كتب محمود درويش قصيدة عنوانها (من روميات أبي فراس) ظهرت في ديوان (لماذا تركت الحصان وحيدا) (1995). ليست هذه هي المرة الأولى التي يستلهم فيها درويش تجربة شاعر عربي قديم، ليعارضها، كما فعل مع شخصية امرئ القيس، وهي أول شخصية تراثية خصص لها قصيدة، هي قصيدة (امرؤ القيس)، وقد ظهرت في ديوانه (يوميات جرح فلسطيني) (1969)، وتخلى عنها إذ لم يدرجها في أعماله الشعرية الكاملة، أو ليتماثل معها، كما فعل مع شخصية المتنبي في قصيدته (رحلة المتنبي إلى مص) التي كتبها في العام 1980، وظهرت في مجموعته (حصار لمدائح البحر) (1984) وثبتها في أعماله الكاملة، ولم يتنصل منها. وما بين قصيدة (امرؤ القيس) وقصيدة (رحلة المتنبي إلى مصر) أفاد درويش من قراءته للشعر العربي القديم، كما أفاد منها في مرحلة متأخرة أيضاً بشكل لافت، حتى يمكن القول إن استحضار الشاعر للشعراء العرب القدامى والجدد أيضاً، مثل السياب ودنقل، أخذ يبرز بروزاً لافتاً في أشعاره الأخيرة التي كتبها بعد العام 1992، تاريخ صدور ديوانه (أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي). ففي ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) استحضر شخصية أبي فراس، وشخصية امرئ القيس ثانية، وخصص لكل واحد منهما قصيدة، وفي ديوانه (سرير الغريبة) (1999) استحضر شخصية جميل بثينة وقيس بن الملوح، وفي (جدارية) (2000) استحضر المعري، وفي (لا تعتذر عما فعلت) (2003) استحضر أبا تمام والمتنبي والمعري، وفي (كزهر اللوز أو أبعد ) (2005) استحضر الأعشى وآخرين. وفي (أثر الفراشة) استحضر سطر تميم بن مقبل الذي كان استحضره من قبل في (حصار لمدائح البحر) وفي (أحبك أو لا أحبك) (1971).
زمن الاستحضار:
ربما يثير المرء، وهو يدرس قصيدة (من روميات أبي فراس) أسئلة عديدة أبرزها: لماذا استحضر درويش شخصية الحمداني؟ هل استحضرها ليعارضها، كما فعل مع امرئ القيس، أم استحضرها ليعبر من خلالها عن تجربته هو، لأنه يتماثل معها، كما فعل مع المتنبي ومع أبي تمام أيضاً، وإن كان استحضارها للأخير لا يعود إلى تشابه التجربة، بل تشابه درويش، في فترة من حياته، مع بيتي شعر أبي تمام، بخاصة مع الثاني:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
ما الحب إلا للحبيب الأول
وحنينه، أبداً، لأول منزل
وإذا كانت تجربة درويش تتماثل، في فترة ما، جزئياً، مع تجربة الحمداني، فهل كان استحضاره لها في العام 1995 موفقاً؟ أم كان يجدر به أن يستحضرها في زمن آخر، فتجربة درويش والحمداني تتشابه حين كان درويش يقيم في حيفا، لا بعد أن غادرها في العام 1970، ولا يوم كتب القصيدة في العام 1995. قبل الاستطراد في إثارة الأسئلة والإجابة عنها وإضاءة ما لم يُضأ يجدر تبيان مواطن التشابه بين الشاعرين في تجربتهما.
أسر أبو فراس في فترة من حياته وأنفق سنوات من شبابه في زنازين الروم الذين حاربهم، وهناك كتب قصائد عديدة وجهها إلى سيف الدولة يخاطبه فيها أن يفتديه وأن يخلصه من الأسر، ولم يسرع سيف الدولة في تلبية الطلب، بل تباطأ، ما أثر على أبي فراس وجعله يعبر عن حزنه وآلامه وأشجانه في قصائد جميلة خاطب فيها أمه وغيرها، وأتى فيها على حياته في الزنزانة وبعده عن الأهل وشوقه إلى بلده.
وسجن محمود درويش في أثناء إقامته في حيفا، وكتب وهو في السجن قصائد عن تجربته، أبرزها قصيدته التي وجهها إلى أمه، فذاعت وانتشرت. ولم تختلف رؤى درويش وتطلعاته، وهو تحت الاحتلال، إلى الخلاص، آملاً أن يساعد العرب في الخارج عرب فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي بهذا – أي الخلاص.
ثمة تشابه إذن بين التجربتين، تجربة السجن من عدو أجنبي، والأمل بالتحرر وطلب المساعدة من أبناء جلدتهما – أي العرب، وثمة شعور بالخيبة. ولعل خطاب الأم وكتابة القصائد لها، وهما في السجن، من أبرز الأشياء المشتركة.
كما ذكرت استحضر درويش شخصية امرئ القيس ليعارضها، فقد كان درويش ابن اسرة فقيرة، خلافاً لامرئ القيس ابن الملك، وكان درويش لا يبحث عن ملك، كما فعل امرؤ القيس، وكان فهمه للشاعر ودوره مختلفاً عن فهم امرئ القيس. ثمة تعارض مواقف لاختلاف المواقع، وثمة زمنان أيضاً مختلفان.
وكما ذكرت أيضاً فقد استحضر درويش شخصية المتنبي ليعبر من خلالها عن تجربته، فقد تشابهت التجربتان في مرحلة من مراحل حياة درويش، وكان المتنبي قناعاً له. وكتب درويش قصيدته في اللحظة التي مر بها بالتجربة المشابهة لتجربة المتنبي، ولم يكن هناك هوة تفصل الزمن الكتابي عن الزمن الشعري الواقعي المعيش. وهذا ما لم يتم حين كتب درويش قصيدته (من روميات أبي فراس)، فزمنها الشعري مسترجع، وثمة فترة سبعة وعشرين عاماً ما بين الأسر / الزمن الشعري وزمن الكتابة – الزمن الكتابي. وإذا ما ذهبنا إلى أن درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) يكتب سيرته شعراً، وقد ذهب هذا المذهب نقاد عديدون، أدركنا أن كل مجموعة من القصائد التي أدرجت تحت عنوان تعود إلى فترة زمنية من حياة درويش. فالديوان يتألف من ستة عناوين رئيسة، كل عنوان يمثل مرحلة من مراحل حياة الشاعر: مرحلة الطفولة والهجرة، فمرحلة المراهقة، فمرحلة الشباب، فمرحلة النضج الشعري والعيش في العالم العربي، فمرحلة مدريد وأوسلو. وسيعود محمود درويش في كتابه (في حضرة الغياب)(2006) ليكتب نثراً، بالأسلوب نفسه الذي اتبعه في الديوان، سيرة حياته، فكل فصل من (في حضرة الغياب) استرجاع لمرحلة زمنية معينة من حياته، وقد أبرزت هذا في مقال عنوانه: سؤال الزمن.
في العام 1995 إذن، عام كتابة (من روميات أبي فراس) يستحضر درويش واقعة سجنه وهو في حيفا قبل العام 1970. ولا يكتب هذا بأسلوب مباشر، بل إنه يعبر عن تلك التجربة من خلال قناع. وإذا كانت أنا المتكلم في (رحلة المتنبي إلى مصر) هي أنا أنا المتنبي، وأنا درويش معاً، فهي كذلك في (من روميات أبي فراس)، ولكنها ليست واحدة – أي أنا متطابقة – في قصيدة (امرؤ القيس).
استلهام، شخصية أبي فراس من قبل:
ثمة دراسات عديدة أنجزت تناول اصحابها فيها، بشكل عام، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، أبرزها كتاب علي عشري زايد (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر) ( 1977 ط1، 1997 ط2 ) وكتاب خالد الكركي(الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث) (1989 ط1) وكتاب إبراهيم نمر موسى (آفاق الرؤية الشعرية). (دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر) (2005) وكتاب (التناص في الشعر العربي الحديث: السياب ودنقل ودرويش نموذجاً) (2006) لعبد الباسط مراشدة، ولم يقف أصحابها، فيما يلحظ، أمام شعراء استلهموا شخصية أبي فراس، ما يعني أنه إذا ما قورن بشاعر معاصر له، هو أبو الطيب المتنبي، بدا غير تأثير على الشعراء الذين لحقوه، وحين يعرف أن الدكتور الكركي خصص كتاباً كاملاً لدراسة حضور أبي الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر، هو كتاب (الصائح المحكي: صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث) (1999)، أدركنا أن أبا فراس لم يلفت نظر شعرائنا المعاصرين كما لفت نظرهم معاصره أبو الطيب المتنبي. هل محمود درويش، إذن، هو أول شاعر عربي في ق20 يستلهم شخصية أبي فراس؟ لا. فقد استلهمه، من قبل، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في ديوانه " الموت في الحياة "(1968)، في قصيدة عنوانها (روميات أبي فراس)، وتوقف أمامها سامح الرواشدة في كتابه شعر عبد الوهاب البياتي والتراث (1996).
تجربة الحب لدى الشاعرين:
شاعت قصيدة أبي فراس (أراك عصي الدمع) شيوعاً لافتاً في ق 20، وما ساعد على ذلك، غير إدراجها في المناهج المدرسية في بعض البلدان العربية، ومنها الأردن، حين درسناها في المدارس، ما ساعد على شيوعها قيام سيدة الغناء العربي أم كلثوم بغنائها بصوتها، ما جعل أبا فراس معروفاً للدارسين ولغير الدارسين. فإذا كان الدارسون، بخاصة دارسو الأدب العربي، درسوا أشعاره حين درسوا العصر العباسي، أو الحياة الأدبية في حلب في عصر سيف الدولة، أو الروميات، في مساق الروميات، فإن غير الدارسين ممن يستمعون إلى الغناء استمعوا إلى أراك عصي الدمع وطربوا لمعانيها، وربما حفظوا بعض أبياتها،.
طبعاً نحن نعرف أن درويش، قبل أن يكون مستمعاً إلى أم كلثوم، كان قارئاً فاحصاً ومدققاً للشعر العربي القديم. ولا نحتاج إلى دليل يخبرنا عن سماعه أم كلثوم، فقد خصص لها في كتابه (أثر الفراشة)(2008) قصيدة.
في (أراك عصي الدمع) يعبر أبو فراس عن تجربة حب مرّ بها، ويبدو أنه لم يكن موفقاً فيها، فالمحبوبة كان لها غير عشيق: (أيهم فهم كث)". ليس هذا هو المهم هنا، فالمهم هو ما يكمن في السؤال التالي: هل كان لأبي فراس تجربة حب مع امرأة رومية، حين كان أسيراً في بلاد الروم؟
في مسلسل عن أبي فراس عرضته القنوات العربية في السنوات الأخيرة، ما يشير إلى أنه كان على صلة مع امرأة رومية، وما يدعم هذا قوله:
وشادن من بني كسري شغفت به
لو كان أنصفني في الحب ما جـارا
إن زار قصّر ليلي في زيارتــه
وإن جفانـي أطـال الليل أعـمارا
كأنما الشمس به في القوس نازلة
إن لم يزرني وفي الجوزاء إن زارا
والشادن هو ولد الظبية، فهل كان أنثى أم ذكرا؟
أحب محمود درويش أيضاً عربيات ويهوديات، وقد عبّر، في غير مقابلة أجريت معه، عن علاقته بالفتيات اليهوديات، وقد أتيت على هذا، في دراسة عنوانها " بين ريتا وعيوني بندقية "، وهي دراسة مفصلة، وذكرت فيها دراسات سابقة عالجت الموضوع. وفي أشعار درويش غير قصيدة يتغزل فيها بريتا وشولميت.
ما الذي أرمي إليه مما سبق؟
في قصيدة (من روميات أبي فراس) يبوح أنا المتكلم بحبه، ويفصح عن علاقته بالفتاة التي أحبها، تماماً كما أفصح أبو فراس عن حبه لشادن من بني كسرى. يقول أنا المتكلم في قصيدة درويش:
وزنزانتي اتسعت، في الصدى، شرفة
كثوب الفتاة التي رافقتني سدى
إلى شرفات القطار، وقالت: أبي
لا يحبك. أمي تحبك. فاحذر سدوم غدا
ولا تنتظرني، صباح الخميس، أنا لا
أحب الكثافة حين تخبّئ في سجنها
حركات المعاني، وتتركني جسدا
يتذكر غاباته وحده ..
وفي المقابلات التي أجريت مع درويش ما يوضح الأسطر السابقة. في المقابلة التي أجراها معه عباس بيضون ونشرت في مجلة " مشارف : الحيفاوية، ( عدد3، تشرين الأول 1995 ) يرد ما يلي:
(أحببت مرة فتاة لأب بولندي وأم روسية. قبلتني الأم ورفضني الأب. لم يكن الرفض لمجرد كوني عربياً. ذلك الحين لم أشعر كثيراً بالعنصرية والكره الغريزي. لكن حرب 1967 غيرت الأمور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل).
ما سبق يعزز أن أوجه التشابه بين تجربة الشاعرين في فترة من حياتهما كانت متشابهة لدرجة التطابق، وقارئ القصيدة، لولا شكلها الشعري الذي ينتمي إلى عصرنا، بالإضافة إلى استخدام مفردات لم تكن موجودة زمن أبي فراس، مثل القطار، يمكن أن يوحد بين درويش وأبي فراس، وقد يذهب، إذا قرأ القصيدة دون وضع اسم درويش عليها، إلى أنها بالفعل من روميات أبي فراس.
ذكر الحمامة:
من قصائد أبي فراس المشهورة التي رددها قراؤه وتناولها دارسو الأدب العربي بالشرح والتحليل قصيدة (أقول وقد ناحت بقربي حمامة)، وهي قصيدة يقول ظاهرها إن الشاعر، وهو في الأسر، خاطب حمامة كانت تنوح. وبدت المفارقة لأبي فراس في أنه هو الأسير يضحك، فيم هي الطليقة تبكي، وليس في هذا إنصاف من الدهر، إذ ماذا كانت الحمامة ستفعل لو كانت أسيرة مثل الشاعر وتعاني مما منه يعاني: الأسر والبعد عن الأهل والغربة؟ هل يجوز لنا أن نقول إن ثمة بُعداً رمزياً في القصيدة؟ هل الحمامة الطليقة حمامة بالفعل أم أنها دال ذو مدلول رمزي، وبالتالي فإن المقصود بها – أي مدلولها – هو المرأة؟ هل يجوز أن نربط بين هذه القصيدة وقصيدة الشاعر آنفة الذكر: وشادن من بني كسرى، وبالتالي بين أبي فراس والمرأة الرومية التي أظهر مسلسله أنه كان على علاقة بها؟ هذه تساؤلات ليست أكثر. الشادن إن زار الشاعر قصير ليله، وإن لم يزره طال ليل الشاعر، مثله مثل ليل عمر بن أبي ربيعة وليل المتنبي الذي يطول لفراقه الأحبة.
سواء أكانت الحمامة حقيقية أم رمزاً، فإن ما يهمنا هنا أنها كانت ذات حضور في قصيدة درويش: (من روميات أبي فراس)، وفي قصائد أخرى. يرد في (من روميات أبي فراس):
وثمة ملح يهب من البحر،
ثمة بحر يهب من الملح. زنزانتي
اتسعت سنتمتراً لصوت الحمامة: طيري
إلى حلب، يا حمامة، طيري بروميتي
واحملي لابن عمّي سلامي!
كأننا هنا نُصغي إلى أبي فراس حقا. كأن المتكلم حقاً هو أبو فراس. ليس التشابه فقط في مكان الزنزانة ووقوعها على الساحل – كلا الزنزانتين كانتا تقعان على ساحل البحر، وثمة ما هو مشترك هنا - هناك تشابه آخر: كلا الشاعرين ينتظر الخلاص من ابن لغته وأقربائه خارج حدود الزنزانة (السجن). وكثيرة هي قصائد أبي فراس التي يخاطب فيها ابن عمه حتى يفك أسره، بل إنه يعتب عليه لتلكئه في ذلك. من ذلك قصيدة (أسيف الهدى) التي يقول فيها:
ألست وإياك من أسـرة
وبيني وبينك فـوق النســب
فـلا تعدلـنّ، فـداك ابن عـمـك،
لا بل غلامك، عـما يجـب
وأنصف فتاك، فإنصافه
من الفضل والشرف المكتسب
الأم:
يكتب درويش، وهو يستحضر أبا فراس، يكتب على لسان الأخير:
ثمة أهل يزوروننا
غدا في خميس الزيارات. ثمة ظل
لنا في الممر. وشمس لنا في سلال
الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
لماذا أرقْت على العشب قهوتنا يا
شقي ؟
ولا أدري إن كانت أم أبي فراس زارته، وهو في السجن في بلاد الروم. غير أن مما لا شك فيه أن أهل محمود درويش، وأمه منهم، قد زاروه في السجن، وحملوا له معهم في أثناءء الزيارة البرتقال (شمس في سلال الفواكه). ومعروف أن درويش كتب قصائد إلى أمه أبرزها قصيدته (أحن إلى خبز أمي..) وقصائد محمود درويش لأمه تذكرنا بقصائد أبي فراس لأمه، وهي من عيون شعره، ومن أجمل قصائد الأبناء للأمهات في الشعر العربي، فما من دارس لأبي فراس أو قارئ لقصائده إلا ترنم يقصيدته (يا أم الأسير) التي منها:
أيا أم الأسير، سقاك غيث
أيا أم الأسير، لمن تُربّى
إذا ابنك سار في بر وبحر
بكره منك ما لقي الأسير
، وقد مت، الذوائب والشعور
فمن يدعو لـه أو يســتجير
وكما يعثر المرء في ديوان أبي فراس على قصائد أخرى توجه فيها بالخطاب إلى أمه، فإن درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) يكتب قصيدة ثانية لأمه هي (تعاليم حورية) أتى فيها على علاقته بها ونصائحها له. هل كان ديوان أبي فراس، في أثناء كتابة درويش ديوانه المذكور، واحداً من الكتب التي قرأها؟ أكاد أجزم بهذا.
المصير الذي لا مفر منه:
في قصيدته يكتب درويش:
فلأكن ما تريد لي الخيل في الغزوات:
فإما أميرا
وإما أسيرا
وإما الردى
نحن هنا نصغي إلى الشاعر المحارب، إلى أبي فراس. كأنه هو الذي ينطق. ألم يقل في (أراك عصي الدمع):
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولكن إذا حُمّ القضاء على امرئ
وقال أصيحابي: الفرار أو الردى
ولكنني أمضي لما لا يعيبني
يقولون لي: بعت السلامة بالردى
وهل يتجافى عني الموت ســـاعةً
ولا فرسي مهر، ولا ربّه غمر
فليس له بر يقيه ولا بحر
فقلت: هما أمران أحلاهما مر
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
فقلت: أما والله، ما نالني خسر
إذا ما تجافى عني الأسـر والضر؟
…
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبـر
وإذا كان أبو فراس فارساً شجاعاً حارب وأسر، فإن وجود درويش في بيروت في العام 1982، وفي رام الله في العام 2002، ما يقول لنا إنه كان شجاعاً، حتى لو لم يحمل السلاح ويقاتل. إن من يصمد في أرض المعركة، في بيروت أو في رام الله، يملك من الشجاعة أيضاً الكثير. إنه أسير حتى لو لم يؤسر، فقد يموت في أية لحظة.
عزة أبي فراس في قوله في البيت الأخير يصوغها درويش في قصيدته في الأسطر التالية:
وزنزانتي اتسعت شارعاً شارعين. وهذا الصدى
صدى، بارحا سائحا، سوف أخرج من حائطي
كما يخرج الشبح الحر من نفسه سيدا
وأمشي إلى حلب. يا حمامة طيري
بروميتي، واحملي لابن عمّي
سلام الندى
وهل الرومية غير الرسالة (القصيدة لابن عمه)؟
(من روميات أبي فراس) مثل (رحلة المتنبي إلى مصر) قصيدة يكتب فيها درويش عن تجربة مر بها تشابهت مع تجربة شاعر عربي، وهي مثل شعر أبي فراس قصيدة وجدانية يبث فيها الشاعر أشواقه وأحزانه وآماله وآلامه، ويفصح عن ثقة بالمستقبل يتحلى بها.
1-5: محمود درويش والأعشى وطرفة:
[ ينظر دراستي: سؤال السلالة في ديوان محمود درويش:(كزهر اللوز أو أبعد) [ الأيام، رام الله، 14/2/2006 ]].
روميات البياتي وروميات درويش
١ آذار (مارس) ٢٠٠٩بقلم الدكتور عادل الأسطة
2:4:1 روميات البياتي وروميات درويش
إذا كان هناك شعراء عرب كثر، قبل استلهام درويش للمتنبي، قد استلهموا شخصية المتنبي في قصائدهم، فإن قلة قليلة من الشعراء العرب، قبل درويش، هم من استلهموا شخصية أبي فراس الحمداني. من الشعراء العرب الذين استحضروا أبا فراس واتخذوا منه قناعاً لهم، للتعبير عن حالة الغربة والمنفى، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي.
كتب البياتي قصيدة عنوانها (روميات أبي فراس) وظهرت في ديوانه (الموت في الحياة)(1968)، وكان ما بين العامين 1964 و1971 يقيم في القاهرة، وكانت جنسيته العراقية، قبل العام 1968 سحبت منه، على نحوما ورد في كتاب (أعلام الأدب العربي المعاصر: سير وسير ذاتية)(بيروت، 1996) الذي أعده روبرت.ب. كامبل، وقد كتب البياتي نفسه هذا، وإن استخدم السرد بضمير الغائب/ الهو. هل كان البياتي يشعر، وهوفي القاهرة، بعيداً عن بغداد، بما كان يشعر به أبوفراس، وهوفي بلاد الروم؟
لم يكن البياتي في القاهرة أسيراً، ولكنه لم يكن يستطيع العودة إلى العراق الذي أسقط عنه الجنسية، ولم يكن المصريون رووماً، فقد استقبله جمال عبد الناصر وأكرم وفادته، فما الذي جعل البياتي يستلهم شخصية أبي فراس إذن ليكتب روميات. والروميات قصائد كتبها أبوفراس وهوفي بلاد الروم، وإن كان يدرج تحت هذا الدال قصائد لشعراء لم يقعوا في الأسر، مثل أبي تمام في (فتح عمورية)، والمتنبي في قصائده في مديح سيف الدولة وأبرزها (الحدث الحمراء)!
في تأويله لروميات أبي تمام التي كتبها البياتي يعتمد سامح الرواشدة على ما ذهب إليه تامر فضل في دراسته (معالم جديدة في أدبنا المعاصر)التي تناول فيها(روميات البياتي) فيكتب تعرض قصيدة (روميات أبي فراس) جانباً من معاناة البياتي، إذ يفرغ فيها هماً عاناه طويلاً، لأنه وجد في تجربة أبي فراس صورة مماثلة لما يعانيه هومن غربة ونفي، دون أن يأتي النصير .. "(الرواشدة، ص80)
وعلى الرغم من اختلاف تجربة درويش عن تجربة البياتي، وعلى الرغم من الاختلاف الكلي بين (روميات أبي فراس) للبياتي، و(من روميات أبي فراس) لدرويش، إلا أن المرء يتساءل: هل كانت (روميات أبي فراس) للبياتي من قراءات درويش قبل أن يكتب نصّه؟
في (مختارات محمود درويش) التي أعدها الشاعر المصري عبد المنعم رمضان وكتب لها مقدمة، وصدرت في القاهرة في صيف وخريف 2008 عن مجلة إبداع، يكتب الشاعر المصري عن درويش وتأثره بغيره ما يلي:
(لا يجب أن ننسـي أن درويـش بدأ وظل سريع التأثر بما يقرأ، سريع الاستجابة …)(ص6)
ولم يكن درويش الذي اتهمه كثيرون بأنه يسطوعلى معاني الآخرين، لم يكن ينكر أن نصوصه هي فسيفساء من نصوص الآخرين، فقد قال هذا في المقابلات التي أجريت معه (الشعراء، ع 4 و5، ربيع وصيف 1999) ويوم تسلم جائزة الأمير كلاوس في هولندا، بل وصاغه شعراً في إحدى قصائد " لا تعتذر عما فعلت "(2003):
لكن قيل ما سأقول.
يسبقني غد ماض. أنا ملك الصدى
لا عرش لي إلا الهوامش. والطريق
هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما، أحرّك فيه ذاكرة وحسّا (ص72)
ولقد توقفت أمام هذا وأنا أدرس جداريته، ومما ذكرته مقولة عنترة: (هل غادر الشعراء من متردم؟) ومقولة الجاحظ: (المعاني مطروحة في الطريق) ومقولة الأديب الألماني (غوتة): (إن الأدباء العظام ليسوا أدباء عظاماً لأنهم أتوا بأشياء جديدة، بل هم عظام لأنهم أبرزوا الأشياء كما لوأنها تقال لأول مرة) (أرض القصيدة، ص32).
درويش والبياتي:
لا ينفي درويش، في المقابلات التي تجري معه، حين يسأل عن الشعراء الذين قرأهم، لا ينفي أنه قرأ البياتي وأعجب به، بخاصة في بداية حياة درويش الشعرية، ولكن ذائقته تغيرت، فتغير موقفه من أشعار البياتي. سأستشهد برأي درويش، اعتماداً على مقابلة واحدة فقط هي التي أجراها معه عباس بيضون، ونشرها في مجلة " مشارف " الحيفاوية (ع 3، 1995). يقول درويش:
(كنت طبعاً وأبناء جيلي معجبين في نشأتنا بغنائية نزار قباني وترقيصه لسطوح الواقع والعلاقات الإنسانية. حفظنا هذا الصوت، لكن صلتنا بالشعر الحديث تركزت على صوتين أساسيين هما السياب والبياتي. رجح صوت البياتي أولاً لأسباب سياسية. روّجت الأحزاب السياسية اليسارية يومها للبياتي. فيما كان الأكثر اهتماماً بجمالية الشعر يرجحون السياب. تأرجحنا بين هذين الصوتين لكن الفترة كانت فترة طغيان للسياسة اليسارية والثورة ونظر إلى الشعر والثفافة عموماً على أنهما في خدمة الواقع والثورة والمجتمع. فكان صوت البياتي هوالأعلى وما كان بوسعنا الخيار. كنا أمام الجحيم ولم يكن بوسعنا أن نفكر أبعد من ذلك. في مرحلة متقدمة قليلاً صار خياري سيابياً ورجح السياب عندي على البياتي. وبقي خيار عدد من الزملاء بياتياً)(ص80).
كان درويش، يومها، إذن، يخضع لسلطة الحزب، لا لسلطة الشعر، فلما تحرر من الأولى وخضع للأخيرة لم يعد معجباً بالبياتي، لكن علينا ألا ننسى أنه كان من قرائه والمتأثرين به. و(روميات أبي فراس) للبياتي أنجزت قبل 1968 – أي يوم كان خيار درويش بياتياً، ولكن، حين أنجز درويش قصيدته، في العام 1995 لم يكن خياره بياتياً، بل كان سيابياً. إذن لماذا كتب درويش قصيدته؟
عنوان القصيدة يذكر بعنوان قصيدة البياتي، لكن غنائية درويش فيها بعيدة كل البعد عن أسلوب البياتي وطريقته في الكتابة، وقريبة كل القرب من أشعار السياب. هل كان مفاجئاً أن يخص درويش السياب بقصيدة عنوانها ( أتذكر السياب) في العام 2002، ولا يخص البياتي بأية قصيدة؟ ولم يكتف درويش بهذا، بل إنه كتب مقالة نثرية عنوانها (مطر السياب) ظهرت في كتابه النثري (حيرة العائد)(2007) كان قدمها في ندوة حول الذكرى الثلاثين لرحيل السياب أقامها معهد العالم العربي في باريس. (ص121 وما بعدها). ولا أعرف إن كان درويش كتب مقالة يرثي فيها البياتي، وحين يتفحص المرء كتابه آنف الذكر المذكور فإنه سيعثر على كلمات في رثاء ممدوح عدوان ونزار قباني وأدباء آخرين، لكنه لا يطالع مقالة في البياتي. ترى هل وجد درويش أن ثمة هوة تفصله عن الرجل؟
شاعرية أبي فراس بين روميات البياتي ومن روميات درويش:
حين يقرأ قارئ شعر عربي يؤمن بما ذهب إليه الشاعر العربي القديم في قوله:
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
فأيهما سيكون اقرب إلى أبي فراس درويش أم البياتي؟
في تحليله لنماذج من أشعار أبي فراس يخلص الناقد اللبناني إيليا حاوي في كتابه (نماذج من النقد الأدبي)(بيروت 1996نن، ط3، ص670) إلى ما يلي: (كان يعبر عن معاناته بصدق مباشر، فمعانيه سيالة، قلما يعرف فيها التكثيف، وقلما يعمد فيها إلى الصور) و( تقتصر فضيلة أبي فراس في شعره على الوجدانية والصدق دون العمق، وهوينزع نزعة نفسية أكثر منها فنية )(ص676).
فهل كان البياتي على شاكلته؟ لا أظن ذلك، فيما يتعلق بالناحية الوجدانية، فالبياتي كما يذهب كثيرون من دارسيه عبر عن تجاربه من خلال أقنعة، واقترب الشاعر فيه من مهمة الفيلسوف، دون أن يكون فيلسوفاً (انظر ميشيل خليل جحا، الشعر العربي الحديث من شوقي إلى درويش، بيروت، 1999/ص376)، ويمتاز شعره، كما خلص إلى ذلك د. إحسان عباس " بالحزن العام الهادئ واتحاد الشاعر بالرموز وبالصوفي والشهيد " (السابق، ص379). وهكذا لم يكن البياتي يعبر عن أحاسيسه ومشاعره فقط، كما هوحال أبي فراس. فأين هي مكانة درويش؟
يمكن القول إنه جمع ما بين أبي فراس والبياتي في جوانب، واختلف عنهما في جوانب أخرى. لم يخل شعر درويش من جانب وجداني، بخاصة في القصائد التي عبر فيها عن تجارب ذاتية معيشة، كرحلة المتنبي إلى مصر ومن روميات أبي فراس، ولم يخل أيضاً من اتحاد مع رموز أدبية وغير أدبية اتخذها قناعاً ليعبر عن تجاربه من خلالها، كما هوحال البياتي، ولكن الفارق بينه وبين الأخير يكمن في أنه لم يكن ذا نزعة عقلية صارمة، ولم يتخل عن الغنائية، وتعد قصيدته / مطولته: " جدارية " نموذجاً واضحاً لتلك الغنائية التي لا نعثر عليها في أشعار البياتي، ونجدها واضحة في كثير من قصائد أبي فراس، بخاصة التي تركت أثراً في درويش. ألم يقل درويش في الجدارية:
" غنيت كي أزن المدى المهدور / في وجع الحمامة "(ص22).
و"خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها " (ص41)
و" كأن الأرض ضيقة على
المرضى الغنائيين أحفاد الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حلماً جميلاً لقنوا الببغاء شعر
الحب وانفتحت أمامهم الحدود " (ص47، ص48)
وكما تغنى الشاعر العربي القديم بالشعر وحث على الغناء، تغنى به أبوفراس ودرويش، وهذا ما يفتقده شعر البياتي الهادئ الحزين، ولعل تجربة درويش، في فترة من حياته، تتطابق مع تجربة أبي فراس، في فترة من حياته - الأسر من عدوأجنبي – أكثر مما تتطابق تجربة البياتي مع تجربة أبي فراس، وكما ذكرت فمصر التي أقام فيها يوم كتب قصيدته لم تكن رووما، ولم يكن فيها أسيراً وسجينا من عدوأجنبي، خلافاً لدرويش الذي سجنه العدوالصهيوني. إن خلاف أبي فراس لم يكن بالدرجة الأولى مع سيف الدولة، خلافاً للبياتي الذي سحبت منه الجنسية من وطنه العراق. كان خلاف أبي فراس مع الروم الذين أسروه، وشعر بالغربة لأنه يقيم في بلادهم أسيراً، وكان خلاف البياتي مع النظام العراقي، وكان شعوره في المنفى أنه منفي لخلافه مع نظام بلده، لا مع البلد الذي يقيم فيه – أي مصر.
هل هي قراءة تعاطفية:
في النقد الأدبي هناك قراءات تنعت بأنها قراءات متعاطفة. هل ما ذهبت إليه سابقاً يمكن أن يدرج تحت هذا؟ هل أنا متعاطف مع درويش أكثر مما أنا متعاطف مع البياتي؟ لا أخفي سراً حين أقول إنني لا أشعر بتعاطف كبير مع أشعار البياتي حين أقرأها كما أشعر وأنا أقرأ أشعار درويش، مع تقديري لأهمية البياتي شاعراً. ولا يعود السبب لأنني فلسطيني، مثل درويش، فأنا أحب من الشعراء العراقيين أشعار السياب ومظفر النواب، وربما أكرر ما قاله درويش في قصيدته: " أتذكر السياب ":
" أتذكر السياب .. إن الشعر يولد في العراق
فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي " (لا تعتذر، ص121).
بقي أن أشير إلى أنني في العام 1979 كتبت قصة قصيرة عنوانها " الحمداني يعيد النظر في لاميته " إذ استحضرت أبا فراس، لأنني كنت أقرأ ديوانه يومها بكثره. (انظر مجموعتي: فصول في توقيع الاتفاقية، 1979).
3:4:1 روميات أبي فراس للبياتي: قراءة
" روميات أبي فراس " كما كتبها البياتي عشرة تتراوح فيما بينها في عدد الأسطر، فتارة تربوأسطرها على الثلاثة عشر سطرا، وطوراً لا تزيد على السطرين، ولا يكون أنا المتكلم فيها دائماً أبوفراس / البياتي، ففي المقطع الخامس تنطق الجنية التي خاطبها في المقطع الأول وفي مقاطع أخرى، وربما احتاج المرء إلى إعادة قراءة ديوان أبي فراس لإحصاء عدد رومياته، فهل هي عشرة؟ وهل هناك قصيدة تتكلم فيها أنا أنثى. درويش أضاف حرف الجر "من " إلى عنوان قصيدته، والحرف هنا يفيد معنى بعض، فهولم يكتب روميات أبي فراس كلها، حين اتخذ منه قناعاً، وإنما كتب بعضها، وهوبذلك يختلف عن البياتي، وما يختلف فيه عن البياتي هوأنه استحضر بعض عبارات لأبي فراس، فمن يقرأها سرعان ما يستحضر بعض أبيات الشاعر القديم، وهذا ما لا نعثر عليه حين نقرأ روميات البياتي. لكن هذا لا يعني أن البياتي لم يستحضر عالم أبي فراس كلياً، فقد استحضر مفردات الأسر والأم وبحر الروم وخيل الفتح، لكن ثمة ابتعاد للبياتي عن أشعار أبي فراس، فثمة إضافات تجعلنا نشعر بالفعل أننا نقرأ روميات البياتي، لا روميات أبي فراس، إلا قليلاً. بمعنى آخر: لا التجربة كانت متطابقة كلياً، ولا بناء القصائد، ولا اللغة أيضاً. هناك شيء مشترك هوالبعد عن الوطن، وهوبعد يعود لأسباب مختلفة، كما أن مكان الإقامة في أثناء البعد مختلف.
يخاطب البياتي جنية، لا امرأة من لحم ودم، كما فعل أبوفراس، حين خاطب امرأة من لحم ودم، وكما فعل أيضاً درويش. ويطلب البياتي أن تكتب فوق الرمل. لقد عانقها وهي على شطآن بحر الروم، عانقها عارية تعوم، فهل يقصد بذلك الرومية التي عرفها أبا فراس: " وشادن من بني كسرى ". ربما.
ويستحضر البياتي سيد الآلام في المغارة، فهذا ينتظر الإشارة، لعله يأتي ويخلصه، لكن المخلص – والمخلص الذي انتظره أبوفراس هوسيف الدولة – لا يأتي، فالمقطع الثاني يشير إلى هذا:
" لم يقبل الفارس من دمشق
ولم يضيء وجه المغني البرق " (الموت في الحياة، 1968، ص78)
في المقطع الثالث أوالرومية الثالثة، يفصح أنا المتكلم عن معاناته وموت روحه في أرض يهدر في جبالها رعد عقيم، وتجوع فيها الريح ويصلب المسيح. هل كان البياتي يرى في مصر هذا أم أنه هنا يعبر عن أبي فراس حقاً، فقد عانى الأخير معاناة مرة في سجن الروم، وعبر عن هذا شعرا غلبت عليه نزعة اليأس أيضاً.
في المقطع الرابع يكتب أنا المتكلم اسم حبيبته فوق موج البحر، فتمحوه الرياح، ولم ير العراف ما رأى أنا المتكلم، ولا أيضاً رأى المغني ما رآه، فلم ير المغني أنا المتكلم يبكي، وما زال الأسير يكتب ثانية فوق رخام القبر. في المقطع الخامس تنطق الجنية، وترى أن البحر جف منذ أن أبحر بها أنا المتكلم، ومنذ خاطبها: لا تكتبي على رمال الشط ما أقول.
ويستمر أنا المتكلم يعبر عن يأسه في المقطع السادس، حين تحضر المرأة التي تركت وليدها في الأسر، فقد ماتت ولن تبعث لأن سيد الآلام الذي حضر ذكره في المقطع الأول، وأشار أنا المتكلم إلى أنه ينتظر الإشارة، طوى جناحيه على جراحه ونام.
يكرر أنا المتكلم في المقطع السابع ما قاله في المقطع الرابع، وفي المقطع الثامن يعبر عن يأس، كأن أنا المتكلم ميت يصيح في قبره. أما المقطع التاسع فهومرثيته الأخيرة، يكتبها فوق السور، لا فوق رخام القبر، ويخاطب الأميرة إن مرت في الغد أن تأخذ وريقة مما كتب وريشة من طائر الخرافة وقطرة من نور إلى صحارى وطنه المهجور
" لعل خيل الفتح ! يا أميرتي، على ضياء الصبح
تمسح عار الجرح " (ص83)
لم يفقد أنا المتكلم الأمل بعد، ويبدوفي المقطع العاشر الأخير متفائلاً: " ناعورة تبكي على الفرات
أيقظني أنينها في ليلة المعراج
رأيتني حراً على الأمواج
أمشي وكان في يدي سراج
وزهرة تطفوعلى المياه
أمام باب الله " (ص84)
وربما ذكرنا قوله " رأيتني حراً على الأمواج " بقول درويش: " سوف أخرج من حائطي / كما يخرج الشبح الحر من نفسه سيدا "، فكلا الشاعرين، البياتي ودرويش لم يفقدا الأمل، في نهاية القصيدة.
هل كانت " روميات أبي فراس " للبياتي من قراءات درويش قبل أن يكتب نصه؟ ربما، وليس هذا هوالمهم، فثمة فارق بين النصين واضح!
زمن الاستحضار:
ربما يثير المرء، وهو يدرس قصيدة (من روميات أبي فراس) أسئلة عديدة أبرزها: لماذا استحضر درويش شخصية الحمداني؟ هل استحضرها ليعارضها، كما فعل مع امرئ القيس، أم استحضرها ليعبر من خلالها عن تجربته هو، لأنه يتماثل معها، كما فعل مع المتنبي ومع أبي تمام أيضاً، وإن كان استحضارها للأخير لا يعود إلى تشابه التجربة، بل تشابه درويش، في فترة من حياته، مع بيتي شعر أبي تمام، بخاصة مع الثاني:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
ما الحب إلا للحبيب الأول
وحنينه، أبداً، لأول منزل
وإذا كانت تجربة درويش تتماثل، في فترة ما، جزئياً، مع تجربة الحمداني، فهل كان استحضاره لها في العام 1995 موفقاً؟ أم كان يجدر به أن يستحضرها في زمن آخر، فتجربة درويش والحمداني تتشابه حين كان درويش يقيم في حيفا، لا بعد أن غادرها في العام 1970، ولا يوم كتب القصيدة في العام 1995. قبل الاستطراد في إثارة الأسئلة والإجابة عنها وإضاءة ما لم يُضأ يجدر تبيان مواطن التشابه بين الشاعرين في تجربتهما.
أسر أبو فراس في فترة من حياته وأنفق سنوات من شبابه في زنازين الروم الذين حاربهم، وهناك كتب قصائد عديدة وجهها إلى سيف الدولة يخاطبه فيها أن يفتديه وأن يخلصه من الأسر، ولم يسرع سيف الدولة في تلبية الطلب، بل تباطأ، ما أثر على أبي فراس وجعله يعبر عن حزنه وآلامه وأشجانه في قصائد جميلة خاطب فيها أمه وغيرها، وأتى فيها على حياته في الزنزانة وبعده عن الأهل وشوقه إلى بلده.
وسجن محمود درويش في أثناء إقامته في حيفا، وكتب وهو في السجن قصائد عن تجربته، أبرزها قصيدته التي وجهها إلى أمه، فذاعت وانتشرت. ولم تختلف رؤى درويش وتطلعاته، وهو تحت الاحتلال، إلى الخلاص، آملاً أن يساعد العرب في الخارج عرب فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي بهذا – أي الخلاص.
ثمة تشابه إذن بين التجربتين، تجربة السجن من عدو أجنبي، والأمل بالتحرر وطلب المساعدة من أبناء جلدتهما – أي العرب، وثمة شعور بالخيبة. ولعل خطاب الأم وكتابة القصائد لها، وهما في السجن، من أبرز الأشياء المشتركة.
كما ذكرت استحضر درويش شخصية امرئ القيس ليعارضها، فقد كان درويش ابن اسرة فقيرة، خلافاً لامرئ القيس ابن الملك، وكان درويش لا يبحث عن ملك، كما فعل امرؤ القيس، وكان فهمه للشاعر ودوره مختلفاً عن فهم امرئ القيس. ثمة تعارض مواقف لاختلاف المواقع، وثمة زمنان أيضاً مختلفان.
وكما ذكرت أيضاً فقد استحضر درويش شخصية المتنبي ليعبر من خلالها عن تجربته، فقد تشابهت التجربتان في مرحلة من مراحل حياة درويش، وكان المتنبي قناعاً له. وكتب درويش قصيدته في اللحظة التي مر بها بالتجربة المشابهة لتجربة المتنبي، ولم يكن هناك هوة تفصل الزمن الكتابي عن الزمن الشعري الواقعي المعيش. وهذا ما لم يتم حين كتب درويش قصيدته (من روميات أبي فراس)، فزمنها الشعري مسترجع، وثمة فترة سبعة وعشرين عاماً ما بين الأسر / الزمن الشعري وزمن الكتابة – الزمن الكتابي. وإذا ما ذهبنا إلى أن درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) يكتب سيرته شعراً، وقد ذهب هذا المذهب نقاد عديدون، أدركنا أن كل مجموعة من القصائد التي أدرجت تحت عنوان تعود إلى فترة زمنية من حياة درويش. فالديوان يتألف من ستة عناوين رئيسة، كل عنوان يمثل مرحلة من مراحل حياة الشاعر: مرحلة الطفولة والهجرة، فمرحلة المراهقة، فمرحلة الشباب، فمرحلة النضج الشعري والعيش في العالم العربي، فمرحلة مدريد وأوسلو. وسيعود محمود درويش في كتابه (في حضرة الغياب)(2006) ليكتب نثراً، بالأسلوب نفسه الذي اتبعه في الديوان، سيرة حياته، فكل فصل من (في حضرة الغياب) استرجاع لمرحلة زمنية معينة من حياته، وقد أبرزت هذا في مقال عنوانه: سؤال الزمن.
في العام 1995 إذن، عام كتابة (من روميات أبي فراس) يستحضر درويش واقعة سجنه وهو في حيفا قبل العام 1970. ولا يكتب هذا بأسلوب مباشر، بل إنه يعبر عن تلك التجربة من خلال قناع. وإذا كانت أنا المتكلم في (رحلة المتنبي إلى مصر) هي أنا أنا المتنبي، وأنا درويش معاً، فهي كذلك في (من روميات أبي فراس)، ولكنها ليست واحدة – أي أنا متطابقة – في قصيدة (امرؤ القيس).
استلهام، شخصية أبي فراس من قبل:
ثمة دراسات عديدة أنجزت تناول اصحابها فيها، بشكل عام، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، أبرزها كتاب علي عشري زايد (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر) ( 1977 ط1، 1997 ط2 ) وكتاب خالد الكركي(الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث) (1989 ط1) وكتاب إبراهيم نمر موسى (آفاق الرؤية الشعرية). (دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر) (2005) وكتاب (التناص في الشعر العربي الحديث: السياب ودنقل ودرويش نموذجاً) (2006) لعبد الباسط مراشدة، ولم يقف أصحابها، فيما يلحظ، أمام شعراء استلهموا شخصية أبي فراس، ما يعني أنه إذا ما قورن بشاعر معاصر له، هو أبو الطيب المتنبي، بدا غير تأثير على الشعراء الذين لحقوه، وحين يعرف أن الدكتور الكركي خصص كتاباً كاملاً لدراسة حضور أبي الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر، هو كتاب (الصائح المحكي: صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث) (1999)، أدركنا أن أبا فراس لم يلفت نظر شعرائنا المعاصرين كما لفت نظرهم معاصره أبو الطيب المتنبي. هل محمود درويش، إذن، هو أول شاعر عربي في ق20 يستلهم شخصية أبي فراس؟ لا. فقد استلهمه، من قبل، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في ديوانه " الموت في الحياة "(1968)، في قصيدة عنوانها (روميات أبي فراس)، وتوقف أمامها سامح الرواشدة في كتابه شعر عبد الوهاب البياتي والتراث (1996).
تجربة الحب لدى الشاعرين:
شاعت قصيدة أبي فراس (أراك عصي الدمع) شيوعاً لافتاً في ق 20، وما ساعد على ذلك، غير إدراجها في المناهج المدرسية في بعض البلدان العربية، ومنها الأردن، حين درسناها في المدارس، ما ساعد على شيوعها قيام سيدة الغناء العربي أم كلثوم بغنائها بصوتها، ما جعل أبا فراس معروفاً للدارسين ولغير الدارسين. فإذا كان الدارسون، بخاصة دارسو الأدب العربي، درسوا أشعاره حين درسوا العصر العباسي، أو الحياة الأدبية في حلب في عصر سيف الدولة، أو الروميات، في مساق الروميات، فإن غير الدارسين ممن يستمعون إلى الغناء استمعوا إلى أراك عصي الدمع وطربوا لمعانيها، وربما حفظوا بعض أبياتها،.
طبعاً نحن نعرف أن درويش، قبل أن يكون مستمعاً إلى أم كلثوم، كان قارئاً فاحصاً ومدققاً للشعر العربي القديم. ولا نحتاج إلى دليل يخبرنا عن سماعه أم كلثوم، فقد خصص لها في كتابه (أثر الفراشة)(2008) قصيدة.
في (أراك عصي الدمع) يعبر أبو فراس عن تجربة حب مرّ بها، ويبدو أنه لم يكن موفقاً فيها، فالمحبوبة كان لها غير عشيق: (أيهم فهم كث)". ليس هذا هو المهم هنا، فالمهم هو ما يكمن في السؤال التالي: هل كان لأبي فراس تجربة حب مع امرأة رومية، حين كان أسيراً في بلاد الروم؟
في مسلسل عن أبي فراس عرضته القنوات العربية في السنوات الأخيرة، ما يشير إلى أنه كان على صلة مع امرأة رومية، وما يدعم هذا قوله:
وشادن من بني كسري شغفت به
لو كان أنصفني في الحب ما جـارا
إن زار قصّر ليلي في زيارتــه
وإن جفانـي أطـال الليل أعـمارا
كأنما الشمس به في القوس نازلة
إن لم يزرني وفي الجوزاء إن زارا
والشادن هو ولد الظبية، فهل كان أنثى أم ذكرا؟
أحب محمود درويش أيضاً عربيات ويهوديات، وقد عبّر، في غير مقابلة أجريت معه، عن علاقته بالفتيات اليهوديات، وقد أتيت على هذا، في دراسة عنوانها " بين ريتا وعيوني بندقية "، وهي دراسة مفصلة، وذكرت فيها دراسات سابقة عالجت الموضوع. وفي أشعار درويش غير قصيدة يتغزل فيها بريتا وشولميت.
ما الذي أرمي إليه مما سبق؟
في قصيدة (من روميات أبي فراس) يبوح أنا المتكلم بحبه، ويفصح عن علاقته بالفتاة التي أحبها، تماماً كما أفصح أبو فراس عن حبه لشادن من بني كسرى. يقول أنا المتكلم في قصيدة درويش:
وزنزانتي اتسعت، في الصدى، شرفة
كثوب الفتاة التي رافقتني سدى
إلى شرفات القطار، وقالت: أبي
لا يحبك. أمي تحبك. فاحذر سدوم غدا
ولا تنتظرني، صباح الخميس، أنا لا
أحب الكثافة حين تخبّئ في سجنها
حركات المعاني، وتتركني جسدا
يتذكر غاباته وحده ..
وفي المقابلات التي أجريت مع درويش ما يوضح الأسطر السابقة. في المقابلة التي أجراها معه عباس بيضون ونشرت في مجلة " مشارف : الحيفاوية، ( عدد3، تشرين الأول 1995 ) يرد ما يلي:
(أحببت مرة فتاة لأب بولندي وأم روسية. قبلتني الأم ورفضني الأب. لم يكن الرفض لمجرد كوني عربياً. ذلك الحين لم أشعر كثيراً بالعنصرية والكره الغريزي. لكن حرب 1967 غيرت الأمور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل).
ما سبق يعزز أن أوجه التشابه بين تجربة الشاعرين في فترة من حياتهما كانت متشابهة لدرجة التطابق، وقارئ القصيدة، لولا شكلها الشعري الذي ينتمي إلى عصرنا، بالإضافة إلى استخدام مفردات لم تكن موجودة زمن أبي فراس، مثل القطار، يمكن أن يوحد بين درويش وأبي فراس، وقد يذهب، إذا قرأ القصيدة دون وضع اسم درويش عليها، إلى أنها بالفعل من روميات أبي فراس.
ذكر الحمامة:
من قصائد أبي فراس المشهورة التي رددها قراؤه وتناولها دارسو الأدب العربي بالشرح والتحليل قصيدة (أقول وقد ناحت بقربي حمامة)، وهي قصيدة يقول ظاهرها إن الشاعر، وهو في الأسر، خاطب حمامة كانت تنوح. وبدت المفارقة لأبي فراس في أنه هو الأسير يضحك، فيم هي الطليقة تبكي، وليس في هذا إنصاف من الدهر، إذ ماذا كانت الحمامة ستفعل لو كانت أسيرة مثل الشاعر وتعاني مما منه يعاني: الأسر والبعد عن الأهل والغربة؟ هل يجوز لنا أن نقول إن ثمة بُعداً رمزياً في القصيدة؟ هل الحمامة الطليقة حمامة بالفعل أم أنها دال ذو مدلول رمزي، وبالتالي فإن المقصود بها – أي مدلولها – هو المرأة؟ هل يجوز أن نربط بين هذه القصيدة وقصيدة الشاعر آنفة الذكر: وشادن من بني كسرى، وبالتالي بين أبي فراس والمرأة الرومية التي أظهر مسلسله أنه كان على علاقة بها؟ هذه تساؤلات ليست أكثر. الشادن إن زار الشاعر قصير ليله، وإن لم يزره طال ليل الشاعر، مثله مثل ليل عمر بن أبي ربيعة وليل المتنبي الذي يطول لفراقه الأحبة.
سواء أكانت الحمامة حقيقية أم رمزاً، فإن ما يهمنا هنا أنها كانت ذات حضور في قصيدة درويش: (من روميات أبي فراس)، وفي قصائد أخرى. يرد في (من روميات أبي فراس):
وثمة ملح يهب من البحر،
ثمة بحر يهب من الملح. زنزانتي
اتسعت سنتمتراً لصوت الحمامة: طيري
إلى حلب، يا حمامة، طيري بروميتي
واحملي لابن عمّي سلامي!
كأننا هنا نُصغي إلى أبي فراس حقا. كأن المتكلم حقاً هو أبو فراس. ليس التشابه فقط في مكان الزنزانة ووقوعها على الساحل – كلا الزنزانتين كانتا تقعان على ساحل البحر، وثمة ما هو مشترك هنا - هناك تشابه آخر: كلا الشاعرين ينتظر الخلاص من ابن لغته وأقربائه خارج حدود الزنزانة (السجن). وكثيرة هي قصائد أبي فراس التي يخاطب فيها ابن عمه حتى يفك أسره، بل إنه يعتب عليه لتلكئه في ذلك. من ذلك قصيدة (أسيف الهدى) التي يقول فيها:
ألست وإياك من أسـرة
وبيني وبينك فـوق النســب
فـلا تعدلـنّ، فـداك ابن عـمـك،
لا بل غلامك، عـما يجـب
وأنصف فتاك، فإنصافه
من الفضل والشرف المكتسب
الأم:
يكتب درويش، وهو يستحضر أبا فراس، يكتب على لسان الأخير:
ثمة أهل يزوروننا
غدا في خميس الزيارات. ثمة ظل
لنا في الممر. وشمس لنا في سلال
الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
لماذا أرقْت على العشب قهوتنا يا
شقي ؟
ولا أدري إن كانت أم أبي فراس زارته، وهو في السجن في بلاد الروم. غير أن مما لا شك فيه أن أهل محمود درويش، وأمه منهم، قد زاروه في السجن، وحملوا له معهم في أثناءء الزيارة البرتقال (شمس في سلال الفواكه). ومعروف أن درويش كتب قصائد إلى أمه أبرزها قصيدته (أحن إلى خبز أمي..) وقصائد محمود درويش لأمه تذكرنا بقصائد أبي فراس لأمه، وهي من عيون شعره، ومن أجمل قصائد الأبناء للأمهات في الشعر العربي، فما من دارس لأبي فراس أو قارئ لقصائده إلا ترنم يقصيدته (يا أم الأسير) التي منها:
أيا أم الأسير، سقاك غيث
أيا أم الأسير، لمن تُربّى
إذا ابنك سار في بر وبحر
بكره منك ما لقي الأسير
، وقد مت، الذوائب والشعور
فمن يدعو لـه أو يســتجير
وكما يعثر المرء في ديوان أبي فراس على قصائد أخرى توجه فيها بالخطاب إلى أمه، فإن درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) يكتب قصيدة ثانية لأمه هي (تعاليم حورية) أتى فيها على علاقته بها ونصائحها له. هل كان ديوان أبي فراس، في أثناء كتابة درويش ديوانه المذكور، واحداً من الكتب التي قرأها؟ أكاد أجزم بهذا.
المصير الذي لا مفر منه:
في قصيدته يكتب درويش:
فلأكن ما تريد لي الخيل في الغزوات:
فإما أميرا
وإما أسيرا
وإما الردى
نحن هنا نصغي إلى الشاعر المحارب، إلى أبي فراس. كأنه هو الذي ينطق. ألم يقل في (أراك عصي الدمع):
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولكن إذا حُمّ القضاء على امرئ
وقال أصيحابي: الفرار أو الردى
ولكنني أمضي لما لا يعيبني
يقولون لي: بعت السلامة بالردى
وهل يتجافى عني الموت ســـاعةً
ولا فرسي مهر، ولا ربّه غمر
فليس له بر يقيه ولا بحر
فقلت: هما أمران أحلاهما مر
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
فقلت: أما والله، ما نالني خسر
إذا ما تجافى عني الأسـر والضر؟
…
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبـر
وإذا كان أبو فراس فارساً شجاعاً حارب وأسر، فإن وجود درويش في بيروت في العام 1982، وفي رام الله في العام 2002، ما يقول لنا إنه كان شجاعاً، حتى لو لم يحمل السلاح ويقاتل. إن من يصمد في أرض المعركة، في بيروت أو في رام الله، يملك من الشجاعة أيضاً الكثير. إنه أسير حتى لو لم يؤسر، فقد يموت في أية لحظة.
عزة أبي فراس في قوله في البيت الأخير يصوغها درويش في قصيدته في الأسطر التالية:
وزنزانتي اتسعت شارعاً شارعين. وهذا الصدى
صدى، بارحا سائحا، سوف أخرج من حائطي
كما يخرج الشبح الحر من نفسه سيدا
وأمشي إلى حلب. يا حمامة طيري
بروميتي، واحملي لابن عمّي
سلام الندى
وهل الرومية غير الرسالة (القصيدة لابن عمه)؟
(من روميات أبي فراس) مثل (رحلة المتنبي إلى مصر) قصيدة يكتب فيها درويش عن تجربة مر بها تشابهت مع تجربة شاعر عربي، وهي مثل شعر أبي فراس قصيدة وجدانية يبث فيها الشاعر أشواقه وأحزانه وآماله وآلامه، ويفصح عن ثقة بالمستقبل يتحلى بها.
1-5: محمود درويش والأعشى وطرفة:
[ ينظر دراستي: سؤال السلالة في ديوان محمود درويش:(كزهر اللوز أو أبعد) [ الأيام، رام الله، 14/2/2006 ]].
روميات البياتي وروميات درويش
١ آذار (مارس) ٢٠٠٩بقلم الدكتور عادل الأسطة
2:4:1 روميات البياتي وروميات درويش
إذا كان هناك شعراء عرب كثر، قبل استلهام درويش للمتنبي، قد استلهموا شخصية المتنبي في قصائدهم، فإن قلة قليلة من الشعراء العرب، قبل درويش، هم من استلهموا شخصية أبي فراس الحمداني. من الشعراء العرب الذين استحضروا أبا فراس واتخذوا منه قناعاً لهم، للتعبير عن حالة الغربة والمنفى، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي.
كتب البياتي قصيدة عنوانها (روميات أبي فراس) وظهرت في ديوانه (الموت في الحياة)(1968)، وكان ما بين العامين 1964 و1971 يقيم في القاهرة، وكانت جنسيته العراقية، قبل العام 1968 سحبت منه، على نحوما ورد في كتاب (أعلام الأدب العربي المعاصر: سير وسير ذاتية)(بيروت، 1996) الذي أعده روبرت.ب. كامبل، وقد كتب البياتي نفسه هذا، وإن استخدم السرد بضمير الغائب/ الهو. هل كان البياتي يشعر، وهوفي القاهرة، بعيداً عن بغداد، بما كان يشعر به أبوفراس، وهوفي بلاد الروم؟
لم يكن البياتي في القاهرة أسيراً، ولكنه لم يكن يستطيع العودة إلى العراق الذي أسقط عنه الجنسية، ولم يكن المصريون رووماً، فقد استقبله جمال عبد الناصر وأكرم وفادته، فما الذي جعل البياتي يستلهم شخصية أبي فراس إذن ليكتب روميات. والروميات قصائد كتبها أبوفراس وهوفي بلاد الروم، وإن كان يدرج تحت هذا الدال قصائد لشعراء لم يقعوا في الأسر، مثل أبي تمام في (فتح عمورية)، والمتنبي في قصائده في مديح سيف الدولة وأبرزها (الحدث الحمراء)!
في تأويله لروميات أبي تمام التي كتبها البياتي يعتمد سامح الرواشدة على ما ذهب إليه تامر فضل في دراسته (معالم جديدة في أدبنا المعاصر)التي تناول فيها(روميات البياتي) فيكتب تعرض قصيدة (روميات أبي فراس) جانباً من معاناة البياتي، إذ يفرغ فيها هماً عاناه طويلاً، لأنه وجد في تجربة أبي فراس صورة مماثلة لما يعانيه هومن غربة ونفي، دون أن يأتي النصير .. "(الرواشدة، ص80)
وعلى الرغم من اختلاف تجربة درويش عن تجربة البياتي، وعلى الرغم من الاختلاف الكلي بين (روميات أبي فراس) للبياتي، و(من روميات أبي فراس) لدرويش، إلا أن المرء يتساءل: هل كانت (روميات أبي فراس) للبياتي من قراءات درويش قبل أن يكتب نصّه؟
في (مختارات محمود درويش) التي أعدها الشاعر المصري عبد المنعم رمضان وكتب لها مقدمة، وصدرت في القاهرة في صيف وخريف 2008 عن مجلة إبداع، يكتب الشاعر المصري عن درويش وتأثره بغيره ما يلي:
(لا يجب أن ننسـي أن درويـش بدأ وظل سريع التأثر بما يقرأ، سريع الاستجابة …)(ص6)
ولم يكن درويش الذي اتهمه كثيرون بأنه يسطوعلى معاني الآخرين، لم يكن ينكر أن نصوصه هي فسيفساء من نصوص الآخرين، فقد قال هذا في المقابلات التي أجريت معه (الشعراء، ع 4 و5، ربيع وصيف 1999) ويوم تسلم جائزة الأمير كلاوس في هولندا، بل وصاغه شعراً في إحدى قصائد " لا تعتذر عما فعلت "(2003):
لكن قيل ما سأقول.
يسبقني غد ماض. أنا ملك الصدى
لا عرش لي إلا الهوامش. والطريق
هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما، أحرّك فيه ذاكرة وحسّا (ص72)
ولقد توقفت أمام هذا وأنا أدرس جداريته، ومما ذكرته مقولة عنترة: (هل غادر الشعراء من متردم؟) ومقولة الجاحظ: (المعاني مطروحة في الطريق) ومقولة الأديب الألماني (غوتة): (إن الأدباء العظام ليسوا أدباء عظاماً لأنهم أتوا بأشياء جديدة، بل هم عظام لأنهم أبرزوا الأشياء كما لوأنها تقال لأول مرة) (أرض القصيدة، ص32).
درويش والبياتي:
لا ينفي درويش، في المقابلات التي تجري معه، حين يسأل عن الشعراء الذين قرأهم، لا ينفي أنه قرأ البياتي وأعجب به، بخاصة في بداية حياة درويش الشعرية، ولكن ذائقته تغيرت، فتغير موقفه من أشعار البياتي. سأستشهد برأي درويش، اعتماداً على مقابلة واحدة فقط هي التي أجراها معه عباس بيضون، ونشرها في مجلة " مشارف " الحيفاوية (ع 3، 1995). يقول درويش:
(كنت طبعاً وأبناء جيلي معجبين في نشأتنا بغنائية نزار قباني وترقيصه لسطوح الواقع والعلاقات الإنسانية. حفظنا هذا الصوت، لكن صلتنا بالشعر الحديث تركزت على صوتين أساسيين هما السياب والبياتي. رجح صوت البياتي أولاً لأسباب سياسية. روّجت الأحزاب السياسية اليسارية يومها للبياتي. فيما كان الأكثر اهتماماً بجمالية الشعر يرجحون السياب. تأرجحنا بين هذين الصوتين لكن الفترة كانت فترة طغيان للسياسة اليسارية والثورة ونظر إلى الشعر والثفافة عموماً على أنهما في خدمة الواقع والثورة والمجتمع. فكان صوت البياتي هوالأعلى وما كان بوسعنا الخيار. كنا أمام الجحيم ولم يكن بوسعنا أن نفكر أبعد من ذلك. في مرحلة متقدمة قليلاً صار خياري سيابياً ورجح السياب عندي على البياتي. وبقي خيار عدد من الزملاء بياتياً)(ص80).
كان درويش، يومها، إذن، يخضع لسلطة الحزب، لا لسلطة الشعر، فلما تحرر من الأولى وخضع للأخيرة لم يعد معجباً بالبياتي، لكن علينا ألا ننسى أنه كان من قرائه والمتأثرين به. و(روميات أبي فراس) للبياتي أنجزت قبل 1968 – أي يوم كان خيار درويش بياتياً، ولكن، حين أنجز درويش قصيدته، في العام 1995 لم يكن خياره بياتياً، بل كان سيابياً. إذن لماذا كتب درويش قصيدته؟
عنوان القصيدة يذكر بعنوان قصيدة البياتي، لكن غنائية درويش فيها بعيدة كل البعد عن أسلوب البياتي وطريقته في الكتابة، وقريبة كل القرب من أشعار السياب. هل كان مفاجئاً أن يخص درويش السياب بقصيدة عنوانها ( أتذكر السياب) في العام 2002، ولا يخص البياتي بأية قصيدة؟ ولم يكتف درويش بهذا، بل إنه كتب مقالة نثرية عنوانها (مطر السياب) ظهرت في كتابه النثري (حيرة العائد)(2007) كان قدمها في ندوة حول الذكرى الثلاثين لرحيل السياب أقامها معهد العالم العربي في باريس. (ص121 وما بعدها). ولا أعرف إن كان درويش كتب مقالة يرثي فيها البياتي، وحين يتفحص المرء كتابه آنف الذكر المذكور فإنه سيعثر على كلمات في رثاء ممدوح عدوان ونزار قباني وأدباء آخرين، لكنه لا يطالع مقالة في البياتي. ترى هل وجد درويش أن ثمة هوة تفصله عن الرجل؟
شاعرية أبي فراس بين روميات البياتي ومن روميات درويش:
حين يقرأ قارئ شعر عربي يؤمن بما ذهب إليه الشاعر العربي القديم في قوله:
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
فأيهما سيكون اقرب إلى أبي فراس درويش أم البياتي؟
في تحليله لنماذج من أشعار أبي فراس يخلص الناقد اللبناني إيليا حاوي في كتابه (نماذج من النقد الأدبي)(بيروت 1996نن، ط3، ص670) إلى ما يلي: (كان يعبر عن معاناته بصدق مباشر، فمعانيه سيالة، قلما يعرف فيها التكثيف، وقلما يعمد فيها إلى الصور) و( تقتصر فضيلة أبي فراس في شعره على الوجدانية والصدق دون العمق، وهوينزع نزعة نفسية أكثر منها فنية )(ص676).
فهل كان البياتي على شاكلته؟ لا أظن ذلك، فيما يتعلق بالناحية الوجدانية، فالبياتي كما يذهب كثيرون من دارسيه عبر عن تجاربه من خلال أقنعة، واقترب الشاعر فيه من مهمة الفيلسوف، دون أن يكون فيلسوفاً (انظر ميشيل خليل جحا، الشعر العربي الحديث من شوقي إلى درويش، بيروت، 1999/ص376)، ويمتاز شعره، كما خلص إلى ذلك د. إحسان عباس " بالحزن العام الهادئ واتحاد الشاعر بالرموز وبالصوفي والشهيد " (السابق، ص379). وهكذا لم يكن البياتي يعبر عن أحاسيسه ومشاعره فقط، كما هوحال أبي فراس. فأين هي مكانة درويش؟
يمكن القول إنه جمع ما بين أبي فراس والبياتي في جوانب، واختلف عنهما في جوانب أخرى. لم يخل شعر درويش من جانب وجداني، بخاصة في القصائد التي عبر فيها عن تجارب ذاتية معيشة، كرحلة المتنبي إلى مصر ومن روميات أبي فراس، ولم يخل أيضاً من اتحاد مع رموز أدبية وغير أدبية اتخذها قناعاً ليعبر عن تجاربه من خلالها، كما هوحال البياتي، ولكن الفارق بينه وبين الأخير يكمن في أنه لم يكن ذا نزعة عقلية صارمة، ولم يتخل عن الغنائية، وتعد قصيدته / مطولته: " جدارية " نموذجاً واضحاً لتلك الغنائية التي لا نعثر عليها في أشعار البياتي، ونجدها واضحة في كثير من قصائد أبي فراس، بخاصة التي تركت أثراً في درويش. ألم يقل درويش في الجدارية:
" غنيت كي أزن المدى المهدور / في وجع الحمامة "(ص22).
و"خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها " (ص41)
و" كأن الأرض ضيقة على
المرضى الغنائيين أحفاد الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حلماً جميلاً لقنوا الببغاء شعر
الحب وانفتحت أمامهم الحدود " (ص47، ص48)
وكما تغنى الشاعر العربي القديم بالشعر وحث على الغناء، تغنى به أبوفراس ودرويش، وهذا ما يفتقده شعر البياتي الهادئ الحزين، ولعل تجربة درويش، في فترة من حياته، تتطابق مع تجربة أبي فراس، في فترة من حياته - الأسر من عدوأجنبي – أكثر مما تتطابق تجربة البياتي مع تجربة أبي فراس، وكما ذكرت فمصر التي أقام فيها يوم كتب قصيدته لم تكن رووما، ولم يكن فيها أسيراً وسجينا من عدوأجنبي، خلافاً لدرويش الذي سجنه العدوالصهيوني. إن خلاف أبي فراس لم يكن بالدرجة الأولى مع سيف الدولة، خلافاً للبياتي الذي سحبت منه الجنسية من وطنه العراق. كان خلاف أبي فراس مع الروم الذين أسروه، وشعر بالغربة لأنه يقيم في بلادهم أسيراً، وكان خلاف البياتي مع النظام العراقي، وكان شعوره في المنفى أنه منفي لخلافه مع نظام بلده، لا مع البلد الذي يقيم فيه – أي مصر.
هل هي قراءة تعاطفية:
في النقد الأدبي هناك قراءات تنعت بأنها قراءات متعاطفة. هل ما ذهبت إليه سابقاً يمكن أن يدرج تحت هذا؟ هل أنا متعاطف مع درويش أكثر مما أنا متعاطف مع البياتي؟ لا أخفي سراً حين أقول إنني لا أشعر بتعاطف كبير مع أشعار البياتي حين أقرأها كما أشعر وأنا أقرأ أشعار درويش، مع تقديري لأهمية البياتي شاعراً. ولا يعود السبب لأنني فلسطيني، مثل درويش، فأنا أحب من الشعراء العراقيين أشعار السياب ومظفر النواب، وربما أكرر ما قاله درويش في قصيدته: " أتذكر السياب ":
" أتذكر السياب .. إن الشعر يولد في العراق
فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي " (لا تعتذر، ص121).
بقي أن أشير إلى أنني في العام 1979 كتبت قصة قصيرة عنوانها " الحمداني يعيد النظر في لاميته " إذ استحضرت أبا فراس، لأنني كنت أقرأ ديوانه يومها بكثره. (انظر مجموعتي: فصول في توقيع الاتفاقية، 1979).
3:4:1 روميات أبي فراس للبياتي: قراءة
" روميات أبي فراس " كما كتبها البياتي عشرة تتراوح فيما بينها في عدد الأسطر، فتارة تربوأسطرها على الثلاثة عشر سطرا، وطوراً لا تزيد على السطرين، ولا يكون أنا المتكلم فيها دائماً أبوفراس / البياتي، ففي المقطع الخامس تنطق الجنية التي خاطبها في المقطع الأول وفي مقاطع أخرى، وربما احتاج المرء إلى إعادة قراءة ديوان أبي فراس لإحصاء عدد رومياته، فهل هي عشرة؟ وهل هناك قصيدة تتكلم فيها أنا أنثى. درويش أضاف حرف الجر "من " إلى عنوان قصيدته، والحرف هنا يفيد معنى بعض، فهولم يكتب روميات أبي فراس كلها، حين اتخذ منه قناعاً، وإنما كتب بعضها، وهوبذلك يختلف عن البياتي، وما يختلف فيه عن البياتي هوأنه استحضر بعض عبارات لأبي فراس، فمن يقرأها سرعان ما يستحضر بعض أبيات الشاعر القديم، وهذا ما لا نعثر عليه حين نقرأ روميات البياتي. لكن هذا لا يعني أن البياتي لم يستحضر عالم أبي فراس كلياً، فقد استحضر مفردات الأسر والأم وبحر الروم وخيل الفتح، لكن ثمة ابتعاد للبياتي عن أشعار أبي فراس، فثمة إضافات تجعلنا نشعر بالفعل أننا نقرأ روميات البياتي، لا روميات أبي فراس، إلا قليلاً. بمعنى آخر: لا التجربة كانت متطابقة كلياً، ولا بناء القصائد، ولا اللغة أيضاً. هناك شيء مشترك هوالبعد عن الوطن، وهوبعد يعود لأسباب مختلفة، كما أن مكان الإقامة في أثناء البعد مختلف.
يخاطب البياتي جنية، لا امرأة من لحم ودم، كما فعل أبوفراس، حين خاطب امرأة من لحم ودم، وكما فعل أيضاً درويش. ويطلب البياتي أن تكتب فوق الرمل. لقد عانقها وهي على شطآن بحر الروم، عانقها عارية تعوم، فهل يقصد بذلك الرومية التي عرفها أبا فراس: " وشادن من بني كسرى ". ربما.
ويستحضر البياتي سيد الآلام في المغارة، فهذا ينتظر الإشارة، لعله يأتي ويخلصه، لكن المخلص – والمخلص الذي انتظره أبوفراس هوسيف الدولة – لا يأتي، فالمقطع الثاني يشير إلى هذا:
" لم يقبل الفارس من دمشق
ولم يضيء وجه المغني البرق " (الموت في الحياة، 1968، ص78)
في المقطع الثالث أوالرومية الثالثة، يفصح أنا المتكلم عن معاناته وموت روحه في أرض يهدر في جبالها رعد عقيم، وتجوع فيها الريح ويصلب المسيح. هل كان البياتي يرى في مصر هذا أم أنه هنا يعبر عن أبي فراس حقاً، فقد عانى الأخير معاناة مرة في سجن الروم، وعبر عن هذا شعرا غلبت عليه نزعة اليأس أيضاً.
في المقطع الرابع يكتب أنا المتكلم اسم حبيبته فوق موج البحر، فتمحوه الرياح، ولم ير العراف ما رأى أنا المتكلم، ولا أيضاً رأى المغني ما رآه، فلم ير المغني أنا المتكلم يبكي، وما زال الأسير يكتب ثانية فوق رخام القبر. في المقطع الخامس تنطق الجنية، وترى أن البحر جف منذ أن أبحر بها أنا المتكلم، ومنذ خاطبها: لا تكتبي على رمال الشط ما أقول.
ويستمر أنا المتكلم يعبر عن يأسه في المقطع السادس، حين تحضر المرأة التي تركت وليدها في الأسر، فقد ماتت ولن تبعث لأن سيد الآلام الذي حضر ذكره في المقطع الأول، وأشار أنا المتكلم إلى أنه ينتظر الإشارة، طوى جناحيه على جراحه ونام.
يكرر أنا المتكلم في المقطع السابع ما قاله في المقطع الرابع، وفي المقطع الثامن يعبر عن يأس، كأن أنا المتكلم ميت يصيح في قبره. أما المقطع التاسع فهومرثيته الأخيرة، يكتبها فوق السور، لا فوق رخام القبر، ويخاطب الأميرة إن مرت في الغد أن تأخذ وريقة مما كتب وريشة من طائر الخرافة وقطرة من نور إلى صحارى وطنه المهجور
" لعل خيل الفتح ! يا أميرتي، على ضياء الصبح
تمسح عار الجرح " (ص83)
لم يفقد أنا المتكلم الأمل بعد، ويبدوفي المقطع العاشر الأخير متفائلاً: " ناعورة تبكي على الفرات
أيقظني أنينها في ليلة المعراج
رأيتني حراً على الأمواج
أمشي وكان في يدي سراج
وزهرة تطفوعلى المياه
أمام باب الله " (ص84)
وربما ذكرنا قوله " رأيتني حراً على الأمواج " بقول درويش: " سوف أخرج من حائطي / كما يخرج الشبح الحر من نفسه سيدا "، فكلا الشاعرين، البياتي ودرويش لم يفقدا الأمل، في نهاية القصيدة.
هل كانت " روميات أبي فراس " للبياتي من قراءات درويش قبل أن يكتب نصه؟ ربما، وليس هذا هوالمهم، فثمة فارق بين النصين واضح!