إلغاء المتابعة
وضع إشارة مرجعية
أودُّ أن أتحدَّث عن شاعر من الغرب قلَّ نظيره بين الشعراء المحدثين في الحاسَّة الفنية التي استقامت له بضربٍ من الدراسة العقليّة والرياضة النفسيّة خلال فترة من العزلة تفرَّدتْ بطولها وبخصب نتاجها , وبقوة ما عانى فيها صاحبها من النظر والتفكير ...
إنه بول فاليري، مارد الأدب الجبَّار، وزعيم الغموض في الشعر الحديث. فما أكثر ما تناوله الشُّرَّاح والتراجمة، في حياته وبعد مماته، بالدَّرس الطويل! ولولا أن بول فاليري شخصٌ عاش كسائر الناس، وله في الحياة حقيقة الأحياء الصغرى، لكان اسمه اليوم أسطورة الأساطير في عالم الأدب.
فلنجتزئ اليوم إذن بفاليري الإنسان على أن نعود في فرصة أخرى إلى فاليري الفنَّان.
ولد بول فاليري في الثلاثين من تشرين الأول عام1871، في "سيت" القرية الحالمة في مدى البحر الأبيض المتوسط على الساحل المبسوط في جنوب فرنسا. تزوَّج أبوه الفرنسيّ من أمه الإيطالية بعامل الصدفة السعيدة على الطريقة الرومانتيكية، فتمَّ له بالوراثة المزدوجة دمٌ لاتينيّ في عباءة الحرية والفنِّ والجمال.
وكان لبعض رحلات الفتى فاليري إلى باريس ولندن، ولاختلافه الدائم إلى جنوا مدينة أخواله وأقارب أمه، أثرٌ بالغٌ في نفسه المشبوبة، طالما تحدَّث عنه في كبره بشيء كثير من التحنان الذي تندّيه العاطفة الذاكرة المشوقة.
ثم انتقل وأهله إلى مونبلييه ليدرس في ثانوياتها , فلم ينبَهْ في دروسه؛ ولم يكن التلميذ النجيب، كما يحسب بعض الباحثين خطأً عن توهُّمٍ شائع في نبوغ العباقرة منذ الصغر على مقاعد الدراسة.
كان يصغي إلى خطرات عقله أكثر من إصغائه إلى كلمات أساتذته، لأن هؤلاء، كما يقول، كانوا يتكلمون لغة الزجر والقسْر، وكانوا من البلاهة وضعف الإحساس على جانب مقروءٍ في عيونهم قبل برامجهم!
نفر فاليري إذن من القوالب المدرسية، وتوكّدت ذاته، وعظُمَ احتقاره للكتب التي بين يديه، فنال شهادة البكلوريا في نَصَبٍ واضحٍ وخمولِ ذكر، وله من العمر سبعة عشر عاماً. فإذا أتم تعليمه الثانوي على هذا النحو في جهدٍ جهيد، دخل معهد الحقوق في جامعة مونبلييه الشهيرة، وأغراه على ذلك أخوه الذي صار بعد ذلك عميداً للمعهد: جول فاليري.
وسار فاليري في دراسة الحقوق سيرته الأولى من قبل. وإنه لماضٍ في هذه المواد الجافة من علم القانون على مجاهدة، إذ علق قلبه، في جملة ما علق، بآثار "إدغار بوEdgar Poe " وبأحد كتب الكاتب "هويزمان Huysmans" فجعل يطيل النظر فيها ويقلّبها في شوق ويحملها أيَّان سار.
كان "بو وهويزمان" العامل الأول الذي حبَّب الأدب إلى "بول فاليري" وأخذ بذهنيَّته نحو هذا العالم الماتع الجديد الذي ساقه رويداً رويداً إلى أن يعتنق مذهب الرمزيَّة في شعره وفي تفكيره الفنيّ، وإنْ اختطَّ لنفسه بعد ذلك في هذا المذهب النفسيّ مذهباً كاد أن يميّزه بالطابع الخاصِّ من بين أدباء الرمزيَّة الفرنسيين.
وبلغ من انعطاف فاليري الشابّ نحو الفنّ، وإيمانه به، وإيثاره له، أن جعل ينظر إلى كافَّة العلوم على أنها لا شيء، ولا جدوى منها، فضعف بهذا الوهم نشاطه الجامعيّ، وضعف نشاطه العمليّ، وأخذ يحلم ويتأمَّل وينظم الشِّعر في مقطوعاتٍ قصارٍ، جمعها بعد ذلك في كتابٍ بعنوان: (مجموعة من الشعر القديم).
وقام بواجبه في خدمة العَلَم عام 1889 فكان جنديّاً بسيطاً في حامية مونبلييه، يعمل طول الأسبوع في فرقة الجيش هذه، ويوم الأحد كان يوم الراحة أو يوم الفِكْرِ، كما يسميّه، يخلو فيه إلى نفسه ليصنع شِعراً.
ويطلُّ عام 1890 يحمل معه في أيَّار الحدث الكبير في حياة فاليري. ذلك أن جامعة مونبلييه أقامت مهرجاناً لمرور ستمائة عامٍ على تأسيسها، دعتْ إليه العلماء والمفكرين والأدباء من كل الأقطار. ونال جميع الطلاب العاملين في خدمة العَلَم عطلة في هذه المناسبة. وكان فاليري أسعد هؤلاء الطلاب المُجازين جميعاً لما أُتيحَ له من الاتصال بالضيوف الوافدين . فالتقى بالأديب الذوَّاقة "بيير لويس Pierre Lauys" مؤلِّف (أفروديت) و(أغاني بيلتيس)، وكان لقاؤهما عيد الفكر والأدب، كما التقى بالكاتب المُفكِّر "أندريه جيد Andre Gides"، وكان واسطة التعريف والتعارف بينهما بيير لويس، فتبادل الأدباء الثلاثة إعجاباً بإعجاب، وعقد الحُبُّ الخالص بين قلوبهم. وعاد هذا اللقاء السعيد عليهم جميعاً بأخصب النتائج، لاسيَّما بالنسبة إلى شاعرنا بول فاليري. ثم تبودلت الرسائل بينهم بعد فراقهم، وتؤلّف هذه الرسائل المتبادلة بين أعضاء المثلث الأدبيّ الفريد أجمل صفحة في فرحة الأديب بالأديب كما يقول الشاعر العربي القديم.
ثم رأى فاليري في باريس حاضرةَ الأدب ومجمع الأدباء، فقدم إليها عام 1892. فهنا يجري لقاءٌ آخر أسعد من سابقه، وأكثر عائدة، وأخصب إنتاجاً، وهو لقاء فاليري بـ "مالارميه Mallarme". كان مالارميه صاحب مجلس أدبيٍّ حافلٍ ينعقد يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع، تجري في هذا المحفل مناقشاتٌ ومحاوراتٌ بلغتْ الغاية من الرَّوعة ففتنتْ صاحبنا فاليري كما فتنتْ كثيرين غيره من أدباء زمانه.
وكان مالارميه في مجلسه ذاك من يوم الثلاثاء أشبه بالأستاذ الأعظم يلقي على تلامذته دروساً رفيعةً في البيان والأدب والفنِّ والموسيقى. وكان كلامه أشبه بالسِّحْر يقع في نفوس ناشئة الشعراء فيلهبها ويوجّهها ويحدث فيها الانقلاب العميق الذي ليس إلى ردِّ سلطانه على العقول من سبيل.
وكذلك هامَ فاليري الشابّ بحبِّ أستاذه مالارميه، وأُعجِبَ به وقدَّره تقديراً يجلُّ عن الوصف، على أن فاليري حاول كثيراً أن يصف حبَّه وإعجابه وتقديره، فعجز وأعلن عجزه. فهنا عند مالارميه السَّاحر ألقى فاليري عصا تسياره، وانقطع إلى أستاذه، وبسط له نفسه الهائمة المعجبة البيضاء يكتب فيها (الأستاذ) مالارميه ما يشاء من ضروب التفكير الفنيّ والتوجيه الأدبيّ، حتى صار فاليري إنساناً جديداً بكلِّ ما في الجِدَّة من معنى.
وكان فاليري بما نشر من الشِّعر في شتى المجلات قد وطَّأ لنفسه مَجْداً أدبيّاً لا بأسَ به، فسار ذِكْرُه والإعجاب به بين رجال الأدب …ولكنَّه التفتَ ذات يومٍ إلى شِعره الذي نظمَه، فراعَهُ أن يكون وسطاً أو دون الوسط، وهالَهُ أن يكون بعيداً عن الكمال الفنيّ الذي ينشده. لقد لمح على الفور فُرجة مخيفة بين فنِّه وبين مفهومه للفنّ، فصغُرَ في عين نفسه واعتراه حالٌ من الشعور غريب سيطر عليه واستبدَّ فيه حتى أدَّى به آخر الأمر إلى الاعتزال اليائس.
ذلك أنه كان مستلقياً في فراشه ذات ليلة عاصفة من ليالي آب 1892 فرأى من خلال نافذة غرفته سماءً عجيبةً تزمجر فيها الرُّعود، وتلمع البروق، فبهر النور عينيه ثم أغمضهما طويلاً، ولكنّ النّور قد فتح نفسه على الحقيقة المُرَّة، فعرف فجأةً مكانه من الثقافة الصحيحة ومكان شِعره من الفنِّ الرفيع.
فهنا نزل من على فراشه ووقف على رجليه ثبْت العزيمة، ثم اتّخذ القرار الحاسم الرهيب: العزلة!
وشتَّتَ شمل كتبه، فأهداها كلها إلى أصدقائه ومعارفه، ثم سافر إلى "جنوا" رجاةَ أن يجد بين أقارب أمِّه دفء العاطفة في عزلته ويأسه.
على أن فاليري ظل حتى عام 1900 يكتب بعض الشيء ويختلف إلى الأوساط الأدبيّة بين حين وآخر، ولكن الأدباء كانوا يأسفون أشدّ الأسف لما اعترى فاليري من شعور العزلة التي لا ينتج فيها الإنتاج المرجوّ المتَّصل، وإنَّما يطفئ في نفسه بنفسه شعلةً طالما توهجت بضربٍ من الأدب الغنائيِّ المُعجِب الممتع.
هذه العزلة التي يئس فيها فاليري من إمكانيات فنِّه ونفسه، وانطوى فيها على ذاته، ماذا تعني على الضبط؟
كانت بداية الحال عند فاليري شكّاً أشبه بالشكِّ الفلسفيّ يعتري المنتج في قيمة إنتاجه. وصاحَبَ هذا الشكّ الفلسفيّ، أو قلْ غذَّاه، إيمانٌ بالفنِّ على أنه أخلدُ ما في الوجود، وغاية الغايات من الحياة. والفنَّان كائنٌ اصطفته مواهبه لتأدية رسالة جليلة، وليست حسناته بالتي تقاس في موازين الناس، وهو إنَّما يعبد إلَهاً مجهول الهوية حقاً ولكنه ملحوظ الأثر في آثار الجمال. فأين آثار هذا الجمال في فنِّ فاليري؟!
وكان فاليري لايزال في سنِّ الشباب يدفعه الطموح إلى السُّمو والكمال، ويهزُّ قلبه الإحساس المتحفِّز ويمتلئ عقله بنزعة المثاليّة.
ونظر فاليري فرأى أنَّ الفنَّ لا يكون فناً إلاّ إذا رفدته تجربةٌ نفسيةٌ، وإلاّ إذا سوَّاه عقلٌ متأمِّلٌ، وإلاّ إذا توفَّرتْ له أدوات المعرفة، لأن التجربة والعقل والمعرفة أقوى ما يتعلق به الأديب من أسباب الكمال المطلق.
الكمال المطلق!!؟؟ هذا هو كلّ المحور الذي لابَ عليه فاليري في عزلته، فكان معقد رجائه ومنتهى أمله.
شرع فاليري يفتش عن "الكمال المطلق" حتى وجد بابه الأول في العِلْم، كلّ عِلم، حتى الرياضيات...
نعم! كان فاليري الطالب يكره الرياضيات، وكان هذا الكره من أهم أسباب عزوفه عن سلك البحرية، حلم الطفل المفضل. ولكنَّ فاليري الأديب الفنان يهيم الآن بالرياضيات، حتى لقد روى الرواة أنَّ غرفته الأثيرة خلال عزلته كان يتصدّرها لوحٌ أسود كبير عليه دائماً معادلاتٌ في الجبر، ورسوم هندسيّةٌ، وأرقام حساب.
هاهو إذن يجد في الرياضيات منطقاً متماسكاً، واتجاهاً موحَّداً ومناقشةً خصبةً، ووضوحاً في الإبراه، على خلاف ما كان يجد فيها من قبل، فيُقبل عليها يدرسها بإمعان لملاءمة طرائق الرياضيات، طرائق العقل في التفكير، ولأنَّ المادّة العددية هي من التجريد والبساطة والصفاء والدقة بحيث تشبه في حركاتها حركات الذهن والتفاتاته.
ثم درس فاليري العلوم الفيزيائيّة؛ فرأى كيف حلَّت العلاقات الرياضيّة محلَّ الأحداث الطبيعية، وكيف قام العدد مقام المادّة، فكانت النّقلة هنا نقلة الخيال في أباهيّ صوره.
وتستطيع أن تتمثَّل تقاطر العلوم على حياة فاليري في عزلته إلى أن قام في رأسه أنَّ بالإمكان إيجاد صيغةٍ علميّةٍ تُعبّر عن مبدأ الفنِّ، وهو أنَّ صانع الأدب لا ينبغي أن يبدأ من حيث يريد أن يُعطي من نفسه، بل من حيث يريد أن يأخذ لنفسه؛ أعني أنه لا يبدأ من ذات أحاسيسه، بل من الأحاسيس التي يحرص هو على إحداثها في القارئ أو السامع. وعلى الجملة، فالمعلول يتحكَّم في العلَّة، والأثر هو الذي يُملي السبب ـ كما يقول الفلاسفة ـ.
يقول فاليري: "المثل الأعلى في الأدب هو الفنُّ في معرفة وضع القارئ، والقارئ وحده، على القرطاس". ويقول أيضاً: "إنَّ الأدب هو فنُّ اللّعب بنفوس الآخرين".
ولكن فاليري الذي آمن بالأدب والفنِّ على هذا النحو، وتوسَّل لهما في عزلته بأسباب العلم والمعرفة، لم يشأ أن يجعل من أدبه وفنه وسيلةً إلى الارتزاق الماديّ، لاعتقاده أن الآداب والفنون أسمى من أن تكون صناعةً كهذه الصناعات التي يتكسَّبُ بها المرء من أجل العيش العريض!
لقد دخل عام 1897 وزارة الحربية وعمل فيها موظفاً ثلاث سنوات، ثم عمل طيلة 22 عاماً في وكالة الأنباء الصحفية المعروفة (هافاس) بصفة سكرتيرٍ خاص لمديرها العام.
وظل من 1900 الى 1917 في معزلٍ عن عالم الأدباء والنَّشر في الصحف، وهي فترة لم يعهدها التاريخ في أديبٍ، مثل فاليري، شعَّ اسمه كالعطر في أرجاء الأدب وكان شعره يتردَّد على الأفواه وهو صامتٌ في عزلته الطويلة.
ولكن الكاتب أندريه جيد، والناشر غاستون غاليمارG. Gallimard شاءا - لإعجابهما الشديد بفاليري ـ أن يعود سيرته الأولى في ممارسة الأدب، فطلبا إليه أن يجمع شعره القديم الضائع في مختلف المجلّات لينشراه له بعنايتهما وعلى حسابهما في ديوانٍ صغيرٍ جميل.
ونفدت ستمائة نسخة من الطبعة الأولى من الديوان خلال ثلاثة أشهر من عام 1917 في جبهات القتال ... ولكنَّ الشُّهرة التي ظفر بها تجاوزت كلَّ حدٍّ مألوفٍ. انتُخِبَ عام 1927 عضواً في الأكاديميّة الفرنسيّة، وحاضرَ في برلين عن الأدب الفرنسيّ، ثم عُيِّنَ أستاذاً للشِّعر في "كوليج دي فرانس" وأصبح مدير الدائرة الجامعيّة للبحر الأبيض المتوسِّط، ونال وسام "اللجيون دونور" برتبة ضابط ...
صار فاليري إذن (رجل أدب) بالمعنى المعروف: ينظم الشعر، ويُنشيء الفصول، ويؤلِّف الكتب، ويعمل مقدِّماتٍ للباحثين والأدباء والفنانين والعلماء والفلاسفة أيضاً!
وظلّت حياته أحفل حياةٍ بالإنتاج الأدبيّ حتى عام 1945، هنالك أغمض عينيه في جلال الموت الهادىء، وسكتَ ذلك القلم الذي عمل الآثار في ظلِّ هذا الشّعار:
"هنا أرقدُ أنا القتيلُ بيدِ الآخرين"
صيف 1949
# زهير ميرزا
وضع إشارة مرجعية
أودُّ أن أتحدَّث عن شاعر من الغرب قلَّ نظيره بين الشعراء المحدثين في الحاسَّة الفنية التي استقامت له بضربٍ من الدراسة العقليّة والرياضة النفسيّة خلال فترة من العزلة تفرَّدتْ بطولها وبخصب نتاجها , وبقوة ما عانى فيها صاحبها من النظر والتفكير ...
إنه بول فاليري، مارد الأدب الجبَّار، وزعيم الغموض في الشعر الحديث. فما أكثر ما تناوله الشُّرَّاح والتراجمة، في حياته وبعد مماته، بالدَّرس الطويل! ولولا أن بول فاليري شخصٌ عاش كسائر الناس، وله في الحياة حقيقة الأحياء الصغرى، لكان اسمه اليوم أسطورة الأساطير في عالم الأدب.
فلنجتزئ اليوم إذن بفاليري الإنسان على أن نعود في فرصة أخرى إلى فاليري الفنَّان.
ولد بول فاليري في الثلاثين من تشرين الأول عام1871، في "سيت" القرية الحالمة في مدى البحر الأبيض المتوسط على الساحل المبسوط في جنوب فرنسا. تزوَّج أبوه الفرنسيّ من أمه الإيطالية بعامل الصدفة السعيدة على الطريقة الرومانتيكية، فتمَّ له بالوراثة المزدوجة دمٌ لاتينيّ في عباءة الحرية والفنِّ والجمال.
وكان لبعض رحلات الفتى فاليري إلى باريس ولندن، ولاختلافه الدائم إلى جنوا مدينة أخواله وأقارب أمه، أثرٌ بالغٌ في نفسه المشبوبة، طالما تحدَّث عنه في كبره بشيء كثير من التحنان الذي تندّيه العاطفة الذاكرة المشوقة.
ثم انتقل وأهله إلى مونبلييه ليدرس في ثانوياتها , فلم ينبَهْ في دروسه؛ ولم يكن التلميذ النجيب، كما يحسب بعض الباحثين خطأً عن توهُّمٍ شائع في نبوغ العباقرة منذ الصغر على مقاعد الدراسة.
كان يصغي إلى خطرات عقله أكثر من إصغائه إلى كلمات أساتذته، لأن هؤلاء، كما يقول، كانوا يتكلمون لغة الزجر والقسْر، وكانوا من البلاهة وضعف الإحساس على جانب مقروءٍ في عيونهم قبل برامجهم!
نفر فاليري إذن من القوالب المدرسية، وتوكّدت ذاته، وعظُمَ احتقاره للكتب التي بين يديه، فنال شهادة البكلوريا في نَصَبٍ واضحٍ وخمولِ ذكر، وله من العمر سبعة عشر عاماً. فإذا أتم تعليمه الثانوي على هذا النحو في جهدٍ جهيد، دخل معهد الحقوق في جامعة مونبلييه الشهيرة، وأغراه على ذلك أخوه الذي صار بعد ذلك عميداً للمعهد: جول فاليري.
وسار فاليري في دراسة الحقوق سيرته الأولى من قبل. وإنه لماضٍ في هذه المواد الجافة من علم القانون على مجاهدة، إذ علق قلبه، في جملة ما علق، بآثار "إدغار بوEdgar Poe " وبأحد كتب الكاتب "هويزمان Huysmans" فجعل يطيل النظر فيها ويقلّبها في شوق ويحملها أيَّان سار.
كان "بو وهويزمان" العامل الأول الذي حبَّب الأدب إلى "بول فاليري" وأخذ بذهنيَّته نحو هذا العالم الماتع الجديد الذي ساقه رويداً رويداً إلى أن يعتنق مذهب الرمزيَّة في شعره وفي تفكيره الفنيّ، وإنْ اختطَّ لنفسه بعد ذلك في هذا المذهب النفسيّ مذهباً كاد أن يميّزه بالطابع الخاصِّ من بين أدباء الرمزيَّة الفرنسيين.
وبلغ من انعطاف فاليري الشابّ نحو الفنّ، وإيمانه به، وإيثاره له، أن جعل ينظر إلى كافَّة العلوم على أنها لا شيء، ولا جدوى منها، فضعف بهذا الوهم نشاطه الجامعيّ، وضعف نشاطه العمليّ، وأخذ يحلم ويتأمَّل وينظم الشِّعر في مقطوعاتٍ قصارٍ، جمعها بعد ذلك في كتابٍ بعنوان: (مجموعة من الشعر القديم).
وقام بواجبه في خدمة العَلَم عام 1889 فكان جنديّاً بسيطاً في حامية مونبلييه، يعمل طول الأسبوع في فرقة الجيش هذه، ويوم الأحد كان يوم الراحة أو يوم الفِكْرِ، كما يسميّه، يخلو فيه إلى نفسه ليصنع شِعراً.
ويطلُّ عام 1890 يحمل معه في أيَّار الحدث الكبير في حياة فاليري. ذلك أن جامعة مونبلييه أقامت مهرجاناً لمرور ستمائة عامٍ على تأسيسها، دعتْ إليه العلماء والمفكرين والأدباء من كل الأقطار. ونال جميع الطلاب العاملين في خدمة العَلَم عطلة في هذه المناسبة. وكان فاليري أسعد هؤلاء الطلاب المُجازين جميعاً لما أُتيحَ له من الاتصال بالضيوف الوافدين . فالتقى بالأديب الذوَّاقة "بيير لويس Pierre Lauys" مؤلِّف (أفروديت) و(أغاني بيلتيس)، وكان لقاؤهما عيد الفكر والأدب، كما التقى بالكاتب المُفكِّر "أندريه جيد Andre Gides"، وكان واسطة التعريف والتعارف بينهما بيير لويس، فتبادل الأدباء الثلاثة إعجاباً بإعجاب، وعقد الحُبُّ الخالص بين قلوبهم. وعاد هذا اللقاء السعيد عليهم جميعاً بأخصب النتائج، لاسيَّما بالنسبة إلى شاعرنا بول فاليري. ثم تبودلت الرسائل بينهم بعد فراقهم، وتؤلّف هذه الرسائل المتبادلة بين أعضاء المثلث الأدبيّ الفريد أجمل صفحة في فرحة الأديب بالأديب كما يقول الشاعر العربي القديم.
ثم رأى فاليري في باريس حاضرةَ الأدب ومجمع الأدباء، فقدم إليها عام 1892. فهنا يجري لقاءٌ آخر أسعد من سابقه، وأكثر عائدة، وأخصب إنتاجاً، وهو لقاء فاليري بـ "مالارميه Mallarme". كان مالارميه صاحب مجلس أدبيٍّ حافلٍ ينعقد يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع، تجري في هذا المحفل مناقشاتٌ ومحاوراتٌ بلغتْ الغاية من الرَّوعة ففتنتْ صاحبنا فاليري كما فتنتْ كثيرين غيره من أدباء زمانه.
وكان مالارميه في مجلسه ذاك من يوم الثلاثاء أشبه بالأستاذ الأعظم يلقي على تلامذته دروساً رفيعةً في البيان والأدب والفنِّ والموسيقى. وكان كلامه أشبه بالسِّحْر يقع في نفوس ناشئة الشعراء فيلهبها ويوجّهها ويحدث فيها الانقلاب العميق الذي ليس إلى ردِّ سلطانه على العقول من سبيل.
وكذلك هامَ فاليري الشابّ بحبِّ أستاذه مالارميه، وأُعجِبَ به وقدَّره تقديراً يجلُّ عن الوصف، على أن فاليري حاول كثيراً أن يصف حبَّه وإعجابه وتقديره، فعجز وأعلن عجزه. فهنا عند مالارميه السَّاحر ألقى فاليري عصا تسياره، وانقطع إلى أستاذه، وبسط له نفسه الهائمة المعجبة البيضاء يكتب فيها (الأستاذ) مالارميه ما يشاء من ضروب التفكير الفنيّ والتوجيه الأدبيّ، حتى صار فاليري إنساناً جديداً بكلِّ ما في الجِدَّة من معنى.
وكان فاليري بما نشر من الشِّعر في شتى المجلات قد وطَّأ لنفسه مَجْداً أدبيّاً لا بأسَ به، فسار ذِكْرُه والإعجاب به بين رجال الأدب …ولكنَّه التفتَ ذات يومٍ إلى شِعره الذي نظمَه، فراعَهُ أن يكون وسطاً أو دون الوسط، وهالَهُ أن يكون بعيداً عن الكمال الفنيّ الذي ينشده. لقد لمح على الفور فُرجة مخيفة بين فنِّه وبين مفهومه للفنّ، فصغُرَ في عين نفسه واعتراه حالٌ من الشعور غريب سيطر عليه واستبدَّ فيه حتى أدَّى به آخر الأمر إلى الاعتزال اليائس.
ذلك أنه كان مستلقياً في فراشه ذات ليلة عاصفة من ليالي آب 1892 فرأى من خلال نافذة غرفته سماءً عجيبةً تزمجر فيها الرُّعود، وتلمع البروق، فبهر النور عينيه ثم أغمضهما طويلاً، ولكنّ النّور قد فتح نفسه على الحقيقة المُرَّة، فعرف فجأةً مكانه من الثقافة الصحيحة ومكان شِعره من الفنِّ الرفيع.
فهنا نزل من على فراشه ووقف على رجليه ثبْت العزيمة، ثم اتّخذ القرار الحاسم الرهيب: العزلة!
وشتَّتَ شمل كتبه، فأهداها كلها إلى أصدقائه ومعارفه، ثم سافر إلى "جنوا" رجاةَ أن يجد بين أقارب أمِّه دفء العاطفة في عزلته ويأسه.
على أن فاليري ظل حتى عام 1900 يكتب بعض الشيء ويختلف إلى الأوساط الأدبيّة بين حين وآخر، ولكن الأدباء كانوا يأسفون أشدّ الأسف لما اعترى فاليري من شعور العزلة التي لا ينتج فيها الإنتاج المرجوّ المتَّصل، وإنَّما يطفئ في نفسه بنفسه شعلةً طالما توهجت بضربٍ من الأدب الغنائيِّ المُعجِب الممتع.
هذه العزلة التي يئس فيها فاليري من إمكانيات فنِّه ونفسه، وانطوى فيها على ذاته، ماذا تعني على الضبط؟
كانت بداية الحال عند فاليري شكّاً أشبه بالشكِّ الفلسفيّ يعتري المنتج في قيمة إنتاجه. وصاحَبَ هذا الشكّ الفلسفيّ، أو قلْ غذَّاه، إيمانٌ بالفنِّ على أنه أخلدُ ما في الوجود، وغاية الغايات من الحياة. والفنَّان كائنٌ اصطفته مواهبه لتأدية رسالة جليلة، وليست حسناته بالتي تقاس في موازين الناس، وهو إنَّما يعبد إلَهاً مجهول الهوية حقاً ولكنه ملحوظ الأثر في آثار الجمال. فأين آثار هذا الجمال في فنِّ فاليري؟!
وكان فاليري لايزال في سنِّ الشباب يدفعه الطموح إلى السُّمو والكمال، ويهزُّ قلبه الإحساس المتحفِّز ويمتلئ عقله بنزعة المثاليّة.
ونظر فاليري فرأى أنَّ الفنَّ لا يكون فناً إلاّ إذا رفدته تجربةٌ نفسيةٌ، وإلاّ إذا سوَّاه عقلٌ متأمِّلٌ، وإلاّ إذا توفَّرتْ له أدوات المعرفة، لأن التجربة والعقل والمعرفة أقوى ما يتعلق به الأديب من أسباب الكمال المطلق.
الكمال المطلق!!؟؟ هذا هو كلّ المحور الذي لابَ عليه فاليري في عزلته، فكان معقد رجائه ومنتهى أمله.
شرع فاليري يفتش عن "الكمال المطلق" حتى وجد بابه الأول في العِلْم، كلّ عِلم، حتى الرياضيات...
نعم! كان فاليري الطالب يكره الرياضيات، وكان هذا الكره من أهم أسباب عزوفه عن سلك البحرية، حلم الطفل المفضل. ولكنَّ فاليري الأديب الفنان يهيم الآن بالرياضيات، حتى لقد روى الرواة أنَّ غرفته الأثيرة خلال عزلته كان يتصدّرها لوحٌ أسود كبير عليه دائماً معادلاتٌ في الجبر، ورسوم هندسيّةٌ، وأرقام حساب.
هاهو إذن يجد في الرياضيات منطقاً متماسكاً، واتجاهاً موحَّداً ومناقشةً خصبةً، ووضوحاً في الإبراه، على خلاف ما كان يجد فيها من قبل، فيُقبل عليها يدرسها بإمعان لملاءمة طرائق الرياضيات، طرائق العقل في التفكير، ولأنَّ المادّة العددية هي من التجريد والبساطة والصفاء والدقة بحيث تشبه في حركاتها حركات الذهن والتفاتاته.
ثم درس فاليري العلوم الفيزيائيّة؛ فرأى كيف حلَّت العلاقات الرياضيّة محلَّ الأحداث الطبيعية، وكيف قام العدد مقام المادّة، فكانت النّقلة هنا نقلة الخيال في أباهيّ صوره.
وتستطيع أن تتمثَّل تقاطر العلوم على حياة فاليري في عزلته إلى أن قام في رأسه أنَّ بالإمكان إيجاد صيغةٍ علميّةٍ تُعبّر عن مبدأ الفنِّ، وهو أنَّ صانع الأدب لا ينبغي أن يبدأ من حيث يريد أن يُعطي من نفسه، بل من حيث يريد أن يأخذ لنفسه؛ أعني أنه لا يبدأ من ذات أحاسيسه، بل من الأحاسيس التي يحرص هو على إحداثها في القارئ أو السامع. وعلى الجملة، فالمعلول يتحكَّم في العلَّة، والأثر هو الذي يُملي السبب ـ كما يقول الفلاسفة ـ.
يقول فاليري: "المثل الأعلى في الأدب هو الفنُّ في معرفة وضع القارئ، والقارئ وحده، على القرطاس". ويقول أيضاً: "إنَّ الأدب هو فنُّ اللّعب بنفوس الآخرين".
ولكن فاليري الذي آمن بالأدب والفنِّ على هذا النحو، وتوسَّل لهما في عزلته بأسباب العلم والمعرفة، لم يشأ أن يجعل من أدبه وفنه وسيلةً إلى الارتزاق الماديّ، لاعتقاده أن الآداب والفنون أسمى من أن تكون صناعةً كهذه الصناعات التي يتكسَّبُ بها المرء من أجل العيش العريض!
لقد دخل عام 1897 وزارة الحربية وعمل فيها موظفاً ثلاث سنوات، ثم عمل طيلة 22 عاماً في وكالة الأنباء الصحفية المعروفة (هافاس) بصفة سكرتيرٍ خاص لمديرها العام.
وظل من 1900 الى 1917 في معزلٍ عن عالم الأدباء والنَّشر في الصحف، وهي فترة لم يعهدها التاريخ في أديبٍ، مثل فاليري، شعَّ اسمه كالعطر في أرجاء الأدب وكان شعره يتردَّد على الأفواه وهو صامتٌ في عزلته الطويلة.
ولكن الكاتب أندريه جيد، والناشر غاستون غاليمارG. Gallimard شاءا - لإعجابهما الشديد بفاليري ـ أن يعود سيرته الأولى في ممارسة الأدب، فطلبا إليه أن يجمع شعره القديم الضائع في مختلف المجلّات لينشراه له بعنايتهما وعلى حسابهما في ديوانٍ صغيرٍ جميل.
ونفدت ستمائة نسخة من الطبعة الأولى من الديوان خلال ثلاثة أشهر من عام 1917 في جبهات القتال ... ولكنَّ الشُّهرة التي ظفر بها تجاوزت كلَّ حدٍّ مألوفٍ. انتُخِبَ عام 1927 عضواً في الأكاديميّة الفرنسيّة، وحاضرَ في برلين عن الأدب الفرنسيّ، ثم عُيِّنَ أستاذاً للشِّعر في "كوليج دي فرانس" وأصبح مدير الدائرة الجامعيّة للبحر الأبيض المتوسِّط، ونال وسام "اللجيون دونور" برتبة ضابط ...
صار فاليري إذن (رجل أدب) بالمعنى المعروف: ينظم الشعر، ويُنشيء الفصول، ويؤلِّف الكتب، ويعمل مقدِّماتٍ للباحثين والأدباء والفنانين والعلماء والفلاسفة أيضاً!
وظلّت حياته أحفل حياةٍ بالإنتاج الأدبيّ حتى عام 1945، هنالك أغمض عينيه في جلال الموت الهادىء، وسكتَ ذلك القلم الذي عمل الآثار في ظلِّ هذا الشّعار:
"هنا أرقدُ أنا القتيلُ بيدِ الآخرين"
صيف 1949
# زهير ميرزا
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com