د. محمد المخزنجي - الحلو دا.. الحلوة دي… قصة فصيرة

أصابتها جلطة المخ المفاجئة فانصعق كل أحبابها، هى التى ظلت غندورة حتى بعد الستين.. مشرقة، ومهندمة، وضحوكًا، وتذكر دوما بأنها كانت الوحيدة ــ من بين كل بنات العائلة ــ من تزوجت بعد قصة حب، بل أسطورة حب ريفية.

وخرجت من الغيبوبة بأقل كثيرا مما توقعه الأطباء: خزل خفيف فى الجانب الأيمن، واختزال لكل لغتها فى كلمتين: « الحلو دا» و«الحلوة دى»!

الحلو دا، والحلوة دى ــ صارت تشير بهما إلى كل ما تطلبه أو تريد التعبير عنه. حتى بعد أن تعافت سريعا من خزلها وصارت تقف فى المطبخ.. تطهو ببراعة كعهدها، لكنها لا تمتلك عندما تريد شيئا إلا أن تشير إليه، بآخر ما تبقى لديها من اللغة تشير.. تريد ملعقة فتطلب: «الحلوة دى»، وتريد الثقاب فتقول: «الحلو دا». وتتألم من عدم فهم مرادها فتثور، وتشتم: «الحلو دا دا دا دا. الحلوة دى دى دى دى»، لكنها ما تلبث حتى تضحك متأثرة بضحك الآخرين من حولها.. تضحك حتى تدمع.

وتدمع عيونها وتفيض وهى تشير إلى موضع ذبحة فى صدرها لم يتوقعها أحد: «الحلوة دى ى ى ى ى »، وتشير إلى موضع القلب المذبوح ألما: «الحلو دااااااا». ثم غامت نظرتها بينما كانت يمناها ترتفع قليلا فى الهواء.. ترتفع واهنة لتشير إلى شىء ما، غامض، هائم، وتسميه أيضا: «الـ حلو دا. الـ حلوة دى» ــ وإن كانت تنطقها باستسلام وحزن.. حزن شفيف، حتى سكتت.

سكتت، وسكنت، فلم ينفجر فى البكاء ــ على شدة الحب لها ــ أيٌّ من أحبابها الكثر الذين تحلَّقوا حول سريرها الجميل العالى: زوجها ــ العاشق القديم، وأولادها، وبناتها، وأحفادها، والأقارب، والجيران، فقد فوجئوا فور سكوتها وسكونها ــ ويقسمون على ذلك ــ بنفحة من عطر حلو، أحلى ما يكون، تغمر المكان وتحلق فيه.. كأنها طائر خُرافى بهى، لايبين، ويوشك فى الصمت.. أن يتجسد.

د. محمد المخزنجي


أعلى