د. عادل الاسطة - في مألوف حياتنا : زيارة عابرة للقدس

في الطريق إلى القدس تذكرت قصتين للقاص أكرم هنية هما " لماذا لم أذهب لمقابلة صديقتي" و "شمال شرق دير اللطرون " .
القصتان إذا ما بحثنا عن صلة بينهما ، مقتفين خطى (ميخائيل ريفاتيري ) في دراسته قصيدة "القطط " ل (بودلير ) وكمال أبو ديب في دراسته ثلاث قصائد لأبي نواس ، فإننا ولا شك واجدون تلك الصلة .
في الأولى لا يتمكن أنا المتكلم من الذهاب لمقابلة صديقته ، لأنه يعتقل ليلا من قوات الاحتلال الإسرائيلي ، وفي الثانية يتأخر أنا المتكلم عن الموعد المحدد للقائه بالفتاة التي يود خطبتها ، إذ يتحاور ، وهو عائد من غزة إلى الضفة ، مع جندي إسرائيلي حشرتهما الأمطار في منطقة قرب دير اللطرون .
في يوم الأربعاء في الثالث من نيسان قررت زيارة القدس ، ووجدتني أتصل بأختي أعلمها بالأمر حتى ينتظرني زوجها في مكان ما ، فأنا لا أعرف بيتهما هناك ، إذ غالبا ما نلتقي في الأعياد ، في بيت ابنها أو في بيت حماتها ، في ضاحية البريد ، كما لو أن الضاحية صارت مثل بوابة مندلبوم قبل 1967 . وقد أزيلت البوابة بعد الحرب مباشرة ولم تبق قائمة إلا في أذهان كبار السن وفي القصص القصيرة التي كتبها اميل حبيبي وسميرة عزام ؛ الأول في قصته التي حملت اسم البوابة والثانية في قصتها "عام آخر " إن لم تخني الذاكرة .
في الطريق إلى القدس ، قبل حاجز حوارة اتصلت ثانية بأختي أعلمها أنني قد لا أتمكن من المجيء ، فثمة إصابة شابين على حاجز حوارة .
كان السائق الذي يقلنا في سيارة (شتل ) - أي باص صغير لسبعة ركاب - يتصل باستمرار بغير سائق يسأله عن حركة الدخول والخروج في حاجز حوارة .
فكر السائق في أن يعود إلى نابلس ليسلك طريقا ثانية ويقصد رام الله عن طريق تل ، ثم واصل طريقه المعتاد .
ونحن في الطريق قرر أحد الركاب العودة إلى نابلس ، فقد تلفن له شخص ما يعلمه بوفاة أحد أقاربه .
لم يعد السائق إلى نابلس وواصل البحث عن مخارج أخرى ، فهو يعرف طرقا فرعية يسلكها السائقون في حالات إغلاق الطريق الرئيس ، وهي طرق سارت السيارات عليها في فترة انتفاضة الأقصى من العام 2000 حتى العام 2008 تقريبا . إنها طرق مسفلتة من عقود ويسلكها السائقون عند الضرورة .
المدة التي يستغرقها الوصول إلى رام الله لا تزيد في الغالب عن ساعة ، وقد استغرقت يوم الأربعاء الماضي ساعتين ونصف .
هل شتمنا وتذمرنا وضجرنا؟
كنا ننظر إلى الطبيعة الفلسطينية في فصل الربيع وعرفت شخصيا طرقا جديدة . عرفت طريق عورتا بيتا واوصرين ، ومن الأخيرة اقتربنا من حاجز زعترة ، كما لو أننا كنا قادمين من طريق الجسر أريحا .
في الصباح كنت قررت أن أزور حيفا إن وجدت حافلة سياحية ، ولكن باص الرحلة الذي غالبا ما أشاهده ينتظر ركابه قد غادر ، فعزمت على زيارة القدس ، وفي الطريق تذكرت مطلع قصيدة تميم البرغوثي " في القدس" :
مررنا على دار الحبيب فردنا عن الدار قانون الأعادي وسورها "
وأنا لم يردني قانون الأعادي وسورها ، فقد تجاوزت الستين وحصلت على بطاقة ممغنطة ، والآن إن ردنا عن دار الحبيب راد فهو الاحتلال كجوهر لا قوانينه ولا سوره .
" ابحث عن الأسباب " يقول الشاعر اليهودي ( إريك فريد ) في قصيدته " اسمعي يا إسرائيل " ، والعلة وأساس العلة هو الاحتلال .
على عادة الفلسطينيين تتحول المأساة أحيانا إلى شبه ملهاة .
ثمة مستوطن أطلق النار على شاب فلسطيني في الثانية والعشرين من العمر وأصابه بجراح خطيرة نقل إثرها إلى المستشفيات الإسرائيلية في فلسطين ، وجرح شاب آخر في الخاصرة ونقل إلى مشافي نابلس .
ماذا سنفعل نحن ؟
هناك الآلاف يسافرون يوميا من شمال الضفة الغربية إلى رام الله ليواصلوا أعمالهم ، فهل سيعودون من حيث أتوا ، وحوادث القتل على الحواجز تتكرر ؟
واصل السائق السير باتجاه رام الله ، وأصغينا إلى الأخبار ثم عدنا إلى الحديث .
كانت في الحافلة امرأة تكرمية ، وكان السائق يحمل قفص عصفور ليوصله إلى رام الله . ولما زقزق العصفور بدأت المرأة الحديث عن العصافير ، وأخبرتنا أن زوجها مغرم بها - أي بالعصافير ، بمعناها الحقيقي ، لا بمعناها المجازي لدى أهل نابلس ، كما كتب عنها مالك المصري في كتابه " نابلسيات " .
نبه السائق المرأة وطلب منها الحذر ، حتى لا يطير العصفور ، فثمنه 600 شيكل . طمأنته المرأة ، فالعصفور في قفص غلف بكيس أسود ، ويبدو أن السائق لم يعرف هذا .
قالت المرأة للسائق إن العصفور عصفور محنى - من الحناء - وإن ثمنه مرتفع ، فهو بالكاد يستحق 400 شيكل ، وجربت الاتصال بزوجها تسأله .
صار العصفور ملح الطريق وفتح شهية المرأة للحديث وتجاذبت والسائق الشاب الذي درس في جامعة النجاح التربية الابتدائية أطراف الحديث .
عرفنا من السائق الكثير عن حياته الشخصية وأسرته ، وعرفنا أن أمه الآن في أميركا ، فقد طارت إلى هناك لتزوج ابنتيها في شيكاغو . هل تذكرت قصيدة المتنبي التي منها :
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أطويل طريقنا أم يطول؟
وأخيرا ، بعد ساعتين ونصف ، وصلنا إلى رام الله .
أنا واصلت الطريق إلى القدس عبر معبر قلندية .
قيل لي هناك باص من رام الله إلى القدس . ما إن وصلت مكان انطلاقه حتى وجدته منطلقا ممتلئا تماما ، ولم يكن هناك باص آخر ، فاضطررت إلى استقلال باص (شتل ) ثانية ، وفيه جلس إلى جانبي مواطن مقدسي في الثامنة والستين من العمر ، وقد تجاذبنا أطراف الحديث وعاد بالذاكرة إلى حرب العام 1967 وارتد إلى ما هو أبعد ، وأتى على الزعامة الفلسطينية قبل العام 1948 وتناحراتها وقال إن مأساتنا تكمن في قياداتنا . هل كان قرأ ابراهيم طوقان وقصيدته " أنتم " :
"وبيان منكم يعادل جيشا
بمعدات زحفه الحربية
في يدينا بقية من بلاد
فاستريحوا
كي لا تطير البقية"؟
ربما ! فحين سألته عن الشاعر فوزي البكري أجابني بأن زمانه ولى .
نظر الرجل إلى جبل الطويل وروى لي قصة الجبل قبل العام 1967 وما حدث بعد هزيمة حزيران وشتم السماسرة .
سألته إن كان مسرورا كونه مواطنا مقدسيا يحصل على الضمان الاجتماعي من دولة إسرائيل ، فأجابني على خلاف ما كنت أتوقع :
- لينصرف الإسرائيليون ولا أريد ضمانهم وتأمينهم الصحي .
في القدس سمعت من مقدسيين آخرين كلاما مختلفا ، وهو ما يتناقل عموما في الضفة عن مقدسيين يبدون ارتياحا لحصولهم على الهوية المقدسية وسعي قسم منهم للحصول على جواز سفر إسرائيلي حتى يتمتعوا بامتيازاته .
في المعبر تنتظر وينتظر الآخرون ومنهم المقدسيون ممن زاروا رام الله مستقلين الحافلات العامة لا الخاصة ، ولقد كان اليوم يوم أربعاء وصادف ذكرى الإسراء والمعراج . ثمة أزمة واضحة ولكنها لم تستمر طويلا ولم تستغرق رحلة العبور في الصراط المستقيم وقتا طويلا . ثمة بوابات عديدة والبطاقة الممغنطة توحي هي للبوابة: " افتح يا سمسم " فيفتح سمسم بلا كلام ، وتدخل إلى القدس ، فهل تكرر بيت تميم :
"وما كل نفس حين تلقى حبيبها تسر
ولا كل الغياب يضيرها "
أم تكرر أسطر محمود درويش :
" أمشي كأني واحد غيري " ؟
الخميس والجمعة والسبت/ 6 نيسان 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى