إسماعيل أزيات - "لن تتكلّم لغتي، لن تكتب أدبي"..

ألقى الأستاذ عبد الفتاح كيليطو أمام طلبة "مركز ماهر"، خلال الأيام القليلة الماضية، عرضا شفهيا باللغة الفرنسية تناول فيه موضوع "لغات الأدب في المغرب"...

لإفادة من يهتم بكتابات كيليطو، أترجم، فيما يأتي، أهمّ ما ورد في مداخلته :
"أتجرّأ، في البداية، بطرح هذا التساؤل: هل هناك أدب مغربي؟ أو أيّ مشهد أدبي يقدّمه المغرب؟
ما يمكن قوله بدءا هوأنّ هناك آدابا مكتوبة بلغات متعدّدة؛ هناك من يكتبون بالفصحى، بالأمازيغية، بالفرنسية، وهناك من يكتبون، ومعرفتنا بهم أقل، بالإسبانية كأدباء الشّمال، بالإنجليزية كالشاعر حسن مكوار، وبالألمانية أيضا. باختصار هنالك تعدّد في اللّّغات. مع كلّ هذا، هل ثمّت تاريخ للأدب المغربي؟ هل يمكن له أن يكون وأن يوجد؟ هل هناك كتاب يحمل كعنوان "تاريخ الأدب المغربي"؟ يمكن لنا أن نتصوّره. لكن ما العمل مع هذه اللّغات، مع هذه الآداب المختلفة؟ في فرنسا هناك اللغة الغرنسية والأدب الفرنسي. في مصر هناك أدب مصري وتمّ إنجاز تاريخ للأدب المصري الحديث. لكن هل يمكن إنجاز تاريخ للأدب المغربي الحديث؟
إذا كان من غير الممكن الآن كتابة تاريخ للأدب المغربي بالوسائل التي نتوفّر عليها في اللحظة الراهنة، فإنّ أفضل وسيلة هي وضع معاجم للأدباء المغاربة وللموضوعات التي تناولوها ( سليم الجاي قام بمثل هذا العمل، لكنّه أعطى الأفضلية لمن يكتبون بالفرنسية!).
ثمّ إنّ هناك أمرا آخر: في أيّة لحظة تاريخ سنشرع في كتابة تاريخ للأدب المغربي؟ لأنّه عند الحديث عن تاريخ للأدب، يلزم الحديث عن بداية ولو كانت أسطورية أو متخيّلة. لا بدّ من بدء.
ماذا تعرفون عن الأدب المغربي؟ بالأحرى ماذا أعرف أنا عنه؟ من هم المؤلّفون الذين تمكّنت من مطالعتهم؟ لن أعود إلى خطبة طارق بن زياد المشهورة التي لم يتلفّظ بها قط، لكن ثمّت أسماء تطرق الذاكرة: ابن بطوطة ورحلته ذائعة الصيت في القرن 14م، واليوسي في محاضراته ورسائله في القرن 17م، ومحمد الصفّار في رحلته إلى فرنسا في القرن 19م.
(...)
حين الحديث عن الأدب، يجب الحديث عن اللغة، عن اللغة بالجمع.
إذا أخذنا بالاعتبار الأدب ذا التعبير العربي، نجد أنّ هناك أدبا مكتوبا بالفصحى؛ لغة الكتابة والقراءة، وأدبا مكتوبا باللهجة العامية؛ لهجة الشّفاهة والكلام (الملحون مثلا)، ما يعني أنّ ثمّت مناطق تهيمن فيها اللهجة الدارجة (الأغنية، السينما، المسرح (لا نتخيّل مسرحية مكتوبة بالفصحى إلاّ أن تكون ذات موضوع تاريخي!)، الإشهار...)، لكن هناك مناطق تسيطر فيها الفصحى ( الخطاب السياسي، الخطاب الأدبي المكتوب...). أمّا بخصوص الأدب ذا التعبير الفرنسي، فأقدّم هذه الملاحظة أوّلا: إذا كان هناك نمطان من الكتابة، فهناك نمطين من القرّاء بالضرورة. الكتّاب الذين يكتبون بالفرنسية مثلا لا يعرفون ما ينجزه الكتّاب بالعربية؛ هذا لا يعنيهم، عند أغلبهم عدم اكتراث بالأدب العربي القديم والحديث، والقرّاء المفرنسون لا يقرؤون ما يكتبه أدباءالعربية إلاّ نادرا.
ماذا يحدث في الجهة الأخرى؟ ثمّت فضول أكبر لأنّ الكتّاب الذين يكتبون بالعربية يعرفون، بهذا القدر أو ذاك، اللغة الفرنسية ويعرفون أنّ عليهم تعلّم الفرنسية، ويدركون أنّ التّرحيب بهم هو في معرفتهم للأدب الفرنسي أو الأوروبي. إنّها مسألة حياة أو موت بالنسبة لمن يكتب بالعربية. من دون معرفة الفرنسية ليس هناك من إشعاع ممكن. لا يمكن أن يكون لك إشعاع إذا كنت تكتب بالعربية ولا تعرف إلاّ ما يُكتب بالعربية. ليس إلاّ عبر الانفتاح على آداب أخرى يمكن أن تتطوّر.
كيف نصيرا كتّابا بالفرنسية أو بالعربية؟ إنّها مسألة تعليم وتعلّم.
(...)
في أيّة لحظة دشّن الأدب المغربي الحديث حضوره؟متى؟ ليس قبل سنوات الخمسينيات والستينيات. أفكّر في نصوص كـ"صندوق العجائب" لأحمد الصفريوي و"الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي، و"في الطفولة" لعبد المجيدبنجلون. ما يدهش أنّ الصفريوي يتحدّث عن مرحلة الطفولة وكذلك بنجلون كما لو أنّ شيئا كان يولد، كأنّ الأمر يتعلّق بميلاد أدب مغربي. ومن الغريب أيضا أن يتزامن هذا الميلاد مع إقرار كنّاش الحالة المدنية التي تسجّل فيه المواليد.
(...)
هل تتمّ مؤاخذة ولوم من يكتب بالفرنسية؟ هل تمّ لوم أحد ما يكتب بالفرنسية؟ سأضرب لكم مثلا بالكاتب الجزائري محمد ديب. يذكر أنّه تعرّض لمثل هذا الموقف. من لامه؟ الفرنسيون!. في كلّ مرّة كان يتكلّم فيها، كان يُقال له : لماذا لا تتكلّم بالعربية؟ ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ محمد ديب، بكتابته بالفرنسية، يشوّش التصنيف: هناك من يكتب بالعربية ومن يكتب بالفرنسية. أمّا أن يكتب محمد ديب بالفرنسية، فهذا يبلبل التصنيف. لكن ألا يمكن أن يعني هذا الموقف أنّه ليس له الحق في الكتابة بالفرنسية. إذا قيل له لماذا لا تكتب بالعربية، فكأن يُقال له لماذا لا تمكث في موطنك؟ ماذا أتيت تفعل في لغتنا، في أدبنا؟ إنّه غير مقبول، أو مقبول فقط مجاملة ومن طرف اللّسان.
كتبت، بهذا الصدد، كتابا عنونته "لن تتكلّم لغتي". لا نحبّ أن يتكلّم الغرباء لغتنا حتى المتنورّون تنالهم هذه الورطة. أضرب لكم مثلا أستعيره من تجربتي الشخصية. كتبت كتابا عنوانه "حصان نيتشه"؛ هو رواية صغيرة *(un petit roman ). صحفيون كتبوا عنه مقالات في منابر صحفية عديدة. من بينهم كاتب فرنسي كتب مقالا مشجّعا، جميلا. من بين ما قاله، توجد هذه الملحوظة: "في هذا الكتاب، لا وجود لأيّ خطأ في اللغة!". هذا هومعنى "لن تتكلّم لغتي"، حتى وإن لم ترتكب أيّ خطأ لغوي، لن تتكلّم لغتي. هكذا تورّط كما تورّطتُ أنا شخصيا؛ أحد الأصدقاءالفرنسيين الذين كنت متعوّدا على إهدائه كتبي كلّما التقينا. لمّا صادفته يوما، بادرني بالقول: "إذن كيليطو، لم تهدني كتابك الأخير!". قلت : "إنّه مكتوب بالعربية!"، مع أنّه متمكّن من اللغة العربية وترجم إلى الفرنسية كتبا لأدباء مغاربة! يجب الحذر.. لكن هل تتخيّلون أنفسكم تقرؤون رواية بالعربية كتبها فرنسي؟ وإذا ما حدث مثل هذا الأمر، كيف ستتلقّون هذه الرواية؟ أليس من المحتمل أن تشتغل "لن تتكلّم لغتي" ؟ ألن تشرعوا في البحث عن أخطاء لغوية محتملة...."
* توصيف كيليطو "حصان نيتشه" بأنّه "رواية صغيرة"، هذا يفتح أفقا آخر جديدا في قراءته...
أعلى