«الحمد لله الذى لم يسلبنى كل نعمة فمنحنى نعمة الخيال»... يحيى الطاهر عبد الله.
الخيال أقوى من الواقع ومساحة الحرية فيه أكبر، والخيال أكثر مرونة وقابلية للتغيير. وإذا كان الخيال اختيارًا لأبى المبدع وهروبا من قسوة الواقع أو رغبة فى إعادة رسم هذا الواقع بشكل خيالى يناسب أحاسيسه وطموحاته ورؤيته للعالم، فإن الخيال بالنسبة لى ليس اختيارًا بل هو الحل الوحيد لرسم بورتريه لأبى يحيى الطاهر عبد الله. فالواقع اننى لم أعش معه طويلا فقد رحل عن العالم وأنا طفلة صغيرة، والكثير من الطفولة يمحى مع الزمن. فلم يكن إذن هناك اختيار؛ الخيال هو وسيلتى لمعرفة أبى.
بعد وفاة أبى، وعمرى أقل من خمس سنوات، رسمت هذا الأب بشكل أسطورى من خلال حكايات الأصدقاء الذين فجعهم رحيله المفاجئ والمبكر فزادوا من أسطوريته. فقد كنت اسمع مرارا ان أبى لم يكن ليفارقنى أبدا وأنه كان يبكى لأقل خدش يصيبنى، كما سمعت مرارا أنه فى يوم الحادث الذى أودى بحياته لم يرغب أيضا أن يفارقنى فنقلنى من المقعد الخلفى للسيارة إلى المقعد الأمامى بجواره، ولأنه يحبنى بشكل أسطورى فقد وضع حزام الأمان حولى تاركا نفسه غير مؤمن وهو ما ساهم فى وفاته دونا عن ركاب السيارة جميعا. أيضا رسمت له ملامح مشرقة ومبتسمة مثل ملامحه عندما يزورنى فى الأحلام وقد كان يزورنى كثيرا وقتها.
خلال فترة المراهقة كانت علاقتى به أشبه بالحبيب الذى انتظر عودته ولا أتخيل أنه قد رحل فعلا. كنت قد بدأت اتمكن من قراءة أدبه وأراه متجسدا فى الشخصيات الرئيسية التى يكتب. ساعدتنى أعمال مثل «أغنية العاشق إيليا»، او شخصية «إسكافى المودة»، فى رسم شكله وشخصيته، فأصبح لدى هاجس أننى سوف ألتقيه يوما ويخبط على كتفى ويقول: آسف بعد الحادث فقدت الذاكرة والآن قد عادت لى وعدت كى أعوضك عن ما فات، وهكذا سوف أراه يمشى ويعبر ويأكل واسمعه يتكلم ويضحك كما تخيلته فى ذهنى، ونسيت أو تناسيت أننى قد رأيته بعد الحادث فى مستشفى أم المصريين وهو غارقا فى دمائه وقد فارق الحياة.
أما الآن فعلاقتى به حقا ملتبسة، فحكايات الأصدقاء لم تعد تلك الحكايات الأسطورية بل أكثر واقعية وترسم ملامح ذاك الشخص المجنون الذى لم يصدر بطاقة لأنه لا يؤمن بمؤسسات الدولة والذى كتب فى شهادة ميلادى ان مهنته «مدبغى» (فى الأغلب كان يكتب إسكافى المودة فى هذا الوقت) مما أدى إلى تعقيد بعض اجراءاتى القانونية فى بعض الأحيان. كما أن الحكايات أصبحت تتضمن مقالبه الكوميدية ولكن تثير الحنق فى ذات الوقت. كما أن علاقتى بأعماله اتخذت شكلا تلقائيا عملا أدبيا وليست وسيلة لمعرفته (وإن كنت لا أزال أراه متجسدا فى شخصياته الرئيسية) واتعامل مع هذه الأعمال باعتبارها وسيلة للحفاظ على وجوده. وقد أراه ذلك الشخص المتمسك بآرائه بشكل كبير وقد يكون متعنتًا فى بعض الأحيان. وأحيانا أتخيل لو كان حيا كيف كانت لتكون شكل العلاقة بيننا وأراها فى حالة شد وجذب واختلاف حول بعض الأمور الفكرية والسياسية والحياتية، علاقة واقعية إلى حد كبير.
وهكذا سمح لى الخيال ببناء ملامح متعددة ترضى احتياجى واحساسى فى كل مرحلة من مراحل حياتى، فشكرا يا أبى على أنك قد أورثتنى نعمة الخيال.
د. أسماء يحيى الطاهر عبدالله
الخيال أقوى من الواقع ومساحة الحرية فيه أكبر، والخيال أكثر مرونة وقابلية للتغيير. وإذا كان الخيال اختيارًا لأبى المبدع وهروبا من قسوة الواقع أو رغبة فى إعادة رسم هذا الواقع بشكل خيالى يناسب أحاسيسه وطموحاته ورؤيته للعالم، فإن الخيال بالنسبة لى ليس اختيارًا بل هو الحل الوحيد لرسم بورتريه لأبى يحيى الطاهر عبد الله. فالواقع اننى لم أعش معه طويلا فقد رحل عن العالم وأنا طفلة صغيرة، والكثير من الطفولة يمحى مع الزمن. فلم يكن إذن هناك اختيار؛ الخيال هو وسيلتى لمعرفة أبى.
بعد وفاة أبى، وعمرى أقل من خمس سنوات، رسمت هذا الأب بشكل أسطورى من خلال حكايات الأصدقاء الذين فجعهم رحيله المفاجئ والمبكر فزادوا من أسطوريته. فقد كنت اسمع مرارا ان أبى لم يكن ليفارقنى أبدا وأنه كان يبكى لأقل خدش يصيبنى، كما سمعت مرارا أنه فى يوم الحادث الذى أودى بحياته لم يرغب أيضا أن يفارقنى فنقلنى من المقعد الخلفى للسيارة إلى المقعد الأمامى بجواره، ولأنه يحبنى بشكل أسطورى فقد وضع حزام الأمان حولى تاركا نفسه غير مؤمن وهو ما ساهم فى وفاته دونا عن ركاب السيارة جميعا. أيضا رسمت له ملامح مشرقة ومبتسمة مثل ملامحه عندما يزورنى فى الأحلام وقد كان يزورنى كثيرا وقتها.
خلال فترة المراهقة كانت علاقتى به أشبه بالحبيب الذى انتظر عودته ولا أتخيل أنه قد رحل فعلا. كنت قد بدأت اتمكن من قراءة أدبه وأراه متجسدا فى الشخصيات الرئيسية التى يكتب. ساعدتنى أعمال مثل «أغنية العاشق إيليا»، او شخصية «إسكافى المودة»، فى رسم شكله وشخصيته، فأصبح لدى هاجس أننى سوف ألتقيه يوما ويخبط على كتفى ويقول: آسف بعد الحادث فقدت الذاكرة والآن قد عادت لى وعدت كى أعوضك عن ما فات، وهكذا سوف أراه يمشى ويعبر ويأكل واسمعه يتكلم ويضحك كما تخيلته فى ذهنى، ونسيت أو تناسيت أننى قد رأيته بعد الحادث فى مستشفى أم المصريين وهو غارقا فى دمائه وقد فارق الحياة.
أما الآن فعلاقتى به حقا ملتبسة، فحكايات الأصدقاء لم تعد تلك الحكايات الأسطورية بل أكثر واقعية وترسم ملامح ذاك الشخص المجنون الذى لم يصدر بطاقة لأنه لا يؤمن بمؤسسات الدولة والذى كتب فى شهادة ميلادى ان مهنته «مدبغى» (فى الأغلب كان يكتب إسكافى المودة فى هذا الوقت) مما أدى إلى تعقيد بعض اجراءاتى القانونية فى بعض الأحيان. كما أن الحكايات أصبحت تتضمن مقالبه الكوميدية ولكن تثير الحنق فى ذات الوقت. كما أن علاقتى بأعماله اتخذت شكلا تلقائيا عملا أدبيا وليست وسيلة لمعرفته (وإن كنت لا أزال أراه متجسدا فى شخصياته الرئيسية) واتعامل مع هذه الأعمال باعتبارها وسيلة للحفاظ على وجوده. وقد أراه ذلك الشخص المتمسك بآرائه بشكل كبير وقد يكون متعنتًا فى بعض الأحيان. وأحيانا أتخيل لو كان حيا كيف كانت لتكون شكل العلاقة بيننا وأراها فى حالة شد وجذب واختلاف حول بعض الأمور الفكرية والسياسية والحياتية، علاقة واقعية إلى حد كبير.
وهكذا سمح لى الخيال ببناء ملامح متعددة ترضى احتياجى واحساسى فى كل مرحلة من مراحل حياتى، فشكرا يا أبى على أنك قد أورثتنى نعمة الخيال.
د. أسماء يحيى الطاهر عبدالله