محمد فيض خالد - ذكريات مدرسية.. قصة قصيرة

لم اتعلّق بشيءٍ في حَيَاتي كتَعلُقي باِلمدرسةِ ، أحببتها ومَنيّت النّفسَ بِها قَبلَ أن اعرِفَ ما الدّرَس وما الطَلب ، كنت في صِغري أُفضِل الجُلُوسَ في مَدخَلِ قريتنا ؛ لأرى أبناءَ البلد من طُلابِها وهُم في طريقهم إليها ، لا أعرِفُ مِن دُنيا الطَّلَب وحياةَ المدرسة إلا تِلك الدقائقَ ، اعتِبُ فيِ مَراتٍ كَثيرةٍ على كُِّل مُتَكَاسِلٍ ، ساقه والده عُنوةً ، أوأجبَرته عصا أمه ونعلها لأن يهرول مُكرهًا ، اقولُ فِي نَفسي : ما لهؤلاءِ القوم وكأنّهم يُساقونَ إلى الموتِ وهم ينظرون ..؟!
قبلَ أن التحِق بالصَّفِ الأول الابتدائي ، طَلَب َ مني صديقٌ مُقرّب ، أن نَذهبَ سويًا في زِيارةٍ للمدرسةِ ، راودتني الفكِرة ووافقت هوىً في نفسي ، واعجبني أكثر جُرأة صاحبي ، أن اهتدى لهذا الرأي ، قُلتُ في نفسي : لِمَ لا ، وما المَانِعَ يا صاح..؟!
استَيقظتُ في الصَّباحِ البَاكِر كعادتي ، ففي مِثلِ هذا الموعد مِن كُلِّ شُرُوقٍ، أتناول طعامي واقصد طريقي للِحقلِ ، اركب حِماري وأجُرّ بقرتي ولا أعودُ إلا قُبَيلَ الظهيرة بدقائق ، ولكن في ذَاكَ الصَّباح تعللّتُ لأُمي وتظاهرت بالتَّعبِ ، فاعفتني من مَهمتي ، وتلكَ كانت أُمنيتي التي تحققت ، استبشرتُ خيرا فُكّل الأمور مؤاتية ولا مَانِعَ من الذَّهابِ وخوض هذه المغامرة .
بعدَ لحظاتٍ مرَّ صاحبي ، اختبأتُ خلفَ البَابِ على عَجَلٍ اصطحبته وسلكنا طريقنا ، فالمدرسة موجودة بقريةٍ تبُعد عن قريتنا مسافة بعيدة ، ولابُدّ أن نستعدَ ونتأهب للمَسيرِ ، وبالفعلِ سَلكَنا الجِسرَ التُّرابي المَار بَينَ البلدين ، ولكنّ السَّير عليهِ غير محببٍ للنّفسِ ، أكوام التراب الناعم ، وبقايا أشواك العاقول التي تُدمي الأقدام ، ناهيك عن حشرةٍ سوداء تفيضُ بها جنباته ، اَطلقَ عليها أبناء الريف ( خراب البيوت ) اعتقدنا لزمن ٍقريب ، أن من تلمسه ولو سهوا يخرب بيت أبيهِ ، ويحلّ بأهلِه النَّحس وسوء المصير.
كان الجو لا يزال هادئا ، فالطبيعة من حولنا لا تزال تَغِبُّ في ثباتها غبّا ، لم تفق الحقولِ الخضراء من سَكرةِ اللّيلِ، ولم تلق عنها رداء المساءِ الخامل .
ها هي الشمس أقبلت تُلقي تحية الصَّباح في رِقةٍ ، يشقُ جنودها العباب في تخفزٍ، وقد استسلمت لها الزُّروعَ التي ذاعبت أغصانها أكاليل النَّدى ، تراها العيون لامعة براقة تحتَ شعاع الشمس كحَباتِ الفِضة، والطيورُ على اختلافها تَحومُ في جَوِ السّماءِ الصافي ، في نشاطٍ ومَرحٍ ساعية لرِزقها المقسوم ، هنا وهناك تتصايح فتُلقي في أذانِ الوجود نَشيدَ الصَّباح ، تقول في ثقةٍ إن الله وحده مُقَسِم الأرزاق .
تلاحقت أسراب الغِربان وأبي فصاد ، وتناثرت جماعات اليمام ، وطافت عتاة الكواسر من الصقورِ والعِقابِ بريشها الزاهي وصراخها المتواصل َيرُجّ الفضاء ، وتراقصت عوائل أبو قِردان بلونها الأبيض ، معتلية أشجارَ السّنط والجميز العتيقة المحيطة بالجسرِ والتي احتضنت شاطىء التّرعة مُنذ عقودٍ طِوال ، يتردد صداها بين طيّاتِ الفَرَاغِ الممتد من حولنا .
حتى مياه الترعة تَسيرُ وكأنَّها هامدة ، لاتزال في نومها لم تستيقظ بعد مِن غفوة الظلام وأحلام الكَرى ، تحسبها جامدة وهي تَمرُّ مر ّالسّحاب ، بما يطفو فوق وجهها الأزرق من أكدارٍ وبقايا .
امتلأ صدري بالهواءِ المُنِعش ، اشمه بقوةٍ اُعبئ صدري وكأني أتَلمَّسه فاستشعرَ نقائه لأولِ وهلةٍ ، فلأول مرة اشعر بالجدية وأني ما خَرَجت إلا لأمرٍ جلل، وأن في حياتي مايستحق أن يُسعى إليه .
لم ينقطع صديقي عن حَديثهِ لحظة ، في الحقيقةِ لم اتنّبه لكَلِمٍة واحدة من كلَامهِ ، فقد شغلتني عوالمَ أخرى عن حديثهِ الفاتر ، وثرثرته التي لا تُغني عني شيئا .
لحظات وأطَلّت علينا أسوار المدرسة ، مبنى أصفر باهت قديم ، يُحِيطه سور يُوشِكُ أن يتداعى من فعلِ الرُّطوبة التي أكلت جوانبه ، يفصلهُ عن الطّريقِ بابٌ خشبي مُتهالِك تتأرجح ألواحه ، وفِي خَارجهِ فناءٌ ضيق يلف المبنى من واجهته الأمامية، وفِي جَانبهِ حوض إسمنتي كبير تتدلى منه ( حنفية ) عرَفتُ فيما بعد أنهّا مصدر المدرسة الوحيد من الماء .
مررّت يدي على ألواحِ الباب في نَشوةٍ بالغةٍ، أرمي ببصري للداخل ِ، سرت في جسدي قشعريرة غريبة لم اشعر بها من قبل ، وأنا الذي تَعوّدَ صبيا حياة حقول الذُّرة و مخاوفَ الظلام ، فللمكانِ هيبته وجلاله ، وإن أُغِرقَ في سكونهِ .
لم يعبأ رفيقي ولَم يُداخِله ما داخلني ، فقد وجَدَ تلهيته، عَثرَ مَصادفة على ما يشغله عن هدفنا السامي وسبب مجيئنا .
شَرَعَ صاحبنا في رمي شجرة ( النبق ) الكبيرة المُلاصقة للسُّورِ بالحصى والحجارة في بَهجةٍ لا تُوصَف ، ملأ جيبه وكبَسَ فمه بالثَّمرِ، نظرَ إليّ بعينِ الرِّضا وهو يُثني على فِكرةِ القُدُومِ ويُبَارِك مجيئنا، يَزِف إليّ بشاراتٍ تنتظرنا في أيامنا المقبلة ، فعلى ما يبدو أن البدايات تدل على الخواتيم.
أخيرا ودّعت المكان وانصرفنا ، ونفسي تتوق لهذهِ الحياة التي كُنت على أبوابها ، في الحَقيقةِ لم تغبْ عني صورة المدرسة ولا تفاصيلها التي حُفرت في رأسي وأغرقت خيالي ، أراها وهي ساكنة في جَلالٍ ووقار كمَعبدٍ من معَابدِ الحِكمةِ عندَ القُدماءِ ، وجدتني اغرقُ في أحلامِ يقظتي ، وأنا اتسابق مع الرِّفاقِ أجوب فصولها وأتحسس طرقاتها وممراتها ، وأُطَالِع المعلمين واستمع في أدبٍ لشروحهم، وأحيا أوقاتي في رِحابِ الدَّرسِ والمطالعة .
أما صاحبنا فقد اِنكَفأ على نفسهِ ينهش ما جمَعهُ من ثِمارِ ( النّبق) في غَبطةٍ لا تقُدر ، يعبث بالنوى فيقذفه في الماءِ فَرِحًا يتغنى بألحانِ الصّغارِ غير المفهومة .
عُدت أدراجي إلى المَنزلِ ، وهناك أصبحَ لا شُغل لي إلا أن تمرَ الأيام سريعا ، أن تنقضي المُدة وأَلحَق بالمَدرسةِ، استَغرِق في تفكيرٍ عميق لا أخرج منه .
لا زلت أتذكره ، لاحظه أصدقائي بعد أن انعزلت بنفسي ، فتنحيت جانبًا عن ألعابهم ، تَغيّر سلوكي بالمرة ، فَلم اعد ذَاكَ الفتى المُشَاكِس الذي لا يَمَلّ الحركةَ ولا النشاط .
كُنتُ اذهبُ للحَقلِ، واعودُ معَ المساءِ شَارِدَ الفكر مسلوب الذِّهن ، فمُنذ أن اعتلي ظهرَ حماري البني الصّغير ، اُسِلِم التَّفكِيَر للمدرسةِ وما ينتظرني فيها حتى أصِلَ البيت ، وعِندَ العَشَاء اجلس على ( الطبلية) اُمسِك اللُّقمةَ بين يديّ اُقَلِبها في زُهدٍ، فلم يعد يَغويني طعام ، ولا يُغريني حتى طبيخَ الباذنجان الذي تعودت أمي طهيه لأجلي ، على فُوهةِ ( فرن) الطِّين عِندَ الخَبيز .
ووسط هذا الجو المشحون بالفِكر والشُّرود ، لم يَتنّبه أحدٌ لحالي ، فَهُم في غَفلَةٍ عني ، كُنتُ صغيرًا اعتدت تَعقُب مجِالسَ الكِبَار ، التي امتلأت بحكاياتِ السنينِ المُلَهية، وتجارب الزَّمن المُسلية ، لكن في تِلَك الفترة لم تعد تستهويني في شيءٍ ، حتى حكايا القتل واللُّصوص وأبناء المَنّصر وقُطّاع الطُّرق وناقبي الجُدرَان ، فلقد وجدتُ ضَالَتي هذه المرة في رِحَابٍ أخرى .
عند شجرةِ الكَافور العتيقة التي تُلاصِقُ كوبري الترعة الصغيرة ، اتَخذَ بعض نَفرٍ من أبناءِ القريةِ ممن عرفوا طريقهم للمدرسةِ جِلستهم ، كان حديثهم ينصبّ في جملتهِ عن استعدادات المدرسة، اجلسُ إِلى جِوارهم في صَمتٍ وسكِينةٍ، الآن وجدت _ على ما يبدو _ ضالتي ، ففي كلامهم رُغم سَذاَجتهِ وسطحيته مَذَاقا آخر .
اعترف بأنّ الحماسَ قد تَملّكني أيمّا تملُّك ، جرّني معه مسلوبَ الإرادة لمنحى آخر ، لقد تعودت جمَعَ بَقايا ما خَلّفتهُ النِّيران من فحمٍ ورَماد ، لاخُطّ بيدي المرتعشة أولَ حُروفي على جُدرانِ بيوت الدّرب الطينية ، التي امتلأت بالمَسائلِ الحِسَابية البَسِيطة من ضَربٍ وطرحٍ وجمع ، إِضافةً لحُروفِ العربيةِ ارسمها بحرفيةٍ وفن، حتى وإن تَغبّرت ملابسي واسودّت أصابعي ، غير أني استطعت في أسبوعٍ كامل من امتلاكِ الشَّجاعةِ الكافية ؛ لأن تُذهِبَ من قلبي كُلّ رهبةٍ ، وهيأتني لأن أجِد لنفسي مكانا _ لاحقا_ يليقُ بأحلامي بين الطلابِ.


الكاتب المصري محمد فيض خالد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...