أحمد شحيمط - في التطابق وفكرة الإختلاف

التطابق بالمعنى البسيط يدل على التوافق والتماهي بين الفكر والشيء، التطابق بين الخطاب والواقع، والذي ينتج الحقيقة القابلة للتصديق من خلال المعاينة والمشاهدة في الواقع المادي، التطابق في الهوية والتاريخ المشترك والعقليات، نوع من التشابه والتماثل في الصفات والسمات العامة، أي المخيال المشترك باعتباره خزان للصور والرموز والحكايات والمعاني، الذي يوحد الأمم ويشكل لحمة في تمتين أواصر العلاقات الاجتماعية، ويرسم ملامح الكيانات البشرية على أساس الوحدة والمشترك، استعملنا المفهوم بإفراط حتى نزعنها عنه المعنى والدلالة، فصار التطابق محمودا والاختلاف مذموما، بل صارت المعرفة تقاس بالتطابق والثبات، والاختلاف من خصائصه التجزئة والانقسام، ويغدو الاختلاف مصدر ضعف في تقويض علاقات إنسانية يطبعها التعدد والكثرة والتنوع، بحيث يتولد عنه التشتت والضياع والتفرقة، أو هكذا يتبدى للبعض حقيقة التشابه والتطابق، عالم السمولاكر والحقيقة التافهة، لا ترى إلا التشابه، عندما يعجز البصر عن رؤية التنوع والتعدد، عن الاعتراف بشظايا الهويات المختلفة، ليس هناك شبيه، ولا معنى للأصل، التاريخ وثنائية الثابت والمتحول، والفكر ومعنى الاتصال والانفصال، الحقيقة ليست واحدة بل تعدد الحقائق وتنوع الهويات، في عالم يتميز بصياغة النماذج الممكنة، كلها مميزات تشير للتناقض بين التطابق والاختلاف .​
بعيدا عن السياق الفلسفي ودلالة المفاهيم من الجانب النظري، يبدو واقعنا لا يشهد بذلك خصوصا في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، أواصر الأخوة ورابطة الذم وحسن الجوار، وشائج المحبة كانت بالفعل مصطنعة، ولم تكن بالأشياء التي كانت في أذهان المفكرين والمثقفين وذوي النوايا الحسنة، أولئك الذين تأملوا في الراهن وتجاوزوا الحاضر. قدموا أفكارا في الوحدة والتنمية، واستنبات الممكن من فلسفة التقدم . قدموا تصورات في تنقية الثقافة من الشوائب السلبية، وتحرير الفكر من الدوغمائية، وتجديد العقل السياسي باليات العصر بعيدا عن التهويل والتهوين أو العداء الظاهر والكامن، وبث روح في الوعي الاجتماعي. لسنا دائما متشابهين، ولسنا على درجة واحدة من الوعي السياسي، ولا نمتلك الحس التاريخي، أما الآفاق التي يرسمها السياسي فهي ضيقة، والعلاقات الجادة غالبا ما تنتهي للخصام والقطع، وإذا كنا نعتقد في الوحدة والتماسك، من خلال الهوية والتاريخ، والشعارات التي نحملها، أو تلك التي كنا نرددها، حيث طبعت في أذهاننا من الإعلام الرسمي والتعليم، فإن الأمر هنا يتعلق بالزمني والتاريخي والمرحلة التي كانت تشد المخيال والوجدان نحو الوحدة والمصلحة المشتركة، أدركنا الفجوة العميقة بين القول والواقع، وبين الخطاب والممارسة، وأن الحقائق التي ترسخت فينا كما يقول نيتشه ما هي إلا أوهام نسينا أنها كذلك، بفعل عوامل وأساليب منها الإعلام المرئي أحادي المعرفة واليقين، التعصب للفكرة الواحدة والاعتقاد في صوابية الحكم واليقين الراسخ عن التفرد والتميز في مقابل الخوف من الآخر، والحذر من سموم معرفته، وما يحمله إلينا من ضغائن وأحقاد تصيبنا في قيمنا، وفي هويتنا الثابتة .​

نمتلك الحقيقة في ذاتها، ولا يخلو التطابق من التبجيل والتهويل لما يجعلنا متماسكين في الظاهر ومختلفين في الباطن ، الوحدة المزعومة والجماعة المتراصة لم تكن سوى أوهام مغلفة بالتودد والتعاطف والتوافق الهش، لم يتفق العالم العربي على خطوط معينة كالإسهام في الديمقراطية وحقوق الإنسان والبحث العلمي والزيادة في الرعاية الاجتماعية والإنفاق على القطاعات الحيوية، الحروب والولاء والتقليل من الآخر والتشهير الإعلامي، علامات دالة على تهافت فكرة التطابق، عالم سجين ذاته ومتمركز حول قناعاته، وفي الفشل يعتقد دائما في اختراق العدو حتى أصبحنا أشد إيمانا بنظرية المؤامرة . دسائس التفرقة، وتقويض أركان الدول، وتسييج الحدود الجغرافية، وبث سموم المعرفة في أذهان الأجيال الصاعدة نابعة من أفكارنا وهواجسنا، ولا ينبغي إلقاء اللوم على الآخر أو إسقاط الإخفاق على العوامل الخارجية، لا نعني أننا مستهدفون من الآخر البعيد، بل أحيانا من الجار القريب. لسنا متوافقين على صناعة المستقبل وتحرير الإنسان من القهر والظلم، لسنا متطابقين في الرؤى التي تعيد النظر في تاريخنا القريب والبعيد، نتمسك بالنخوة والمجد، ونلعب على وتر العواطف والمشاعر بعيدا عن النقد الذاتي والموضوعي. تشكلت لدينا صورة عن ذواتنا فيها نوع من التضخم والتقليل معا، تناسلت الكثير من الأسئلة عن الهوية والتطابق والوحدة، واستبعدنا التشتت والصدام والاختلاف، نفر للماضي ونلقي اللوم على الاستعمار دون الحديث عن القابلية للاستعمار كما قال مالك بن نبي، نذكر العالم بالقيم السامية، وبيننا نزرع الشوك، ونقلل من فاعلية المجتمع في التطور، ندعي التطابق وفي العمل نسعى للتفكيك والإبقاء على التوتر. إننا بالفعل مختلفين ومتعاطفين ، قراءتنا لدواتنا تجعلنا في أمس الحاجة للتنوير والتجديد، والأمل الذي نبتغيه سرعان ما يتلاشى وتعود الأفكار للبداية، تنقية العواطف من الأحقاد، وتصفية النفس من شوائب التعصب والتصلب غالبا ما ينتهي للتلاشي، الإجماع على القضايا بالقسر والإكراه نصيب ثقافتنا، والخروج عن الإجماع يعني العقوبات التي تنتهي بالقطيعة والنفور. العقل السياسي العربي يشتغل بأدوات كلاسيكية، من ترسبات النزعة القبلية والعصبية والعشائرية، وتغلغل الطائفية والمذهبية، وهيمنة الدوغمائية على العقليات والقرارات، اكتشفنا بعد مرور سنوات من التحصيل والمتابعة للوقائع زيف الحقائق، أوهام الوحدة المنشودة التي لم تكن في الحقيقة سوى طموحات خاصة بالمثقفين وذوي الفكر اليقظ، من قراءة المستقبل في تحقيق الآمال العريضة للجماهير الواسعة .​
اكتشفنا الانكماش على الذات، والانجرار نحو التبعية والقضايا القُطرية، والكل يتهافت من أجل مصالحه الخاصة ، الربيع العربي أيقظ الناس من سباتهم العميق، تيقن الكل أن الوعي أسير للماضي، والتفكير مرهون بالأيديولوجي، والواقع بعيد عن الخطاب، والأمل في تحقيق الوحدة من منطلق التطابق في الهوية غير وارد، وكل الخصائص والسمات المشتركة، كانت آراء بعيدة عن الواقع ، هناك كيانات متعددة، وألوان من التفكير يمكن أن تلتقي في الروحي والوجداني، لكن هناك تباعد في السياسي والفكري والاقتصادي . لسنا على توافق، والشعوب التي نعتبرها سيدة قرارها، لا تملك القدرة في التعبير والتغيير، تراكمات الماضي البعيد ونوع المناخ الفكري الذي يتنسمه الناس هنا وهناك، لسنا سوى مستوردون ومستهلكون، ضحايا بنيات تتحكم فينا، الإرادة مكبلة، بل النخب التي تستميلنا بخطاب غريب عن بيئتنا، سرعان ما تنحاز للرأي المهيمن، تنغمس في السلطة والنعيم، البداوة لا زالت مستبطنة في اللاشعور وجلية في الوعي والسلوك، العشائرية تسللت للسياسة، والزعامة والهوس بالسلطة هي السائدة، والعدالة الاجتماعية التي تعني تقسيم الخيرات بالمناصفة غير واردة في عالم يزداد فيه الأغنياء غنى والفقراء فقرا ، لا يوجد اجتماع من أجل القضاء على الفساد والاستبداد، ولا صيحة للتقارب بين الأشقاء في الخير العميم والتنمية للجميع. التطابق المزيف انكشف، والحقيقة الراسخة في أذهان الجماهير انجلت، فأصبحت الأفكار مكشوفة والنوايا واضحة، كان علينا أن نسلم بالاختلاف الذي لا يؤسس للعداوة.​
.​
يعبر الاختلاف عن الكثرة، عن تنوع الرؤى والأهداف، ينزاح نحو الاعتراف بالآخر، والتسليم بالنسبية والتعدد ، جسر للتواصل وإبداع للمعنى، طموح الإنسان في تنمية شاملة لما يتعلق بالحياة والمدارك، الربط المتين بين الأسباب والمسبباب ، لا نتوافق، وهذا لا يؤدي إلى الصراع والحرب، في الاختلاف ينبغي الاعتراف بالتلاقح، ونبذ كل أشكال التبعية وعدم التقليل من الآخر، ولا نحاسب على النوايا والأقوال والمواقف، نحاسب على الأفعال الضارة بالمصالح العليا للمجتمعات، فكرة الأخ الشقيق والجار القريب، ومصطلحات من قبيل الأخوة في الدين والثقافة، اللغة الواحدة والمصير المشترك أصبحت مستهلكة، تهديد الأنا بمثابة تهديد المجموع الكلي، لا مكان للغريب بيننا، ولا معنى لكلمة القوة والاستنزاف. الحقيقة كما نفهمها في التفكير الفلسفي المعاصر يجب تفكيكها، الثابت لم يعد كذلك إلا عندما ترسخ بفعل العقل واللغة، والخطاب المشحون بالعواطف والمشاعر القومية، تسللت المفاهيم نحو الخطاب السياسي ونحو عقول المثقفين وتركت أثرا ، انتهى الخطاب للأفول والتلاشي، وأصبحت الحقيقة واضحة للعيان ، عالم منقسم على ذاته يعني التصدع في المواقف السياسية، والتشرذم في العلاقات الاجتماعية، لا بد من الاصطفاف في تيار معين وإلا أصبحت مذموما ومنعزلا . والاختلاف في الرأي كما قيل لا يفسد للود قضية .​
إننا لسنا متشابهين كما كنا نعتقد، وما تعلمناه مجرد أفكار للاستهلاك ، صراعات وشتائم ، تخطيط وتأليب الآخر، حروب كلامية ومتاريس على الحدود، علاقات مزيفة، استعدادات عسكرية، صفقات السلاح، الدفاع المشترك خرافة، في عالم الاختلاف الثقافي التقت الشعوب والحضارات على التبادل للمنافع، والأشياء المادية، وما يتعلق بإسهام الثقافات من الإنتاج الفكري والعلمي والأدبي . من الغرب تبلورت فلسفة الفرد، وجاءت القيم الجماعية للرفع من القيود وتخليص الناس من الاستعباد والاستبداد، نجح الغرب وأخفق كذلك، العولمة قدمت صورة وردية للتلاقي والتبادل، التقليص من النزاعات والصراعات العالمية، من العالم العربي لا زال الأخ يكيل العداء لأخيه، ويكيل المديح للآخر ، يحاربك القريب، ويتقرب منك البعيد في سياق الأعراف الدبلوماسية، ويسعى الآخر لإقامة علاقات مصلحة ومنفعة، يترسخ الحوار ويطفو التواصل، وفي حالة الوصول للانغلاق يكون هناك تنازلات، وتنتهي العلاقة نحو الاعتراف، وقبول الآخر على أساس الاختلاف الديني والثقافي، كما يعزز الاختلاف ثقافة التواصل والبحث عن المشترك المنسي بين الإنسانية، مزايا الاختلاف الاطلاع على الآخر، والاستنارة من تجارب الأمم في العلم والمعرفة والبناء السياسي. ترميم الذات السقيمة بما تحتاجه من مواصفات في مناهضة الغلو الفكري، ومحاربة الفكر الأحادي، ونقل المعارف الخاصة بكل أمة نحو الآخر وإثراء التنوع العالمي . فلا يتأسس الاختلاف إلا على النقد الجدري لمعالم الثقافة الهدامة والمضادة للحقيقة والمعرفة، الاختلاف يبدأ أولا من مراجعة الذات وتقويمها، إصلاح الممكن في السياسة والثقافة، وتهذيب الإنسان بالتربية، نقل المعرفة الصحيحة للأجيال عن الخصائص المشتركة بيننا كأمة واحدة لا يعني أننا متطابقون ومتشابهون، بل نحن مختلفون في كثير من الأشياء والحقائق، التاريخ المحلي والتقاليد والعادات، والتفكير في العالم والمعيش، وعندما تصنع العداوة والأحقاد ونحن نؤمن بالتطابق في الهوية والتاريخ المشترك، فنحن نحتاج للنقد الذاتي .​

تأسست الوحدة الأوروبية على التناقض بين شعوبها في اللغات والتاريخ، والجانب الاقتصادي والإنساني كان العامل الحاسم في بناء الوحدة المتماسكة، ليست العداوة ثابتة، والتوافق في المصالح أرسى العلاقات بناء على معطيات جديدة، منظمة الآسيان والاختلاف الديني والثقافي بين البلدان دليل آخر على قوة الاختلاف، وفي الجوانب العلمية والفكرية ينتج العلماء والمفكرون النظريات والآراء بسبب الاختلاف . وما يثير فينا حسرة وألما أن العالم العربي موحد في اللغة والدين والتاريخ المشترك، ولا ينعم بالرخاء والتنمية والاستقرار السياسي، هذا يعني أن التطابق يفتقد إلى روح التجديد والتفكيك معا، حتى تقويض ترسبات الأفكار القابعة وراء الخطاب، وتحطيم العوائق الصادة في سبيل تحرير الأنا من التنميط والتعصب .​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى