جهاد فاضل - علاقة طه حسين بتلميذته سهير القلماوي..الأوراق الخاصة لعميد الأدب العربي

في الوثائق السرية لطه حسين الصادرة مؤخراً عن دار الشروق في القاهرة بتحقيق الدكتور عبدالحميد ابراهيم، يبدو عميد الأدب العربي شاكياً حيناً، ومشكوّاً إليه حيناً آخر، هو يشكو مما حل به أو آل إليه. كما يشكو إليه الآخرون أمورهم ومظالمهم.


يأتيه أديب من العراق يسأله: لم نعد يا سيدي نقرأ لكم شيئاً في الجمهورية منذ فترة، فيقول له طه حسين في هدوء: منذ فترة استغنوا عن خدماتي يا سيدي. علمت ذلك من خطاب وصلني بالبريد، جاء فيه أن الجريدة تستغني عن خدمات عدد من المحررين، منهم طه حسين.
ويأتيه يوماً صهره محمد حسن الزيادة فيحدثه عن الانفصال بين مصر وسوريا، ويجيبه طه حسين: لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا في تلهفنا أن أساس النهضة في كل بلد، وأساس التضامن والتقارب هو العلم..
ويأتيه يوماً ابنه مؤنس يشكو من الدسائس والمؤامرات التي بدأت تدخل رحاب الجامعة، وطه يواسيه ويخبره بأن الخير هو الأصل، وإنما يفزعنا الشّر لأنه نشاز. وينصرف مؤنس ويخاطب طه حسين نفسه: جميل أن يرث الولد عن أبيه مودة الصديق، ولكن من القبيح أن يرث الأولاد بغضاء من أرادوا بآبائهم الشّر.
وفي الوثائق السرية رسالة موجهة الى طه حسين من إحسان عبدالقدوس وقد كتبها سنة 1966، زمن عبدالناصر، وهي قطعة أدبية حية تعكس إحساس المثقفين المصريين في تلك الفترة التي سبقت نكسة 1967، وتدل على أن النكسة لم تكن بسبب أخطاء عسكرية بقدر ما كانت تخفي وراءها هزيمة حضارية.
يبدأ إحسان عبدالقدوس رسالته بالقول: قرأت في روز اليوسف كلمة عتاب وجهتها لي لأني لا أرسل لك كتبي. وهو عتاب شرّفني وأفرحني.
والواقع أنه لم تصدر لي رواية جديدة منذ أكثر من عامين. وروايتي الأخيرة التي تحمل اسم أنف وثلاث عيون رفضت الدولة التصريح بنشرها في كتاب إلا بعد أن أحذف منها وأعدّل فيها. ورفضت أنا الحذف والتعديل.
وبالتالي لم تُنشر الرواية.. ولكن ليست هذه هي المشكلة. مشكلتي الحقيقية إنني منذ عامين فقدت ثقتي في نفسي إلى حد أنني لم أعد مقتنعاً بأن لي إنتاجاً أدبياً يستحق أن يقرأه أستاذي الكبير طه حسين. ووجدت نفسي صريع أزمة نفسية قاسية أبعدتني عن كل الناس، وكل مراكز الحركة، وكل من أحبهم.. واكتشفت في نفسي أني إنسان ضعيف غاية الضعف.
لماذا؟ ماذا حدث لإحسان عبدالقدوس؟
يفسّر إحسان لطه حسين القضية على الصورة التالية:
لقد وجهت ضدي حملة ظالمة وأنا أنشر أنف وثلاث عيون مسلسلة في روز اليوسف. لم تكن الحملة أدبية، ولم يقم بها أدباء، ولا حتى أنصاف أدباء، إنما قام بها بعض كتاب الصحف المشوهين في وقت كانت حالة الصحافة تبيح فيه لمثل هذه الأقلام أن تكتب ما تشاء.
وكانت الحملة - كما هي العادة - تقوم على اتهامي بالإثارة الجنسية. ثم قدم أحد أعضاء مجلس الأمة سؤالاً عن الرواية الى الوزير المختص. ولم يكن حضرة النائب أديباً، وهو اعترف بأنه لم يقرأ الرواية أصلا، ولكن قُدّمت له بعض فقرات منها.
ويضيف إحسان عبدالقدوس في رسالته: في هذا الوقت ذهبت الى الأستاذ توفيق الحكيم وهو مجتمع بأعضاء لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب وعرضت عليه الموضوع كله. قلت له إن القضية قضية أدبية، وإن لجنة القصة هي صاحبة الحق في أن تبدي رأيها في هذا الاتجاه الأدبي، فإذا وجدت أنه اتجاه ليس من الأدب في شيء، أو أن نشره يعارض المصلحة العامة، توقفت عن السير فيه، رغم إيماني به.. لأن الرأي هنا سيكون رأي لجنة من المختصين. ثم إني لا أكتب في هذا الاتجاه وحسب، ولكن معظم رواياتي بعيدة كل البعد عن هذا الاتجاه. ورغم هذا فلو كان هذا الاتجاه صالحاً للنشر، فإن من حقي أن أسير فيه.
ويقول إحسان إنه تكلم كثيراً أمام اللجنة ورئيسها توفيق الحكيم، فأيدوا جميعاً اتجاهي، بل وهنأوني عليه في حماس كبير. فطلبت منهم أن يسجلوا رأيهم هذا في محضر الجلسة، لا للنشر في الصحف، ولكن فقط لألجأ إليه في حالة تقديمي للمحاكمة إذا حدث وقُدّمت!.
هنا تراجع توفيق الحكيم قائلاً إنه لا يستطيع أن يسجل هذا الرأي الأدبي المحض إلا بعد استشارة يوسف السباعي!.
ويقول إحسان عبدالقدوس إن بعض الناس قدّم بلاغاً ضده الى النيابة للتحقيق في الرواية التي كتبها، وإن النيابة حققت معه فعلاً. ثم أحيل التحقيق الى نيابة الآداب وهنا لم أعد احتمل. لم احتمل أن يحاسب أديب في عصرنا هذا أمام نيابة الآداب كالعاهرات وكالقوادين. واتصلت بيوسف السباعي وقلت له إني لو ذهبت الى نيابة الآداب، فسيذهب بعدي كل الأدباء. واتصل يوسف برئاسة الجمهورية لتي أمرت في الحال بوقف القضية الى نيابة الآداب، ثم حفظتها النيابة العامة.
كل هذا دون أن تناقش القضية مناقشة موضوعية من أساسها. إني فقط اعتذر لك عن عدم إرسال كتبي إليك. وأشكرك لأنك أتحت لي فرصة للتفريج عن نفسي. وأشكرك مرة ثانية لأني بالأمس فقط قرأت - ربما للمرة العاشرة - أحلام شهرزاد، وربما كانت قراءتي لها هي التي دفعتني الى الإطالة عليك.
الإشارة في خاتمة هذه الرسالة الى رواية أحلام شهرزاد لفتة ذكية من إحسان عبدالقدوس. فشهرزاد في هذه الرواية هي رمز للحرية التي تناضل ضد التعسف والاستبداد. فلا تقدم ولا استقلال، بل ولا اقتصاد، إلا اذا كفلت القوانين لشهرزاد لكي تقول كلمتها، وتهدي الأجيال القادمة كما حدث من قبل جيل شهرزاد.
وهناك أمر آخر في رسالة إحسان عبدالقدوس هو أنه يشكو إليه لا موقف النيابة أو الحكومة أو الدولة منه، بل يشكو إليه أيضاً صديقه، أو عدوه، على الأصح، توفيق الحكيم.. ذلك أنه كان بين طه حسين وتوفيق الحكيم جفوة عميقة لها أسباب مختلفة أدت في بعض الفقرات الى قطيعة كاملة أو شبه كاملة بينهما.
والواقع أن الحكيم كان ضعيفاً في هذه المسألة ضعفاً شديداً. فهو يريد أن يستشير يوسف السباعي قبل أن يسجل في محضر الجلسة رأيه، ورأي اللجنة، في موضوع رواية إحسان عبدالقدوس. لقد كان يخاف الحاكم خوفاً شديداً رغم أن هذا الحاكم وهو عبدالناصر ذكر مراراً أنه قرأ عودة الروح لتوفيق الحكيم وتأثر بها تأثراً شديداً في صباه.
ولكن هذا الخائف يستعيد شجاعته بعد وفاة عبدالناصر فيحمل عليه في مقالاته ثم في كتاب له عنوانه عودة الوعي التي نشرها في الصحافة المصرية حملة شديدة، معتبراً أن مصر كانت في عهد عبدالناصر في غيبوبة، وأنها استعادت وعيها بعد وفاته!.
طه حسين وإن رحّب بثورة يوليو في البداية، إلا أن موقفه اختلف بعد ذلك، وبخاصة في أواخر أيامه. فقد بدأ متهدّماً متألماً، وقد اختفت ابتسامته التي كانت تملأ وجهه حتى في أحلك أوقاته وهو يواجه الجماهير من أجل معتقداته.
ولم يكن الحال كذلك مع طه حسين وحده، بل امتد ليشمل معظم المثقفين: عباس محمود العقاد وتقول بعض الصحف عنه إنه رجعي وضد الاشتركية. ويتحاشاه كثير من الناس، وينعزل في بيته. ومن قبله يتعرض عبدالرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة سنة 1954 لمجموعة من البلطجية المأجورين يقتحمون عليه مكتبه ويوسعونه ضرباً، وهم يهتفون بسقوط الديمقراطية والمثقفين.
وقد حاول طه حسين بذكائه الاجتماعي أن يحتوي السلطة، فأخذ في بعض الأحيان يكتب مقالات في المديح، وفي بعض الأحيان يخاطب عبدالناصر بكلمة سيّدي.. وفي كل الأحوال يحاول أن يضمن كلامه إشارات موحية من نوع ما كان يستخدمه في المعذبون في الأرض.
ولكن هذا الأسلوب المناور الذي يجيده طه حسين لم يعد كافياً، ولم يعد أحد يصغي لصوت المثقفين، أو يهتم بالإيحاء والرمز، وتحولت لغتهم الى همهمة تحتوي على حروف دون معنى.
وتكشف الوثائق السرية أن طه حسين الواقع هو غير طه حسين الأيام، كتابه المشهور الذي روى فيه ما يشبه سيرته الذاتية.
تقدم الأيام طه حسين شيئاً مختلفاً عما كانه في واقع أمره: فهو صانع نفسه في كل شيء، وهو محور الأحداث ولا اعتراف بفضل لأب أو أخ أو أستاذ. بل يذهب الى أبعد من ذلك، فيتصيد الأخطاء لمن هم حوله، ويحاول أن يرصدها ويتهكم بها.
و الأيام تقدمه لنا منبت الصلة عن أحداث عصره السياسية والاجتماعية، وهي لا تمسّ هذه الأحداث إلا إذا اتصلت، من قريب أو بعيد، بمغامرات الصبي، وكأن هذا الصبي هو شيء فوق الأحداث، إن لم يكن هو صانع هذه الأحداث.
وكل هذا له ما يبرره في نفسية طه حسين وليس من الواقع الفعلي. فهو في الأيام يصور بطلاً ملحمياً يستقطب الأحداث، ويخترع المغامرات، وله من القدرات ما يصل الى حد المعجزات، والتي تحوله من إنسان عادي الى بطل خارق.
إن طه حسين في واقع أمره لم يكن كذلك. فهو ابن أسرته من ناحية وابن بيئته من ناحية ثانية.
فوالده هو الذي دفعه الى التعليم، وهو الذي يسلمه الى المفتش لكي يجوده القرآن، وهو الذي دفعه الى الأزهر ومعه تابعه الأسود ينفق عليهما من ماله.
وأخوه الأكبر الذي كان ذهب من قبله الى القاهرة قام مقام الأب، فرعى شؤون الصغير في البيت وخارجه، مع زملائه وأساتذته. وكان يسعى في حاجته، وهو المستطيع دائماً بغيره، كما يقول.
ولولا المناخ الثقافي الذي اجتاح مصرفي أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذي هذب كل شيء في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، لولا ذلك لما أمكن لمواهب طه حسين أن تتفتق!.
لا يمتنع أن يجد المرء أن أكثرهم عداوة لمبادىء الصرف والنحو هم أساتذة كليات الآداب، وأحياناً عمداؤها. ولم يُخطىء من قال إن اللغة العربية في هذه الكليات كثيراً ما تكون مضطهدة، أو غريبة، وأن الكثير من المحاضرات فيها يلقى أحياناً باللهجة العامية، أو بلغة وسطى بين العامية والفصحى.
ويقدّم كتاب الوثائق السرية طه حسين دليلاً على أن عداوة أساتذة كليات الآداب وعمداؤها، ومعهم رؤساء أقسام اللغة العربية فيها، عداوة قديمة ترقى الى ما لا يقل عن نصف قرن من اليوم، لا عداوة مستحدثة.
كما يقدم هذا الكتاب دليلاً على أمر آخر لا يقل فداحة عن الأمر الأول، هو أن العميد ولو كان اسمه طه حسين، كثيراً ما يغض الطرف عن أستاذ أو أستاذة في هذه الكلية، يُخطىء أو تُخطىء في مبادىء الصرف والنحو إذا كان يستلطف هذا الأستاذ، أو يستلطف، بصورة خاصة هذه الأستاذة.. فحتى طه حسين، المعروف برصانته وجدّيته، لا يمتنع أن يستلطف تلميذة عنده، أو معيدة، أو أستاذة، فيقول لها في احدى رسائله: والله يشهد أني لأذكرك كل يوم غير مرة. وما أظن أنك تذكرينني كما أذكرك. وهذا طبيعي فإن لكِ من حياتك الجادة الخصبة في باريس ما يشغلك حتى عني!.
ويبدو على ضوء هذا الكتاب أن تلاميذ طه حسين لم يكونوا امتداداً للعمق التراثي عنده، وإنما كانوا امتداداً للجانب الآخر الذي يتمثل في الذكاء الاجتماعي!.
الدكتورة سهير القلماوي زادها من التراث قليل. وتكشف رسائلها الى طه حسين التي نشرها المصوّر في 1999/7/29) عن أخطاء إملائية ولغوية، وعن أسلوب يخلو من العناية. تقول في إحدى رسائلها إليه: أرجو أن تبلغ كريمتيك أطيب تمنياتي، وهي تقصد جيجيت و كلود. وتقول في رسالة أخرى: وسلامي الى ابنيك، وهي تقصد جيجيت و كلود!.
إنها تقترب من اللهجة العامية، وتكتب بأسلوب يخلو من نصاعة الفصحى. وطه حسين لا يوجهها الى أخطائها، بينما يوصيها بالعناية بالفرنسية، وتكتب إليه في احدى رسائلها أنها عند حسن ظنه، وأنها تتقدم في الفرنسية تقدماً يُرضي أستاذها!.
وقد فتح هذا الباب ظاهرة سرت في أوساطنا الأدبية والاجتماعية، ولا تزال. تتمثل هذه الظاهرة في عدم الاهتمام باللغة العربية، وكأن الخروج عليها وعلى قواعدها يُعدّ نوعاً من التطرف، بينما لو أخطأ انجليزي أو فرنسي في مجرد نطق كلمة انجليزية أو فرنسية، فإن الدنيا تقوم ولا تقعد!.
وقد استعاضت سهير القلماوي عن كل ذلك بالذكاء الاجتماعي، واستثمار الظروف الطارئة التي تحيط بها. فهي أول فتاة متحررة تقتحم قسم اللغة العربية، وهي أثيرة عند طه حسين، وتتمتع بحضور أنثوي جذّاب، وبصوت فيه حرارة وبنبرات مسيطرة.
وتعكس رسائل سهير القلماوي في الكتاب رغبة مبكرة في اقتحام السياسة وفي التقرب الى الشخصيات العامة، ما أتاح لها أن تتقلد مناصب قيادية كشفت عن ذكائها الاجتماعي وقدراتها الإدارية. فهي تقرّب مجموعة من تلاميذها ومريديها. وهي في الوقت نفسه تبعد المجموعة التي لا تستخف دمها. وهي في كل ذلك تستند الى السلطة وتستمد قوتها من اليد الكبيرة!.
وقد احتفظ طه حسين في أوراقه برسائل ثلاث شخصيات نسائية هي: مي زيادة وأمينة السعيد وسهير القلماوي. وسهير القلماوي هي الوحيدة التي احتفظ طه حسين برسالة منه إليها، لعله كتبها ثم رأى أن يحتفظ بها لنفسه، فهو نوع من الرجال الذين يخفون مشاعرهم حتى عن أقرب الناس إليهم.
وطه حسين عادة متحفظ في عواطفه لا يتجاوز فيها المقدار الرسمي. ولكنه مع سهير يخرج عن عادته. فهو يبدأها بالمراسلة، وهو يحثها على استمرار المراسلة، وهو يودّعها بنفسه قبل سفرها الى البعثة.
ورسالة طه حسين الى سهير قطعة أدبية، تحمل خصائص طه حسين الأسلوبية في التكرار، وحسن التقسيم، والإيقاع الصوتي.
وهي ربما للمرة الأولى، تنقل طه حسين من موقف المتأمل للمرأة، الذي يرصدها كذكرى، أو يرقبها كرمز، الى موقف المشارك الذي يصبح طرفاً في المعادلة.
فلرسالة ليست حديثاً عن المرأة أو معها، بقدر ما هي توصيف لمشاعر طه حسين الخاصة:
والله يشهد أني لأذكرك كل يوم غير مرة. وما أظن أنك تذكرينني كما أذكرك. وهذا طبيعي. فإن لك من حياتك الجادة الخصبة في باريس، ما يشغلك حتى عني.
إنها عبارات تفصح عن عاطفة تجتاح العميد، لعلها الحب، وما العجب في ذلك؟ فالعمداء في كليات الآداب، سواء أخطأوا في الصرف والنحو أو لم تعرف هذه الأخطاء سبيلها إليهم، هم بشر كسائر البشر، يستخفهم الطرب كما يستخفهم الحب، حتى ولو كان المحبوب أو المحبوبة طالباً أو طالبة عندهم. فإذا ابتعد المحبوب لسنوات طالباً العلم في باريس، أو في سواها، كان من الطبيعي أن يكون ضرام الحب أشد على القلب وأقسى!.
وطه في كثير من رسائله إلى سهير ينصح ويوجّه. وفي حالات كثيرة يقسو. ولكن الأمر هنا يختلف. فهو في تلك الرسالة يفضفض عن نفسه دون تكلف أو تحفظ. ويتحدث عما يسميه عذابات نفسه مع السأم وضيق النفس والضجر بالحياة، ويعتذر حيث لا ضرورة لاعتذار، ولكنه الإحساس المرهف بمشاعر الطرف الآخر:
والحرص على ألاّ أكتب إليكّ، فتجدين في ما تقرئين لوناً قاتماً ونغمة حزينة. والله يشهد مرة أخرى ما أريد ولا أطيق أن أقسو عليكِ، وإنما هي اللهجة التي تستطيع أن تصدر عن نفسي في هذه الأيام والتي أتحدث بها الى أقرب الناس إليّ، وآثرهم عندي، والذين لا أتكلف معهم ولا أتصنع.
ولعل طه قد أحسّ في قرارة نفسه، بأنه تجاوز موقفه المتحفظ، وبأن الإشارات قد أفلتت منه، وإذاً أنا مضطر الى أن أذكرك بأني لا أزال موجوداً.. ومن هنا رأى أن يحتفظ بهذه الرسالة بين أوراقه حتى لا تفصح عما لا يحبّ أن يفصح عنه.
ولم تكن رسائل سهير القلماوي في مستوى رسائل أستاذها المعجب جداً بها، إن لم يكن أكثر من ذلك.. فهي فيها كثيرة الاعتذار، كثيرة الحذف والتغيير، تكتبها على عجل، دون أن تقف عند الخاطرة فتقلبها وتنقيها، وتنتقي لها المستوى الجمالي الذي كان طه حسين يحرص عليه في رسائله، ويحرص عليها أصدقاؤه المقربون في رسائلهم، فنراها تكتفي بمجرد نقل المعلومة، وتترك نفسها مع تعبيرات أقرب الى العامية، ومن خلال جمل مبتسرة ومتقطعة، ولا تخلو من الأخطاء النحوية والإملائية.
ولا شك أن طه كان يغضّ الطرف عن هذه الأخطاء، ويتساهل مع لغة سهير شبه العامية تساهلاً بيّناً، فما كان يعنيه، في واقع الأمر هو لغة القلوب والمشاعر بينه وبينها. وفي سبيل هذه اللغة الأخيرة، تهون كل لغة أخرى، بما فيها اللغة العربية التي كان طه حسين عميداً لأدبها.
أعلى