شخصيات فى مذكرات أنور كامل

أخبار الأدب الخميس، 31 ديسمبر 2020 - 03:28 م


تعتبر مذكرات أنور كامل التى لم تُنشر حتى الآن بمثابة وثيقة ثقافية هامة، تُقدم وصفا للتيارات السياسية التى كانت سائدة فى القاهرة منذ منتصف الثلاثينيات، والأربعينيات وتمتد حتى منتصف الخمسينيات، وتكشف صراعات هذه التيارات فما بينها. كما تقدم وصفا شاملا للمشهد الثقافى والسياسى وظروف نشأة الحركة السريالية المصرية، وموقفها من مختلف قضايا تلك الفترة. يكتب كامل عن عائلته، وثورة 19، عن نزوعه الاجتماعى وصداقاته، عن سجون ومعتقلات تلك الأيام، عن اليسار وستالين وتروتسكى، وأنور السادات زميله فى إحدى الزنازين، ولقائه بحسن البنا. يكتب عن كتبه وظروف نشرها ومصادرتها، وعن الفن والحرية والخبز والحرية، عن زميله الذى اعتبره أستاذه أحمد كامل مرسى، وخاله الثورى الذى أصبح طبيبا للملك، عن جورج حنين ورمسيس يونان، وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، وماريا كوفاديا، ومارسيل إسرائيل، وهنرى كورييل. مذكرات تكشف الكثير.. تحدث فيها صاحب «الكتاب المنبوذ» تفصيليا..هنا حاولنا أن نجمع شذرات مما قاله فى فصول المذكرات عن بعض الشخصيات التى عرفها .

لا يمكن اختصار جورج حنين فى سطور أو كلمات قليلة، بل يمكن أن أتحدث عنه فى كتاب منفصل، وهو يستحق ذلك. التقيت به فى أواخر عام 1936 أو أوائل العام 1937 فى قصر والده الذى كان يعمل رئيسا لشركة مياه القاهرة فى ذلك الوقت وكنت قد أصدرت «الكتاب المنبوذ»، وأدين لكامل التلمسانى بأنه عرفنى على حنين، وكنا نلتقى فى تلك الفترة كثيرا، نتناقش فى كل شىء تقريبا.
وكان حنين أول من وجَّهنى إلى شىء اسمه الماركسية التى لم أكن قد عرفت عنها شيئا، وكنت أستعير منه الكتب التى تتناول الجوانب الاجتماعية والسياسية، كما أنه أول من وجهنى إلى شىء اسمه «الخلايا». وأذكر أننى حضرت اجتماعا شارك فيه حنين، ويونان والتلمسانى، وفؤاد كامل، وعايدة شحاتة وراتب صديق، تحدث فيه حنين عن الخلايا التى تتكون، وكل خلية من 5 أفراد، وأنا بطريقة تلقائية أكملت كلامه: 5 فى 5 =25، 25 فى 5 = 125 وهكذا.. من هنا يمكن القول أن حنين صانع أفكار، بينما أنا أحوِّل الفكرة الى تطبيق.
وقد تطورت العلاقة بينا حتى شاركت فى بيان «يحيا الفن المنحط» الذى حرره حنين كاملا وبمفرده، إذ كان هو المحرك الأساسى لجماعة الفن والحرية، حتى صدرت نشرة الفن والحرية فى عددين ثم مجلة التطور كلسان حال لهذه الحركة. وقد تم اختيارى رئيسا للتحرير بدون انتخاب، وإنما اجتمعنا أنا وحنين والتلمسانى ورمسيس يونان ويوسف العفيفى، واختارونى لرئاسة التحرير.
فى عام 1939 لجأ حنين إلى هنرى كوريل لإنشاء جريدة «دونكيشوت» ربما كان يمر حنين فى ذلك الوقت بفترة مضطربة، هو كشخص يريد أن يشق اتجاها معينا للنضال، أنا مثلا كنت أزور جميع الأحزاب باحثا ومتطلعا لعلنى أجد فيما هو قائم ما يشبع تطلعاتى ونزعاتى الاجتماعية، ربما حدث الشىء نفسه مع حنين. ولكن المؤكد بالنسبة لى أنه كان مخلصا للفن، ولم ينضم إلى أى تنظيمات سياسية بطريقة رسمية.
حنين كان إمامنا فى الأدب، وأنا فى السياسة، هو كان متجها تماما إلى الأدب، بينما أنا رجل سياسى، وكان من الطبيعى أن يحدث اختلاف بينا، لا خلاف حول «نقط التركيز» ودرجاته. لذا أسست جماعة «الخبز والحرية»، ولم تكن نقيضة للفن والحرية، بل كانا متكاملتين. كانت الفن والحرية قد ركزت على حرية الثقافة وقصرت نشاطها على التعريف بالحركات الفنية والاجتماعية فى العالم، ولكن الخبز والحرية ركزت على مصالح الطبقات العاملة، وكان شعارها «الخبز والحرية للجميع»، كنت أريد أن أهبط إلى القاعدة الشعبية إلى الجماهير الكادحة، ولكن كان هو يريد التركيز فى الجانب الأدبى، والفنى، ربما بحكم انتمائه الطبقى. وظلت الصلة بين الجماعتين قائمة، وظلت شعارات الفن والحرية مستخدمة فى مجلة التطور، وفى الخبز والحرية نفسها.
ومنذ عام 1940 وحتى 1948 لم يكن هناك كتاب أصدرته إلا وكان حنين داعما لى بصوره أو بأخرى سواء ماديا او بإمدادى بالمراجع، والكتب اللازمة لكتبى، ومن بينها كتابى عن الصهيونية.
وأثناء محاكمتى عام 1942 فى قضية الخبز والحرية، كان حنين حريصا على حضور جلسات المحاكمة، أو الجلسة الوحيدة العلنية فيها، وقد وضع فى يدى أثناء الجلسة رسالة قصيرة معبرة: «نؤيدك فى صمودك أمام سجانيك، نحن جميعا معك». وليس صحيحا ما يُقال أننا اختلفنا بسبب رغبته فى الزعامة، هو كان متواضعا جدا، بل أرسل لى ذات مرة خطابا من باريس كتب على مظروفه إلى أنور كامل أمين عام جماعة الفن والحرية، رغم أن المعروف أنه المؤسس والمحرك الأساسى للجماعة، ولكن أرسل هذا الخطاب بهذه الصفة عندما نما إلى علمه أن هناك بعض الأشخاص يضعون العراقيل فى عملى فى الجماعة، وفى مجلة التطور، وخاصة من شخص يسمى « دويك» ( لا أتذكر الآن اسمه كاملا).
عندما تعرضت مجلة «التطور» للتضييق من الرقابة، استدعانى الدكتور محمود عزمى وكان مديرا للرقابة وقتها وأخبرنى أنه رجل يؤيد حرية الفكر إلى أبعد حد، ولكنى لا أستطيع بحكم وظيفتى ان أحمى مجلتكم من القوى التى تصارعها الآن، وهى السفارة الإنجليزية، والسراى والأزهر، لذا أرجو أن تضعوا مقالاتكم تحت دش بارد، وبصراحة لم نستطع أن نضع مقالاتنا تحت دش بارد وإنما حاولنا أن نضعها تحت دش فاتر حتى لا تخرج مثلجة أو ملتهبة، حذف نصف العدد الرابع، والخامس وصدر العدد السادس فى أربع صفحات، وصودر العدد السابع تماما.. وفى هذه اللحظة قررت عدم القدرة على الاستمرار تحت هذه الظروف، وفى ظل هذا التضييق، فطلبت من جورج حنين أن يسحب الترخيص والضمان المالى الذى كان قد وضعه لضمان صدور المجلة، لأنه من العبث أن يظل هذا الضمان بدون أن تصدر المجلة، وخاصة أن حنين كان يفكر فى تلك الفترة فى إصدار مجلة أخرى هى المجلة الجديدة التى رأس تحريرها رمسيس يونان. وبالتالى ليس صحيحا أن حنين سحب ترخيص المجلة والضمان المالى من نفسه، بسبب خلافات بيننا.
وحين سافرت إلى باريس عام 1966 وكنت مبعوثا من وزارة الصناعة، عندما وصلت إلى باريس اتصلت بحنين، وألبير قصيرى أيضا، وقد فوجئ حنين بتليفون منى إذ لم يكن لدى هاتفه، وقد اتصلت وقتها باستعلامات الفندق وطلبت منهم الاتصال بصحفى يُسمى جورج حنين وليس لدىَّ هاتفه، بعدها بدقائق اتصلوا بى وأعطونى رقمه، وهذا دليل على أن حنين كان مشهورا فى باريس ومعروفا. التقينا فى منزله فى حضور بولا العلايلى زوجته. وسألنى ماذا يفعل الثائر الاشتراكى فى بلد اشتراكى غير اشتراكى؟ فقلت له يتحول إلى ليبرالى غير ليبرالى ثم ينشئ إذا استطاع جماعة للفن والحرية ويتفرع منها جماعة الخبز والحرية، تماما كما حدث فى المجتمع الرأسمالى.
فى باريس كان آخر لقاء بينى وبينه، لم نلتق مرة أخرى ولكن التقيت بولا أكثر من مرة عندما كانت تأتى لزيارة القاهرة، فى كل مرة كانت تأتى لزيارتى وتطلب أحيانا بعض الوثائق حول الحركة السريالية لم تكن لديها.


عادل كامل:
قد أكون بطله

عرفت عامل كامل عام 1942، حينما كنت أُحاكم أمام المحكمة العسكرية العليا، لم أستطع أن أوكل محاميا وقتها إذ لم يكن معى المال الكافى لذلك، ذهب أخى وقتها إلى المحامى مصطفى البيلى الذى قيل إنه اشتراكى الهوى، فطلب 400 جنيهاٍ، ولم يكن المبلغ متوفرا، ثم ذهب إلى على الخشانى وكان من أقطاب السعديين، فوافق على قبول القضية مقابل 6 جنيهات رسوم نسخ ملف القضية. وجاء بالفعل ودافع عن جميع المتهمين. فى البداية عندما لم أوكل محاميا، انتدبتْ لى المحكمة محاميا للدفاع وكان بالمصادفة عادل كامل، الذى حضر وطعن بعدم اختصاص المحكمة العسكرية فى نظر الدعوى وقد قُبل طعنه.
كان لقضية الخبز والحرية تأثير كبير على عادل كامل، تغير مجرى حياته بسببها، وهذا ما قاله صديقه الفنان أحمد مظهر فى لقاء تلفزيونى معه. وقد عرفت بعد خروجى من السجن أن عادل اتجه لكتابة الرواية بعد دفاعه عنَّا فى القضية، وكان البعض يسألوننى هل أنا بطل روايته «مليم الأكبر»، ولكنى لم أقرأ الرواية حتى أستطيع أن أحكم.


كامل التلمسانى:
الإمام فى التشكيل

تعرفت على كامل التلمسانى عن طريق أخى فؤاد كامل، كانا يدرسان سويا فى مدرسة واحدة، هى السعيدية، ويتعلمان الفن على يد يوسف العفيفى الذى أنشأ جماعة للتصوير فى هذه المدرسة، وهو الذى أدخل السريالية فى مصر فى مجال التشكيل. وإذا كان الكتاب المنبوذ هو أول كتاب ينشر لى، فإن غلافه كان أول غلاف للتلمسانى، وربما فى حدود علمى الغلاف الوحيد له، وبالإضافة لصورة الغلاف، أنجز عشرة رسومات لمقطوعات من الكتاب، ولكنها لم تُطبع لأسباب مالية، رغم الخدمات الجليلة التى قدمها أحمد الصاوى محمد لصدور الكتاب. ولا أحد يعلم شيئا عن مصير هذه الرسومات.
وقد تعرفت أثناء كتابتى «الكتاب المنبوذ» وبعد صدوره عن طريق التلمسانى على شخصيات أخرى مثل أحمد رشدى، ضياء الدين عارف ونعيم جاب الله الذى كان فنانا بارعا فى الرسوم المائية، وأمين الشربينى وكنا نلتقى فى قهوة المثلث بالجيزة، ثم انتقلنا إلى قهوة « صالون سوسيس»..ومن هذه المجموعة تكونت تلقائيا جماعة المنبوذين نسبة إلى الكتاب. ولم تكن هذه الجماعة تمثل تيارا فكريا، وإنما تجمعت حول مجموعة من الأفكار التى وردت فى الكتاب الذى طبع منه 250 نسخة وزعت بالكامل بعد صدوره. وقد استأجرنا فى تلك الفترة استوديو صغيرا فوق سطوح إحدى عمارات الزمالك، وكنا نلتقى، ونتبادل الآراء حول ما نقرأ ونتناقش فى مختلف الآراء، ونستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية وخاصة بيتهوفن، ونتناقش حولها، كنا أشبه بجماعة الجرامافون التى أسسها فيما بعد لويس عوض عندما عاد من بريطانيا.. وكان بيننا شخص يُدعى أمين الشربينى كان واسع الأفق حر الفكر يجمع أحيانا المجموعة فى منزله للمناقشة والمسامرة. وبمرور الوقت توثقت علاقتى بالتلمسانى الذى تأثر بالكتاب المنبوذ تأثرا كبيرا انعكس على لوحاته، وعلى إنتاجه الفنى.
كان التلمسانى ثائرا اجتماعيا، وكنا فى لقاءاتنا نتحدث كثيرا عن حالة الشعب المصرى، وحالة العمال والفلاحين وصغار الموظفين، وهو نفسه كان ينتمى إلى الطبقة الوسطى لا إلى طبقة الباشوات، رغم أن والده ووالدته يملكان بعض الفدادين، ولكن فى تلك الفترة التى تعرفت عليه فيه كان يبدو أنه يعانى من عثرة مالية. فى البداية كان مولعا بالتصوير، بمعنى الرسم، ولكنه انتقل بعد ذلك إلى التصوير السينمائى وأنتج فيلمه المعروف «السوق السوداء». كان التلمسانى فنانا، لم يفكر فى الانخراط فى العمل السياسى، باستثناء مشاركته فى تحرير مجلة التطور، ولكن لم ينتم إلى تنظيم، مثله فى ذلك مثل جورج حنين ورمسيس يونان ولويس عوض، لذلك لم يكن عضوا فى جماعة «الخبز والحرية»، فقط شارك فى مظاهرات دعم فتحى الرملى أثناء ترشحه للانتخابات. ولم يكن استوديو الزمالك وحده مكان لقاء المجموعة، كنا نلتقى أحيانا فى درب اللبانة، وكنا نلتقى كثيرا بالمهندس حسن فتحى سواء فى الزمالك أو درب اللبانة، قرأ الكتاب المنبوذ وقال لى إن هذا الكتاب عبقرى لا يصدر إلا من عبقرى، كان فتحى عاشقا للموسيقى الكلاسيكية، ولديه مكتبة ضخمة، وقد أسمعنا من مكتبته الموسيقية الكثير من سيمفونيات كبار الموسيقيين فى العالم، وكان شارحا كبيرا للموسيقى ومفسِّرا لها، أتذكر ذات مرة أنه وصف مقطوعة موسيقية بأنها لؤلؤة تقفز وتتدحرج على رخام مصقول، لقد كان معماريا وأديبا وموسيقيا أيضا إذ كان يجيد العزف على الكمان ببراعة منقطعة النظير.
وعندما أردنا إصدار بيان يحيا الفن المنحط تحدث جورج حنين مع كامل التلمسانى الذى حدثنى عن البيان ووافقت على الفور، ولم نأخذ فى التفكير سوى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، ثم انضمَّ لنا رمسيس يونان. وبعد بيان يحيا الفن المنحط الذى صاغه جورج حنين بمفرده، أصدرت بيانا آخر حول حرية الفكر والتعبير، وقد قمت بصياغته بمساعدة التلمسانى، تحدثت فيه عما تعرض له طه حسين وعلى عبد الرازق، وتوفيق الحكيم الذى تعرض للخصم من راتبه بسبب انتقاده لرجال القضاء الشرعى.
كان لويس عوض قد وصف جماعة الفن والحرية بأنها جماعة الماركسيين الأحرارـ ويعنى أنهم تروتسكيون: «كان إمامهم فى الأدب جورج حنين، وفى الفن رمسيس يونان، وفى السياسة أنور كامل». لدىّ تحفُّظات على ما قاله لويس عوض، بالفعل قد يكون جورج حنين «الإمام» فى الأدب، ولكن أعتقد أن نقطة التحول فى الفن جاءت عن طريق كامل التلمسانى قبل رمسيس يونان، التلمسانى هو الإمام فى الفن، وليس معنى ذلك أن يونان لم يكن لينجح فى نفس المرحلة بل كان ينجح، لكن لم أكن على صلة به، ومن ناحية أخرى أخرى كان التلمسانى سبَّاقا لأن أول معرض أقيم له كان فى عام 1938 بعد صدور «الكتاب المنبوذ» بعامين، أما يونان يُخيّل لى أنه عرض بعد هذا التاريخ. أما ما يقصده عوض بأننى الإمام فى السياسة باعتبارى ماركسيا، فأظن أنه يقصد أن توجهاتى وضحت لاسيما بعد ظهور مجلة التطور، ففى تلك الفترة كنت قد بدأت ألتحم بالفلسفة الماركسية، وكنت قد بدأ أقرأ بعض مؤلفات تروتسكى، نعم كنت ماركسيا، ولكنى لم أكن تروتسكيا مائة فى المائة، وأعتقد أن مجلة التطور ضمت أكثر من تيار، ولكن هذه التيارات المختلفة التى التحمت فى بؤرة المجلة كانت تجمعها قاعدة مشتركة يمكن أن يقوم التفاهم على أساسها، كان هناك جانب أدبى وشعرى وفنى، وكان هناك أيضا جانب اجتماعى كنت أنا أتصدَّره.


ألبير قصيرى:
ثورى تلقائى

تعرفت على ألبير قصيرى عام 1933 فى ندوة تجمع «النورس»، وهى جماعة من المثقفين، كانت تلتقى على مقهى «النورس» بشارع فؤاد، وأحيانا فى استوديو آمون، وكان من أعضاء التجمع: صلاح طاهر، كمال سليم، نيازى مصطفى، محمود السبع، كمال سرور وهو من كبار الزراعيين فى مصر. وقد عرفنى على هذه المجموعة صديقى أحمد كامل مرسى الذى عُرف فيما بعد بشيخ المخرجين. وقد استمرت هذه الندوة أربع سنوات من 1932 وحتى 1936، ولم يكن هذا التجمع سوى مجرد لقاء فكرى لم يتمخض عنه تيار معين وإنما خرجت منه شخصيات متعددة، لمع كل منها فى مجاله فيما بعد، ولم يكن يجمعهم إلا أنهم من أبناء الطبقة الوسطى الحالمين بالثورة، والاهتمام بالثقافة. وقد استمرت صلتى بقصيرى حتى منتصف الأربعينيات عندما غادر إلى باريس، لكنها كانت صلة متقطعة، وحين صدرت مجلة «التطور» نشرنا له قصصا مترجمة. لم يكن يعرف العربية قراءة وكتابة، ولكنه كان يجيد الحديث بها. وقد التقيته فى منتصف الستينيات فى باريس، وفى نهاية الثمانينيات (1989) جاء فى زيارة إلى القاهرة، واتصل بى والتقينا، وقد سألته فى هذا اللقاء عن أصوله، فأجاب يُشاع أنه من أصول شامية، ولكنه مصرى وأن قصيرى نسبة إلى مدينة القصير، وأن أسرته كانت تعيش فى دمياط. وقد أخبرنى فى لقائنا الأخير غاضبا أنه عندما يتحدث الكتاب فى باريس عن ماضيهم يبدأون حديثهم: «عندما كنت اشتراكيا كنت أقول كذا وكذا..»..موضحا أن الاشتراكية تعانى الآن فى العالم من مرحلة جزْر، وقد فسر ذلك الجزر وذكر أيضا بأن البروليتاريا فى أوروبا يعيشون فى بحبوحة من العيش على حساب الدول التابعة أو على حساب المستعمرات. لا أستطيع أن أقول إن قصيرى ينتمى إلى تيار معين، لم ينتم تنظيميا إلى أى تجمع أو حزب، أو جماعة، سواء فى مصر أو فرنسا ومن هنا أقول إنه ثورى تلقائى أو شعبى ثورى، هو إنسان أو فنان ثائر بطبيعته، هو كفنان يكتب القصة والرواية ثائر بطبعه، وخاصة أن مادة القص عنده هى الطبقات المطحونة. لم يتغير ألبير كثيرا عن أول لقاء بينا، لا يزال يكتب عن المطحونين، ويستمد مادة رواياته من خبراته فى الحقبة التى عاش فيها فى مصر قبل أن يغادرها إلى باريس، وكان يقول دائما إنه يكتب عن الفقراء لأنه لا يحب الفقر، هو كإنسان يحب أن يعيش فى رخاء، ويحب أن يعيش الآخرون كذلك، وأظن أنه منذ سافر إلى باريس اختار أن يعيش فى فندق فى وسط باريس، ومعنى ذلك أن أرباحه من كتاباته تستطيع أن تفى احتياجاته على مستوى لا بأس به من الحياة، وقد تزوج مرة واحدة من ممثلة فرنسية ولكن زواجه بها لم يدم أكثر من عام.


أحمد كامل مرسى:
صديق العمر

علاقتى بأحمد كامل مرسى علاقة فريدة فى نوعها، قد نفترق فترة من الزمن ثم نلتقى، ونفترق ونلتقى وكأنَّ شيئا لم يحدث. أستطيع أن أقول إنه بالنسبة لى صديق العمر برغم هذه الانقطاعات التى تخللت هذه الصداقة. وفى ندوة من ندواته التى يعقدها فى صالون منزله كل خميس قلت إننى أشعر بالاطمئنان لوجود مرسى على ظهر الكرة الأرضية. كنا نعمل سويا فى مصلحة المساحة، كان مهتما بالأدب والأدباء، ولكن ألحظ وقتها اهتمامه الخاص بالسينما، فقط كان يقرأ فى مجلة أجنبية (picture show) وفى فترة لاحق ترك مصلحة المساحة، والتحق بوزارة الأشغال، ولكنه كان موظفا غير ملتزقٍ، فترك الوظيفة وعمل صحفيا فى مجلة روزاليوسف التى كان يعمل بها أيضا زكى طليمات، وكانا يكتبان فى السينما والمسرح. كان مرسى مخرجا متميزا، أخرج أفلاماً ذات طابع اجتماعى مثل «العامل».. وقد تأثر فيه بظروفه الخاصة، حيث تزوج والده من امرأة اخرى غير والدته، لذا يبدو فى أفلامه التركيز على المشاكل الأسرية، لم يصل إلى صميم المشكلة الكبرى: الطبقية الخاصة بالمجتمع. كان مرسى يتمتع بأكبر قدر من الإنسانية، وثوريته كانت إنسانية أكثر منها دوجمائية، كان دائما مع الحرية والديمقراطية، ولكنه لم يكن منظما فى تيار سياسى. وأذكر أننى سألت كامل التلمسانى ذات مرة عن أهم مخرج مصرى..أجابنى: أعظم مخرج هو أحمد كامل مرسى.


لويس عوض:
آخر العنقود

عرفت لويس عوض بعد عودته مباشرة من بعثته التى حصل فيها على الدكتوراه، ربما كان ذلك عام 1944، كنت أتوجه فى ذلك الوقت إلى جامعة فؤاد الأول كطالب مستمع، وكنت حريصا على الاستماع إلى محاضرات لويس عوض وتوفيق الطويل فى الفلسفة. وفى إحدى المحاضرات حدث شىء غريب، حيث توقف عوض على الكلام وقال أظن أن أخانا أنور كامل لديه شىء يقوله فى هذا المجال، وهكذا تحولت المحاضرة إلى جلسة نقاش بينا حول الأدب والمجتمع، وفى أوقات لاحقة بين المحاضرات كان الطلاب يلتفُّون حولى لمناقشتى فى العديد من القضايا.. ومن هنا نجحت فى ضم عدد منهم إلى جماعة الخبر والحرية وكان من بينهم يوسف الشارونى، ومصطفى سويف محمد لطفى..وآخرون.
فيما بعد توطدت العلاقة بيننا، كان يلتقى بنا فى مقر مجلة التطور والفن والحرية، وأحيانا فى درب اللبانة حيث كان يقيم رمسيس يونان وكامل التلمسانى، أو بعض مقاهى القاهرة ونتناقش فى أمور كثيرة ربما كان أقرب لنا من بقية التجمعات اليسارية لأننا كنا نمزج الأدب بالفن والسياسة. وللأسف الشديد لم يكتب عوض فى مجلة التطور رغم هذا القرب. هو كان يرى نفسه رجلا أكاديميا، أو رجل علم، وهو يعتقد بينه وبين نفسه أن رجل العلم لا ينبغى أن ينخرط فى حركات شعبية. وكان شقيقى فؤاد يقول دائما عن عوض إنه آخر العنقود ويقصد عنقود المصريين، بداية من حسن العطار والطهطاوى وعلى مبارك، ولطفى السيد وطه حسين وعلى عبد الرازق ومحمد مندور.. وأخيرا عوض. وأعتقد أنه كان ليبرالى النزعة ولكنه تخطى حدود الليبرالية ليصبح ذا ميول اشتراكية واضحة. وفى كل المرات التى كنت ألتقيه فيه كان يصفنى بأننى المسيح الذى لم يُصلب.. لم أكن أعرف لماذا يصفنى بهذا الوصف، ولكننى فهمت فيما بعد أنه يقصد أننى شاب مُضطَهد يدعو لثورة اجتماعية لتغيير النظام الاجتماعى بالقوة، فى الوقت الذى لا أستطيع أن أقتل فيه ذبابة. ولهذا أطلق علىَّ هذه التسمية.
أعلى