي حقق معه لم ير فرقاً بين محقق ومحقق . المحقق الذي يلجأ إلى القوة لأخذ الاعتراف من السجين لا يختلف عن المحقق الآخر الثاني الذي يلجأ إلى اللين والحوار . كلا المحققين متفقان ويريدان أخذ الاعتراف، ولا يهم أي منهما أمر الأسير . إنما هما يتبادلان أدواراً ليس أكثر .
مما سبق نخلص إلى أن الأدب الفلسطيني لم يُبرز لليهود صورة واحدة كان لها حضور ثابت، وأن هذه الصورة تغيرت وتبدلت وتأثرت بالخطاب السياسي والفكري وأيضا بالخطاب الديني، إن البحث عن صورة اليهود فيه تتطلب ببساطة قراءة الواقع السياسي الذي كان طاغياً أو ظاهراً أو حاضراً زمن كتابة النص ، بل وتتطلب النظر في المنظور السياسي أو الفكري أو الديني أو الأخلاقي لصاحب النص .
الاستاد الدكتور عادل الاسطة 3
نص الورقة التي القيت في جامعة بير زيت في 2016
كيف بدت صورة الخطاب في الكتابة عن اليهود في الادبيات الفلسطينية ؟
هل سادت نغمة واحدة في الكتابة عنهم منذ بدايات الصراع معهم على الأرض ، منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين ؟ أم أن صورتهم تلونت وتغيرت باختلاف الخطاب الفكري والسياسي في فلسطين والعالم العربي ، خلال المائة سنة الأخيرة ؟
أشير ، ابتداء ، إلى أن اليهود عاشوا في فلسطين ، قبل بداية الاستيطان الصهيوني في أربع مدن فلسطينية هي صفد ونابلس والقدس والخليل ، ولم تكن هناك نصوص أدبية تأتي عليهم لتهاجمهم أو لتمدحهم ، وقد يعود هذا إلى أمرين ؛ الأول أنه نظر إليهم على أنهم مواطنون مثل بقية المواطنين ، والثاني أن الأدب في فلسطين كان ضعيفاً ، فعدا الشعر التقليدي لم يكن هناك نثر هو المجال الأرحب للكتابة في موضوعات كهذه .
أول نص أدبي أتى على ذكر اليهود كتبه الشاعر سليمان التاجي الفاروقي في العام ١٩١٣ ، وكان الشاعر بدأ يخشى من المشروع الاستيطاني الذي تنبه إليه بعض المثقفين الفلسطينيين مثل نجيب نصار الذي ترجم في العام ١٩٠٥ ، عن الانجليزية ، مقالاً عن الصهيونية وخطرها .
هاجم الشاعر الفاروقي اليهود بعامة ولم يميز بين يهودي وآخر ؛ يهودي صهيوني ويهودي غير صهيوني ، يهودي قادم من أوروبا وآخر مقيم في فلسطين ، وأسبغ على اليهود الصفات التقليدية مثل حب المال والتعامل بالربا والذل والمسكنة .
في العام ١٩٢٠ سيصدر خليل بيدس ، أول روائي فلسطيني ، روايته " الوارث " وسيكون لليهود فيها حضور لافت ، ولكن أحداث الرواية لا تجري في فلسطين بل في القاهرة ، وهذا ما استغربه الناقد فاروق وادي الذي لاحظ أن بيدس لم يكتب عن اليهودي الجديد - المستوطن ، وإنما كتب عن يهود البلدان العربية ، وقد أبرز بيدس لليهود الصورة التقليدية لهم : الفتاة اليهودية الجميلة التي تسير في طريق الرذيلة ، يساعدها يهود آخرون يحتالون على الآخرين ، وهم في الرواية يتجسدون في بطلها عزيز الذي يعشق استير . واليهود هنا مرابون ومحتالون ولا يكترثون للفضيلة .
الكاتب الثاني الذي أتى على ذكر اليهود في هذه الفترة هو ابراهيم طوقان .
التفت الشاعر ذو الخلفية الإسلامية - بيدس كان مسيحياً - إلى الخطر الصهيوني مبكراً ، وكتب عن اليهود بشكل عام ، وإن كان يقصد اليهود المستوطنين أساساً ، فجل أشعاره تأتي على الأرض والوطن والبلاد والخوف من ضياعها .
هاجم طوقان اليهود هجوماً مراً عنيفاً ، وكان أحياناً يكتب من منطلق الرد على وجهة نظر اليهود المستوطنين في العرب .
كتب شاعر يهودي اسمه رؤبين قصيدة حاقدة هاجم فيها العرب هجوماً عنيفاً ، فرد عليه طوقان بقصيدة لا تقل عنها عنفاً . والقصيدتان عموماً تذكران بشعر شعراء النقائض .
أسبغ الشاعر في مجمل شعره على اليهود الصفات التقليدية والصفات السلبية التي وردت عنهم في القرآن الكريم ، ولكنه في الوقت نفسه أشار ، وهو يعاتب زعماء قومه المتناحرين على المناصب ، إلى جهود اليهود في بناء وطن .
لم يكن طوقان وبيدس والفاروقي الأدباء الوحيدين الذين كتبوا عن اليهود حتى العام ١٩٤٨. لقد كان هناك أدباء آخرون منهم اسحق موسى الحسيني وبرهان الدين العبوشي ومحمد عزة دروزة ونجاتي صدقي، وقد اختلفت صورة اليهود في أدبيات هؤلاء بحسب التوجه الفكري لكل منهم .
كتب محمد عزة دروزة في العام ١٩٣٥ مسرحية عنوانها " الفلاح والسمسار " - في رواية أخرى " الملاك والسمسار " - وأتى فيها على الأرض وبيعها وصور فيها توظيف الحركة الصهيونية للفتيات اليهوديات من أجل شراء الأرض من الفلسطينيين .
كان توجه دروزة توجهاً إسلامياً ، وقد كتب من منظور إسلامي ، فله كتاب عن أنبياء اليهود من خلال أسفارهم ، ذهب فيه إلى أن توظيف اليهود نساءهم من أجل تحقيق أغراضهم يعود إلى أنبيائهم . وللأسف فإن مسرحية دروزة هذه غير متوفرة .
الكاتب اسحق موسى الحسيني الذي أقام في القدس ودرس في لندن كان ليبرالي النزعة ، وكانت له صلات ببعض المثقفين اليهود ، ولا ننسى أنه عاش في القدس التي كان اليهود من سكانها ، قبل بداية المشروع الصهيوني .
في روايته الرمزية " مذكرات دجاجة " ( ١٩٤٣ ) يميز الحسيني بين يهود مقيمين ويهود طارئين ، والأخيرون هم الذين يريدون المأوى/فلسطين ، ويريدون طرد سكانها .
لا ينطلق الكاتب من منطلق تعميمي ، فهو يرى الفضيلة والرذيلة في المجتمعات كلها ، ومنها مجتمعه . إنه لا يلجأ إلى التعميم ، ولهذا نراه يميز بين دجاج مقيم وآخر طارئ ، بل ويتحدث عن بيئته هو فيرى فيها الشرور والطمع والحقد والتنافس .
يختلف عن الحسيني الشاعر برهان الدين العبوشي صاحب مسرحية " وطن الشهيد " ( ١٩٤٦ ) ، فهذا الذي نشأ في بيئة ريفية ونشأ محافظاً يتغنى بالقيم العربية الإسلامية الأصيلة ، وبأخلاق الريف ، يكتب من منطلق كاتب محافظ يخشى على القيم العربية الأصيلة من التلوث إذا ما اختلطت مع قيم الوافدين من أوروبا .
ولعل تصور العبوشي للذات والآخرين يبدو واضحاً في المقدمة التي كتبها للمسرحية ، وهو ما أفصحت عنه في السطور السابقة .
ويحفل نص العبوشي بشخصيات يهودية منها شخصيات نسوية لا تختلف صورتها عن الصورة التي لاحظناها في رواية بيدس ومسرحية دروزة : الفتاة اليهودية اللعوب التي لا تهتم بالعرض ويمكن أن توظف جسدها وتستغله لمنافع مادية أو سياسية .
يختلف نجاتي صدقي عن كثير من هؤلاء .
نشأ صدقي في بيئة مدنية وكان توجهه يسارياً ، ودرس فوق هذا في موسكو وكان أول أمين عام للحزب الشيوعي الفلسطيني ، ثم إنه تأثر بالأدب الروسي ، وتحديداً بقصص أنطون تشيخوف . وهذه الأمور كلها تركت أثرها على خطابه الأدبي .
لم يسبغ صدقي على اليهود كلهم صفات محددة هي الصفات التقليدية ، وإن فعل هذا في قصته " شمعون بوزاجلو ". اليهودي هنا مراب وبخيل ومحب للمال وكاره للنساء ومتدين ومتسول . ولكن هذه الصورة لم تبرز في قصص أخرى لصدقي أبرز فيها شخصيات يهودية .
كتب صدقي قصصاً صور فيها يهوداً أوروبيين تختلف صورتهم كلياً عن صورة شمعون بوزاجلو . هناك نسوة يهوديات يختلفن عن النساء اليهوديات في قصة بوزاجلو . المرأة اليهودية الغربية محبة للحياة وتستمتع بها وبجسدها ، وهي أحياناً منفتحة ، منفتحة مغامرة تقيم علاقات جنسية خارج إطار المؤسسة الأسرية ، كما هي ريتا في قصة " كاتب العرائض " ، أو منفتحة ولكن محافظة على أخلاقها ، تنفتح على الآخرين ومنهم العرب ، ولكنها تحافظ على نفسها .
هكذا لم يبرز صدقي صورة نمطية لليهود ، وهكذا اختلف خطابه .
2 -
تأثير الخطاب السياسي على الخطاب الأدبي :
بين 1948 - 1967
تركت نكبة العام ١٩٤٨ أثرها على بنية الشعب الفلسطيني ، فقد شتته كما مزقت أرضه ، وغدا موزعاً على أماكن جغرافية عديدة ، تماماً كما أصبحت فلسطين مقسمة بين أكثر من دولة؛ فلسطين / إسرائيل والأردن ومصر . غدا ٧٩ ٪ من الأراضي الفلسطينية يعرف بإسرائيل ، وألحقت الضفة الغربية بالأردن ، وأما قطاع غزة فقد غدا تحت الإدارة المصرية . وتوزع الفلسطينيون على هذه الأماكن وعلى أماكن أخرى ؛ سورية والعراق وأبعد من هذه وتلك . وبقي ١٦٥٠٠٠ فلسطيني في مدنهم وقراهم يعيشون تحت حكم الدولة الإسرائيلية الناشئة ، حاصلين ؛ مجبرين ومكرهين ، على هويتها ليعانوا من تمييز قومي عبّر عنه محمود درويش في قصيدته الشهيرة " سجل أنا عربي " .
واختلف الخطاب السياسي العربي من بلد إلى آخر ؛ من خطاب قومي إلى خطاب وطني فإسلامي ، وإن كان الأخير في هذه الفترة ضعيفا . ولا ننسى الخطاب اليساري الذي برز وعلا وضاهى الخطاب القومي ، وإن لم يمتلك اليساريون ، خلافاً للقوميين ، السلطة في أي بلد عربي . ويمكن القول إن الخطابين ؛ القومي واليساري ، كان لهما الحضور الأكبر في أدبيات هذه الفترة ، وإن لم يعدم المرء بروز أدبيات ظل أصحابها فيها يعبرون عن رؤاهم الموروثة المستمدة من ثقافتهم الدينية .
اختلف الخطاب من مكان إلى آخر حسب النظام السياسي الحاكم وحسب قناعات الكاتب بهذا الخطاب أو ذاك . فالفلسطينيون الذين ظلوا في أرضهم ، مثل توفيق زياد ومحمود درويش وحنا ابراهيم وتوفيق فياض وغيرهم ، تأثروا بالأفكار التي اعتنقوها وآمنوا بها ، وهي متنوعة ومختلفة، ما بين ماركسية وقومية وأفكار لم تر في اليهود عدواً أساسياً ، فاليهود والفلسطينيون ضحايا سياسة الإنجليز في فلسطين ؛ سياسة " فرق تسد " وهو ما بدا في قصة مصطفى مرار الذي كان ينشر في صحف السلطة الإسرائيلية الخاضعة للأحزاب الحاكمة ، وفي رواية محمود عباسي " حب بلا غد ".
اعتنق توفيق زياد ، ومثله محمود درويش ، الأفكار اليسارية وانضوى الاثنان تحت راية الحزب الشيوعي الإسرائيلي ( راكاح ) وعبرا فيما كتبا عن طروحاته الفكرية والسياسية ، وهي طروحات تقوم على أساس صراع طبقي لا ينسى أو يتناسى حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة . ولم ير هذان في اليهود كلاً واحداً لا فرق بين أجزائه ، فثمة يهود هم ضحايا الحركة الصهيونية ، كما هو حال الشعب الفلسطيني ، وبالتالي فقد خاطب زياد الأحزاب الصهيونية الحاكمة باعتبارها أحزابا تضطهد الفقراء اليهود والعرب معاً ، وحين كتب عن إضراب عمال مصنع " اتا " خاطب العمال اليهود بـ " يا إخوتي " في النضال .
لم يختلف محمود درويش كثيراً عن زياد ، فقد أحب فتاة يهودية كانت رفيقة له في الحزب، وفيها كتب قصيدته الشهيرة " ريتا والبندقية " التي قال فيها :
" بين ريتا وعيوني
بندقية
والذي يعرف ريتا
ينحني
ويصلي لاله في العيون العسلية "
ولم ينته الحب إلا بعد أن آثرت ريتا الخدمة في الجيش الإسرائيلي .
إن قصيدة درويش " سجل أنا عربي " كانت بالأساس موجهة للضابط الصهيوني العنصري ، لا لكونه يهودياً ، بل لكونه عنصرياً . يختلف توفيق فياض ذو الميول الناصرية القومية ، فقد كتب مسرحية عنوانها " بيت الجنون " وفيها كتب عن رياح " غريبة غربية " جاءت لتقتلع سامي مدرس التاريخ وشعبه . سامي معلم تاريخ في مدرسة يدرس فيها المنهاج الإسرائيلي ، وهو منهاج لا يقر بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني ولا بأرض اسمها فلسطين . وعلى سامي، إن أراد الوظيفة ، أن يعلم الرواية الإسرائيلية ، وهو له روايته التي ترى في اليهود الذين أقاموا دولة إسرائيل يهوداً غرباء وغربيين ، جاؤوا لهدم بيت سامي واقتلاعه . هكذا كان خطاب توفيق فياض مختلفاً ، ولأن إسرائيل لم تكن تسمح بخطاب مثل هذا ، فقد لجأ كاتب المسرحية إلى الكتابة الرمزية .
اختلف الخطاب السياسي العربي ، في هذه الفترة ، وكان الخطاب الأبرز هو الخطاب القومي ، وإن كان هناك خطاب يساري ماركسي ظل ملاحقاً وزج أصحابه في السجون غالباً ، وأما الخطابان الوطني والديني فقد كانا ضعيفين إلى حد ما . وإن كان هناك من يعكسهما في الأدب مثل هارون هاشم رشيد ومحمد العدناني وبرهان العبوشي وآخرين .
ويعد هارون هاشم رشيد من أبرز من كتبوا قصائد تصور واقع اللجوء وتعبر عن حلم العودة ، وفي أثناء ذكره للعدو كان يستخدم دال " اليهود " دون تمييز بين يهودي وآخر وغالبا ما أسبغ عليهم الصفات التقليدية المعروفة عنهم في الأدبيات العربية والعالمية ، وتحديداً الصفات السلبية ، وأبرزها هنا الغدر والمكر والحقد وكره الآخرين وما شابه . ولم يختلف خطاب رشيد إلا بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ حيث بدأ يميز بين اليهود والصهيونية .
الكاتب الفلسطيني الأبرز الذي انعكس الخطاب القومي الناصري في نصوصه هو ناصر الدين النشاشيبي . عاش النشاشيبي في ستينيات القرن العشرين في مصر وتولى رئاسة تحرير صحيفة ناصرية تنطق باسم الناصرية ، ومن الطبيعي أن يطغى على ما يكتب؛ سياسة وأدباً ، الخطاب الرسمي . أصدر النشاشيبي في ١٩٦٢ و ١٩٦٤ روايتين تصوران الصراع الفلسطيني / العربي والصهيوني ؛ الأولى هي " حفنة رمال " والثانية هي " حبات البرتقال " ، وفي كلتيهما يبرز الخطاب القومي الذي يأتيو، أحياناً ، على نظرية الدم . فهناك دماء عربية تجري في شرايين سارة التي ولدت لأب عربي وأم يهودية . يموت والد سارة فتأخذها أمها إلى أهلها ليرعاها أخوالها ، وحين تكبر توظفها الوكالة اليهودية لخدمتها ، فترسلها لشاب عربي يرفض بيع أرضه ، علها تسقطه ، ولكن دماءها العربية تأبى لها هذا فتعترف لثابت بأن دماءها عربية وأنها عربية مثله وأنها مرسلة للإغواء والإسقاط.
الصورة التي تبرز لليهود هنا هي صورة اليهودي المستوطن الذي يريد الأرض ، وفي سبيل هذا لا يتوانى عن أي طريق مهما كان سافلاً وبلا أخلاق . اليهودي الصهيوني هنا يقتل ولا شرف له ويرسل الفتيات اليهوديات إلى الآخرين للإيقاع بهم . إنه دموي قاتل . ولا تختلف صورة اليهود في رواية " حبات البرتقال " . في الرواية يهود صهيونيون يريدون إقامة الوطن القومي اليهودي ولا يتورع هؤلاء عن ارتكاب جرائم وسلوكات غير أخلاقية . يلجأون إلى الخداع والقتل وإرسال الفتيات اليهوديات إلى الآخرين ليضغطوا عليهم لتنفيذ مآرب الحركة الصهيونية وأهدافها . طبعاً وكالعادة يميز النشاشيبي بين يهود ويهود ، فهناك يهوديات جميلات يحببن أن يعشن حياتهن ولا يؤمن بالصهيونية ويقعن ضحية للحركة الصهيونية . بطل الرواية سابا فلسطيني يقيم ، في فترة الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا ، ويقاوم النازية ويسجن لهذا ، وحين تنتهي الحرب يطلق سراحه ويواصل حياته مع صديقاته اليهوديات اللاتي يرفضن الصهيونية وما تطلبه منهن الوكالة اليهودية من أفعال مشينة كتوظيف أجسادهن لخدمة المشروع الصهيوني . وحين يرفضن توقع الوكالة بينهن وبين الفلسطيني سابا وتحول حياة الجميع إلى جحيم ؛ سابا وصديقته وصديقاتها أيضاً . إن الخطاب القومي وانعكاسه في الكتابة عن اليهود يبرز أوضح ما يكون في هاتين الروايتين .
طبعاً لا يعني ما سبق عدم وجود كتابات أخرى تعكس الخطاب القومي وتكتب وهي واقعة تحت تأثيره فغسان كنفاني الذي كانت ميوله في هذه الأثناء ميولاً قومية لم تخل نصوصه من الكتابة عن اليهود . إن رواية " ما تبقى لكم " ( ١٩٦٦ ) تصور الجندي اليهودي وتأتي على ما فعله الإسرائيليون في غزة في ١٩٥٦ ، حيث قتلوا سالماً بلا رحمة . ولكن الجندي الإسرائيلي في الرواية لا يبدو كذلك لأن الفلسطيني حامداً تمكن من أسره . وهكذا يستسلم للقدر علّ رفاقه يبحثون عنه فيقتلون حامداً ويتخلص هو من الأسر .
بدا تأثير الفكر القومي الذي آمن به كنفاني ، في حينه ، في بعض قصص " عن الرجال والبنادق " ، فعدا عن أن هذه القصص تعكس صورة إيجابية لليهود المستوطنين الذين ينزرعون في الأرض ليعمروها ، خلافاً لابن الريف الفلسطيني المتعلم الذي يؤثر حياة المدينة ، فإنها تأتي على يهود صفد الفلسطينيين ، وهم عرب . لقد كان هؤلاء قبل مجيء المستوطنين والحركة الصهيونية عرباً . كانت أسماؤهم عربية وكانت عاداتهم وتقاليدهم مثل عادات بقية سكان البلاد وتقاليدهم ، وكانوا يشاركون السكان في أفراحهم وأتراحهم ، ولم يتغيروا إلا حين بدأ المشروع الصهيوني يقوى . في البدء سكتوا وصمتوا ثم بعد ذلك آثروا الانضمام إلى الحركة الصهيونية . إن صورة اليهود في أدبيات كنفاني في هذه المرحلة تأثرت بالخطاب القومي وهو ما سيختلف لاحقاً ليبدو كنفاني ، بعد هزيمة حزيران ، متأثراً بالفكر اليساري الذي سيترك أثره في تشكيل صورة اليهود .
وماذا عن الخطاب اليساري ؟
لعل المرء يجده في أشعار شاعر مثل معين بسيسو ، ولن تختلف الكتابة عن اليهود في شعره كثيراً عنها في أشعار زياد ودرويش . فقد كان بسيسو شيوعيا يفخر بشيوعيته ويقر بأنه فلسطيني وأممي في الوقت نفسه.
3 - بعد 1967 :
بعد هزيمة حزيران 1967 تراجع الخطاب القومي وتقدم الخطاب الوطني الفلسطيني ، وتعزز الخطاب الماركسي ، وغالباً ما تضافر الخطابان ؛ الوطني والماركسي معاً . وقد ترك هذا كله أثره على تشكل صورة اليهود في الأدبيات الفلسطينية . وهكذا ظهرت ( موتيفات ) لم تكن حضرت من قبل .
سوف نقرأ في الأدبيات الفلسطينية المنجزة إثر الهزيمة عن جندي إسرائيلي يحلم بالزنابق البيض ( محمود درويش ) وتختلف صورة هذا الجندي الإسرائيلي اختلافاً بيناً واضحاً عن صورته في الأدبيات الفلسطينية المكتوبة قبل الهزيمة . ولو توقفنا أمام قصة حنا ابراهيم " المتسللون " لوجدنا جندياً يخدع حتى زوجته ويكذب عليها ، فهو حين يشارك في قتل المرأة الفلسطينية العائدة ، تسللاً، إلى قريتها ، يزعم أنه قتل مخربين . إنه جندي قاتل لا جندي يحلم بالزنابق البيض .
كان محمود درويش في الحزب الشيوعي الإسرائيلي حين كتب قصيدته وكان له صديق إسرائيلي ضد سياسة دولته وضد المشروع الصهيوني وهو ( شلومو ساند ) فكتب قصيدته من وحي تلك العلاقة . إن الكتابة عن جندي إسرائيلي يحلم بالزنابق البيض أثارت ضجة بلغت ذروتها في المقدمة التي كتبها يوسف الخطيب لديوان الوطن المحتل .
ومع الأيام وجدنا الكتابة عن جندي إسرائيلي مضلل ومستغل من قيادته الصهيونية تظهر في أشعار الشيوعي الفلسطيني معين بسيسو ، فقد كتب هذا ، في أثناء حرب الاستنزاف قصيدة عنوانها " نلقاكم في كشوف القتلى على قناة السويس " .
إن ما يختلف هنا في كتابة درويش وبسيسو يكمن في أنهما كتبا عن جندي ضحية . لا عن يهودي عادي مضلل . وسنلحظ أن بعض الكتاب بدأوا يميزون بين اليهودي والإسرائيلي ، مثل هارون هاشم رشيد في روايته " سنوات العذاب " 1970 ، فلم يعد يكتب عن اليهود ، مبرزاً لهم صورة واحدة ، كما كان يكتب في أشعاره قبل 1967. بل وسنجد لازمة جديدة تظهر هي لازمة " اليهودي الفلسطيني " .
قبل 1967 كنا نقرأ عن يهود عرب ، كما هو لدى كنفاني والنشاشيبي ، وهنا، بعد 1967 ، سنقرأ عن يهود فلسطينيين يشعرون بأنهم فلسطينيون بالدرجة الأولى ، وأن انتماءهم هو انتماء لشعبها لا للصهيونية . ظهرت هذه اللازمة لدى الروائي محمود شاهين في روايته " الهجرة إلى الجحيم " ولدى الروائي أفنان القاسم في روايته " الباشا " . في رواية شاهين نقرأ عن يهودي فلسطيني يريد تربية أبنائه من زوجته الفلسطينية تربية فلسطينية . وفي رواية القاسم تعيش المرأة في القرية مع بقية سكانها دون تمييز وتعتز بفلسطينيتها .
كان كنفاني كتب عن يهود صفد باعتبارهم عرباً ، وكتب النشاشيبي عن دماء عربية تجري في شرايين سارة ، وأما ، الآن ، فيكتب الكتّاب عن يهود فلسطينيين . قبل هزيمة 67 كان الكتاب يرون في اليهود ضحايا الحركة الصهيونية ، وبعد الهزيمة ستتعزز لازمتان هما : اليهود العرب هم ضحايا الحركة الصهيونية ، واليهود الفلسطينيون هم كذلك . وستبرز هاتان اللازمتان في كتابات كتاب الداخل والخارج وقد كان لقرار إدانة الصهيونية في سبعينيات القرن الماضي أثر واضح على الكتاب . لو نظرنا في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " لرأيناه يكتب معارضاً الفكر الصهيوني الذي يشعر بالتفوق على الآخرين ، وسيدحض كنفاني أسطورة التفوق هذه .
ينطلق كنفاني في كتابته عن الذات والآخر ، في هذه الأثناء ، من منظور ماركسي ، فقد تحول مع الجبهة الشعبية إلى الماركسية وتبناها كما تبنتها . اليهود ليسوا أفضل من غيرهم . إنهم كما الآخرون ، وإن لجأوا إلى التضليل وشعروا بالاستعلاء . ولم يكن كنفاني الكاتب الوحيد الذي كتب من منظور ماركسي ، فهناك كاتبان آخران - بل كتاب كثر - انطلقا في كتابتهما من المنطلق نفسه ونظرا إلى الصراع من المنظور ذاته . إنهما سميح القاسم وأفنان القاسم .
كتب سميح مسرحية عنوانها " المطعم " ذهب فيها إلى أن العرب واليهود كانوا يعيشون معاً ولم يفرق بينهم سوى الإنجليز ، ثم كتب حكايته الأوتوبيوغرافية " إلى الجحيم أيها الليلك " عام 1977 ورآى أن اليهود هم ضحية النازية ، ودعا إلى التعايش وتقسيم فلسطين إلى قسمين بين اليهود والفلسطينيين - أي لنا ولكم ، لا لكم كلها ولا لنا كلها - وتبنى بوضوح أفكار الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي انضوى تحت لوائه ، وصاغ أفكار الحزب وطروحاته في حكايته . وفي قصته الطويلة " الصورة الأخيرة في الألبوم " عام 1979 ، واصل بث ما آمن به ، ليس اليهود كلهم سواء ، والمجتمع الإسرائيلي مجتمع فيه تناقضات عديدة ، هناك يهود ضحايا وهناك يهود غربيون متغطرسون يضطهدون العرب واليهود الشرقيين . وربما تعد مقولة سميح التي ظهرت في حكايته الأوتوبيوغرافية ملخصاً جيداً لتصوره اليهود وغيرهم في هذه الأثناء . والمقولة هي :
"ً سام أو حام أو يافط ، هذه الأمور الإثنولوجية لا تعنيني كثيرا "
هل اختلف أفنان القاسم المقيم في باريس ، لا في حيفا ، عن سميح المقيم يومها في حيفا ؟ يكتب أفنان ، على لسان بطله، في روايته " المسار " ، حين يخاطب البطل زنجيا يرضى أن يكون مضطهداً، يكتب التالي :
" قلت لك : إني شرير ، شرير هارب ، وهم يتربصون بي ... ليست القضية قضية أسود أو أبيض ، ولا جلد أسود وجلد أبيض ، ولا أفكار أمٍّ تعسة ضالة وأفكار شركة لتصدير واستيراد الرق ، ليست القضية زنجي يدعى كذلك ، أو عربي يدعى كذلك ، أو يهودي يدعى كذلك ، إذا بنيت على هذا الأساس فهي من الأصل خاطئة ". ويقيم أفنان القاسم تصوره اليهود على هذا الأساس .
والخلاصة أن الخطاببن ؛ الوطني الفلسطيني والماركسي تركا أثرهما على صورة اليهود في أدبيات هذه المرحلة بشكل واضح.
4 -
الخطاب الإسلامي ثانية : ظهور حماس وانتفاضة 1987 واوسلو :
قبل الكتابة عن تأثير الإنتفاضة الأولى وظهور حركة حماس وتوقيع اتفاق أوسلو ، على صورة اليهود في الخطاب الأدبي الفلسطيني ، لا بد من الإشارة إلى خطاب آخر برز في المراحل السابقة ، و ظل يحضر باستمرار ، وهو الخطاب الأخلاقي المحافظ ؛ خطاب الكاتب العربي المنحدر من قيمه وماضيه وطبيعة مجتمعه ، في النظر إلى المجتمعات الغربية المنفتحة .
لقد التقى على أرض فلسطين ثقافتان مختلفتان تنتميان إلى عالمين مختلفين ؛ الثقافة العربية المحافظة للمجتمع العربي ، والثقافة الغربية التي حملها المستوطنون الأوروبيون القادمون إلى فلسطين . والصحيح أن أثر الاختلاط بين هذين العالمين وخوف أحدهما ، وهو المجتمع العربي ، من الآخر الغربي ، بدأ منذ فترة مبكرة جداً ، بدأ تحديداً في أشعار الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي ابن مدينة بيت جالا .
لقد نظم البيتجالي قصيدة حذر فيها فتيات مدينة القدس - لم يميز بين فتاة مسيحية أو مسلمة أو حتى يهودية فلسطينية - من الأخلاق التي عليها الفتيات اليهوديات القادمات من أوروبة ، حيث كن على قدر من التحرر والانفتاح ، ورأى الشاعر أن أخلاقهن قد تؤثر على أخلاق بنات القدس . كما بدا هذا واضحاً في المقدمة التي كتبها الشاعر برهان الدين العبوشي لمسرحيته " وطن الشهيد " ( ١٩٤٦ ) .
لقد انحاز العبوشي إلى الريف الفلسطيني وأخلاقه المحافظة ، ورأى في أخلاق اليهود الغربيين تهديداً للأخلاق العربية الأصيلة ، وكتب من منظور أخلاقي شرقي ريفي محافظ يشكل شخصية الإنسان الفلسطيني ، ولم يذكر العبوشي شيئاً عن سكان المدينة الفلسطينية التي كان بعض سكانها منفتحين إلى حد ما .
الاختلاط بين العرب الفلسطينيين واليهود الغربيين القادمين من أوروبة برز في إحدى قصص القاص نجاتي صدقي . ونجاتي من سكان المدينة الفلسطينية ، وكنت أشرت إلى قصته " كاتب العرائض " التي يأتي فيها على علاقات منفتحة بين فلسطيني وامرأة يهودية متزوجة قادمة من أوروبة . على أن صدقي كتب قصة صور فيها العلاقات بين سكان مدينة يافا وسكان مدينة تل أبيب . يذهب فلسطينيان ؛ مدني وريفي إلى تل أبيب لاصطياد نساء يهوديات ، وفي مقهى ما يتعرفان إلى امرأة يهودية مهاجرة ، وكانت هذه ترغب في التعرف على سكان مدينة يافا ، فهي وهم جيران ويجب أن يتعارفا . المرأة المهاجرة هذه أرادت إقامة علاقات إنسانية ليس أكثر ، خلافاً للفلسطينيين اللذين طمعا فيها جسدياً ، وحين يذهبان إلى بيتها ليلاً ، على أمل نيلها ، تطردهما .
صدقي هنا يختلف عن العبوشي والبيتجالي ، ولا عجب ، فقد كان درس في موسكو وسافر إلى إسبانيا وأقام في باريس وكتب عن نماذج بشرية التقاها دون الانطلاق من رؤية مسبقة آمن بها وجعلها معياراً ثابتاً يقيس عليه .
في قصص خليل السواحري وتوفيق فياض ، بعد هزيمة حزيران 1967 ، يأتي هذان على التأثير السلبي للمجتمع اليهودي المنفتح على المجتمع العربي ، بخاصة في القدس . يصور السواحري وفياض واقع مدينة القدس وسياسة الاحتلال الإسرائيلي التي تهدف إلى إفساد الشباب الفلسطيني وإغراقه في الرذيلة حتى لا يقاوم الاحتلال . ويرى الكاتبان أن " وراء الأكمة ما وراءها ".
هناك أخلاق ورجولة يجب أن يتمتع بها الفلسطيني ، وهو ما يكون عليه أبو بلطة الحاضر في قصص خليل السواحري وأبو جابر بطل قصة فياض " أبو جابر الخليلي " . كلا الرجلين رجل . إنهما يتسمان بالشجاعة والحفاظ على الأخلاق العربية التي ترفض الميوعة ، بل وعلى الأخلاق الإسلامية التي ترفض الانحراف من زنى ولواط وحشيش واختلاط ، وهذا كله ما يميز الفتيان والفتيات اليهوديات المتجولين في مدينة القدس المحتلة . وإذا كان أبو بلطة أخذ يتقبل الوضع لأن أوضاعه الاقتصادية تحسنت فإن أبو جابر لا يستسيغ الأمر ، وهكذا يلجأ الى المقاومة التي لم يلجأ إليها أبو بلطة إلا بعد تضرر مصالحه وفرض الضرائب عليه ..
مع بداية الإنتفاضة الأولى عام 1987 ، سيواصل كتاب يساريون الكتابة بالطريقة نفسها وستظل صورة اليهود في الخطاب الأدبي متأثرة بالفكر اليساري . هكذا سيكتب غريب عسقلاني قصة عن جندي إسرائيلي يرفض الخدمة العسكرية في غزة ، فله هناك أصدقاء فلسطينيون " وردة بيضاء من أجل ديفيد " .
ولكن ما يلاحظ هنا أن بعض الكتاب اتكأوا في كتابتهم على العهد القديم ليقدموا صورة الأنا الفلسطيني والآخر اليهودي . يُعد يعقوب الأطرش أفضل مثال لهؤلاء . لقد اتكأ على قصة داوود ، الطفل اليهودي ، وانتصاره على جوليات الفلسطيني ليكتبها معكوسة ، فجوليات ، الطفل الفلسطيني ، في زماننا هو من يهزم بحجره داوود اليهودي المتغطرس والمدجج بالأسلحة .
مع أوسلو عام 1993 ، ستُكتب نصوص عديدة تحضر فيها الشخصيات اليهودية . ولم تقتصر هذه النصوص على الأدباء المقيمين ، إذ ظهرت في نصوص الأدباء العائدين مثل يحيى يخلف وخليل السواحري ومريد البرغوثي وآخرين . ولم تكن الصورة إيجابية ، فعلى الرغم من توقيع اتفاقية سلام إلا أن الصورة بدت سلبية ومخيبة .
انتهت العلاقة في رواية يخلف بما يشبه اليأس من إمكانية إحياء اللقاء ، وأبرز السواحري صورة سلبية في المطلق وكتب عن محتل سافل ومستوطن متذاك لا يهمه إلا أخذ القدس باعتبارها مدينته ، وفعل الشيء نفسه توفيق فياض في روايته " وادي الحوارث " في 1994. وأبرز الصورة السلبية للفتاة اليهودية التي تسخّر جسدها من أجل خدمة المشروع الصهيوني ، وكتب أحمد رفيق عوض عن السمسار وسعي الدولة الإسرائيلية على الاستيلاء على القدس القديمة و …
هنا نأتي على التطور اللافت الذي برز مع ظهور حركة حماس .
برز العديد من الكتاب الذين انضووا تحت لواء هذه الحركة وكتبوا متأثرين بالخطاب الإسلامي ، وحين صوروا في نصوصهم شخصيات يهودية ، صوروها اتكاءً على ما ورد عن اليهود في الأدبيات الإسلامية وأولها القرآن الكريم . واقتصروا على صورة اليهود فيه بعد اختلاف الرسول الكريم معهم ، وهي صورة تخالف ما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل . ستظهر لليهود في أدبيات أدباء حركة حماس صورة واحدة تقريباً : المكر والخداع واحتقار الآخرين و … إن اليهود هم يهود ويظلون يهوداً .
تتجسد هذه الصورة في كتابات الكاتب وليد الهودلي الذي أنفق سنوات طويلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي . لقد كتب الهودلي نصوصاً كثيرة عبر فيها عن تجربته ، وحين أتى على المحقق الإسرائيلي الذي حقق معه لم ير فرقاً بين محقق ومحقق . المحقق الذي يلجأ إلى القوة لأخذ الاعتراف من السجين لا يختلف عن المحقق الآخر الثاني الذي يلجأ إلى اللين والحوار . كلا المحققين متفقان ويريدان أخذ الاعتراف، ولا يهم أي منهما أمر الأسير . إنما هما يتبادلان أدواراً ليس أكثر .
مما سبق نخلص إلى أن الأدب الفلسطيني لم يُبرز لليهود صورة واحدة كان لها حضور ثابت، وأن هذه الصورة تغيرت وتبدلت وتأثرت بالخطاب السياسي والفكري وأيضا بالخطاب الديني، إن البحث عن صورة اليهود فيه تتطلب ببساطة قراءة الواقع السياسي الذي كان طاغياً أو ظاهراً أو حاضراً زمن كتابة النص ، بل وتتطلب النظر في المنظور السياسي أو الفكري أو الديني أو الأخلاقي لصاحب النص .
الاستاد الدكتور عادل الاسطة 3
نص الورقة التي القيت في جامعة بير زيت في 2016