مدينة الأحلام
فى صباح يوم من أيام الشتاء كانت حارة علام بقرب شارع محمد على قذرة متراكمة الأوحال وكان البقال عبد الدايم يفتح حانوته وبائعة اللبن تقرع باب المنزل المجاور . ومرت بضع عربات كارو . وأخذ صاحب القهوة البلدى المواجهة للمنزل يصف كراسيه ويسعل سعالاً جافاً وتبادل البقال عبد الدايم والمعلم سلام صاحب القهوة التحيات المعتادة وظلت بائعة اللبن تقرع الباب على غير فائدة . وصاح بها البقال : " الجماعة عزلوا " فتحركت الورقة " للإيجار " المعلقة بالشرفة كأنما تثبت وجودها وتؤكد كلام عبد الدايم . ثم زادت الحركة فى الحارة ونزل الصبية يجعلون من الوحل ميداناً ، ومن البرك ملاعب يسبحون فيها وجاء الباعة ينادون على بضاعتهم ووجلس بعض النسوة على جانبى الطريق يبعن طعامهن القذر ويجمعن الذباب وينشرن الأوبئة وأخيراً تمت صورة كاملة من صور تلك الحوارى البائسة المنسية ، وكانت الشمس لم تبدد تماماً الضباب المخيم على ذلك الحى فكان الجو صافياً من ناحية وغائماً من ناحية أخرى ومهدداً بمطر جديد تعلو به الأوحال وتتسع البرك .
وماذا يهـم ذلك ، أوحال أو برك أوغيم أو صفاء أوضنك مخيم أو عدل شامل . إذا طلع الصباح فتح عبد الدايم حانوته والمعلم سلام قهوته وجلست أم آمنة بائعة البرتقال بمشنتها فإذا انصرم النهار آبوا جميعا الىمساكنهم المريعة ، ليعودوا فى اليوم التالى وتجرى الحياة مجراها فى الرزق الضيق والبلاء الواسع !
كان المعلم سلام يصيح بصبيه غاضباً ويلعن اليوم الذى جاء فيه إلى القهوة ، ثم يتبع ذلك بسعاله الجاف ، والبقال عبد الدايم يزن رطلاً من الصابون ويحلف أنه لا يوجد أدق من ميزانه ، ولا أحسن من ذمته وكان الذباب يحتفل على مشنة أم آمنة فإذا دفعته قائلة : " هش " جمع جموعه وعاد يغطى تماماً البرتقال الصغير الجاف المنقوط . كان هذا يحدث فى حارة علام حينما وقفت عربة كارو تحمل أمتعة وتقف أمام المنزل الخالى فترك البقال الميزان ، وترك المعلم سلام صبيه ، وترك الذباب مشنة أم آمنة ، وانضم إليهم بعض الصبية ، ومضوا فى موكب ليروا من الساكن الجديد ولينظروا نظرة تقديرية إلى الأمتعة ، من صحاحير وحلل وكنبات وكراسى ودواليب وفى الحق لم تكن تلك الأمتعة دالة على الفاقة ، بل دالة بشكلها وصبغتها الحائلة على عز قديم وفقر جديد .
وكان يرافق العربة شاب على دراجة وكنت ترى على بذلته وحذائه طابع الفقر ولكنك كنت تلمح فى الياقـة النظيفة والقميص الأبيض ، وفى وضع الطربوش ورباط الرقبة ، رمز الأصل القديم ، وتؤمن بذلك وهو ينزل عن دراجته ويمضى إلى الباب ليفتحه . لقـد كان يمشى مشية الأمير المخلوع وينظر إلى الحى الفقير نظرة طويلة مستسلمة .
وكان اسمه - أمين سليم - وكان المنزل مكوناً من طابقين كلاهما خالٍ . ولكنه اختار أعلاهما .
نادى على الحوذى أن يحمل الأمتعة ويضعها فى ردهة الطابق الأرضى . فاستعان الرجل بزميله وأخذوا يراكمونها فلما انتهوا من عملهم أخذ أمين يبحث فى جيوبه عن الأجرة والرجل ينظر إليه نظرة النسر يريد أن ينقض ويعد نفسه للعراك ويتهيأ له.
لقد كان الرجل متفقا على أجر معلوم ومع ذلك فهو من تلك الفئة المجرمة التى تضطرها الفاقة ألا تحافظ على قول ولا تبقى على ميثاق . ومع ذلك فهى فئة تأسرها الضحكة الطيبة والكلمة الرقيقة وفيها كثير من الخلال الكريمة والنخوة والأريحية وكان أمين ذكياً يفهم ذلك أتم الفهم فبسط إليه ، ضاحكاً ضحكته الوديعة ـ كل الفكة التى فى جيبه قائلا اللى انت عاوزه خده فخجل الرجل النسر وتدلى منقاره فى ذلة ، وتوارت شراسته . واكتفى بأجر يزيد زيادة معقولة أخذه وانصرف .
وبعد قليل جاءت عربة تحمل سيداً وسيدة وخادماً وكان السيد شيخاً قارب السبعين يحمل وقار مجد سالف فوق وقار السنين وفوق وقار الصـبر الذى ارتسم فى تجاعيد وجهه وكانت السيدة أقل منه سناً لا تزال تحتفظ بالبرقع الأبيض وبسمحة من جمال ذاهب وبقية من كبرياء أناخت عليها السنون .
أسرع الخادم فقرع الباب . ففتح لهم ووقف أمين على عتبته مرحباً ، وساعد الوالد والوالده على النزول من العربة فلما دخلوا المنزل وصعدوا الدرج الخشبى أوشكت الشفاه أن تحتج ووقفت الدموع المكظومة على طرف المحاجر ذاهلة : ثلاث غرف صغيرة وأخرى فى السـطح ، ونوافذ بالية قديمة تطل على منازل مجاورة منغمسة فى الذل والظلمة ، تموج سطوحها بالنسوة هذه تنشر غسيلها ، وتلك تخاصم جارتها وتنشر لها ماضيها القذر !
ولكن القلوب النبيلة شبيهة بأشعة الشمس فهى تنزل بالروضة الجميلة ، كما تحل بالأرض الموحلة لا تتغير ولا تكون غير أشعة الشمس ، فإن الغيوم مرت على تلك القلوب الكريمة لم تلبث حتى تبددت وعادت الأشعة إلى الاشراق وأخذ الجميع يتعاونون عل تنظيف المنزل وترتيب الأثاث واختص أمين نفسـه بغرفة السطح فنقل إليها كتبه وسريره وأدواته القليلة .
***
وبعد أسبوع جاء مستأجرون للطابق الأرضى ووقفت عربة كارو تحمل أمتعتهم وتلتها عربة تحمل أفراد العائلة وهم سيدة كهلة وفتاة رائعة الحسن وخادمة .
وكانت الساعة الخامسة مساء حين عاد أمين متعبا يحمل كتبه ويحمل فوق منكبيه عبء رجولة مبكرة ، ولم يكن قد علم بعد بالجيران الجدد ، فلم يكد يصعد الدرج حتى خرجت الفتاة لترى القادم فصاحا فى وقت واحد :
- سنية
- أمين
ولولا أن أطلت رؤوس الوالدين ناظرة بعيون مذهولة إلى هذا التعارف الفجائى ، لرأينا عناق الشوق المكظوم واللهفة المستترة أعواماً لا تعد !
منـذ عشرين سنة كانت شبرا الخيمة كالزمردة الصافية تزهو باليانع الأخضر . والبسـاط الرائع الذى هو سحر مصر ، وفتنتها العتيدة التى جرت إليها الغزاة أجناسا ونحلاً ، نعم شبرا الجميلة . التى اكتظت اليوم بالمساكن المتلاصقة وأفسدتها المدنية الجديدة ، ونزح إليها خلق كثيرون اشتروا تلك المروج البديعة وابتنوا بها مساكنهم الصغيرة المتقاربة ، كانت بساطاً واحداً ، قامت فى وسطه هنا وهناك منازل كحمامات بيضاء بسطت أجنحتها ، وهمت أن تطير إلى ساقية أو قناة أو غدير ، وكنا نعود من مدارسنا فى غروب الشمس ، فنترك كراساتنا وكتبنا فى بيوتنا ثم نسرع إلى تلك المهاد حيث ربا صبانا ونما مع الغصون النامية وحيث تنسمنا الريح الرقيقة ، فجرى الشعر فى دمنا ، والحب فى أرواحنا ، والصفاء فى طبائعنا ، أيام كنا نثب فراشات مع الفراشات الهاربة وأشعة مع الأشعات الغاربة ، وما نزال كذلك حتى تخور قوانا فنرجع لنذاكر أو ندعى أننـا نذاكر ، فإذا كانت ليالى القمر نطلع على الحقول الساكنة والسواقى الحالمة . جلسنا عند شجرة ، فإذا الشجرة تصغى والليل الجميل يرهف أذنه إلى حديث أطفال تتبدد موجاته فى بحر ذلك السحر الرهيب سحر القمر والطفولة والمروج .
***
ففى ليلة من ليالى رمضان التقى الصبى أمين سليم برفقائه تحت شجرة الجميز الكبيرة القريبة من الساقية ، وجلسوا يتنادرون وحديث الصبية لا يعدو المدرسة والمدرسين والامتحان ، فإذا خرج عن هاته الدائرة يعرض للمبالغات ، والادعاء والفخر والتشبه بالرجال ، وأحياناً يكون سكون الليل وجمال القمر مغرياً على اعترافات يتبادلونها همسا شأن الكبار ففى الليلة التى نحن بصددها كان أكبرهم سناً يسخر من أمين ويقول : بالكم أمين ده اللى انتو شايفينه ساكت ده كل يوم وهو راجع من المدرسة يشتغل خدام لسنية بنت شكرى بك ويشيل لها الكتب بتاعتها !
فضحكوا كلهم وصاحوا : صحيح ؟ فخجل ولم يجب وكان صمته اعترافاً . على أن الصبى كان فى هذا العمر الناضر جاداً غير عابث وقد حزن لذيوع سره ، وجعله موضع دعابة ، ولبث واجماً حتى انصرفوا كل إلى منزله .
قبل هذه الليلة بشهرين ، وقفت الصبية الجميلة سنية أمام باب المدرسة تنتظر الخادم . وكان يبدو فى وجهها الناحل سحر وخيال وإبهام كل ذلك فى سمرة كسمرة الفجر وحمرة على الخدين كحمرة الشفق . حمرة تزداد وضوحاً كلما لحظتها أعين الصبية الواقفين عن عمد أو غير عمد ، ويزيدها حلاوة وغرابة . مريلة المدرسة الزرقاء والقبعة النظيفة السليمة الذوق تنساب من خلفها ضفيرتان من الشعر الأسود الحالك وفى نفس الوقت خرج أمين سليم من مدرسة فى نفس الشارع ووقف أمام باب المدرسة ينتظر الخادم .
طال انتظارها لخادمها . وطال انتظاره لخادمه ، فلم يأت هذا ولا ذاك ، فضجرت وضجر ، واعتزمت أن تعود وحدها على غير عادة ، واعتزم كذلك ، ومشت الفتاة لا تلتفت يمنة ولا يسرة ، وتعمل بنصيحة أمهـا ، (ماتكلميش حد) وترك الفتى باب مدرسته مهرولاً ، وكان يرتـدى بذلة جميلة غالية الثمن ، ولكنه كان يبدو عليه الإهمال فى ملبسه ، ويبدو على وجهه النحيل أثر التفكير .
وكان الطريق إلى المـنزل يعترضه " مزلقان " وطالما راح القطار وجاء فى "مناورة" ثقيلة ، وربما كنت ذاهباً إلى موعد أو مدرسة ، فوجدت سلم المزلقان ينزل فى سرعة ، ويحول دون مرورك ، ويبدأ القطار الثقيل فى الغدو والرواح .
ففى هذا اليوم كان الشارع مزدحماً بالباعة والعربات الكبيرة التى تحمل الحجارة . والمزلقان قد نزل سلمه ، والقطار العجيب يروح ويغدو .
وفى الساعة التى اختارها القدر ، وقفت سنية أمام المزلقان ووقف أمين ، وجاء غلام يدفع عربة يـد ، فمست يده سنية فسقطت كتبها فتناولها أمين الخبيث ولم يعطها إياها ، بل وضعها ساكنا فى محفظته .
علت خدها حمرة الشفق ، وطغت على الحدود المألوفة . وأطرقت لا تدرى ماذا تصنع ، بعد ذلك رفع المزلقان سلمه وأخذ الناس يتدافعون ، ويتزاحمون بالمناكب فتقدم الصبى والصبية ثم جمعهما القدر فى سبيل واحد وسارا صامتين زمناً لاحساب له ، حتى وقفت فجأة فأدرك أنه قد آن أن يفترقا ، فأخرج لها كتبها ، ثم عز عليه أن تمضى بدون أن يتعارفا فسأل :
- اسمك إيه
- سنية شكرى
- وأنا أمين سليم
- فى سنه أيه ؟
- سنه رابعة
- وأنا كمان
- ساكنة فين ؟
- فى شارع شبرا ..
- قريب منا يا ريتك تيجى مرة فى القمر نقعد تحت شجرة الجميز قرب
الساقية
ولاح خيال الخادمة من ناحية وخادمها من الناحية المقابلة ، فابتعد وابتعدت وصار يراها كل يوم فيتبادلان التحية بالنظر ويتمنيان لو أن الخادمين مرضا أو غابا أو أصابهما حادث .
ثم انقطعت عن المجئ ، وصار الطريق مقفراً لا يطاق ، ومضى فى ضوء القمر إلى الشجرة التى تمنى أن يراها عندها ، مضى مراراً ، والحنين إليها يتسع فى قلبه حتى صار ناراً آكلة .
ذات ليلة ذهب فى سرب من رفقائه إلى حيث يتلاقون ، فمر بسرب من الفتيات يتحادثن عند باب منزل فطرق أذنه صوت يعرفه ، فتخلف عن أصحابه ، ووقف فى ناحية يسترق السمع فسمع سنية (وكانت هى) تقول همساً لصاحبة لها :
نعم التقط كتبى ووضعها فى محفظته وتمنى أن يلاقينى فى ضوء القمر تحت شجرة الجميز عند الساقية . إنه غير جميل ولكنه رقيق ومن عائلة كبيرة على أنه قد نسينى بالطبع .
فخفق قلبه ، وانكمش فى الظلمة الكثيفة وأجابت دمعة حارة أن هذا غير صحيح .
ثم سمع خطاها تبتعد ، وهو فى الظلمة جامد فى مكانه ، ثم ابتعدت خطاها عنه فى الحياة .
وأقبل الفقر يطحنهما متفرقين ، حتى التقيا فى المنزل الحقير بحارة علام .
كان الليل هادئاً والقمـر فى السحب الصافية يلوح جليلاً فى حيرته ، يبدو من خلال سحابة ويستتر وراء أخرى ، وكأنه ينظر إلى الدنيـا بعين ملولة ، ويرى أن أهلها لا يستحقون ما يقدمه إليهم من النور القدسى الجميل ، إذ بينما يشع عليهم من وجدانه وقلبه يغط بعضهم فى النوم ، وبعضهم لا يفهمون أنه يعلمهم السمو والنبل ، فيمضون إلى إتيان لذة محرمة أو منكر لا يليق ، نعم كان القمر فى تلك الليلة يعتزم أن لا يطلع على الدنيـا واستتر وطال استتاره لولا أن اليد الخفية الجبارة دفعته من وراء السحاب فطلع كارها ، وغمر نوره القاهرة وفاض على أعالى القصور كما فاض على السطوح الفقيرة فى حارة علام .
فى تلك اللحظة فتح أمين سليم النافذة وتنفـس طويلاً ، ونظر إلى القمر نظرة مبهمة ثم عاد إلى النافذة ، فأغلقها فى ضجر وملال .
واسـتوى أمام مائدته ، وجعل مصباحه قريباً من يساره ، وفتح كتاباً ثم أغلقه ، وأجال بصره فى الغرفة الفقيرة الأثاث . فهذا سريره الذى ينام عليه منذ عشر سنوات . تفككت أعمدته ، وطالما أصلحها فعادت كا هى ، فمل إصلاحها ، ورضى بصريرها المزعج كلما حدثتـه نفسه أن يرتاح على فراشه ، وهذا هو الكرسى الطويل بجانب السرير ، وطالما اكتفى بالنوم عليه وتلك هى السجادة الوحيدة الباقية من فرش القصر الكبير ، وهذا هو رف الكتب ، قطعة عادية من الخشب مفروشة بالورق الملون المقصوص ، وذلك هو مصباحه الباهت النور ، مصباحه الثقيل الذى ينخفض نوره من نفسه ويحتاج إلى يد تعليه كل آونة ، فإذا علا اندفع لسان من اللهب يهدد الزجاجة بالكسر والسقف "بالهباب" .
فى تلك الليلة كان أمين يرتدى جلباباً خفيفاً أبيض . وكان وجهه شاحبا قلقاً ، وكان يفتح كتاباً ثم يغلقه ، ويضـع نظارته على عينيه ثم يخلعها ، ويجلس على كرسيه قبل المائدة ، ثم يتركه ليجلس على حافة السرير ، ثم يترك حافة السرير ليجلس على الكرسى الطويل .
فبينما هو فى ذلك القلق الغريب ، دق الباب دقاً خفيفاً ، فوثب مرتجفاً وأسرع إليه وما لبث أن صاح هامساً :
- سنية ؟
- ( بهمس وخوف ) أيوه ...
وأقفل الباب عليهما فى حرص وسرعة .
وكان المصباح الملعون قد عاد نوره إلى الانخفاض وأصبحت الغرفة فى شئ من الظلمة ، وترامت ظلال كثيرة على الحائط جعلت الغرفة كالمعبد المرهوب ، وفى وسـطه عابدان لا يتكلمان ، وإنما تقول الظلمة ، وشعاع القمر الداخل من النافذة كاللص ، إنهمـا لبثا متعانقين كالموجتين ، وجلباباهما فى البياض كرغوة الزبد . وتخلصت سنية بلطف ، ووقفت بعيداً ، وكان قوامها ممشوقاً وشعرها المتهدل الجميل قد قارب وجهها فأزاحته بيدها البضة الناعمة ، ومضت إلى الكرسى الطويل متهالكة ، وجلس أمين على السجادة مسنداً رأسه على ركبتيها وصارا يتكلمان همساً :
- كم سنة يا سنية ، والله ما نسيتك لحظة . شوفى افتقرنا وجينا فى حارة فى شارع محمد على .
فأرسلت سنية دمعة حارة ولم تجب ، فاستمر قائلا : ودخلت التعليم العالى مجانا بواسطة ، وعلىَّ أن اشتغل وأن أنجح بسرعة ، وإلا ماذا يصنع أبى المسكين . فلم تجب سنية . وأمسكت برأسه ، وجعلت وجهه إليها تطيل التحديق فيه ، ثم قالت حزينة :
- حالكم أحسن من حالنا بكتير ، أبى مات ، ولم يترك لنا شيئاً تقريباً ، وصارت الحال تمشى من سيئ إلى أسوأ حتى جئنا أيضاً إلى الحارة نفسها فى شارع محمد على !
فذرف بدوره دمعة واستمر الصمت وأخذت الذبالة فى المصباح الملعون تنذر بظلمة كاملة ، وإذا بمواء قطتين ذكر وأنثى بالطبــع ، يتحابان فى ضوء القمر ؛ ويسران الطبيعة بتحقيق أحلامها .
فضحكت سنية وأمين معا وهمست ، دى قطتنا وقطكم ، ثم زمت شفتيها فى خفة معبودة وقالت : ألا تذكر يا أمين أحلامك فى شبرا ، وأمانيك أن نتحاب فى ضوء القمر ، لقد أنعمت الدنيا بأمانيك على قطتينا ، أجاب : معلهش يا سنية آدى احنا اتقابلنا ، ومادمت أراك فسأشتغل وأنجح ، ولا يلبث هذا الضنك أن يزول ؛ فصاحت فجأة كأنما رأت الضنك قد زال حقيقة
- وبعد أن يزول الضنك ؟
- نتزوج
- وبعد ذلك ؟
- يكون لنا أولاد
- وبعد ذلك ؟
- نكون قد اقتصدنا مالا كافيا فنبنى منزلاً خاصاً
- وأمى ، وأبوك وأمك ؟
- يكونون قد تقدموا فى العمر ، فنسعد بمشيبهم ونجعله كله رخاء
- وحبنا ؟
- يزيـد على السنين ، وينميه من ناحيتينا إخلاصى وإخلاصك وتسامحك وتسامحى .
ثم همت أن تلقى سؤالاً جديداً ، ولكن غمامة عبرت فكرها فجأة ، ولاحت لها صورة لا تحبها ، فأدرك ذلك أمين فسألها فامتنعت عن الاجابة ، فألح ، فقالت
"وإذا تعرض لنا زكى ابن خالتى" !
فانتفض أمين وتغيرت ملامحه ، وتركت رأسه ركبتيها ودار بعينيه فى الظلمة يبحث عن زكى ابن خالة سنية ، زكى الثقيل بجسمه الضخم ، وسوالفه الكريهة ، وعينه الزجاجية وغناه الفاحش ، واللبانة التى يمضغها - دائماً ... دائماً .
تغير الفتى الوديع عند مرور تلك الصورة البشعة وقال أقتله والويل لك إذا فكرت فى أن تميلى إليه .
قالت : أنت تهيننى وإذا ذكرت هذا ثانياً فلن أعود أبداً
فاستعطفها وعاد ليسند رأسه على ركبتيها
وطردا تلك الصورة الكريهة وعادا ليكملان مدينة الأحلام ، وأوشك الفجر أن يطلع على تلك المدينة التى جلسا يبنيانها معا ، فوقف أمين فجأة ، قائلا :
- سنية
- نعم
- شايفه الفجر اللى قرب يطلع ؟
- أيوه شايفاه
- أحلفى انك لى وحدى ؟
- احلف
- هاتى فمك
فمدت إليه شفة سحرية رطبة كالشليك الندى ثم انسلت إلى غرفتها ، وهى تنزل السلم فى بطء وحذر !
وكان ذلك اللقاء يتكرر ومدينة الأحلام تبنى مع الليل وتتبخر مع الفجر ، وأمين يدأب ، ويرى أمانيه ترنو ، حتى كان ذات صباح خارجاً بكتبه إلى مدرسته فرأى زكى ابن خالة سنية جالسا إلى مائدة فى قهوة المعلم سلام فعجب من تلك الجلسة المبكرة وكان شجاعاً يفضل مواجهة الأمور فمضى إلى غريمه تواً :
- صباح الخير يا سى زكى ايه اللى جابك الصبح بدرى كده
فاعتدل سى زكى فى كرسيه بكبرياء وقحة وأدار اللبانة فى فمه القبيح وقال بلهجة ساخرة :
- علشان أزور قرايبنا جيرانكم . وصفق على الصبى ثم مد يده إلى جيبه يرن النقود ويؤكد لأمين من جديد أنه غنى وأنه بهذا الغنى سيملك ابنه جيرانه .
قال أمين :
- ولكن الزيارة تبقى بدرى كده
- ده مش شغلك
فثار الدم فى وجه أمين ، ولم يدر بالضبط ماذا حدث غير أنه وجد القهوة ممتلئة بالناس ووجد سى زكى فى وسطها والدم يسيل من أنفه وهو يسب ويلعن ورأسه عار وسوالفه القبيحة ملوثة بالدم .
والحقيقة أن أمين بدون أن يدرى ما هو صانع تناول كرسياً فهرب سى زكى إلى داخل القهوة فطار الكرسى وراءه وتبعه آخر بنفس السرعة فأصـابه فى أنفه فلما رأى الدم هاجه ذلك كثيراً ووثب بجسمه الضخم على غريمه ولكن المعلم سلام كان قد جاء وجاء ناس آخرون فحالوا بينهما وتهدد زكى وتوعد وقال بكره تشوف .
وجمع أمين كتبه فى كبرياء وأنفة ، وانصرف بدون أن يرد .
وقالت سنية لأمين فى غرفته بعد أيام :
- أما علقة اللى كلها زكى . تعرف أنه دخل عندنا بعدها ، وأمى أكرمته وطيبت خاطره ومسحت له جرحه ووضعت له صبغة يود . أمى المسكينة تراه غنياً وتلاطفه لعله يتزوجنى ، وهو يدخل بيتنا ويتودد إلينا لهذ الغرض . أمس جاء عندنا وقال لأمى إن الحكيم قال له أن عظمة أنفه من فوق انكسرت وستترك عاهة مستديمة ، لأن أنفه ينخسف من أعلى . وسيرفع عليك قضية .
فضحــك أمين وقال : لتزيد شكله قبحاً ، أما القضية فليرفعها على فى أوربا .. !
فسألت مندهشة : أوربا ؟ كيف ؟
قال : أنا نجحت فى الامتحان الأخير كما تعلمين ، وسأسافر فى بعثة إن شاء الله بعد أسبوع .
فضربت صدرها بيدها ، قائلة أتتركنا ؟ قال نعم لكى اختبر القسم الذى أقسمته والفجر موشـك الطلوع ، قالت وهى تجهش بالبكاء ، كن مطمئناً . واعتنقا ، وطال عناقهما ، ثم انسلت إلى غرفتها ، وهى تنزل السلم فى بطء وحذر .
***
من أمين إلى سنية
لندن فى 7 أبريل سنة 1928
حبيبتى سنية
جلست وحدى فى غرفتى قرب المدفأة أقرأ خطاباتك الجميلة ، خطاباتك التى ملأت حياتى أملاً ، وأنستنى غربتى وجعلت منى رجلاً ، لقد كان خيالك الجميل ، وإقسامنا كل ما أوشك الفجر أن يطلع ومدينة الأحلام التى شيدناها معا ، كل تلك الصـور كانت لا تبارح ناظرى نعم مرت سنون جهاد عنيف ، ولكنى لم أكن أعبأ بها ، ولا أبالى بمتاعبها ، مادمت فى انتظارى .
آه يا سـنية إن لندن بحالها ، لندن العظيمة الضخمة ، لاتساوى ركناً من مدينة الأحلام ! وعلى ذكر هاته المدينة المسحورة إنى أراك الآن فى ركن منها يغمره القمر ، وتنام فيه الزهور آمنة ، نعم أراك إلى جانبى وأمضى فى تقبيلك بلا حساب ... !
حبيبك
أمين
***
من سنية إلى أمين
القاهرة فى 25 مايو سنة 1928
حبيبى أمين
استلمت خطابك وسرنى أن أسمع أنك فى صحة جيدة ، أما نحن فقد ضاقت بنا الحال ، شكراً للنقود التى ترسلها إلينا مما تقتصده ، وإننا نعلم ما يكلفك هذا من التقتير على نفسك وأنت فى بلاد غريبة ، نعم ضاقت بنا الحال يا أمين وتركنا جيرتكم الهنيئة ، ورحلنا إلى منزل أقل إيجاراً ، وقبل أن ننتقل إليه ، صعدت فى الليل إلى معبدنا المقدس ، ووقفت عنــد باب غرفتك ، أستعيد الماضى الجميل ، ومدينة الأحلام ، متى تعود لنتم بناءها !! متى؟
حبيبتك سنية
ملحوظة : اكتب إلى على شباك بوستة الفجالة .. !
***
من أمين إلى سنية
لندن فى 15 سبتمبر سنة 1928
حبيبتى سنية
أكتب إليك والفرح يملك على مشـاعرى ، وإنى لواثق أن الخبر الذى سأقصه عليك سيجعلك ترقصين من السرور ، لقد نجحت ، وأقبل على عميد الكلية يهنئنى فقد جاء اسمى فى قائمة الشرف .
أنا عائد يا سنية ، عائد بعد مضى أربع سنوات لا أعلم كيف صبرت على قضائها بعيداً عنكم ؛ أطوى البحر والبر بالفكر إليك وأقبلك طويلا .
حبيبك
أمين
***
من سنية إلى أمين
2 أكتوبر سنة 1928
حبيبى أمين
استلمت خطابك الأخير من بوستة الفجالة ، وقرأته كثيرا وقبلته مراراً ، دامعة العين شديدة الشوق إليك ، والدنيا فراغ شنيع بغيرك والأيام لا معنى لها ، عدت للتى تحبك وتنتظرك .
سنية
(ملحوظة) اعذر اختصارى هذه المرة فإنى لشدة الفرح بك لا أدرى ماذا أكتب !
***
فى يوم ممطر كانت باخرة تقترب إلى الشاطئ فى ميناء الأسكندرية ووقف المنتظرون يترقبون العائدين ، ويلوحون بمناديلهم ، واقتربت الباخرة ببطء ، ثم وضع السلم وصعد ضابط الميناء ورجاله ثم سمح للركاب بالنزول ، فأسرع من بينهم شاب نعرفه ، يلبس قبعة ويحمل نظارة نزل السلم بسرعة ، وتلفت هنا وهناك فناداه الشخص الوحيد الذى ينتظره
- أمين !
- أبى !
وكان عناق رائع حار ودموع ، وبعد أن تم تفتيش الحقائب ، أقلتهما عربة إلى القطار المسافر إلى القاهرة ، وفى القطار علم أمين أن أمه مريضة بالروماتيزم :
- مش قادرة يا ابنى وأنا كمان ، الربو تاعبنى قوى ومنذ أسبوعين كان عندى ورم فى الرجلين والحكيم أمرنى بالراحة ومنعنى عن اللحوم والملح وكان جيراننا عائلة شكرى بك يواسوننا ولكن الحالة ضاقت بهم فعزلوا إلى منزل أرخص .
فخفق قلب أمين وأحس شيئا ثقيلاً ينحدر إلى صدره .
- وزارونا مرتين بعدها ، والشقة والله فاضية لغاية دلوقتى . وانتقل الحديث إلى أشياء أخرى ، وبلغا القاهرة ، ثم المنزل ووجد أمين الدور الأرضى خالياً ، فأحس بفراغ كفراغ المقابر ، وكانت والدتــه فى فراشها ، وقد أقعدها المرض ، وشـحب لونها ، ولكن الأمـل فى لقاء ابنها ، جعل لعينها بريقاً غريباً من الحياة ، وكأن قوة غير عادية ، دبت فيها وهى تنتظره ، ثم وهى تضمه ، ثم وهى تبكي!
وأما غرفته فى السـطح فلم يجدَّ عليها شئ ، ولكن حين فتحها هب منها عبق الذكرى ، والقسم الذاهب ، والمدينة السحرية
فى صباح اليوم التالى أخذ يبحث ويسأل عن منزل شكرى بك الجديد ، فلم يهتد وذهب إلى بوستة الفجالة ، وكان قد أرسل إليها خطابا كعادته قديما . فلم يأت أحد لاستلامه ، ولم يعلم من أمرهم غير أن الفاقة ألحت عليهم ، وهنا انقطع خيط البحث .
وذات صباح كان بمديرية الجيزة لأمر يخصه ، فمر بحديقة الحيوانات وخطر له أن يدخل .
جلس على مقد تجاه القرود ، خلف شجرة متوارية بعض الشئ . فمرت سيدة بادنة "بملاية لف" ومعها طفلان وخلفهم رجل ، وكان الرجل ضخما طويلا ، وله سوالف كريهة وفى فمه لبانة .
فذعر وأحس بيد تقبض على حلقه وتنشب أظافرها فيه ، وهم أن يصيح ! فلم يستطع وأراد أن يقوم فلم يقدر ، سنية الجميلة الرشيقة تلبس " ملاية لف " وتصبح بادنة ، ويصير وجهها عادياً خشناً ، وتتزوج بمن ، بالشخص البغيض الكريه ، الذى خسف أنفه بالكرسى من أجلها .
هم أن يقوم ثانياً ، وأن يحتج ، فوقف بينه وبينهم شبح ، وصرخ فى وجهه . قف فأنا الذى أذللت هذه المرأة . ومازلت أطحنها . وأمشى بها من حاجة إلى حاجة حتى تزوجت غريمك ... والخطابات إنها خدعتك لصالحك .. ألا تعرفنى فصاح أمين . أجل أعرفك أيها الفقر . وهذه آثار أظافرك فى عنقى .
وطأطأ رأسه وقد غفر للحبيبة المسكينة بينما الموكب العائلى يسير ثم ثارت عاصفة من الغبار حجبت عن عينه إلى الأبد مدينة الأحلام .
صدى.. ذاكرة القصة القصيرة
فى صباح يوم من أيام الشتاء كانت حارة علام بقرب شارع محمد على قذرة متراكمة الأوحال وكان البقال عبد الدايم يفتح حانوته وبائعة اللبن تقرع باب المنزل المجاور . ومرت بضع عربات كارو . وأخذ صاحب القهوة البلدى المواجهة للمنزل يصف كراسيه ويسعل سعالاً جافاً وتبادل البقال عبد الدايم والمعلم سلام صاحب القهوة التحيات المعتادة وظلت بائعة اللبن تقرع الباب على غير فائدة . وصاح بها البقال : " الجماعة عزلوا " فتحركت الورقة " للإيجار " المعلقة بالشرفة كأنما تثبت وجودها وتؤكد كلام عبد الدايم . ثم زادت الحركة فى الحارة ونزل الصبية يجعلون من الوحل ميداناً ، ومن البرك ملاعب يسبحون فيها وجاء الباعة ينادون على بضاعتهم ووجلس بعض النسوة على جانبى الطريق يبعن طعامهن القذر ويجمعن الذباب وينشرن الأوبئة وأخيراً تمت صورة كاملة من صور تلك الحوارى البائسة المنسية ، وكانت الشمس لم تبدد تماماً الضباب المخيم على ذلك الحى فكان الجو صافياً من ناحية وغائماً من ناحية أخرى ومهدداً بمطر جديد تعلو به الأوحال وتتسع البرك .
وماذا يهـم ذلك ، أوحال أو برك أوغيم أو صفاء أوضنك مخيم أو عدل شامل . إذا طلع الصباح فتح عبد الدايم حانوته والمعلم سلام قهوته وجلست أم آمنة بائعة البرتقال بمشنتها فإذا انصرم النهار آبوا جميعا الىمساكنهم المريعة ، ليعودوا فى اليوم التالى وتجرى الحياة مجراها فى الرزق الضيق والبلاء الواسع !
كان المعلم سلام يصيح بصبيه غاضباً ويلعن اليوم الذى جاء فيه إلى القهوة ، ثم يتبع ذلك بسعاله الجاف ، والبقال عبد الدايم يزن رطلاً من الصابون ويحلف أنه لا يوجد أدق من ميزانه ، ولا أحسن من ذمته وكان الذباب يحتفل على مشنة أم آمنة فإذا دفعته قائلة : " هش " جمع جموعه وعاد يغطى تماماً البرتقال الصغير الجاف المنقوط . كان هذا يحدث فى حارة علام حينما وقفت عربة كارو تحمل أمتعة وتقف أمام المنزل الخالى فترك البقال الميزان ، وترك المعلم سلام صبيه ، وترك الذباب مشنة أم آمنة ، وانضم إليهم بعض الصبية ، ومضوا فى موكب ليروا من الساكن الجديد ولينظروا نظرة تقديرية إلى الأمتعة ، من صحاحير وحلل وكنبات وكراسى ودواليب وفى الحق لم تكن تلك الأمتعة دالة على الفاقة ، بل دالة بشكلها وصبغتها الحائلة على عز قديم وفقر جديد .
وكان يرافق العربة شاب على دراجة وكنت ترى على بذلته وحذائه طابع الفقر ولكنك كنت تلمح فى الياقـة النظيفة والقميص الأبيض ، وفى وضع الطربوش ورباط الرقبة ، رمز الأصل القديم ، وتؤمن بذلك وهو ينزل عن دراجته ويمضى إلى الباب ليفتحه . لقـد كان يمشى مشية الأمير المخلوع وينظر إلى الحى الفقير نظرة طويلة مستسلمة .
وكان اسمه - أمين سليم - وكان المنزل مكوناً من طابقين كلاهما خالٍ . ولكنه اختار أعلاهما .
نادى على الحوذى أن يحمل الأمتعة ويضعها فى ردهة الطابق الأرضى . فاستعان الرجل بزميله وأخذوا يراكمونها فلما انتهوا من عملهم أخذ أمين يبحث فى جيوبه عن الأجرة والرجل ينظر إليه نظرة النسر يريد أن ينقض ويعد نفسه للعراك ويتهيأ له.
لقد كان الرجل متفقا على أجر معلوم ومع ذلك فهو من تلك الفئة المجرمة التى تضطرها الفاقة ألا تحافظ على قول ولا تبقى على ميثاق . ومع ذلك فهى فئة تأسرها الضحكة الطيبة والكلمة الرقيقة وفيها كثير من الخلال الكريمة والنخوة والأريحية وكان أمين ذكياً يفهم ذلك أتم الفهم فبسط إليه ، ضاحكاً ضحكته الوديعة ـ كل الفكة التى فى جيبه قائلا اللى انت عاوزه خده فخجل الرجل النسر وتدلى منقاره فى ذلة ، وتوارت شراسته . واكتفى بأجر يزيد زيادة معقولة أخذه وانصرف .
وبعد قليل جاءت عربة تحمل سيداً وسيدة وخادماً وكان السيد شيخاً قارب السبعين يحمل وقار مجد سالف فوق وقار السنين وفوق وقار الصـبر الذى ارتسم فى تجاعيد وجهه وكانت السيدة أقل منه سناً لا تزال تحتفظ بالبرقع الأبيض وبسمحة من جمال ذاهب وبقية من كبرياء أناخت عليها السنون .
أسرع الخادم فقرع الباب . ففتح لهم ووقف أمين على عتبته مرحباً ، وساعد الوالد والوالده على النزول من العربة فلما دخلوا المنزل وصعدوا الدرج الخشبى أوشكت الشفاه أن تحتج ووقفت الدموع المكظومة على طرف المحاجر ذاهلة : ثلاث غرف صغيرة وأخرى فى السـطح ، ونوافذ بالية قديمة تطل على منازل مجاورة منغمسة فى الذل والظلمة ، تموج سطوحها بالنسوة هذه تنشر غسيلها ، وتلك تخاصم جارتها وتنشر لها ماضيها القذر !
ولكن القلوب النبيلة شبيهة بأشعة الشمس فهى تنزل بالروضة الجميلة ، كما تحل بالأرض الموحلة لا تتغير ولا تكون غير أشعة الشمس ، فإن الغيوم مرت على تلك القلوب الكريمة لم تلبث حتى تبددت وعادت الأشعة إلى الاشراق وأخذ الجميع يتعاونون عل تنظيف المنزل وترتيب الأثاث واختص أمين نفسـه بغرفة السطح فنقل إليها كتبه وسريره وأدواته القليلة .
***
وبعد أسبوع جاء مستأجرون للطابق الأرضى ووقفت عربة كارو تحمل أمتعتهم وتلتها عربة تحمل أفراد العائلة وهم سيدة كهلة وفتاة رائعة الحسن وخادمة .
وكانت الساعة الخامسة مساء حين عاد أمين متعبا يحمل كتبه ويحمل فوق منكبيه عبء رجولة مبكرة ، ولم يكن قد علم بعد بالجيران الجدد ، فلم يكد يصعد الدرج حتى خرجت الفتاة لترى القادم فصاحا فى وقت واحد :
- سنية
- أمين
ولولا أن أطلت رؤوس الوالدين ناظرة بعيون مذهولة إلى هذا التعارف الفجائى ، لرأينا عناق الشوق المكظوم واللهفة المستترة أعواماً لا تعد !
منـذ عشرين سنة كانت شبرا الخيمة كالزمردة الصافية تزهو باليانع الأخضر . والبسـاط الرائع الذى هو سحر مصر ، وفتنتها العتيدة التى جرت إليها الغزاة أجناسا ونحلاً ، نعم شبرا الجميلة . التى اكتظت اليوم بالمساكن المتلاصقة وأفسدتها المدنية الجديدة ، ونزح إليها خلق كثيرون اشتروا تلك المروج البديعة وابتنوا بها مساكنهم الصغيرة المتقاربة ، كانت بساطاً واحداً ، قامت فى وسطه هنا وهناك منازل كحمامات بيضاء بسطت أجنحتها ، وهمت أن تطير إلى ساقية أو قناة أو غدير ، وكنا نعود من مدارسنا فى غروب الشمس ، فنترك كراساتنا وكتبنا فى بيوتنا ثم نسرع إلى تلك المهاد حيث ربا صبانا ونما مع الغصون النامية وحيث تنسمنا الريح الرقيقة ، فجرى الشعر فى دمنا ، والحب فى أرواحنا ، والصفاء فى طبائعنا ، أيام كنا نثب فراشات مع الفراشات الهاربة وأشعة مع الأشعات الغاربة ، وما نزال كذلك حتى تخور قوانا فنرجع لنذاكر أو ندعى أننـا نذاكر ، فإذا كانت ليالى القمر نطلع على الحقول الساكنة والسواقى الحالمة . جلسنا عند شجرة ، فإذا الشجرة تصغى والليل الجميل يرهف أذنه إلى حديث أطفال تتبدد موجاته فى بحر ذلك السحر الرهيب سحر القمر والطفولة والمروج .
***
ففى ليلة من ليالى رمضان التقى الصبى أمين سليم برفقائه تحت شجرة الجميز الكبيرة القريبة من الساقية ، وجلسوا يتنادرون وحديث الصبية لا يعدو المدرسة والمدرسين والامتحان ، فإذا خرج عن هاته الدائرة يعرض للمبالغات ، والادعاء والفخر والتشبه بالرجال ، وأحياناً يكون سكون الليل وجمال القمر مغرياً على اعترافات يتبادلونها همسا شأن الكبار ففى الليلة التى نحن بصددها كان أكبرهم سناً يسخر من أمين ويقول : بالكم أمين ده اللى انتو شايفينه ساكت ده كل يوم وهو راجع من المدرسة يشتغل خدام لسنية بنت شكرى بك ويشيل لها الكتب بتاعتها !
فضحكوا كلهم وصاحوا : صحيح ؟ فخجل ولم يجب وكان صمته اعترافاً . على أن الصبى كان فى هذا العمر الناضر جاداً غير عابث وقد حزن لذيوع سره ، وجعله موضع دعابة ، ولبث واجماً حتى انصرفوا كل إلى منزله .
قبل هذه الليلة بشهرين ، وقفت الصبية الجميلة سنية أمام باب المدرسة تنتظر الخادم . وكان يبدو فى وجهها الناحل سحر وخيال وإبهام كل ذلك فى سمرة كسمرة الفجر وحمرة على الخدين كحمرة الشفق . حمرة تزداد وضوحاً كلما لحظتها أعين الصبية الواقفين عن عمد أو غير عمد ، ويزيدها حلاوة وغرابة . مريلة المدرسة الزرقاء والقبعة النظيفة السليمة الذوق تنساب من خلفها ضفيرتان من الشعر الأسود الحالك وفى نفس الوقت خرج أمين سليم من مدرسة فى نفس الشارع ووقف أمام باب المدرسة ينتظر الخادم .
طال انتظارها لخادمها . وطال انتظاره لخادمه ، فلم يأت هذا ولا ذاك ، فضجرت وضجر ، واعتزمت أن تعود وحدها على غير عادة ، واعتزم كذلك ، ومشت الفتاة لا تلتفت يمنة ولا يسرة ، وتعمل بنصيحة أمهـا ، (ماتكلميش حد) وترك الفتى باب مدرسته مهرولاً ، وكان يرتـدى بذلة جميلة غالية الثمن ، ولكنه كان يبدو عليه الإهمال فى ملبسه ، ويبدو على وجهه النحيل أثر التفكير .
وكان الطريق إلى المـنزل يعترضه " مزلقان " وطالما راح القطار وجاء فى "مناورة" ثقيلة ، وربما كنت ذاهباً إلى موعد أو مدرسة ، فوجدت سلم المزلقان ينزل فى سرعة ، ويحول دون مرورك ، ويبدأ القطار الثقيل فى الغدو والرواح .
ففى هذا اليوم كان الشارع مزدحماً بالباعة والعربات الكبيرة التى تحمل الحجارة . والمزلقان قد نزل سلمه ، والقطار العجيب يروح ويغدو .
وفى الساعة التى اختارها القدر ، وقفت سنية أمام المزلقان ووقف أمين ، وجاء غلام يدفع عربة يـد ، فمست يده سنية فسقطت كتبها فتناولها أمين الخبيث ولم يعطها إياها ، بل وضعها ساكنا فى محفظته .
علت خدها حمرة الشفق ، وطغت على الحدود المألوفة . وأطرقت لا تدرى ماذا تصنع ، بعد ذلك رفع المزلقان سلمه وأخذ الناس يتدافعون ، ويتزاحمون بالمناكب فتقدم الصبى والصبية ثم جمعهما القدر فى سبيل واحد وسارا صامتين زمناً لاحساب له ، حتى وقفت فجأة فأدرك أنه قد آن أن يفترقا ، فأخرج لها كتبها ، ثم عز عليه أن تمضى بدون أن يتعارفا فسأل :
- اسمك إيه
- سنية شكرى
- وأنا أمين سليم
- فى سنه أيه ؟
- سنه رابعة
- وأنا كمان
- ساكنة فين ؟
- فى شارع شبرا ..
- قريب منا يا ريتك تيجى مرة فى القمر نقعد تحت شجرة الجميز قرب
الساقية
ولاح خيال الخادمة من ناحية وخادمها من الناحية المقابلة ، فابتعد وابتعدت وصار يراها كل يوم فيتبادلان التحية بالنظر ويتمنيان لو أن الخادمين مرضا أو غابا أو أصابهما حادث .
ثم انقطعت عن المجئ ، وصار الطريق مقفراً لا يطاق ، ومضى فى ضوء القمر إلى الشجرة التى تمنى أن يراها عندها ، مضى مراراً ، والحنين إليها يتسع فى قلبه حتى صار ناراً آكلة .
ذات ليلة ذهب فى سرب من رفقائه إلى حيث يتلاقون ، فمر بسرب من الفتيات يتحادثن عند باب منزل فطرق أذنه صوت يعرفه ، فتخلف عن أصحابه ، ووقف فى ناحية يسترق السمع فسمع سنية (وكانت هى) تقول همساً لصاحبة لها :
نعم التقط كتبى ووضعها فى محفظته وتمنى أن يلاقينى فى ضوء القمر تحت شجرة الجميز عند الساقية . إنه غير جميل ولكنه رقيق ومن عائلة كبيرة على أنه قد نسينى بالطبع .
فخفق قلبه ، وانكمش فى الظلمة الكثيفة وأجابت دمعة حارة أن هذا غير صحيح .
ثم سمع خطاها تبتعد ، وهو فى الظلمة جامد فى مكانه ، ثم ابتعدت خطاها عنه فى الحياة .
وأقبل الفقر يطحنهما متفرقين ، حتى التقيا فى المنزل الحقير بحارة علام .
كان الليل هادئاً والقمـر فى السحب الصافية يلوح جليلاً فى حيرته ، يبدو من خلال سحابة ويستتر وراء أخرى ، وكأنه ينظر إلى الدنيـا بعين ملولة ، ويرى أن أهلها لا يستحقون ما يقدمه إليهم من النور القدسى الجميل ، إذ بينما يشع عليهم من وجدانه وقلبه يغط بعضهم فى النوم ، وبعضهم لا يفهمون أنه يعلمهم السمو والنبل ، فيمضون إلى إتيان لذة محرمة أو منكر لا يليق ، نعم كان القمر فى تلك الليلة يعتزم أن لا يطلع على الدنيـا واستتر وطال استتاره لولا أن اليد الخفية الجبارة دفعته من وراء السحاب فطلع كارها ، وغمر نوره القاهرة وفاض على أعالى القصور كما فاض على السطوح الفقيرة فى حارة علام .
فى تلك اللحظة فتح أمين سليم النافذة وتنفـس طويلاً ، ونظر إلى القمر نظرة مبهمة ثم عاد إلى النافذة ، فأغلقها فى ضجر وملال .
واسـتوى أمام مائدته ، وجعل مصباحه قريباً من يساره ، وفتح كتاباً ثم أغلقه ، وأجال بصره فى الغرفة الفقيرة الأثاث . فهذا سريره الذى ينام عليه منذ عشر سنوات . تفككت أعمدته ، وطالما أصلحها فعادت كا هى ، فمل إصلاحها ، ورضى بصريرها المزعج كلما حدثتـه نفسه أن يرتاح على فراشه ، وهذا هو الكرسى الطويل بجانب السرير ، وطالما اكتفى بالنوم عليه وتلك هى السجادة الوحيدة الباقية من فرش القصر الكبير ، وهذا هو رف الكتب ، قطعة عادية من الخشب مفروشة بالورق الملون المقصوص ، وذلك هو مصباحه الباهت النور ، مصباحه الثقيل الذى ينخفض نوره من نفسه ويحتاج إلى يد تعليه كل آونة ، فإذا علا اندفع لسان من اللهب يهدد الزجاجة بالكسر والسقف "بالهباب" .
فى تلك الليلة كان أمين يرتدى جلباباً خفيفاً أبيض . وكان وجهه شاحبا قلقاً ، وكان يفتح كتاباً ثم يغلقه ، ويضـع نظارته على عينيه ثم يخلعها ، ويجلس على كرسيه قبل المائدة ، ثم يتركه ليجلس على حافة السرير ، ثم يترك حافة السرير ليجلس على الكرسى الطويل .
فبينما هو فى ذلك القلق الغريب ، دق الباب دقاً خفيفاً ، فوثب مرتجفاً وأسرع إليه وما لبث أن صاح هامساً :
- سنية ؟
- ( بهمس وخوف ) أيوه ...
وأقفل الباب عليهما فى حرص وسرعة .
وكان المصباح الملعون قد عاد نوره إلى الانخفاض وأصبحت الغرفة فى شئ من الظلمة ، وترامت ظلال كثيرة على الحائط جعلت الغرفة كالمعبد المرهوب ، وفى وسـطه عابدان لا يتكلمان ، وإنما تقول الظلمة ، وشعاع القمر الداخل من النافذة كاللص ، إنهمـا لبثا متعانقين كالموجتين ، وجلباباهما فى البياض كرغوة الزبد . وتخلصت سنية بلطف ، ووقفت بعيداً ، وكان قوامها ممشوقاً وشعرها المتهدل الجميل قد قارب وجهها فأزاحته بيدها البضة الناعمة ، ومضت إلى الكرسى الطويل متهالكة ، وجلس أمين على السجادة مسنداً رأسه على ركبتيها وصارا يتكلمان همساً :
- كم سنة يا سنية ، والله ما نسيتك لحظة . شوفى افتقرنا وجينا فى حارة فى شارع محمد على .
فأرسلت سنية دمعة حارة ولم تجب ، فاستمر قائلا : ودخلت التعليم العالى مجانا بواسطة ، وعلىَّ أن اشتغل وأن أنجح بسرعة ، وإلا ماذا يصنع أبى المسكين . فلم تجب سنية . وأمسكت برأسه ، وجعلت وجهه إليها تطيل التحديق فيه ، ثم قالت حزينة :
- حالكم أحسن من حالنا بكتير ، أبى مات ، ولم يترك لنا شيئاً تقريباً ، وصارت الحال تمشى من سيئ إلى أسوأ حتى جئنا أيضاً إلى الحارة نفسها فى شارع محمد على !
فذرف بدوره دمعة واستمر الصمت وأخذت الذبالة فى المصباح الملعون تنذر بظلمة كاملة ، وإذا بمواء قطتين ذكر وأنثى بالطبــع ، يتحابان فى ضوء القمر ؛ ويسران الطبيعة بتحقيق أحلامها .
فضحكت سنية وأمين معا وهمست ، دى قطتنا وقطكم ، ثم زمت شفتيها فى خفة معبودة وقالت : ألا تذكر يا أمين أحلامك فى شبرا ، وأمانيك أن نتحاب فى ضوء القمر ، لقد أنعمت الدنيا بأمانيك على قطتينا ، أجاب : معلهش يا سنية آدى احنا اتقابلنا ، ومادمت أراك فسأشتغل وأنجح ، ولا يلبث هذا الضنك أن يزول ؛ فصاحت فجأة كأنما رأت الضنك قد زال حقيقة
- وبعد أن يزول الضنك ؟
- نتزوج
- وبعد ذلك ؟
- يكون لنا أولاد
- وبعد ذلك ؟
- نكون قد اقتصدنا مالا كافيا فنبنى منزلاً خاصاً
- وأمى ، وأبوك وأمك ؟
- يكونون قد تقدموا فى العمر ، فنسعد بمشيبهم ونجعله كله رخاء
- وحبنا ؟
- يزيـد على السنين ، وينميه من ناحيتينا إخلاصى وإخلاصك وتسامحك وتسامحى .
ثم همت أن تلقى سؤالاً جديداً ، ولكن غمامة عبرت فكرها فجأة ، ولاحت لها صورة لا تحبها ، فأدرك ذلك أمين فسألها فامتنعت عن الاجابة ، فألح ، فقالت
"وإذا تعرض لنا زكى ابن خالتى" !
فانتفض أمين وتغيرت ملامحه ، وتركت رأسه ركبتيها ودار بعينيه فى الظلمة يبحث عن زكى ابن خالة سنية ، زكى الثقيل بجسمه الضخم ، وسوالفه الكريهة ، وعينه الزجاجية وغناه الفاحش ، واللبانة التى يمضغها - دائماً ... دائماً .
تغير الفتى الوديع عند مرور تلك الصورة البشعة وقال أقتله والويل لك إذا فكرت فى أن تميلى إليه .
قالت : أنت تهيننى وإذا ذكرت هذا ثانياً فلن أعود أبداً
فاستعطفها وعاد ليسند رأسه على ركبتيها
وطردا تلك الصورة الكريهة وعادا ليكملان مدينة الأحلام ، وأوشك الفجر أن يطلع على تلك المدينة التى جلسا يبنيانها معا ، فوقف أمين فجأة ، قائلا :
- سنية
- نعم
- شايفه الفجر اللى قرب يطلع ؟
- أيوه شايفاه
- أحلفى انك لى وحدى ؟
- احلف
- هاتى فمك
فمدت إليه شفة سحرية رطبة كالشليك الندى ثم انسلت إلى غرفتها ، وهى تنزل السلم فى بطء وحذر !
وكان ذلك اللقاء يتكرر ومدينة الأحلام تبنى مع الليل وتتبخر مع الفجر ، وأمين يدأب ، ويرى أمانيه ترنو ، حتى كان ذات صباح خارجاً بكتبه إلى مدرسته فرأى زكى ابن خالة سنية جالسا إلى مائدة فى قهوة المعلم سلام فعجب من تلك الجلسة المبكرة وكان شجاعاً يفضل مواجهة الأمور فمضى إلى غريمه تواً :
- صباح الخير يا سى زكى ايه اللى جابك الصبح بدرى كده
فاعتدل سى زكى فى كرسيه بكبرياء وقحة وأدار اللبانة فى فمه القبيح وقال بلهجة ساخرة :
- علشان أزور قرايبنا جيرانكم . وصفق على الصبى ثم مد يده إلى جيبه يرن النقود ويؤكد لأمين من جديد أنه غنى وأنه بهذا الغنى سيملك ابنه جيرانه .
قال أمين :
- ولكن الزيارة تبقى بدرى كده
- ده مش شغلك
فثار الدم فى وجه أمين ، ولم يدر بالضبط ماذا حدث غير أنه وجد القهوة ممتلئة بالناس ووجد سى زكى فى وسطها والدم يسيل من أنفه وهو يسب ويلعن ورأسه عار وسوالفه القبيحة ملوثة بالدم .
والحقيقة أن أمين بدون أن يدرى ما هو صانع تناول كرسياً فهرب سى زكى إلى داخل القهوة فطار الكرسى وراءه وتبعه آخر بنفس السرعة فأصـابه فى أنفه فلما رأى الدم هاجه ذلك كثيراً ووثب بجسمه الضخم على غريمه ولكن المعلم سلام كان قد جاء وجاء ناس آخرون فحالوا بينهما وتهدد زكى وتوعد وقال بكره تشوف .
وجمع أمين كتبه فى كبرياء وأنفة ، وانصرف بدون أن يرد .
وقالت سنية لأمين فى غرفته بعد أيام :
- أما علقة اللى كلها زكى . تعرف أنه دخل عندنا بعدها ، وأمى أكرمته وطيبت خاطره ومسحت له جرحه ووضعت له صبغة يود . أمى المسكينة تراه غنياً وتلاطفه لعله يتزوجنى ، وهو يدخل بيتنا ويتودد إلينا لهذ الغرض . أمس جاء عندنا وقال لأمى إن الحكيم قال له أن عظمة أنفه من فوق انكسرت وستترك عاهة مستديمة ، لأن أنفه ينخسف من أعلى . وسيرفع عليك قضية .
فضحــك أمين وقال : لتزيد شكله قبحاً ، أما القضية فليرفعها على فى أوربا .. !
فسألت مندهشة : أوربا ؟ كيف ؟
قال : أنا نجحت فى الامتحان الأخير كما تعلمين ، وسأسافر فى بعثة إن شاء الله بعد أسبوع .
فضربت صدرها بيدها ، قائلة أتتركنا ؟ قال نعم لكى اختبر القسم الذى أقسمته والفجر موشـك الطلوع ، قالت وهى تجهش بالبكاء ، كن مطمئناً . واعتنقا ، وطال عناقهما ، ثم انسلت إلى غرفتها ، وهى تنزل السلم فى بطء وحذر .
***
من أمين إلى سنية
لندن فى 7 أبريل سنة 1928
حبيبتى سنية
جلست وحدى فى غرفتى قرب المدفأة أقرأ خطاباتك الجميلة ، خطاباتك التى ملأت حياتى أملاً ، وأنستنى غربتى وجعلت منى رجلاً ، لقد كان خيالك الجميل ، وإقسامنا كل ما أوشك الفجر أن يطلع ومدينة الأحلام التى شيدناها معا ، كل تلك الصـور كانت لا تبارح ناظرى نعم مرت سنون جهاد عنيف ، ولكنى لم أكن أعبأ بها ، ولا أبالى بمتاعبها ، مادمت فى انتظارى .
آه يا سـنية إن لندن بحالها ، لندن العظيمة الضخمة ، لاتساوى ركناً من مدينة الأحلام ! وعلى ذكر هاته المدينة المسحورة إنى أراك الآن فى ركن منها يغمره القمر ، وتنام فيه الزهور آمنة ، نعم أراك إلى جانبى وأمضى فى تقبيلك بلا حساب ... !
حبيبك
أمين
***
من سنية إلى أمين
القاهرة فى 25 مايو سنة 1928
حبيبى أمين
استلمت خطابك وسرنى أن أسمع أنك فى صحة جيدة ، أما نحن فقد ضاقت بنا الحال ، شكراً للنقود التى ترسلها إلينا مما تقتصده ، وإننا نعلم ما يكلفك هذا من التقتير على نفسك وأنت فى بلاد غريبة ، نعم ضاقت بنا الحال يا أمين وتركنا جيرتكم الهنيئة ، ورحلنا إلى منزل أقل إيجاراً ، وقبل أن ننتقل إليه ، صعدت فى الليل إلى معبدنا المقدس ، ووقفت عنــد باب غرفتك ، أستعيد الماضى الجميل ، ومدينة الأحلام ، متى تعود لنتم بناءها !! متى؟
حبيبتك سنية
ملحوظة : اكتب إلى على شباك بوستة الفجالة .. !
***
من أمين إلى سنية
لندن فى 15 سبتمبر سنة 1928
حبيبتى سنية
أكتب إليك والفرح يملك على مشـاعرى ، وإنى لواثق أن الخبر الذى سأقصه عليك سيجعلك ترقصين من السرور ، لقد نجحت ، وأقبل على عميد الكلية يهنئنى فقد جاء اسمى فى قائمة الشرف .
أنا عائد يا سنية ، عائد بعد مضى أربع سنوات لا أعلم كيف صبرت على قضائها بعيداً عنكم ؛ أطوى البحر والبر بالفكر إليك وأقبلك طويلا .
حبيبك
أمين
***
من سنية إلى أمين
2 أكتوبر سنة 1928
حبيبى أمين
استلمت خطابك الأخير من بوستة الفجالة ، وقرأته كثيرا وقبلته مراراً ، دامعة العين شديدة الشوق إليك ، والدنيا فراغ شنيع بغيرك والأيام لا معنى لها ، عدت للتى تحبك وتنتظرك .
سنية
(ملحوظة) اعذر اختصارى هذه المرة فإنى لشدة الفرح بك لا أدرى ماذا أكتب !
***
فى يوم ممطر كانت باخرة تقترب إلى الشاطئ فى ميناء الأسكندرية ووقف المنتظرون يترقبون العائدين ، ويلوحون بمناديلهم ، واقتربت الباخرة ببطء ، ثم وضع السلم وصعد ضابط الميناء ورجاله ثم سمح للركاب بالنزول ، فأسرع من بينهم شاب نعرفه ، يلبس قبعة ويحمل نظارة نزل السلم بسرعة ، وتلفت هنا وهناك فناداه الشخص الوحيد الذى ينتظره
- أمين !
- أبى !
وكان عناق رائع حار ودموع ، وبعد أن تم تفتيش الحقائب ، أقلتهما عربة إلى القطار المسافر إلى القاهرة ، وفى القطار علم أمين أن أمه مريضة بالروماتيزم :
- مش قادرة يا ابنى وأنا كمان ، الربو تاعبنى قوى ومنذ أسبوعين كان عندى ورم فى الرجلين والحكيم أمرنى بالراحة ومنعنى عن اللحوم والملح وكان جيراننا عائلة شكرى بك يواسوننا ولكن الحالة ضاقت بهم فعزلوا إلى منزل أرخص .
فخفق قلب أمين وأحس شيئا ثقيلاً ينحدر إلى صدره .
- وزارونا مرتين بعدها ، والشقة والله فاضية لغاية دلوقتى . وانتقل الحديث إلى أشياء أخرى ، وبلغا القاهرة ، ثم المنزل ووجد أمين الدور الأرضى خالياً ، فأحس بفراغ كفراغ المقابر ، وكانت والدتــه فى فراشها ، وقد أقعدها المرض ، وشـحب لونها ، ولكن الأمـل فى لقاء ابنها ، جعل لعينها بريقاً غريباً من الحياة ، وكأن قوة غير عادية ، دبت فيها وهى تنتظره ، ثم وهى تضمه ، ثم وهى تبكي!
وأما غرفته فى السـطح فلم يجدَّ عليها شئ ، ولكن حين فتحها هب منها عبق الذكرى ، والقسم الذاهب ، والمدينة السحرية
فى صباح اليوم التالى أخذ يبحث ويسأل عن منزل شكرى بك الجديد ، فلم يهتد وذهب إلى بوستة الفجالة ، وكان قد أرسل إليها خطابا كعادته قديما . فلم يأت أحد لاستلامه ، ولم يعلم من أمرهم غير أن الفاقة ألحت عليهم ، وهنا انقطع خيط البحث .
وذات صباح كان بمديرية الجيزة لأمر يخصه ، فمر بحديقة الحيوانات وخطر له أن يدخل .
جلس على مقد تجاه القرود ، خلف شجرة متوارية بعض الشئ . فمرت سيدة بادنة "بملاية لف" ومعها طفلان وخلفهم رجل ، وكان الرجل ضخما طويلا ، وله سوالف كريهة وفى فمه لبانة .
فذعر وأحس بيد تقبض على حلقه وتنشب أظافرها فيه ، وهم أن يصيح ! فلم يستطع وأراد أن يقوم فلم يقدر ، سنية الجميلة الرشيقة تلبس " ملاية لف " وتصبح بادنة ، ويصير وجهها عادياً خشناً ، وتتزوج بمن ، بالشخص البغيض الكريه ، الذى خسف أنفه بالكرسى من أجلها .
هم أن يقوم ثانياً ، وأن يحتج ، فوقف بينه وبينهم شبح ، وصرخ فى وجهه . قف فأنا الذى أذللت هذه المرأة . ومازلت أطحنها . وأمشى بها من حاجة إلى حاجة حتى تزوجت غريمك ... والخطابات إنها خدعتك لصالحك .. ألا تعرفنى فصاح أمين . أجل أعرفك أيها الفقر . وهذه آثار أظافرك فى عنقى .
وطأطأ رأسه وقد غفر للحبيبة المسكينة بينما الموكب العائلى يسير ثم ثارت عاصفة من الغبار حجبت عن عينه إلى الأبد مدينة الأحلام .
صدى.. ذاكرة القصة القصيرة