على الرغم من قلة المعلومات التي توثق حياة "سافو ـ شاعرة الحب والجمال عند اليونان"؛ فقد أخرج الدكتور عبد الغفار مكاوي كتابا عنها بنفس العنوان تاركًا للاكتشافات التي قد تستجد في المستقبل الإضافة والتصويب. ولهذا فلن يصرفنا في الكتابة عن "الحاجة السيدة السويسية" قلة ما أوردته بعض المصادر التاريخية عنها، وأن نرضى ببذل الجهد في استقصاء كل شذرة أو قبس مبثوث عنها.
ولعل من أهم الدوافع للكتابة عن "السويسية" انتسابها وميلادها لمدينة تاريخية، كوزموبوليتانية، عالمية، ذاع صيتها في أجواء السياسة الدولية في العصر الحديث، والقديم بداهة، وارتبط بها حجاج المغرب العربي والأفارقة، وهي مدينة "السويس" مدينتي، ليس هذا فحسب ولكن لتصحيح خطأ مشهور في إلصاق الفن بالمقاومة حتى أصبح دالا على فن تلك المدينة، في حين أن "الحاجة السويسية" وعائلتها قد ساهمت مساهمة فعالة في تاريخ الغناء والعزف العربيين الذي يمتد جذره الممتد لفرعه الباسق في صوت الذهبي الحنجرة المطرب "محمد قنديل" الذي حفر اسمه في الذاكرة السمعية المصرية، كما عرفته البيئات العربية وأكثرها دولة الجزائر الذي كان من أهم ممن تغنى بثورتها حاضرًا في ذكرى ثورتها المجيدة لأعوام عديدة.
كما يثبت نجاح وشهرة "السويسية" وقريناتها من رائدات الغناء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، نجاح المرأة العربية في ارتياد هذا الأفق الراقي من الفن، ونفي ما تدَّعيه "الحركات النسوية العربية" الحديثة من الهيمنة الذكورية، واستلاب مجد المرأة من أن تتبوأ مكانة متميزة في مجتمعها، خاصة وأن من ساهم في بروز شأن فن السويسية أساتذتها من أفراد عائلتها، وهو ما جاء متزامنا مع نشأة الحركة النسائية في مصر ومؤسستها هدى شعراوي وقاسم أمين ودخول المرأة مجال الغناء والمسرح.
عرفت مصر المقاهي في القرن التاسع عشر أثناء فترة الحكم العثماني، ومع انتشارها تطورت حتى أصبحت النساء عنصرا أساسيا فيها من قبيل الترفيه عن مرتاديها، ومن هنا عرف المجتمع ما يسمى بـ "مغنيات المقاهي" وقد صرنَ من أهم عوامل الجذب الرئيسي بها، حيث كانت تضم هذه المقاهي بداخلها صالات للموسيقى وفيها مسرح دائري للموسيقيين وفي الخلف توجد ستارة تجلس وراءها المطربة، وقد كان هذا في وقت متقدم عن نشأتها.
لقد انطلقت "سيدة أو السيدة السويسة" رحلتها الغنائية من المقاهي الخشبية التي كانت تُقام على الشاطئ في موسم الاصطياف في مدينتين من مدن القناة وهما: السويس وبورسعيد، وعندما ذاع صيتها انتقلت إلى القاهرة، وما يشهد لها بالإجادة والإتقان أنها تدربت على يد زوجها العوَّاد الشهيرالحاج حسن بيرم، ومن قبله أخيها الحاج سيد السويسي، ويقول بعض أهل الفن: وما أدراك من هو سيد السويسي؟!
إنه عازف العود العبقري في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، الذي عزف مع رواد الطرب الكبار مثل عبده الحامولي، وقد انضم لتخت شركة إسطوانات أوديون الألمانية عند دخولها مصر في أبريل عام ١٩٠٤ تقريبآ، ويتكون هذا التخت من مجموعة من العازفين الذين اعتمدتهم الشركة لكي يصاحبوا المطربين والمطربات من أجل عمل التسجيلات الآليّة أو المصاحبة الغنائيّة لهم، وهم: الحاجّ سيّد السويسي على العود "رئيس التخت"، عبد العزيز أفندي القبّاني على القانون، علي أفندي عبده صالح على الناي، وأي فنان سيتعامل مع شركة “أوديون” في هذه المرحلة، كان سيسجل على هذا التخت، إلا إذا استثنينا المطرب عبد الحي حلمي الذي كان يأتي بتخته معه.
يشهد لعبقرية ومهارة الحاج سيد السويسي وتأثيره في موسيقى القصبجي، الباحث الموسيقي طارق عبد الله، فيقول: (تعد تسجيلات “تخت” أوديون "1904م" لمجموعة من البشارف التركية والمصرية من أقدم الأمثلة على فن العود المصري المنفرد، وقد احتوت البشارف على بعض التقاسيم الموقعة التجاوبية "بشرف اليسبار" و"قره بطاق السيكاه"، بالإضافة إلى التقاسيم المرسلة بالتناوب بين ثلاثة عازفين من الحذاق، هم: الحاج سيد السويسي علي العود والذي يبدو أنه كان "رئيس التخت"، وعبد العزيز القباني "قانون"، وعلي صالح "ناي". وتجدر الإشارة هنا الي تأثر القصبجي الكبير بأسلوب سيد السويسي سواء على مستوي بناء الجمل اللحنية المرتجلة وتلاحقها، وفي الزخارف اللحنية والإيقاعية، وعلى مستوي قوة الزخم "الضرب بالريشة" وسرعته، وخفة حركة اليد اليسرى).
ويضيف: (ويمكننا مثلا مقارنة أدائي السويسي والقصبجي لبشرف "قره بطاق السيكاه"، ويبدو أيضا أنه حاكي أسلوبه في مصاحبة القوالب الغنائية كالقصيدة والدور، وفي عزف المقطوعات المؤلفة كما تشير تسجيلات السويسي مع سليمان أبو داود في قصيدة: "الزم باب ربك" أو في دور: "مثلك إذا حكم بالعدل أحسن"، ومع شقيقته وتلميذته "وحيدة مصر الحاجة السيدة السويسية" في دور: "القلب داب ياما دابت عين"، التي تَنُم جميعها عن عبقرية السويسي كواحد من أعظم عازفي العود خلال تلك الفترة. بيد أننا لا نعرف شيء عن حياته ونشأته ولا عن سبب عدم تسجيله لتقاسيم منفردة، كما لا نعرف ما إذا كان القصبجي كان يعرفه شخصيا أم تتلمذ على يده من خلال تسجيلاته أم جمع بين الأمرين).
كما تأتي شهادة الأستاذ مصطفى سعيد مدير مؤسّسة التّوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة في حق السويسي العواد، فيقول: (من البداية لدينا الحاج سيد السويسي، الذي أعتبره من المهمين جدا في عزف العود، ريشته جميلة ... السويسي، ريشته في غاية الجمال، ومع ذلك لا يستعرض تقنيا أبدا، لديه جمل تميزه، أنا متأكد أن من سيسمع سيد السويسي في هذا العزف يستطيع بعد ذلك أن يميز بسهولة أن هذا سيد السويسي في أي تسجيل آخر يسمعه).
بعد أن ذاع صيت الحاجة السويسية في مدن القناة انتقلت إلى القاهرة وبدأت تغني في مقهى الخواجة أنطون بالعتبة الخضراء، وكان يأتي عدد كبير من علية القوم لسماعها، في الوقت الذي كانت تغني فيه وهي مرتدية البرقع والملاية "الزي الشعبي المصري المحتشم الخاص بالنساء"، وصارت مطربة ذائعة الصيت في أوائل القرن العشرين، كما عُرِفَ عنها أنها مطربة علية القوم، ورغم ذلك كانت تغني مجانًًا في أفراح البسطاء وكان يسعدها أن تغني متبرعة في أفراح العامة.
كما عملت السويسية في أكبر الفرق المسرحية الشهيرة في ذلك الوقت، ومنها فرقة الشيخ أبي خليل القباني، وفرقة إسكندر فرح، وأكبر مقهى بالإسكندرية، وتعلن الجرائد عن مواعيد حفلاتها، ومنها هذا الإعلان التي نشرته "جريدة المؤيد" بتاريخ ١٧ / ٧ / ١٨٩٧م: "تقام ليلة خيرية مساء اليوم في تياترو الشيخ أبي خليل القباني الكائن بجوار سوق الخضار الجديد، وستغني فيها المغنية الشهيرة الحاجة سيدة السويسية، فنحثُّ الجمهور على اغتنام فرصة حضورها؛ مساعدةً على الخير وتحلِّيًا بمحاسن الآداب".
حين التحقت الحاجة السيدة السويسية بفرقة إسكندر فرح، وهي من أكبر الفرق المسرحية المتألقة في هذه الفترة "١٨٩٠–١٨٩٤م"، صارت الفرقة تمتلك أهم عناصر من عناصر النجاح المسرحي، وهو وجود الشيخ سلامة حجازي مطربًا وممثلا، إلى جانب امتلاكها لدار عرض مسرحي خاص بها، وهو مسرح شارع عبد العزيز، المميَّز بوجود ألواج مغطاة للحريم، واحتكارها لنصوص أشهر كتَّاب المسرح في القرن التاسع عشر، وهو نجيب الحدَّاد، وكانت عروض الفرقة تقام في دار الأوبرا الخديوية.
ولقد نشرت جريدة الأهرام القاهرية في عام 1899م هذا الإعلان: "تتابع أوقات الأنس والطرب في كل يوم أحد من الساعة الثالثة إلى الساعة السابعة بعد الظهر بإدارة العالمة الشهيرة الحاجة السيدة السويسية تصحبها أخواتها وتخت الحاج حسن بيرم الشهير، وقد علمنا أن صاحب القهوة ـ قهوة الخواجة نصر الله على ضفاف المحمودية بالأسكندرية ـ قد أجاب طلب الجمهور فخصصت مكان ضمن حديقة القهوة للعائلات للدخول إليه من باب منفرد".
إذا عرضنا أسماء المغنيات اللاتي اشتهرن في ذلك العصر، وجدنا كثيرات أمثال: ساكنة، وألمظ، واللاوندية، وتودد، وهانم المصرية، ومنتهى الوحيدة، وسميحة المصرية، وأمينة القبانية، ونرجس المهدية، وتوحيدة، والحاجة السيدة السويسية، ونعيمة المصرية، ومنيرة المهدية وغيرهن، هؤلاء جميعا لم يحفظ لهن التاريخ إلا بضع اسطوانات سجلن عليها أدوارا لهن أو قصائد.
غير أن "وحيدة مصر"، وكان هذا لقبها عند بعض المتخصصين، الحاجة سيدة السويسية قد سجلت عند شركة “فيفوريت”، وهي شركة ألمانية.
يقول الدكتور "فريديريك لغرونج" الباحث والخبير الموسيقي ومن مؤسسي مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية: (ولكن لم تكن تسجيلات هذه الشركة منتشرة مثل تسجيلات شركة “أوديون”، ولكن الحاجة السويسية غنت دورًا نعرفه تماما لأننا معتادين على صيغة صالح عبد الحي لهذا الدور، وهو دور “قدك أمير الأغصان”، سجله أيضا عبد الحي حلمي، لكن الصيغة المعروفة والمستحبة هي صيغة صالح عبد الحي، وما نلاحظه في هذا التسجيل أنها تقدم شيئا مختلفا تماما. نعم سجله عبد الحي حلمي، وسجله محمد سليم، وسجله محمد السبع وسجله سليمان أبو داوود، ولكن هي تقدم شيء خاص بها جدا، جديد تماما في الآهات “والوحايد”).
ويستكمل قائلا: (الحاجة: لم نعرف "حاجات" سوى اللاتي كن يسجلن التراث الشعبي، مثل: زينب المنصورية، وصبحة. وكل تلك الحاجات، لكن "حاجة" في الموسيقى الفصحى! أنا لم أصادف إلا "الحاجة سيدة السويسية"، والشيء الثاني الملاحظ أن السيدة التي تغني صوتها لواحدة كبيرة في السن، ليس صوت لواحدة في ثلاثينياتها أو أربعينياتها أيضا، صوت واحدة كبيرة في السن، هي فعلا تغني الدور في القرار مقارنة مع الأصوات النسائية الأخرى، صوتها ليس جواب، صوتها يعتبر في القرارات).
ولقد سجلت الحاجة غير دور "قدك أمير الأغصان" دور "القلب داب ياما دابت عين"، ومن مفقوداتها دور "أنا من هجرك أحكي خصرك" من مقام نهاوند، مجهول الناظم ومن ألحان الشيخ عبد الرحيم المسلوب وينسب إلى عبده الحامولي، وغناه المطرب عبد الحي حلمي.
لقد ظلَّت الحاجة السويسية تمارس الغناء لأربعة عقود متتالية ـ على الأغلب ـ خلال الفترة 1870-1910م، وكان بيتها وقيل بيت ابنها محمد حسن ملتقى لأهل الفن يزوره كلا من عبده الحامولي ومحمد عثمان وغيرهما، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي تعرف على محمد قنديل ـ حفيد السويسية ـ وكان يستحسن صوته، وكان ابنها هو محمد حسن السويسي عازف القانون الشهير الذي عمل مع فتحية أحمد ابنة بمبة كشر، والذي بلغ من شهرته ومهارته أن وضع الفنان حبيب زيدان صورته في مقدمة كتابه: "مجموعة الاغاني الشرقية القديمة والحديثة" مع صور مشاهير الموسيقى العربية في عصره.
ولقد تزوجت ابنتها من عازف القانون والموسيقار عبد اللطيف عمر وهناك من يسميه محمد عمر الذي كان في صباه يستمع إلى عبده الحامولي ومحمد عثمان وهو مختبئ تحت الدكك التي ينصب فوقها التخت، وقد كانت زوجة محمد حسن السويسي ووالدة قنديل تمتلك صوتًا جميلًا وتجيد العزف على العود، ولكنها لم تحترف الغناء، كما كان لقنديل شقيقًا أكبر يدعى عبد الله عمل مُطربًا وظهر في عدة أفلام غير أنه آثر الانسحاب من مجال الفن بعد شهرة أخيه الأصغر.
وقف على قمة هرم عائلة الحاجة السيدة السويسية حفيدها مطرب المطربين بإجماع آراء أساتذة وأستاذات الفن العربي في مشرقه ومغربه الفنان محمد قنديل، وتضيق الدراسة/المقالة بما نقل عنهم حوله وهو موثق، وباتساع مدى صوته وحنجرته وموهبته احتضن الفن العربي وسما به وفاض في كل بقعة عربية؛ فقد تغنى بحلم الوحدة العربية، مثلما تغنى بالقضية الفلسطيمية، وكان أول من تغنى بثورة يوليو المصرية، مثلما كان من أوائل من غنوا لثورة الجزائر التي حضر ذكرى الاحتفال بثورتها الثلاثين في ولاية "بجاية" عام 1984م، وغيِّر في كلمات أغنيته: "يا غاليين عليا يا أهل "بجاية" الجزائرية" بديلا عن "أهل اسكندرية" تحية ومحبة لهم، مثلما كانت أغنياته وقودًا أثناء الثورة ومنها: "إحنا ما بينا وبينك تار يا استعمار"، و"حي على الكفاح"، و"إخواننا في الجزائر محتاجين سلاح".
سيظل اسم "الحاجة السيدة السويسية" حاضرًا في كل أو أغلب الكتب والدراسات التي تناولت وستتناول الموسيقى العربية في عصر نهضتها، أو تلك التي تتناول تاريخ المسرح الغنائي العربي الحديث باعتبارها رائدة من رواد تلك الحقبة والتي ساهمت فيها بنصيبٍ وافر سواء بنفسها أو بأفراد عائلتها، مما جعل اسمها يتصدر مطربات ومطربين ذلك العصر عن اقتدار حتى وإن كانت التسجيلات التي نقلت لنا بعض فنها قليلة لكنها أشارت بكل فخر واقتدار نحو تلك الموهبة التي مازالت حاضرة في تاريخنا الموسيقي القومي العربي المعاصر.
المراجع:
ـ حبيب زيدان، "مجموعة الأغاني الشرقية القديمة والحديثة"، مخزن الأسطوانات العربية والتركية. نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.
ـ رتيبة الحفني، "السلطانة منيرة المهدية والغناء في مصر قبلها وفي زمانها، دار الشروق، القاهرة، 2001م.
ـ سيد علي إسماعيل، "جهود القباني المسرحية في مصر"، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، منشورات وزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقا، دمشق، 2008م.
ـ طارق عبدالله، "فن العود المصري: أنواعه، صنّاعه، عازفوه"، مجلة بدايات، 2017.
ـ طارق عبدالله، "محمد القصبجي مجدد فن العود وأستاذ الأساتذة"، مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بالتعاون مع مؤسسة الشارقة للفنون.
ـ عبير إبراهيم قمرة، "المرأة والمدينة الكوزموبوليتانية: تاريخ الجندرية في المجتمع السكندري"، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019م.
ـ كمال النجمي، "تراث الغناء العربي بين الموصلي وزرياب .. وأم كلثوم وعبد الوهاب، دار الشروق، القاهرة، 1993م.
ـ مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بالتعاون مع مؤسسة الشارقة للفنون ـ ”دروب النغم”.
ولعل من أهم الدوافع للكتابة عن "السويسية" انتسابها وميلادها لمدينة تاريخية، كوزموبوليتانية، عالمية، ذاع صيتها في أجواء السياسة الدولية في العصر الحديث، والقديم بداهة، وارتبط بها حجاج المغرب العربي والأفارقة، وهي مدينة "السويس" مدينتي، ليس هذا فحسب ولكن لتصحيح خطأ مشهور في إلصاق الفن بالمقاومة حتى أصبح دالا على فن تلك المدينة، في حين أن "الحاجة السويسية" وعائلتها قد ساهمت مساهمة فعالة في تاريخ الغناء والعزف العربيين الذي يمتد جذره الممتد لفرعه الباسق في صوت الذهبي الحنجرة المطرب "محمد قنديل" الذي حفر اسمه في الذاكرة السمعية المصرية، كما عرفته البيئات العربية وأكثرها دولة الجزائر الذي كان من أهم ممن تغنى بثورتها حاضرًا في ذكرى ثورتها المجيدة لأعوام عديدة.
كما يثبت نجاح وشهرة "السويسية" وقريناتها من رائدات الغناء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، نجاح المرأة العربية في ارتياد هذا الأفق الراقي من الفن، ونفي ما تدَّعيه "الحركات النسوية العربية" الحديثة من الهيمنة الذكورية، واستلاب مجد المرأة من أن تتبوأ مكانة متميزة في مجتمعها، خاصة وأن من ساهم في بروز شأن فن السويسية أساتذتها من أفراد عائلتها، وهو ما جاء متزامنا مع نشأة الحركة النسائية في مصر ومؤسستها هدى شعراوي وقاسم أمين ودخول المرأة مجال الغناء والمسرح.
عرفت مصر المقاهي في القرن التاسع عشر أثناء فترة الحكم العثماني، ومع انتشارها تطورت حتى أصبحت النساء عنصرا أساسيا فيها من قبيل الترفيه عن مرتاديها، ومن هنا عرف المجتمع ما يسمى بـ "مغنيات المقاهي" وقد صرنَ من أهم عوامل الجذب الرئيسي بها، حيث كانت تضم هذه المقاهي بداخلها صالات للموسيقى وفيها مسرح دائري للموسيقيين وفي الخلف توجد ستارة تجلس وراءها المطربة، وقد كان هذا في وقت متقدم عن نشأتها.
لقد انطلقت "سيدة أو السيدة السويسة" رحلتها الغنائية من المقاهي الخشبية التي كانت تُقام على الشاطئ في موسم الاصطياف في مدينتين من مدن القناة وهما: السويس وبورسعيد، وعندما ذاع صيتها انتقلت إلى القاهرة، وما يشهد لها بالإجادة والإتقان أنها تدربت على يد زوجها العوَّاد الشهيرالحاج حسن بيرم، ومن قبله أخيها الحاج سيد السويسي، ويقول بعض أهل الفن: وما أدراك من هو سيد السويسي؟!
إنه عازف العود العبقري في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، الذي عزف مع رواد الطرب الكبار مثل عبده الحامولي، وقد انضم لتخت شركة إسطوانات أوديون الألمانية عند دخولها مصر في أبريل عام ١٩٠٤ تقريبآ، ويتكون هذا التخت من مجموعة من العازفين الذين اعتمدتهم الشركة لكي يصاحبوا المطربين والمطربات من أجل عمل التسجيلات الآليّة أو المصاحبة الغنائيّة لهم، وهم: الحاجّ سيّد السويسي على العود "رئيس التخت"، عبد العزيز أفندي القبّاني على القانون، علي أفندي عبده صالح على الناي، وأي فنان سيتعامل مع شركة “أوديون” في هذه المرحلة، كان سيسجل على هذا التخت، إلا إذا استثنينا المطرب عبد الحي حلمي الذي كان يأتي بتخته معه.
يشهد لعبقرية ومهارة الحاج سيد السويسي وتأثيره في موسيقى القصبجي، الباحث الموسيقي طارق عبد الله، فيقول: (تعد تسجيلات “تخت” أوديون "1904م" لمجموعة من البشارف التركية والمصرية من أقدم الأمثلة على فن العود المصري المنفرد، وقد احتوت البشارف على بعض التقاسيم الموقعة التجاوبية "بشرف اليسبار" و"قره بطاق السيكاه"، بالإضافة إلى التقاسيم المرسلة بالتناوب بين ثلاثة عازفين من الحذاق، هم: الحاج سيد السويسي علي العود والذي يبدو أنه كان "رئيس التخت"، وعبد العزيز القباني "قانون"، وعلي صالح "ناي". وتجدر الإشارة هنا الي تأثر القصبجي الكبير بأسلوب سيد السويسي سواء على مستوي بناء الجمل اللحنية المرتجلة وتلاحقها، وفي الزخارف اللحنية والإيقاعية، وعلى مستوي قوة الزخم "الضرب بالريشة" وسرعته، وخفة حركة اليد اليسرى).
ويضيف: (ويمكننا مثلا مقارنة أدائي السويسي والقصبجي لبشرف "قره بطاق السيكاه"، ويبدو أيضا أنه حاكي أسلوبه في مصاحبة القوالب الغنائية كالقصيدة والدور، وفي عزف المقطوعات المؤلفة كما تشير تسجيلات السويسي مع سليمان أبو داود في قصيدة: "الزم باب ربك" أو في دور: "مثلك إذا حكم بالعدل أحسن"، ومع شقيقته وتلميذته "وحيدة مصر الحاجة السيدة السويسية" في دور: "القلب داب ياما دابت عين"، التي تَنُم جميعها عن عبقرية السويسي كواحد من أعظم عازفي العود خلال تلك الفترة. بيد أننا لا نعرف شيء عن حياته ونشأته ولا عن سبب عدم تسجيله لتقاسيم منفردة، كما لا نعرف ما إذا كان القصبجي كان يعرفه شخصيا أم تتلمذ على يده من خلال تسجيلاته أم جمع بين الأمرين).
كما تأتي شهادة الأستاذ مصطفى سعيد مدير مؤسّسة التّوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة في حق السويسي العواد، فيقول: (من البداية لدينا الحاج سيد السويسي، الذي أعتبره من المهمين جدا في عزف العود، ريشته جميلة ... السويسي، ريشته في غاية الجمال، ومع ذلك لا يستعرض تقنيا أبدا، لديه جمل تميزه، أنا متأكد أن من سيسمع سيد السويسي في هذا العزف يستطيع بعد ذلك أن يميز بسهولة أن هذا سيد السويسي في أي تسجيل آخر يسمعه).
بعد أن ذاع صيت الحاجة السويسية في مدن القناة انتقلت إلى القاهرة وبدأت تغني في مقهى الخواجة أنطون بالعتبة الخضراء، وكان يأتي عدد كبير من علية القوم لسماعها، في الوقت الذي كانت تغني فيه وهي مرتدية البرقع والملاية "الزي الشعبي المصري المحتشم الخاص بالنساء"، وصارت مطربة ذائعة الصيت في أوائل القرن العشرين، كما عُرِفَ عنها أنها مطربة علية القوم، ورغم ذلك كانت تغني مجانًًا في أفراح البسطاء وكان يسعدها أن تغني متبرعة في أفراح العامة.
كما عملت السويسية في أكبر الفرق المسرحية الشهيرة في ذلك الوقت، ومنها فرقة الشيخ أبي خليل القباني، وفرقة إسكندر فرح، وأكبر مقهى بالإسكندرية، وتعلن الجرائد عن مواعيد حفلاتها، ومنها هذا الإعلان التي نشرته "جريدة المؤيد" بتاريخ ١٧ / ٧ / ١٨٩٧م: "تقام ليلة خيرية مساء اليوم في تياترو الشيخ أبي خليل القباني الكائن بجوار سوق الخضار الجديد، وستغني فيها المغنية الشهيرة الحاجة سيدة السويسية، فنحثُّ الجمهور على اغتنام فرصة حضورها؛ مساعدةً على الخير وتحلِّيًا بمحاسن الآداب".
حين التحقت الحاجة السيدة السويسية بفرقة إسكندر فرح، وهي من أكبر الفرق المسرحية المتألقة في هذه الفترة "١٨٩٠–١٨٩٤م"، صارت الفرقة تمتلك أهم عناصر من عناصر النجاح المسرحي، وهو وجود الشيخ سلامة حجازي مطربًا وممثلا، إلى جانب امتلاكها لدار عرض مسرحي خاص بها، وهو مسرح شارع عبد العزيز، المميَّز بوجود ألواج مغطاة للحريم، واحتكارها لنصوص أشهر كتَّاب المسرح في القرن التاسع عشر، وهو نجيب الحدَّاد، وكانت عروض الفرقة تقام في دار الأوبرا الخديوية.
ولقد نشرت جريدة الأهرام القاهرية في عام 1899م هذا الإعلان: "تتابع أوقات الأنس والطرب في كل يوم أحد من الساعة الثالثة إلى الساعة السابعة بعد الظهر بإدارة العالمة الشهيرة الحاجة السيدة السويسية تصحبها أخواتها وتخت الحاج حسن بيرم الشهير، وقد علمنا أن صاحب القهوة ـ قهوة الخواجة نصر الله على ضفاف المحمودية بالأسكندرية ـ قد أجاب طلب الجمهور فخصصت مكان ضمن حديقة القهوة للعائلات للدخول إليه من باب منفرد".
إذا عرضنا أسماء المغنيات اللاتي اشتهرن في ذلك العصر، وجدنا كثيرات أمثال: ساكنة، وألمظ، واللاوندية، وتودد، وهانم المصرية، ومنتهى الوحيدة، وسميحة المصرية، وأمينة القبانية، ونرجس المهدية، وتوحيدة، والحاجة السيدة السويسية، ونعيمة المصرية، ومنيرة المهدية وغيرهن، هؤلاء جميعا لم يحفظ لهن التاريخ إلا بضع اسطوانات سجلن عليها أدوارا لهن أو قصائد.
غير أن "وحيدة مصر"، وكان هذا لقبها عند بعض المتخصصين، الحاجة سيدة السويسية قد سجلت عند شركة “فيفوريت”، وهي شركة ألمانية.
يقول الدكتور "فريديريك لغرونج" الباحث والخبير الموسيقي ومن مؤسسي مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية: (ولكن لم تكن تسجيلات هذه الشركة منتشرة مثل تسجيلات شركة “أوديون”، ولكن الحاجة السويسية غنت دورًا نعرفه تماما لأننا معتادين على صيغة صالح عبد الحي لهذا الدور، وهو دور “قدك أمير الأغصان”، سجله أيضا عبد الحي حلمي، لكن الصيغة المعروفة والمستحبة هي صيغة صالح عبد الحي، وما نلاحظه في هذا التسجيل أنها تقدم شيئا مختلفا تماما. نعم سجله عبد الحي حلمي، وسجله محمد سليم، وسجله محمد السبع وسجله سليمان أبو داوود، ولكن هي تقدم شيء خاص بها جدا، جديد تماما في الآهات “والوحايد”).
ويستكمل قائلا: (الحاجة: لم نعرف "حاجات" سوى اللاتي كن يسجلن التراث الشعبي، مثل: زينب المنصورية، وصبحة. وكل تلك الحاجات، لكن "حاجة" في الموسيقى الفصحى! أنا لم أصادف إلا "الحاجة سيدة السويسية"، والشيء الثاني الملاحظ أن السيدة التي تغني صوتها لواحدة كبيرة في السن، ليس صوت لواحدة في ثلاثينياتها أو أربعينياتها أيضا، صوت واحدة كبيرة في السن، هي فعلا تغني الدور في القرار مقارنة مع الأصوات النسائية الأخرى، صوتها ليس جواب، صوتها يعتبر في القرارات).
ولقد سجلت الحاجة غير دور "قدك أمير الأغصان" دور "القلب داب ياما دابت عين"، ومن مفقوداتها دور "أنا من هجرك أحكي خصرك" من مقام نهاوند، مجهول الناظم ومن ألحان الشيخ عبد الرحيم المسلوب وينسب إلى عبده الحامولي، وغناه المطرب عبد الحي حلمي.
لقد ظلَّت الحاجة السويسية تمارس الغناء لأربعة عقود متتالية ـ على الأغلب ـ خلال الفترة 1870-1910م، وكان بيتها وقيل بيت ابنها محمد حسن ملتقى لأهل الفن يزوره كلا من عبده الحامولي ومحمد عثمان وغيرهما، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي تعرف على محمد قنديل ـ حفيد السويسية ـ وكان يستحسن صوته، وكان ابنها هو محمد حسن السويسي عازف القانون الشهير الذي عمل مع فتحية أحمد ابنة بمبة كشر، والذي بلغ من شهرته ومهارته أن وضع الفنان حبيب زيدان صورته في مقدمة كتابه: "مجموعة الاغاني الشرقية القديمة والحديثة" مع صور مشاهير الموسيقى العربية في عصره.
ولقد تزوجت ابنتها من عازف القانون والموسيقار عبد اللطيف عمر وهناك من يسميه محمد عمر الذي كان في صباه يستمع إلى عبده الحامولي ومحمد عثمان وهو مختبئ تحت الدكك التي ينصب فوقها التخت، وقد كانت زوجة محمد حسن السويسي ووالدة قنديل تمتلك صوتًا جميلًا وتجيد العزف على العود، ولكنها لم تحترف الغناء، كما كان لقنديل شقيقًا أكبر يدعى عبد الله عمل مُطربًا وظهر في عدة أفلام غير أنه آثر الانسحاب من مجال الفن بعد شهرة أخيه الأصغر.
وقف على قمة هرم عائلة الحاجة السيدة السويسية حفيدها مطرب المطربين بإجماع آراء أساتذة وأستاذات الفن العربي في مشرقه ومغربه الفنان محمد قنديل، وتضيق الدراسة/المقالة بما نقل عنهم حوله وهو موثق، وباتساع مدى صوته وحنجرته وموهبته احتضن الفن العربي وسما به وفاض في كل بقعة عربية؛ فقد تغنى بحلم الوحدة العربية، مثلما تغنى بالقضية الفلسطيمية، وكان أول من تغنى بثورة يوليو المصرية، مثلما كان من أوائل من غنوا لثورة الجزائر التي حضر ذكرى الاحتفال بثورتها الثلاثين في ولاية "بجاية" عام 1984م، وغيِّر في كلمات أغنيته: "يا غاليين عليا يا أهل "بجاية" الجزائرية" بديلا عن "أهل اسكندرية" تحية ومحبة لهم، مثلما كانت أغنياته وقودًا أثناء الثورة ومنها: "إحنا ما بينا وبينك تار يا استعمار"، و"حي على الكفاح"، و"إخواننا في الجزائر محتاجين سلاح".
سيظل اسم "الحاجة السيدة السويسية" حاضرًا في كل أو أغلب الكتب والدراسات التي تناولت وستتناول الموسيقى العربية في عصر نهضتها، أو تلك التي تتناول تاريخ المسرح الغنائي العربي الحديث باعتبارها رائدة من رواد تلك الحقبة والتي ساهمت فيها بنصيبٍ وافر سواء بنفسها أو بأفراد عائلتها، مما جعل اسمها يتصدر مطربات ومطربين ذلك العصر عن اقتدار حتى وإن كانت التسجيلات التي نقلت لنا بعض فنها قليلة لكنها أشارت بكل فخر واقتدار نحو تلك الموهبة التي مازالت حاضرة في تاريخنا الموسيقي القومي العربي المعاصر.
المراجع:
ـ حبيب زيدان، "مجموعة الأغاني الشرقية القديمة والحديثة"، مخزن الأسطوانات العربية والتركية. نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.
ـ رتيبة الحفني، "السلطانة منيرة المهدية والغناء في مصر قبلها وفي زمانها، دار الشروق، القاهرة، 2001م.
ـ سيد علي إسماعيل، "جهود القباني المسرحية في مصر"، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، منشورات وزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقا، دمشق، 2008م.
ـ طارق عبدالله، "فن العود المصري: أنواعه، صنّاعه، عازفوه"، مجلة بدايات، 2017.
ـ طارق عبدالله، "محمد القصبجي مجدد فن العود وأستاذ الأساتذة"، مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بالتعاون مع مؤسسة الشارقة للفنون.
ـ عبير إبراهيم قمرة، "المرأة والمدينة الكوزموبوليتانية: تاريخ الجندرية في المجتمع السكندري"، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019م.
ـ كمال النجمي، "تراث الغناء العربي بين الموصلي وزرياب .. وأم كلثوم وعبد الوهاب، دار الشروق، القاهرة، 1993م.
ـ مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بالتعاون مع مؤسسة الشارقة للفنون ـ ”دروب النغم”.