حسام المقدم - المتنبي ويوسف إدريس وبليغ حمدي وأمل دنقل في الأحلام

الحالِم
..
كانوا يقصدونكَ بالزِّيارات في أحلامكَ. يأتونَ كبشَرٍ من لحمٍ ودَم، وتكاد تلمس أردِيَتَهم مذهولًا مسحورًا.
**
(1) المُتَنبّي:
في الحُلم هو أكثرَ طمأنينة، وأنتَ أكثرَ فزَعا تُحاول التَّخفِّي منه في دُروب الصّحراء. ما من مرّة يظهرَ فيها المُتنبِّي إلا ويكون مُبتسماً. في البداية تحسبه ضاحكا مُقبلا عليكَ، ثم تُقدِّر أنه يضحك على خوفكَ الذي لا يفهمه. يأتي في ضوء القمر على ظهر فرس، وفي يُمناه كتاب. يسوقُ الفرس صاعدا إلى أعلى الجبل، تاركًا إياكَ وحيدا عند السَّفحِ.
تهتفُ: كَلِّمني يا أبا الطَّيّب.
ينزل بفرسه عبر انحدار الجبل ولا يتعثّر. أبو الطّيّب يعرف طريقه في الليل والبَيْداء، تعرفه الخيل والسّيوف والسّباع والهَوام. يُمسِّد على رقبة الفرس، ينزل ويقعدُ على الحصَى، يلتقط خمس حَصَوات يرميها إليكَ واحدةً واحدة: هذه "سَيف الدّولة"، هذه "أَبِي"، هذه "فَرَسي"، هذه "شِعْري"، هذه "كافُور"!
فَسِّر يا أبا الطّيّب، وَضِّح..
في مرّة تاليَة تراه ماشيا فوق الماء، أو يُحارب جيشًا مُسلّحًا بالمدافع والدّبابات وفي يده سيف من خشب. تُشفِقُ عليه حين تُبصره غارِقًا في قاع كأس. لكنّ ذِهنَكَ مشغول باقتناص الوقت قبل الفَوَات. هو أمامكَ الآن، وبعد قليل لن تجده. تقول له من شِعره نِصفَ بيْت: "علَى قَلَقٍ كأَنَّ الرِّيحَ تَحتِي..". يَردُّ وهو يشيح عنكَ: يكفيكَ هذا لِمدّة عام! تستوقِفُه برجاء صادق، تُنادي وتصرخ: أُحبّكَ أيها المغرور..
تتعَبُ عيناك من تتَبُّع أثَرِه. يغيبُ على فرسه، أنتَ تعرف أنّه يُناوِر؛ ليعودَ من جديد.
**
(2) يوسف إدريس:
"يوسف إدريس" لن يترككَ. يظهر لِعدّة ليالٍ ثم يُجافي. في ليلة لا يستغرق ظهوره سوى لحظة، يكون واقفا في ميدان التّحرير، يُلوِّح لكَ، ثم يمضي مُسرعًا بين العربات. تجري وراءه فلا تلحقه، يتلاشَى. أحيانا يظهر فوق سطح عمارة، أو في غيط برسيم. ذاتَ حُلم؛ نزلتُما أرضا مزروعة بالطماطم. تراه ينحني، يُقلّب الثِّمار، يلتقط الحمراء بمهارة، يأكل بِشهيَّة ويُناولكَ. يبدو دائما على استعجال، لا يمنحُكَ وقتا. فى مرّة يكون معكَ بهيئته، ثم ينقلب كُرة نار هائلة تتكَوَّر بجنون في اتجاهكَ. تهرب وتجرى بأقصى جهدكَ. يُعاود التّحوُّل إلى ملاك بجناحين أخضرين فى حجم عصفور، يحُطُّ فوق رأسك مُداعِبًا. تراه نِسرًا بأظافر معقوفة، حِدأة، قِطة، فرَسًا، ورقة, قطعة فحم حمراء باللَّهب، موسيقى، تُرابًا، هَرَمًا، نبيذًا..
لن يقول لك الحقيقة، وفي كل حُلم عليكَ أن تسعى فى الأَثَر. لن تنسى أبدا الحُلم الذى كان فيه واقفًا، وعلى رأسه أرغِفة خُبزٌ تأكل منه الطَّير. كنتَ تُتابِعُ مأخوذًا تلك الأسراب المُرفرِفَة التي جاءت من كل مكان، عارِفةً طريقها إلى رأسه. في جرأة غير معهودة تقفُ بجواره على حَذَر، تسحبُ بعضًا من خُبزه وتُتَوِّجُ به رأسكَ. تَتَفاجَأ أنّ الطُّيور لا تقرَب خُبزكَ، بينما تُواصِل نقراتها النَّهِمَة فوق الرأس الآخَر.
**
(3) بليغ حمدي:
أنتَ على شاطئ. ليس بحرا كبيرا ولا نهرا، مُجرد ترعة صغيرة في الغيطان. يقترب منكَ هذا القادم، بعيونه العميقة ووجهه الشاحب وشعره الأسود المُنسدل. ينظر تجاهكَ نظرة تعرف أنها لن تترككَ. ترى فى مكان القلب شُعلة نار نهاياتها زرقاء. تمدُّ يدك، يلسعُكَ امتداد اللهب. لا تُكرّر المحاولة رغم ولعَكَ بالنّيران. يجلس القرفصاء ويُناديك. تقعد بجواره، وبصركَ مُوزَّع بين وجهه والشُّعلة الذّهبيّة. قُل له عن عذاباتك، قل.. هل هذا أوان السُّكُوت؟ لا يترك لك فرصة، يبدأ المشهد بأن يغرف بيده حِفنة تُراب وينثُرها. ينسابُ لحنٌ تعرفه، وطالما صعدَ بكَ ونزلَ حتّى دَوَّخكَ. يذهب وينحني على الماء، يعبُّ بِفَمه، يلعب لسانه بالماء، يعود لحنٌ جديد يسري، تجد نفسك مصعوقا بالكهرباء ومعلقا في الفضاء. تسكُتُ الموسيقى، فتقع على الأرض مرّة واحدة. يأخذ نفَسًا، يُخرج تنهيدة، تنهيدة حارّة تكسحكَ بِخفّة أمامها. تستغيثُ به. يُقبِل نحوكَ، ينحني فوقكَ. يقبِسُ قَبَسًا مُشتعلا من صدره، ويزرعه بين ضُلوعكَ. تُحسُّ بالنار تتمدَّدُ في جسدك، تتلوَّى، تسقط على الأرض، وحيدا على شاطئ صغير.
**
(4) أمل دُنْقل:
"أمل دنقل" يأتى بطَرَقات ثلاث على الباب. تفتح، تراه مبتسما عاقدا ذراعيه فوق صدره. يجلس على كرسي وحيد لا يُغيِّره.
تلتزم الصمت، تشرب ملامحه بعينيكَ. تقول له إنكَ تعرف قصة حياته، تتلو من الذّاكرة: "كان يا ما كان/ أن كانَ فتى/ لم يكن يملُكُ إلا مبدَأه/ وفتاةٌ ذاتُ ثَغْرٍ.. يشتهي قُبلةَ الشَمسِ/ ليروي ظَمَأه". يتلفت "أمل" حوله بضيق، يطلب تغيير الجو. تُرحِّب بهذه البساطة الحميمة معكَ. لا تطرف عيناكَ عن هذا الوجه، الوجه الذي عاينتَه قبل أن ترى صاحبه بسنين، وجه ابن عمتك "رفعت" الذي مات تحت جرار زراعي انقلب فوقه في الترعة، وبقيَتْ منه صورة مُعلَّقة حتى الآن على جِدار طيني في بيت عَمَّتكَ المكسورة. كيف جمع الزّمن بين الوجهين؟
الملامح راسخة في ذاكرتكَ، تعرفها جيدا في هذه اللحظة، وأنتَ بجوار هذا الوجه المجدور بالألم. على شاطئ بحر كبير تقفان.
"أمل" ذهبَ مُغاضِبًا بضع خطوات. لن تنسى ذلك الفَم المهول لحُوت عظيم، وقد تَمَطَّى والتقمه في غمضَة عين، واللحظات الرهيبة لانتظاركَ مذعورًا، حتى يشبَّ ذلك الفم ويلفظه في دفقَة قويّة أسقطته بجواركَ مهدودًا. بدا كأنّه غاب لأعوام. يُخبركَ أنّه فى بطن الحُوت لم يُطِق صبرًا، راحَ يَشُكُّ البطن اللينَة بِسِنّ القلم، عملَ بكل قُوته حتى أحس بدوَّامة كبرى، انقذَفَ بعدها على الأرض. قال إنّ العزلة بالنسبة إليه موت حقيقي. سارَ بكَ نحو مقهاه، الذي بدا خاليا إلا من آثار أقدام على البلاط المُترِب. فجأة تتلفتُ حولكَ فلا تراه. تجري، تهرب، تهتف باسمه الغالي. يُجاوبك هاتف من مكان ما: "كانَ فى كَفَّىَّ ما ضَيعتُه/ في وُعودِ الكلماتِ المُرجَأة/ كان فى جَنبىَّ/ لم أدرِ به/ .. أويَدرِي البَحرُ قَدْرَ اللؤلؤة؟". يزدادُ جنونكَ أكثر، تُنادي، يعود الصوت المجهول بِنَبرَة مُتأسِّيَة عميقة: "أتُرىَ حين أفقَأُ عينيكَ/ ثُمّ أُثبِّتُ جَوهرتين مكانهما/ هل تَرَى؟!". يظهر "أمل" على هيئة شبح أبيض بجناحين كبيرين من ورق. تُرفرف الصفحات أمام عينيك بسطورها الظاهرة وكلماتها المتداخلة. تُحاول أن تقرأ، أن تلضم الحروف مع بعضها لتفك شفراتها، تُحاول.
***
حسام المقدم



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى