باسم الشريف - عوالم جنوبية ..

(إلى: محسن حنيص)


القصة:

بدا الأمر أكثر تأثيراً مما مضى بفعل وقع نظراتها التي لم يكن يأبه بها عندما طالعته محملقة على نحو غريب . حينها لم يتسن له التأكد من أن الاستغراق في النظرات المكتظة بالغموض هي من وليد الصدفة ، أو ربما مجرد سقوط نظرة عابرة . بعدها أيقن أن النظرات لم تكن سوى أمرا قصـدياً ، تحاول من خلالـه أن تمنح روحها إنعتاقاً من براثن إحساسها بالاختناق بعدما استبدت بها الظنون . حينها تفرَّسَت في تلك الوجوه مراراً ودون اكتراث لِما يلزمها من رباطة الجأش . إجتذبها احتدام السحنات التي راحت تختلج بين ثنايا اللوحة . لم يَكُنْ هو يفعل شيئاً غير ذلك الانشداد الغريب الذي أخذ يترشح لوعة وجنوناً . كان هناكَ سرٌّ مكنونٌ يكتنف تلك الوجوه ، يطارده كالمسِّ ، فتراه يمضي هارباً بين خبايا الكتب وسحر الخمرة التي تتملكه لتروّض فيه ذلك الحلم المخبول .

قبل أن يتسلل بخفَّةٍ وهدوء متوارياً خلفَ غرفته ليقفَ على سطحِ الشرفةِ ، كانَ التساؤل قد أغرقهُ في أتون لجّة أضغاث غامضة، ندَت عن كلماتٍ كانت تنساب من بين شفتيها عنوة ، مغرقة إياها في عذوبة بحر من الأسى المضطرب . بعدها استطاعت أن تمسكَ بتوجسِ ذلك السؤال الذي أفلت منها على حين غرّة .

ـ آه إنها تلك اللوحة . قالت وهي تهمّ بإطفاء النور نزولاً لرغبةٍ في داخلها ، لكنها سرعان ما تراجعت ، خاضعة لكبرياء عقله المحفوف بالغموض ، لتجدَ نفسها مضطجعةً دونما حراك إلى جانب طفلهما .

الآن وبعد أن أحسّ بصفوٍ لذيذ أخذ ينمو فيه ، ويطلق لديه بقايا حرية متحجرة ، ظل واقفاً يرنو إلى ما وراء السحنات وعيناه لا تحيدان عن ذلك النبض اللامرئي الذي أخذ يعتري اللوحة .


المكنون الأول

لجارة القمر

بَدَتْ معلّقة في سماء ليلٍ بهيجٍ ، كما لو أن أكفّ الموج حملَتها من رحم زرقته كما هي الآن محمولة عبر مديات الأثير الشاسعة ، مخترقة الآفاق رغم مسافاتها المزحومة بأنباء الحروب والكوارث والأوبئة . صوتها لم يَزَل يترنم بنفس الشدو ، تنفعل قليلاً وتهدأ ، ثم تعلو وتصدح بذات الصوت الشفيف . وإلى جانب إيقاعات المطر التشريني الذي أخذ ينشر نسـيماً رطباً ، راحَ ينسرب عبر العرائش.

يبقى يصغي لشدوها وهو يتسرّب بين خلاياه منقولاً عبر البثّ الفضائي المتلفز ، وهاجس الجنوب لا يفارقها ، وهو يمور بين شفتيها المزمومتين غناءً عذباً :

( سوارة العروسة مشغولة بالذهب
وأنت مشغول بقلوب يتراب الجنوب
رسايل الغياب مكتوبة بالذهب
وإنت بالعند مكتوب يتراب الجنوب )

جنوبية القسمات ، طفقت تحوم بين ثنايا الليل الفيروزيّ ، تحاول بإحساس عاشق أن تنأى بأحلامها على متن موجة دامية . وقبل أن تتهاوى انتحارا بعشق الأرض ، بدت وكأنها تمتد مثل جناح لملاك غاضب . كان هناك انفجار عنيف ، يحفّ بذات الجناح ، لعناصره ضراوة البارود الماحق . لم يكن ثمة فراغ . إذ يمتدّ حلمها المتشظي عبر مسالك الفراغات المتوهجة ، محتلاً مساحات أديمها الكالح بدم يمور ثأراً . لبريق عينيها الذي أخذ ينداح عبر ذات المساحات وهج القباب المسـتدقة وهي تحتضن بنورها ضباب الغبش الذي بدأ يعكس عبر مراياه الخبيئة شكلها المزحـوم بتضاريس الجنوب . لا شيء ينبيء بالفجيعة سوى احتضار تويجات المرجان التي لفظتها القيعان وهي تحفّ بتلك الموجة الدامية . كان ذلك

المكنون الثاني

سناء محيدلي ، أو الموت عشقاً بالجنوب

في الفترة التي سبقت قيلولته ، ألقى بنفسه مسترخياً فوق أريكته الجريدية والتي كانت مكملة، بذات الجريد، بقايا أجزاء غرفته ذات السمات المكتبية . لم تكن لديه أية رغبة بتتبع خطواتها وهي تتجه ببطء نحو ذات الشرفة التي هو الآن ماثل فيها ، جاثماً على مفاصلها الصدئة ، يستشعر بعذوبة أغصان السدر التي بدت أشدّ وضوحا من ذي قبل ، وهي تضوع بشتى الأعباق وسط دوامات الروائح المنعشـة ، بفعل إثـارة المطر الليلي لها . حينها بقي وحـيداً ، يحملق بالأشـياء ، وبينما دخلت أمّه بأقداح الشـاي ، دخلت وخرجت كالظلّ الباهت . أراح بدنه ليضطجع ، ونظراته مسمّرة على خيوط الضوء النازل عند أقصى الزاوية ، استعد لأن يغفو قليلاً. كانت تلك صعقة قوية عندما رآها تنقّب بين خلايا الوجوه ، باحثة عن بقايا ملامح إمرأة نأت بها الحرب عند أقاصي تخوم العدم .

المكنون الثالث

سحنات مموهة لها جذوة الصـبا وغموض العرافات

ملامح احتضنتها أوراق الآس كيما تتكشف سحناتها الخبيئة ترنو إليه ، فيشتعل صخباً إزاء عينـيها اللتين يحفّ بهما لمعان لا يفقهه ، يستشفّ مسحة الكـبرياء المتماهية التي تلوح التماعاتها الملغّزة خلف طلاسم كان يراها تنوء على أجساد الغجريات . لقد جاست تلك اللحظة كاشفة عن رماد الألم ، ذلك الجمر المتأجج . هاهي الملامح الحبيسة التي طالما موّهها وأخفى الباذخ من معانيها ، أخذت تتطوّح خارج ملامح ( أورنيلا مونتي ) المعروفة بأنّ لها نضارة الصبايا ، وغموض العرافات . غفى قليلاً بعدما أحسّ بلا جدوى الاستمرار ، هكذا دونما حراك ، ودون الإتيان بفعل ما . وأن كل ما كان يضطرب خلف تداعياته لا يعدو أن يكون سوى تحضيرا حقيقياً لأمر يتيح له التحرك بأقل قدر من الريبة التي ربما ساورت امرأته . أراد أن ينجز شيئاً ، وإذا ما فعل فإن أوّل ما سيفعله هو الانـزواء داخل إحدى الحانات المرتمية على امتداد الشارع والمحاذية للجسر الخشبي ، ليطفيء نار هواجسه باحتساء حشد من قناني البيرة بصحبة بعض معارفه من شغيلة الأرصفة النهرية ، وهذا ما حصل بالفعل قبل أن تبدأ العتمة بفرش ظلالها الكابية على نفوس الأشياء .


* * *

نأت به الأحلام ، أحلام القيلولة ، التي أخذت تقوده صوب ليل الشظايا المحموم .

– يا سعد السيد هل تتذكر ما قلته عن إحياء الأجساد الطلسمية ، المشيّدة بالصفيح ؟؟

– وأنت ألم تزر تلك الأحياء ؟

يضحك آمر الدورية التي أوشكت على استلام نوبتها ، ويستجيب بقية أفرادها ، يزدحم الموضع بالضحك المكتوم . يطرق سعد السيد كمن يرى زوايا تلك الأحياء المزحومة بالوجوه الشرهة، المتربصة ، وجوه لها سيماء شهوانية نـزقة .

– أقسم أنكم لا تعرفون شيئاً عن لغة الأوشام حين تتجلى على أديم الأجساد الرخامية ..!

يتواصل الضحك بصوت عال ، يقول أحدهم :

– ليست الكلمات وحدها التي تقرأ ، بإمكاننا أن نتهجأ حروف الأجساد ، ونستطيع أيضاً أن نقرأها قاطبة .

يضحك آمر الدورية وهو يهمّ بالخروج بمعية أفراده .

– هل رأيت وهج حروفها الشذري عند الفروغ من قراءتها؟

تبقى نظراته تتقاطر حزناً حينما يمنحها أفق السواتر المكتظة بالإنفلاقات إحساساً بلا أدنى معنى للزمن .


* * *

كان أحدهم قد أسدى له بتلك المعلومة ، واقترح عليه أن يشارك الجمع المكوث أطول مدة ممكنة ، كي يستمتعون معاً بالحفل المتلفز الذي سَيُبَـثُّ عبر الأقمار الصناعية . غير أن الاقتراح جوبه بالرفض بكامل اللياقة والاحتـرام . بعدها انسحب بخفة وهدوء عبر صالة الحانة الفسيحة ، أحسّ فجأة بظلال العتمة المطبقة وهي تكتنف الطرق والشوارع . بدأ المطر يهطل خفيفاً وهو ما زال يمضي قدماً باتجاه رصيف النهر ، كان يشعر بشيء من الانشراح الذي جعل من حركته أكثر خفة واتزاناً ، لذا بدت خطواته أكثر اتساعا مما مضى .

ها هو الآن ينصت ، تتقاذفه لجج الذكريات التي ما زالت عائمة على سطح حاضره . في ما مضى كانت الدموع مسلك آلامه الوحيد . لقد قرأ ذات مرة ما مفاده إن الآلام التي لا تخرج عن طريق الدموع سوف تسلك مسالك أخرى عن طريق الجسد ، ثم أعلن ذات يوم على الملأ من صحبه عن مقولته التي راح يعرفها الجميع (( إن من يجعل أحبّته يذكرونه ، وأن يدمنون على الإحساس بأنه يعيش في ما يحبون ، لا يمكن أن يكون قد توارى عنهم نهائياً حتى يواصلون الرحيل معاً . إن بعض الناس قد ينسون ، أما هو فلا)) . بقي واقفا يحملق بالملامح التي أخذت تنبعث رويداً رويدا من خلف التحام وجوه اللوحة . ظل لبضع لحظات يرنو لملامحها وهي تتسرب بامتزاج عجيب من الغضب والخجل معاً ، ومع انفراج أسارير وجهها يمضي الليل متجاوزاً أقصاه وهو ما زال يرقص رقصته ( الزوربية ) بمزاج حاد محدثاً ضجيجاً من الانشراح . أحد ما كان رابضاً عند زاوية الشرفة ، أخذ يرقبه ، وقد تحرّر من شرنقة هواجسه ، راح يردد مع فيروز :

( عندي ولع فيك
والله راح موت فيك
معقول في أكثر .. أنا ما عندي أكثر
ما كل الجمل والحكي عم ينتهي فيك
عندي ولع فيك ) ..




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارة:

جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.

منقول عن موقع الناقد العراقي

أعلى