سدير ساكو - أحلام في الأرض البعيدة.. قصة قصيرة

اقترب المساء يجمع بقايا الشفق المتعلقة بأذيال السحب الصغيرة ، وسكنت الأجواء من أغاني العصافير بعد أن راودت أَعشاشها ، ولبست السماء ثوب الليل المنقوش بتطريزة النجوم ، واشعلت مصباح القمر الخافت واستراحت تراقب من فوق أحلام المساكين ، وتصغي لأحاديث العشاق والأحبة ، ومن بينهم ( ألبير وريما ) الجالسان في بيتهما الصغير ينظران من النافذة لأشكال النجوم ويشاطران أحاديث اليوم وأماني الغد البسيطة ، وفي حضن ريما كانت الطفلة التي أهدتها السماء قبل أربعة أشهر ترضع مستأمنة بصوت والديها .

هكذا مرّت الأيام مفعمة بالحب والسرور ، في النهار كان ألبير يفلحُ أرضاً صغيرة تدُّر قوت العائلة ، تعينهُ فيها زوجتهُ ، وفي المساء كانا يجلسان قرب الدار مُمتعين أنظارهم بسحر السهول المنبسطة وصوت خرير الجدول القريب في ليالي الصيف الدافئة ، وفي الشتاء حول المدخنة يتسامران حتى يغلبهم النعاس ولا يقلق نومهم الهادئ إلا أنامل الفجر الجميلة لاستقبال يوم جديد .

بدأت الأحلام تكبر وتتعالى ، ولم يعد البيت الصغير والأرض البسيطة تسعهما ، وفي أحد الأيام جاءت ريما كالعادة تجلب طعام الغداء وعلى ظهرها طفلتها ، وبعد أن فرشت الأرض وأراحت الطفلة تحت ظلِّ شجرة ، جلسا بجانبها ليتناولا وجبة الغداء ، فقالت ريما حين رأت الشرود في وجه ألبير :
ـــ ما بالك يا حبيبي أراكَ مهموماً اليوم .
فالتفت إلى الطفلة وقال :
ــ كلما نظرتُ إلى اينجي ، أحسستُ بأن عليّ أن أفكر في طريقة ما أو عمل آخر يدرُّ مالاً كافياً أستطيعُ فيه أن أضمن لها مستقبلاً جيداً ، بغض النظر عما نحن بحاجة إليه الآن .
ــ أنتَ على حق يا ألبير ، فأنا أيضاً أتمنى أن أشتري لها كل شيء وكل ما تطلبهُ حين تكبر ، وأن نستطيع أن نعيش في بيت جديد وأكبر من هذا البيت ، وربَّما أقرب إلى المدينة .
ــ وأنتِ أيضاً يا عزيزتي ، أود أن أحقق لك كل ما تحلمين به ، حتى سيارة جديدة مثلما فعل الكثير من رجال القرية.
ـــ ولكن كيف تستطيع فعل ذلك يا ألبير .
ــ لقد فكرتُ كثيراً يا ريما ، ولم أجد غير الحل الذي سلكهُ الكثيرون ونجحوا وتحسنت أحوالهم ، وها هم اليوم يعيشون برفاهية ، بل يُعدُّون من الأغنياء .
ــ وما هو يا ألبير؟
وبعد لحظة صمت نظر ألبير إلى السهول المترامية أمامه ، وقال :
ــ أن أسافر .
كان هول الكلمة صاعقاً في مسمع ريما حتى أوقع من يدها قطعة الخبز ، وكأنَّ المستقبل قد تجلى أمامها ورأت طريق الآلام حيث لم تفكر ولو للحظة إنها تستطيع أن تعيش بعيدة عن ألبير ، فقالت بحنق :
ــ إلى أين تسافر يا ألبير ، وماذا نفعل نحن هنا .
فقال وهو يُهدِّئ من روعها :
ــ إلى حيث يسافرالآلاف من الناس للعمل ، وتبقين أنتِ قريبة من أهلكِ ، وتفعلين مثلما تفعل الكثير من النساء اللواتي يسافر أزواجهن ، أعمل أنا هناك وأجمع المال وأبعث لك ، وأنتِ هنا تبدأين بتحقيق أحلامنا ، أجل يا حبيبتي نبني بيتاً كبيراً نملؤهُ بالأثاث الجديدة الجميلة ، وتبتاعين أنتِ كل ما تحلمين بهِ من ملابس وحلى ، حتى سيارة خاصة تنقلنا أينما رغبنا ، ولإبنتنا نخصص غرفة جميلة مليئة بالدمى والألعاب ، وتوفرين مالاً كافياً لأعود وأبدأ عملاً جيداً يدرُّ لنا أرباحاً وافرة ، دون أن أعرق وأتسخ بالتراب كل يوم ، كمحل الانترنيت مثلاً ، يقولون إنهُ مربح جداً ، ونستطيع من خلاله أن نضمن مستقبلنا ومستقبل أولادنا .

ثم أكمل حين رأى الحيرة والقلق يغطيان ملامحها كما تغطي السحب الكالحة صفو السماء :
ـــ ألم تخبريني بنفسك أكثر من مرَّة إن هذا ما فعلتهُ الكثيرات من صديقاتكِ مع أزواجهن ، وهم الآن ميسورون يمرحون بالمال ، أليس هذا صحيحاً ؟ ثم ألسنا نفعل هذا ونفكر في التضحية من أجل اينجي وأولادنا في المستقبل ؟

سادَ الصمت ، وبدا كل منهما على حِدة في صراع بين الأحلام الجميلة وآلام الفراق التي تنتظرهما لتحقيق هذهِ الطموحات والرغبات التي لا حدود تحدها ، كالصراع القائم بين شهوات الجسد وتأنيب الضمير ، وانتصرت الرغبات والمغريات لأنها احكم بخفايا ضعف الإنسان وميوله ، وجاءت تلك الساعة التي مزَّقت قلبيهما بسيف الفراق ، ففرَّت الراحة والسعادة والطمأنينة حين وجدوا الحب جريحاً ، وجاءَ القلق والحزن والألم وأصبحوا لكليهما رفاقاً .... وضع حقيبتهُ على الأرض واقترب يمسحُ دموعها المريرة وعيناهُ مغرورقتان ، ثم احتضنها بقوة وهي تحمل ابنتهما ليُهدِّئ من حزنها ، وهمسَ في أذنها بصوتٍ مرتجف :
ــ ريما ، ريما حبيبتي ، تشجعي إنها مجرد سنتين وسأعود ، مجرد سنتين ونحقق كل شيء ، أرجوكِ كفى إنكِ تمزقين أحشائي .

وانطلق وهو يشعر وكأنهُ محكوم ينتظرهُ سجانهُ ، هكذا أصبحت ريما بالرغم من قربها من أهلها وصديقاتها تشعر بوحدة قاتلة تجلس الليالي وحيدة تغالب دموعها كالأرملة التي سلبت الحرب بعلها ، وهي ترضع ابنتها قبل أن يحملها النعاس إلى عالم السكون وفي ذهنها وتفكيرها لا يتردد غير شيء واحد وهو ، يا ترى أين أنتَ الآن يا ألبير ، وماذا أنتَ فاعل ، ولِمَ لسنا معك ؟

كانت الطريق شاقة وخطرة للوصول إلى تلك البلاد ، وبعد قرابة شهرين وصل ألبير منهكاً من الخوف والتعب والحزن والقلق ، ورأى المدينة المتطورة ، وشاهد أبنيتها الجذابة وأضوائها الخلابة ، وبهرجتها وشوارعها المزينة ، وحدائقها المنسقة وكأنها عالم غير عالمهُ ، وانبهر بها وأحسَّ للحظة وكأنها مليئة بالحياة لحركتها الدائمة وشوارعها المكتظة بالناس ، وتمنى لو استطاع أن يجلب ريما واينجي ليعيشوا هنا جميعاً .

كانت البداية شاقة ومضنية حتى تعرف هناك على رجل مغترب مثلهُ فعرض عليه أن يقيم معهُ في الغرفة التي يسكن ، ثم حالفهُ الحظ بعملٍ كان مسروراً جداً به رغم مشقتهِ وقذارتهِ وساعاتهِ الطويلة والتي تبدأ مع الفجر ولا تنتهي إلا بحلول الليل ، فقد كان يذهب كل يوم ويؤجر دراجة ذات ثلاث عجلات تجرُّ خلفها عربة يملؤها بما تخلفهُ الشوارع من علب فارغة وصناديق ورقية ومعدنية والعلب الزجاجية وغيرها ، ثم يأخذها إلى الشركات التي تقوم بإعادة تصنيعها .

كانت الغرفة صغيرة جداً بالكاد تتسع لسريرين ، وفي إحدى زواياها طاولة خشبية تحمل مشعل غازٍ صغير ذو عين واحدة بجانبه سلة تحتوي بعض الصمون والملاعق وابريق الشاي تركت السنين عليه حروقاً ، ومن السقف تدلى مصباح كهربائي مائل إلى الاصفرار ، أما فوق سرير العم بشير فكانت صورة معلقة للقديس مار كوركيس وهو يحارب التنين وتحتها صورتان إحداهما للسيد بشير مع أفراد عائلته ،والأخرى لإبنته الصغيرة في سنتها الثالثة .

كان ألبير مسروراً للغاية حين قارن ما يحصَّله من نقود مع أجرة العامل في بلدهِ ، وهكذا بدأ يجمع ويحلم بريما وهي تبدأ بمشاريع المستقبل في قريتهِ متحمساً دائماً بما يحدثهُ العم بشير من نجاحات وتطورات مادية في حياتهِ خلال السنوات العشرين من غربتهِ ، صحيح إن زيارته الأولى كانت بعد ثمان سنين من غربتهِ ولكنه الآن قد حصل على الإقامة الدائمية ، ومن خلالها يذهب لزيارةِ عائلتهِ كل سنتين تقريباً ، أما ألبير فقال لهُ حين سمعهُ يتحدث عن سنين الفراق الطويلة :
ــ بالنسبة لي فقد جئتُ لأقضي هنا سنتين لا أكثر وأعود .
فضحك السيد بشير وقال :
ــ سنتان ؟ أجل هكذا بدأنا جميعاً ، وسنة تجر سنة ، وها أنا الآن سأكمل العشرين عاماً في هذهِ البلاد زرتُ فيها عائلتي حوالي خمس مرات ، وهذهِ الزيارة ستكون السادسة على ما أظن .
ــ ولكن هذا عمرٌ بأكملهِ يا عم بشير !
ـــ يا ابني سنتين لن تنفعك بشيء ، ولن تغير من حياتك ، بالكاد تستطيع أن تجمع ما انفقتهُ للوصول إلى هنا ، وسوف ترى بأنك كلما بعثت بالمال وبنيت أو اشتريت شيئاً هناك ، كلما زادت رغبتك في البقاء والحصول على المزيد ، أليست هذهِ طبيعة الإنسان ؟

وكما يسطو الضباب على الوديان في ليالي الشتاء هكذا داهمت الكآبة نفس ألبير حين سمع هذا واسترسل يفكر بريما وابنته ، حتى قطع سلسلة أفكارهِ العم بشير وهو يكمل قائلاً :
ــ إني أنتظر الأسبوع القادم بفارغ الصبر فشوقي لا يوصف لرؤية عائلتي ، وبالأخص إبنتي الصغيرة التي تبلغ الآن الخامسة من العمر ، مع إني آسف لأني سأتركك وحيداً لشهر كامل .
ــ لا بأس ، لا بأس يا عم بشير ، المهم أن تجتمع مع عائلتك .
بقي ألبير وحيداً طوال المدة ، لا تفارق أفكاره رفيقة حياته وابنته والحزن والكآبة يتسللان إلى قلبه كما يتسلل اللص إلى مكان الكنز في ساعات الظلام ، لكنه كان يشجع نفسه دائماً بحديث العم بشير ونجاحاته فقد كان فقيراً جداً حين قدم قبل عشرين عاماً ، وهو الآن يملك ما يُعدٌّ قصراً في قريتهِ ، وبيت آخر مؤجر ، وأربعة محلات مؤجرة أيضاً ، وسيارة لكل من زوجته وابنه وابنتهِ الكبيرة ، وهما الآن يدرسان في جامعاتٍ ممتازة ، وما زال يعمل ويكد ليحقق طموحات أكثر .
عاد العم بشير وسعد ألبير لعودتهِ فالرفيق يخفف وحدة الغربة القاتلة ، ولكن هذهِ المرة لم يكن العم بشير على عادتهِ ، فقد غابت عن وجههِ الابتسامة وبدا بائساً حزيناً غاية الحزن منطوياً على نفسهِ كالشجرة التي جفت الساقية المارة بجانبها ، وكلما حاول ألبير أن يعرف السبب ، لزم الصمت وأنكفأ جانباً .
في القرية الصغيرة كانت الأشهر تمضي قدماً ، وفي إحدى الليالي التي نشر فيها القمر أشعتهُ الشفافة على تلك التلال والسهول ، نظرت ريما من خلال النافذة ورأت أشباح الأشجار المهملة في مزرعتهم المهجورة ، وتذكرت كم كانت تعشقُ الليالي القمرية وهي مع ألبير يتسامران بهدوء وهما يحتسيان فنجان القهوة ، فداهمها الشوق بشدة وأحست بوحدة قاسية كبدت أنفاسها فهرعت وأحضرت قلماً وورقة وجلست على الطاولة ، وبعد أن أغمضت عينيها الدامعتين لبرهة والقلم يرتجف بين أصابعها كتبت :

بأسم الآب والحب والحياة
حبيبي ألبير ، أنا الآن جالسة في الغرفة الصغيرة عند النافذة أكتبُ لك على لهب شمعة ، واينجي نائمة بهدوء في سريرها .... ألبير ، لا أُخبِئ عنك شيئاً ، بل أخبرك بما في قلبي ، وليس بما في عيوني من دموع مريرة ، أني أرى نفسي تذبل كتلك النباتات التي تركتها حتى يبست وخنقتها الأشواك ، كل شيء حولي حزين يا ألبير ، البيت ، الحقل ، الناس ، الأشجار والطيور التي تُعشِّشُ فيها ، حتى الجدول الجميل الذي كنا نزورهُ دائماً لم يعد جريانهُ ينعش نفسي ولا خريرهُ يؤنسني بل يزيدني هماً ووحدة .

اينجي الآن تستطيع الوقوف والسير وهي تجوب البيت والابتسامة تملأ وجهها الرائع والبراءة تنير ملامحها ، ولكن في عينيها أرى حرمان لا يعوضه غير وجودك ..... ألبير أنا لم أعد أريد شيئاً ، لا بيتاً ، ولا سيارة ، ولا مالاً وذهباً ، ولا شيء غير وجودك معنا فهذا هو حلمي الجميل الآن الذي لن أقايضهُ بأي شيء .

لقد تعلمنا منذ الصغر بأن الرجل يترك أباه وأمه ليتحد بإمرأته ، فكيف ينفصل عنها من أجل مغريات الحياة .

أني أكتب إليك يا حبيبي وأناشدك بأن تعود إلينا مُسرعاً ، إلى زوجتك وطفلتك وبيتك وحقلك ، ولا تدع الأيام تمر دون أن نشبع أنظارنا منك ، فلا معنى للحياة ونحن في فراق اختارته لنا ميولنا ، تعال لتطرد ظلمة نفسي ، وتملأ قلب اينجي فرحاً ، وتمسح الحزن من أيامنا وأيامك فتعود لنا السعادة التي رحلت برحيلك ، تعال إلى حقلك وأرضك ولنعمل من جديد معاً فتعود الحياة إليها وإلينا ، تعال يا ألبير فإني أسمع المحبة تنادينا لتضمنا في أحضانِها .
ريما واينجي ينتظرانك بشوق عظيم
رفيقة حياتك ريما .

وذات مساء بعد أن رجع ألبير والعم بشير من العمل ، أحضر ألبير الشاي ووضعه أمام العم بشير وقال :

ــ لقد شعرتُ بوحدة كئيبة حقاً حين غادرت ، ولكني كنتُ سعيداً من أجلك وأجل عائلتك ، فهذا ما أنا متعطش إليه لا غير .
فقال العم بشير بصوتٍ ضعيف :
ــ ليتني ما ذهبتُ ، إن ما كنتُ أشعرُ به قد تحقق .
ــ ما الذي حصل يا عم بشير ، أرجوك أخبرني .
ــ أشعرُ إنني خسرتُ كل شيء ، خسِرتُ عائلتي ، خسرتُ حياتي وذهب تعبي وشقائي سُدىً .
ــ ما الذي جرى يا عم بشير ، هل أصاب عائلتك مكروه لا سمح الله .
التفت العم بشير إلى الصور المعلقة في الغرفة ، وقال وعيناه مغرورقتان بدموع حارقة :
ــ لقد أحسستُ في السنوات الأخيرة إن الأشياء بدأت تتغير ، أجل شعرتُ بأن زيارتي لم تعد تحمل إليهم لوعة اللقاء وحرقة الفراق ، لم أعدْ أشعرُ في عائلتي بمثل الحنين الذي يغلي في قلبي ، لقد ضحيتُ بشبابي ، وقاسيتُ الوحدة والفراق وعذاب الغربة ومذلتها من أجلهم ، وجاء اليوم الذي يقولون لي فيه بأني لم أكنْ متواجداً معهم حين احتاجوا إليّ .

ساد الصمت لحظة ، ورفع العم بشير يده يمسحُ دموعهُ ، وأكمل قائلاً بسخرية :
ــ لقد قضيتُ مع ابنتي الكبيرة ثلاثة أيام فقط ، ثم قالت بأن عليها أن تلتحق بالمدرسة الداخلية لتعوض بعض دروسها المتأخرة ، أما ابني البكر ، فقد اتصل مرة وقال بأنه سوف يتأخر بضعة أيام لأنه ذاهب في رحلة جامعية مع رفاقهُ ، وقبل أن تنتهي مدة زيارتي بيومين اتصل ثانية وأعتذر لأنه لن يستطيع الوصول قبل رحيلي فقد مدَّد الرحلة لزيارة مناطق أخرى ، ولم يستطع مقاومة إلحاح رفاقهِ في البقاء ، أما زوجتي فلم تشاركني الحديث إلا وكان جدالاً ونقاشاً حاداً ، فهي تقول لي بعد كل هذهِ السنين وهذهِ التضحيات ، بأنها كانت تواجه كل شيء لوحدها ، وإني لم أكنْ متواجداً لأشاركهم مسؤولياتهم .

وانقطع العم بشير، والتفت إلى ألبير وفي عينيه الغضب وأكمل بصوتٍ هائج قائلاً :
ــ دون أن يلتفتوا لحظة ليروا أين كانوا ، وكيف أصبحوا الآن ، دون أن يفكروا لدقيقة كيف يعيشون هذهِ الحياة الكريمة ، وكيف يتمتعون بما يملكون ، دون أن يشعروا للحظة ما عانيتُ وقاسيتُ من أجل أن يصلوا لما هم عليه الآن .

هدأت ثورة العم بشير، والتقط صورة ابنتهِ الصغيرة المعلقة ، وقال بصوتٍ هادئ وهو يرنو إليها :

ــ لقد كانت الوحيدة التي أحسستُ بحبها ، صحيح إنها في الأيام الأولى أبت أن تأتي عندي ، فقد كانت نظراتها إليّ كشخص غريب أسمه أبي قد جاء إلى البيت ، لكن بعدها كنتُ أقضي معظم الوقت معها ، فقد بكت قبل أن أرحل ، وطلبت مني البقاء ، وقالت بأنها لا تريد أية هدايا ، ولن تطلب سيارة حين تكبر بل تريدني أن أبقى معها إلى الأبد ، لكني أخبرتها بأنها صغيرة ولا تدرك بأني الآن أغادر وأتغرب من أجلها كي أضمن لها مستقبلاً آمناً وحياةً كريمة ، وأتمنى لو تتذكر ذلك حين تكبر ، وليس مثل الباقين .

أخذ العم بشير نفساً عميقاً ، ثم استطرد وأنظارهُ شاردة :
ــ كنتُ دوماً أقول إن يوم العودة قد أصبح قريباً لأرجع لبلدي وعائلتي ، وأقضي ما تبقى من العمر معهم دون أن نقلق بشأن أمور الحياة ، ولكن الآن أشعرُ بأن لا مكان لي هُناك ، أجل هنا سأعمل وأعيش وحيداً وأموتُ وأدفن في بلاد الغربة .
ثم انكفأ برأسهِ مغطياً إياه بالصورة والغصات تخنقُ أنفاسهُ .
كان ألبير يعاني الحزن نفسه ، فقد كان الفراق يمزقه ، وعذاب الحنين يطحنهُ ليس لأنهُ فكَّرَ بأحاسيسهِ وغلبهُ الضعف ، بل بفكرهِ وقلبهِ علم بأن لا معنى للحياة إن لم يشاركه فيها محبيهِ ، وها قد مضى عليهِ الآن ثمانية أشهر يعمل فيها ويجمع ويرسل ما استطاع ، ولكن شبح الحزن كان يثقل كاهله ، وظلت كلمات الطفلة التي سمعها من العم بشير تدوي في أعماقهِ ، فقال وفي صوتهِ دفء المحبة:

ــ لِمَ لا تعود ياعم بشير ، لِمَ لا تعود من أجل طفلتك ؟
ــ ومنْ سيضمنُ لها مستقبلها ؟
ــ كفاكَ من المستقبل ، أليس هذا هو المستقبل الذي تتحدثُ عنه الآن بدموعٍ وأسى ، أي مستقبل هذا الذي فيه خسرت أجملَ ما في الحياة ، وما هو المستقبل الذي ضمنته لهم ؟ ... البيوت ، السيارت ، الملابس الفاخرة والحلي الثمينة والجيوب الممتلئة بالمال ، وفي أي جزء من القلب تقبع هذهِ الأشياء ، وأية محبة هي هذهِ التي تضحي بلحظات وأيام الحياة الخالدة من أجل هذهِ الزائلات .
وحين نظر إليه بشير باستغراب ، استطرق ألبير بنبرة خفيفة قائلاً :
ــ سامحني يا عم بشير إن كنتُ قد تطفلتُ على أمور حياتك ؛ لكني أشعرُ بحاجة طفلتك لمحبتك ووجودك قربها .
ــ أعرف هذا لكننا لا نستطيع نكران الواقع ، الحياة الآن مختلفة ، سيأتي يوم ستطلب فيه أشياء كثيرة وإن كنتُ جالساً بجانبها لن استطيع تحقيقها لها ، هذا واقع الحياة ولا مفرَّ منهُ .
ــ ها هي الآن طفلتك تطلبُ منك شيئاً رائعاً ، تطلب وجودك ، محبتك ، حنانك ، قربك ، فلِما لا تُحققهُ لها ؟
ــ إنها الآن طفلة ولا تفهمُ الحياة ومتطلباتها .
ــ بل نحنُ هم الذين لا يفهمون الحياة ومتطلباتها ، وطفلتك تعرف معنى الحياة ، لذا الأطفال سعداء دائماً ، ونحنُ لسنا ولن نكون يوماً إن لم نرَ الحياة كهؤلاء الأطفال .
ــ هذا هراء فحين تكبر لن تقول ما تقولهُ الآن .
ــ بلْ حين تكبر ستشعر دائماً بالفراغ العظيم الذي خلفهُ غيابك ، ولن تملؤهُ تضحياتك من أجلِ مستقبلها ، فهل تثمرُ شجيرة الكرمة إن لم يقلمها الكرَّام ، ويفلحُ أرضها حتى إن لاقاها مطر الخريف ؟
ــ الواقع غير ما تقولهُ أنت .
ــ ولكن يا عم ...
ــ ولكن ماذا ، ألا ترى الآلاف من الناس يهاجرون من أجل أن يبنوا مستقبلهم ويعيشوا حياة أفضل ، ألست واحداً منهم ؟
ــ لا خطأ في أن نبغي الرقي في الحياة ، بل الخطأ في الرقي على حساب أجمل ما في الحياة ، وأنا هنا قد جرفني التيار معكم ، التيار الذي لا تنتشلك من هيجانهِ غير المحبة وحكمة الحياة ......
ثم توقف ألبير لبرهة وانشرحت نفسهُ وأكمل :
ــ أجل يا عم بشير ، لقد كان كل هذا يختلج في قرارة نفسي ، وها قد جاءت الساعة لتقولهُ شفتاي وتسمعهُ أذناي ، الحياة يا عم بشير نظرة حب في عيون محبيك ، الحياة يا عم بشير قبلة على جبين أولادك وابتسامة على شفتي رفيقة حياتك ، الحياة قدح شاي مع والدك ، وصوت حنين من والدتك ينادي بإسمك ، الحياة هي وجبة طعام مع أصدقائك وأقربائك ومحبيك ، هي دمعة تمسحها يد حنون ، هي ألم تخففهُ نظرات عزيز ، هي غربة تؤنسها رفقة حبيب ، هي شقاء وهموم تزيلهُ ارتماءة أولادك في حضنك الحنون ، هي شروق ينير قلبك حين يُضيءُ عشك الصغير ، الحياة يا عم بشير غروب عند الأفق ترقبه بسكون مع رفيقتك ، بجسدين ساكنين وروحين مرفوفين ولكن بقلبٍ واحد .
كانت الدموع قد انزلقت على وجه ألبير وارتسمت على شفتيه ابتسامة ، وأكمل بصوتٍ ملؤه الأمل قائلاً :
ــ أنا عائد يا عم بشير ، عائد إلى الحياة التي هجرتها قبل ثماني أشهر قبل أن يُطفِئ التيار الهائج لهيبها ، قمْ أنتَ أيضاً وعدْ إلى بيتك وأولادك وزوجتك وشاركهم كنز الحياة الذي سرقته منك الطموحات الزائفة الزائلة ، هيا يا عم بشير لنحزم حقائبنا ، ولتكنْ هذهِ الليلة مليئة بأحلام اللقاء الدافئة .
استيقظ ألبير قبل خيوط الفجر والفرحة تغمر قلبه كما يملأ الندى كؤوس الأزهار ، وخرج مسرعاً ليبتاع بعض الهدايا لزوجته وطفلته ومحبيه ، وحين عاد في الصباح لم يجد العم بشير هناك ، استغرب ألبير وانتظر بعض الوقت ، ولكنهُ لم يعد .

أخذَ ألبير حقائبه وخرج وأوصد الباب خلفه ، ومرَّ بالمكان الذي كان العم بشير يعمل فيه فرآه من بعيد يدفع عربة العمل ، فصرخ إليه ألبير ، وحين التقت عيناهما لبضعِ ثوانٍ أخفضَ العم بشير رأسه بيأس واستطرق يدفع العربة ، فقال ألبير في نفسه :
ــ إن هموم الحياة ومخاوفها ورغباتها قد خنقت الحياة في نفسك ، ولم تسمح لكلمات الحب أن تحررك من قيودها ...
ثم رفع بصرهُ نحو السماء التي أظهرت أشعة الصباح أزرقاقها وقال :
ــ أما أنا يا ريما فعائد إليكم ، إليك وإلى الحبيبة اينجي ، ويد الحياة الكريمة السخية لن تفرقنا أبداً ، بل معاً سنحب الحقل والكرم ، ومعاً سنجلس تحت ظل الشجرة تحيطنا الأزهار الباسمة ، وتطربنا العصافير المغردة لنقتسم لقمة طيبة ، معاً سوف نشرب من الينبوع ، ونعبر النهر ، ونراقب ألوان الشفق منتظرين المساء وأشكال النجوم ، أنا عائد يا ريما ، ومعاً سوف نتذكر الأمس ونعيش اليوم ، ونحلم بالغد ، ومعاً سوف ننسى أيام الفراق في الأرض البعيدة .

ــ انتهت ــ
أعلى