فرج عبدالحسيب المالكي - الذي طخ عزرائيل.. قصة قصيرة

انتصف تشرين الثاني والأرض قاحلة والسنة ماحلة، فلم يسقط مطر على القرية منذ بداية الموسم، ولكن الفلاحين الذين لا عمل ولا حياة لهم غير الأرض لجأوا لحراثة العفير، عسى السماء أن تجود عليهم بخيراتها وتنقذهم من سنة محل ثانية .
عاد نوفل عمكوس ابن الأربعين قبيل المساء، والمعروف عند أهل القرية بقلة الدين، والذي تستعيذ الأرض من بذاءة أقواله والسماء من سوء أفعاله، عاد منهكا ساخطا من يوم حرث جاف، ربط حماره وبغله في حوش الدار، وأنزل ما تبقى من البذار، وقبل أن يبدأ جولة الشتائم المعتادة مع زوجته ،خرجت من داخل بيته صيحة مفجوعة مزقت هدوء القرية الوادعة، هي صرخة زوجته حفيظة التي يشبهها بنهيق حماره، شتم عورة أمها بلفظ بذيء كعادته، وقفز نحو مصدر الصراخ ، وجد البيت معتما فلم تُشعل لمبة الكاز بعد، قابلته الداية أم إسماعيل تلطم صدرها بكفيها ،أوقفته عند الباب، وقالت:
ـ العوض على الله يا نوفل ..
أراد أن يشتم الله، ولكنه خجل من العجوز أم إسماعيل، التي سحبت بيديها أهل القرية من بطون أمهاتهم ، وظلت تمرِّضهم حتى يوم الطهورلتأخذ حسنتها، فقال وهو يرفع عقاله:
ـ ماتت حفيظة، لا ردها الله ..
تابعت الداية مستنكرة:
ـ حفيظة بخير كان الله بعونها، مات الولد جابر ..
ـ ماذا تقولين يا وجه النحس ..
ـ استغفر ربك يا رجل، هذا طير من طيور الجنة ..
ـ أي جنة يا مجنونة؟ قتلته الهبلة بنت الهبلة ...
دفع الداية أم إسماعيل بيده، وصعد درجات المصطبة يسب الدين ويشتم رب العالمين، هجم على الولد الممدد على الفراش كالملاك، حركه يمينا وشمالا، ورفعه بين يديه، وحفيظة على الأرض تشد شعرها المنفوش تولول مخنوقة، ألقى الولد النائم نومته الأبدية على الفراش، وألقى بعقاله وشماغه المهترئ على الأرض، وجعر كالثور الهائج:
ـ هاتي البارودة يا حفيظة، هاتي البارودة يا بنت الكلب، اليوم أريد أن أطخ القاتل ..
لم تقم الأم من مكانها، ورددت بصوت مخنوق:
ـ يا نوفل لم يقتله أحد، ربنا استرد وديعته وعزرين أخذ روحه..
وراح نوفل يبحث عن البارودة كالمجنون، أخرجها من قوس اللحف، حملها بيديه كالمحارب المستنفر لمعركة وخرج إلى الحوش، فوجد حشدا من الناس قد تجمع أمام البيت، حاول بعض الرجال تهدئة نوفل الهائج دون جدوى ،وقف أمام المجتمعين، فك أمان البارودة، وصوب نحو السماء حيث قمر تشرين الصافي، وضغط على الزناد:
ـ خذ يا عزرين، يا مجرم ..
وطاخ.. أطلق طلقة نحو السماء، وتابع:
ـ وهذه لمن أرسلك يا ملعون والديك ..
طاخ ..
وأرسل في سماء القرية دوي رصاصة ثانية، وراح الناس من حوله يستعيذون من الشيطان الرجيم، ولعنه آخرون في سرهم، يضربون كفا بكف .
ومرت أيام التشارين وظل الشتاء بردا وريحا عقيما، لا مطر، ولا ري للأرض التي زرعت عفيرا، وجاءت أيام المربعانية ببردها القارس وريحها الصرصر، والتي يسميها الفلاحون الصرندح .
ذات يوم من أيام الصرندح كان نوفل أبو عمكوس مع الرعيان والحراثين في البرية شرق القرية، وفجأة حجبت شمس الأصيل غيوما بعيدة في كبد السماء، ونزل الغيث رذاذا لطيفا، صاح العجوز عبد الشكور مستبشرا:
ـ الحمد لله جاء الغيث، جاء الخير يا أهل البلد، ربنا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين .
خلع عبد الشكور البالطو الثقيل، وحسر عن رأسه، وراح يستقبل الغيث فرحا، لم يعجب الأمر نوفل، فخلع عقاله عن رأسه، وكشف عن صلعته وقال ساخرا:
ـ طز.. طزين أي غيث يا عجوز النحس؟ هذا المطر لن يبل صلعتي .
شد نوفل على حماره المهزول، وصعد عائدا نحو القرية، في الطريق الجبلية اشتد المطر، بلل صلعة نوفل، وبلل ثيابه، واشتد المطر والريح، ووصل الماء دافئا لجلده ، ثم صار يشعر به يخزه مثل الإبر، نزل عن الحمار وقد أحس بثقل ثيابه التي تشّرّبت الماء المنهمر، وعند المساء وصل الحمار للحوش، وعَّرَّج على مذوده ينتفض مقرورا من شدة البرد، ولم يعد صاحب الحمار .
عندما هبطت سدول الظلام على البلد خفت حدة المطر، وصمتت المزاريب، ولم يعد ُيُسمع غير هدير الماء المتدفق بين البيوت وفي الحارات .خرجت حفيظة تسأل الرعيان والحراثين عن زوجها، قالوا لها إنهم رأوه يسوق حماره عائدا إلى القرية، فردت ملهوفة:
ـ يا حسرتي، الحمار وصل، ونوفل ما وصل؟
عرف أهل الخبرة أن حادثا طرأ لنوفل، فأخذوا ما وصلت إليه أيديهم من سلاح، وأشعلوا المشاعل، وهبطوا يبحثون عن نوفل، ولم يطل الانتظار حتى عادوا به محمولا على بغل تتأرجح صلعته من جهة ولسانه يتدلى من فمه، وتلوح قدماه من الجهة الأخرى بحذاء الكاوتشوك الموحل .
صاحت زوجته: يا خراب بيتك يا حفيظة، من الذي قتل نوفل؟ أجابها الرجل الممسك بلجام البغل:
ـ لم يقتله أحد، رجلك كرّّز ومات .
قدت حفيظة ثوبها من نحره إلى طرفه ، وأخفت العتمة عورتها إلا لمحة خاطفة عندما أبرقت السماء وأرعدت، وانصب المطر صبا، وأدخل الرجال نوفل المكروز بيته، ومددوه على ذات الفراش الذي نام عليه ابنه جابر ابن الأعوام الأربعة..