شعبان يوسف - أنور كامل والخبز والحرية

فى أواسط ثلاثينيات القرن الماضى، كان الفن والأدب الطليعيان يواجهان أعتى حملة شرسة من الرجعية العالمية، ففى فيينا تمزقت لوحات رينوار وأحرقت مؤلفات فرويد، وصودرت فى ألمانيا منتجات الفنانين كاندلسكى وماكس أرنست وغيرهم، وفى روما تشكلت لجنة لتنظيف الأدب، وطردت وعاقبت كل ما هو ضد القومية وضد الجنسية وكل ما يدعو إلى التشاؤم، وكان كل هذا وغيره تحت دعوى أن هذا الفن «منحط»، ولكن فى القاهرة التى كانت على صلة بهذه الحركات الفنية العالمية صدر بيان لمناصرة هذه الفنون المطاردة، وبعد طرح القضية فى البيان جاء فى نهايته: «يجب أن نقف فى صف هذا الفن المنحط ففيه كل آمال المستقبل، لنعمل لنصرته ضد العصور الوسطى الجديدة التى يحاولون بعثها فى قلب أوروبا مرة أخرى»، وصدر البيان فى 22 ديسمبر 1938، ووقع عليه رهط من الفنانين والمثقفين المصريين، كان التلمسانى وجورج حنين وحسين صبحى وابراهيم باسيلى وسامى رياض وأنور كامل، وكذلك مجموعة من الفنانين الأجانب الذين كانوا يقيمون فى مصر.

وكان أنور كامل هو أحد أبرز هؤلاء للدفاع عن البيان، وإذاعة ما فيه، وقد التقت دعوته هذه مع مجموعة أخرى من الفنانين والشعراء، وتبعا لذلك تكونت جماعة فنية ذات طابع سياسى، وهى جمعية «الفن والحرية»، ثم تغير اسمها إلى «الخبز والحرية» وكما يقول أنور كامل نفسه: «تكونت من التقاء صفوة معظمها من الشبان تمت من خلال انتماءاتها التنظيمية أو التجمعية إلى جانب تربيتها الخاصة وخبرتها الذاتية المتميزة، فمن جماعة (المحاولين) جورج حنين ومن معه، ومن جماعة (الدعاية الفنية) يوسف العفيفى ورمسيس يونان ومع العفيفى مريدوه، ومن (المنبوذين) كامل التلمسانى وفؤاد كامل وأحمد رشدى»، ويشير كامل لجماعة المنبوذين التى تكونت على هامش الكتاب الشعرى والفكرى الذى ألفه ونشره عام 1936 تحت عنوان «الكتاب المنبوذ»، وهو كتاب حاول فيه ما يشبه كتابة قصيدة النثر، وأطلق فيه كل أذرعة التعبير بحرية شبه مطلقة، وكان عمره آنذاك 23 سنة، حيث إنه مولود فى 2 ديسمبر عام 1913، وقد احتفى بالكتاب الكاتب والصحفى أحمد الصاوى محمد، الذى كان يصدر مجلة «مجلتى» الطليعية، وتبنى إصدار الكتاب عن مطبوعات المجلة فى ذلك الوقت، والذى أهداه أنور كامل: «إلى أعداء هذا الكتاب» وبدأه بجملة دالة يقول فيها: (لماذا بحقيقة نفسك تتبرم... فهؤلاء اللصوص يأوون دائما إلى الكهوف)، والكتاب عبارة عن محاورة شعرية طويلة بين أطراف متعددة، وكانت المقدمة صادمة من الناحية الفنية إذ يقول: (هجم عليها صائحا: هذا النور شد ما أبغض لونه، وهوى على جسد يتلوى من الألم تحت ضربات السوط، قالت: بالرغم من هذا أحبك، ولكنه لم يشفق وصاح بها: اغربى عنى، إن أنت إلا كائن ممقوت.أكرهه أكرهه)، وأحدث هذا الكتاب للشاب أنور كامل قدرا من اللغط، ولكنه شغل الناس بطرحه المفاجئ فى الحياة الثقافية المصرية، وعلى ضفاف هذا الكتاب نشأت جماعة المنبوذين، وكان كامل فى القلب من هذه الجماعة، والتى التقت مع مجموعات أخرى، لتصدر فى يناير 1940 مجلة «التطور» وكان أنور كامل رئيس تحريرها وصاحب امتيازها، وبعد سبعة أعداد توقفت المجلة، بعد أن صادرتها الرقابة، واستدعى حسن رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية أنور كامل إلى مكتبه وطلب منه التخفيف من حدة الكتابة المثيرة التى تنطوى عليها المجلة، حتى لا تضطر الحكومة لمصادرة المجلة أو إغلاقها، وقال رفعت بالنص لكامل: (اكتبوا ما تشاءون، ولكن ضعوه تحت دش بارد قبل أن تنشروه)، بالطبع تعامل الشياب مع نصف النصيحة، ولكن ذلك لم يعجب السلطات، فأوقفت المجلة، وأعاد نشرها الشاعر هشام قشطة كاملة فى مطبوعات «الكتابة الأخرى»، فيما بعد.

ورغم توقف مجلة «التطور» لم يتوقف أنور كامل عن الكتابة المقلقة، والنشاط المثير، وقد تم اعتقاله فى عام 1943، ولم يخرج إلا فى أوائل عام 1945، وكان قد نشر كراسة تحت عنوان: «مشاكل العمال فى مصر»، وصدر له أثناء اعتقاله كتاب «الصهيونية»، ويعد هذا الكتاب من أهم ما صدر فى تلك الفترة المبكرة لمحاربة الصهيونية، إذ كانت الحركة الصهيونية فى هذه المرحلة تلقى بعض التعاطف من أطراف دولية عديدة، نظرا لما كان يلقاه اليهود على أيدى هتلر فى ألمانيا، فجاء كتاب أنور كامل، ليحلل تاريخ الظاهرة، ويكشف عن أن الحركة الصهيونية اتخذت مما يحدث لليهود ذريعة للاستيلاء على وطن آخر، وهو يهدى الكتاب: «إلى المجاهدين الاحرار الذين بذلوا دماءهم فى فلسطين دفاعا عن القضية العربية»، والكتاب مذكرة دفاع مهمة من كاتب وفنان ومناضل يسارى مصرى، ليرد على كافة الهرطقات التى كانت تتهم اليسار بأممية وهمية فى ذلك الوقت، ورغم أن أنور كامل كان أحد أبناء اليسار المصرى العتيد والمؤسس للحركة اليسارية، إلا أنه لم تخدعه الأضواء البراقة التى كانت تأتى من موسكو فى ذلك الوقت، لتنتشر فى كافة بقاع العالم، وتجد لها دراويش ومنشدين وكهنة

يحتفون بحياة هذه الأضواء الزائفة، ولذلك أصدر كتابه الشهير «أفيون الشعوب» الذى شن فيه حملة شعواء على حكم ستالين، واعتبره حكما ديكتاتوريا، وأعده نظاما فاشلا، ليس كفرا بالاشتراكية، ولكنه كان يرى أن الذى كان يحدث فى الاتحاد السوفييتى عبارة عن مسخ لصورة الاشتراكية التى نادى بها الاوائل، وفى الكتاب الصغير الذى صدر فى العام 1948، وصف شبه مفصل لما يحدث فى الاتحاد السوفييتى آنذاك، وكان ذلك إنذارا مبكرا جدا لما اكتشفه الرفاق بعذ ذلك بعد رحيل ستالين، وإن كان الكتاب هوجم من طرف اليساريين.

الحديث عن أنور كامل الذى تمر علينا مئوية ميلاده هذا العام، لا ينتهى، وأنا اعلم أن مذكرات قد أملاها قبل رحيله فى العام 1991، وهى فى حوزة ابنه أشرف، وهناك رسالة طويلة بخط يده كان قد أرسلها للرئيس محمد نجيب قبيل أزمة مارس 1954، وقد نالت آنذاك قدرا من الاهتمام، وكذلك هناك فيلم تسجيلى عنه كان قد أعده الراحل أسامة خليل، وربما يكون فى حوزة الأستاذ أمير سالم، وسؤالى ألا يمكن الإفراج عن كل هذه الآثار للراحل، مع إعادة نشر كتبه التى نحتاج إليها، ليس للتعرف على أنور كامل، بل للتعرف على مرحلة من أنصع مراحل التاريخ المصرى.


شعبان يوسف كاتب صحفي
أعلى