شارع الطبلية ذو الأرضيّة الحجريّة، يتسلّل من ميدان الأزهر في ظلال مآذن المسجد، ليتخفّى في بركات الإمام عبد الله، بفسحة “بهادر دار” المحتجب في حضن تلال الغموض بالمُقطّم، ولسعة الشتاء لم يعْفك منها طول حرمانك من الدفء في الليمان الرهيب، أضواء المصابيح يخنقها البرد والندى، ألمُّ أطراف ثوبي أتوقّى لسعة البرد، بينما أنفذ إلى شارع الجحيم.
المعلم يشكرك…
كانت ملامح الوجه قاسية الزوايا، أنف أقنى، شفتان غليظتان، والزنزانة ترسف في أغلال العذاب، ورفيقي يحمل من عالم الصفو الغائم رسالة لا تنتشلك من حرمة الندم.
المعلم يشكرك…
كان يتبوّل في السطل المعدني، وهو ينهي إليك رسالة حاكم “بهادر دار”، ويخترق الصمت صفير حاد، تجاوب معه صفير متقطّع، الكمائن كما هي، وعيون الرجال لا تغفل، فهل غفلت عنك حمايتهم يوم اللعنة؟ خيانة هي أم غفلة غير مقصودة من مساعدك (جودت)، الذي اختفى وسط الزحام مع بقيّة البضاعة؟
كنتُ أجلس بمكاني في مدخل عطفة الجويني أمام الحرمين، أتذوّق العقار الجديد، وبرز أمامي بهادر دار، كان يدمدم بالغضب، والجارية تقرّ بذنبها وترتجف:
لا يحسّ بسطوتك إلّا من عاناها.
ألم نوفّر لكِ الغذاء؟
وترتجف الجارية:
أجل يا مولاي…
تتقّد عيناه:
والمأوى والملبس والعيش الرخيّ؟
ويمتزج الرعب بالاسترحام:
واطمع في كرم عفوك…
لمعت ياقوتة حمراء في منتصف عمامته:
وتدسّين لي السمّ بعد كل ما فعلته من أجلك؟
وبرز من خلفه وزيره صمصام الدولة، وفي صوت دمويّ:
من هم أعوانكِ؟
ويزداد ارتجافها، ويتخبّط الرعب بين شفتيها:
أطمع في كرمك يا مولاي.
ثم أشار الوزير بيده، فبرز حارس ملثّم ضخم الجسد، شاهرًا سيفًا مشحوذًا في يده، عبس أبو حيان التوحيدي، كما لو كان يخشى افتضاحه، واختلج جسد الجارية بعنف، كانت تنظر حولها تتلمّس منفذًا للفرار، واخترق الرعب والاسترحام ودمدمة الغضب سهم مجهول مرق من الشرفة إلى صدرها، ولم تردّ الجارية، شحب وجهها وساد البياض عينيها وتهاوت على الأرض نازفة، ودوّت صرخة نفذت إلى قلبي، وتطامنت نظرات أبي حيان، واستبد الغضب بصمصام الدولة ولعن القاتل المجهول الذي حرمني معرفة أسباب الجريمة، وبهادر دار في ذهول، والضابط وعشرات الجنود يحيطون بي، والصحف تعلن بداية النهاية لدولة بهادر دار، كالكابوس حدث كل شيء.
واليوم تعود إلى دفء الجوار، وعطاء نفيسة، ونغمات الجويني وعبد الله ونشوة لقائك بالوليد الذي كبر وأنت بعيد عنه.
مبارك يا كامل.
قالها المعلم وهو يدسّ في يدي هديّة العرس، جنيهات لم أحصها، وهي تلوذ بالفراش في حياء مُصطنع، هي تعلم حقيقة مواطن العشق التي ستضمّنا، غادرَتها أمُّ الهنا، داية الناحية العجوز، وغمزت بعينها الكليلة المتوارية خلف التجاعيد، فربّتت بيدها المرتجفة على كتفي:
لا تضطرب ولا تسرف في تعاطي المزاج، فنفيسة على استعداد.
أحسستُ بدفء ودوار خفيف، فأفلتْ الوعي منّي لحظة، وأفلتت مُضغة من ألوان قوس قزح تضرب إلى حمرة رائقة.
عشتِ يا أم الهنا.
وهي تنقّل البصر من بقايا المضغة على الأرض إلى عينيّ:
البنت في طراوة الجبنة فترفّق بها.
يتيمة كفلها حاكم بهادر دار عقب مصرع أبيها في تلال المقطّم أثناء مطاردة سارت في الحي مثلًا على الشهامة والوفاء، وقسمًا لا يردّه الحاكم إلا في مقام الصدق:
ورحمة من افتداني بحياته…
وكُنّا نعلم المقصود بيمينه فلا نملك إلّا التصديق، واختصّني المعلم بربيبته نفسية، فهو لم يتزوج ولم ينجب، كثر الحسّاد واستسلم الطامعون إلى حين.
سنعتبرك شاهد ملك إذا قدتنا إلى المعلم الكبير.
ولزمتُ الصمت.
ألم تفق يا كامل؟
وأطرقتُ، وفي حدة قال الضابط:
ما اسمه؟
ولم نكن نعرف له اسمًا ولا من أين جاء، ولا الزمن الذي قاد فيه “بهادر دار”، وتقلّص وجه الضابط حتّى أقبل أحد رجال الحاكم وهمس:
المعلم يثق بك.
ولم أكن بحاجة إلى هذا التنبيه، فزوجتي وابني رهن إشارة منه، وحياتي موقوفة على رضاه، هو الموت ونبض الحياة، هو العدل بقانونه الذي ارتضاه. رسائله لم تنقطع عنك، ومنحه تسرّبت إليك، فجرَت بالخير على المذنبين والسجّانين في ظلمة الليمان، حتّى نفيسة لم تنقطع عن زياراتها لك، ولم ينس ابنك مراد الذي اصطحَبته معها في كل مرّة، وتُجفّف دمعة امتزجت بحبيبات الكحل، وتغتصب ابتسامة وهي تشير إلى ولدكما ابن التاسعة:
حلّ مراد مكانك بعطفة الجويني.
وارتجفت وابنك يرفع رأسه في عناد.
لكنّني لا أغيب عن الوعي.
وقال الحاكم:
نحن لا نخدّر الناس، بل نمنحهم القدرة على ارتياد الأحلام ليغيّروا الواقع.
ابنك يلومك، ولو علم بعذابك حين مرق السهم من الشرفة ليصرع الجارية ويظل المجرم طليقًا لما عافى الصنف أملّا في الانطلاق إلى سراديب الخيانة بقصر بهادر دار.
وارتفع الصوت الرفيع الواثق:
اطمئن تركت رجلًا.
وتحتضنه نفيسة.
نجح في أكثر من مهمّة ونال ثقة المعلم.
ومراسم الثقة مترعة بالدم، ومخاطر المطاردة وطُرق التخفّي ووسائل الهرب، واقشعر بدني… هل سفكتْ اليد الغضّة دمًا؟ فما أبشع قانون بهادر دار. ونظرت إلى يديه، لكنّه وضعهما في فتحتيّ جلبابه البلدي، وكانت نظراته صارمة وشفتاه تنطويان على قسوة، صرعتْ براءته قبل الأوان بكثير، فكدتُ أصرخ فيه:
أرني يديك يا ولدي.
وألجمتني صيحة الحارس تعلن نهاية الزيارة.
انتبه يا مراد.
فرمقني بابتسامة واثقة وهو يغادر مكانه خلف شبكة الأسلاك وتمتم:
شيء لله يا جويني.
وفسحة بهادر دار تنجلي في نهاية شارع التبليطة، وقد آثرت العودة في ستر الليل. وبرز من إحدى النواصي شاب تقدّم على مهل، وفي صوت أجش وهو يضع سيجارة بين شفتيه:
كبريت.
يروم رؤيتي، وهمست به:
كامل عبد الشهيد..
واختلج صوته:
حمد الله على سلامتك…
وفي تردّد وهو يشعل سيجارته يتفرّس في وجهي:
طال انتظارنا.
وعرفت في صاحب الصوت أحد الذين أوفدهم المعلم لزيارتي، تنهّد وهو يضمنّي في شوق…
المملكة بخير…
وخيالات قطرات الدم تتخلّل قبضة ولدك في ليل الباطنيّة، وضحكة المعلم تجلجل:
عرفت صوته يا عنتر فأدخله.
وأحسست بالأمان رغم أشباح الجريمة الماثلة في عين مراد وشفتيه، وكركرت النارجيلة، وتوهّج الفحم، وعانقني الرجال، ونهض الحاكم من صدر الحجرة مادًّا ذراعيه، وجفّفتُ دموعي على كتفه، وحبست نهنهة. حفظ عليك حياتك وهناءك، وقتل براءة ابنك. فهل يتساوى الأمران في ميزان العدل حين يُقام؟ ولكن من ذا الذي يقيمه غيره فلِمَ العذاب؟
ويفسح لي مكانًا بحواره:
مكانك محفوظ.
وأقبل عنتر ذو الصوت المعدني البارد والجسد الضخم…
ومكانتك على العين والرأس.
وقال حاكم بهادر دار:
جهلنا بالتاريخ كدّر علينا صفو الأيام…
يداعب التاريخ والذكريات وصفحة من العمر انطوت. وناولني النارجيلة، جذبت عدّة أنفاس، وترنّح عذاب الماضي، وتجلّى بهادر دار لحظات ثم احتجب وهمس مداعبًا:
أم تراك نسيت كتب التاريخ التي حملتها معك حين قدمت آخر مرّة؟
ما أحلى بكارة الأيام وأشواق الشباب وروعة المجد الموهوم بعد ضياع الأهل حين عمّ الوباء قريتنا، تساقط الكثيرون، ونجوت حتّى طوتني الجامعة، ولجأتُ إلى بهادر دار ألملم قروشًا، أتجاوز بها حدود الفاقة حتى كفلني المعلم وأنصفني من العوز بقانونه، وارتجفتُ حين تذكّرت معالم الرعب تكتسح وجه شعبان.
هي التوبة فارحمني.
وتذكّرت طلقات الرصاص تنهمر من حولي أحس بلهيبها ونُذر الموت تتخفّى بها في حنايا المقطم، والمعلم يقود المعركة بمهارة ينشد انقاذي من الموت. والتلال في جوف الليل تثير في النفس وحشة. وأنا أجري وكمائن الرجال تفتح نيرانها على الحرّاس لتلهيهم عنّي. ونجحت الخطّة وودّعنا هدهد. واكتشف الحاكم الرشيد، ولم تطل المحاكمة، ومنحوني شرف إعدامه، والرجل يطلب الرحمة.
ما أكثر خطايا البشر.
قلت:
كدت أُصرع برصاص غدرك
قال:
ذل الطمع.
قلت:
أو نسيت دماء هدهد؟
قال:
قضاء الله وقدره.
وحسم الحاكم الموقف:
بل قضاؤك أنت، وقضائي يعدل ميزان العدل.
ارتجف الخنجر في يدي، واقترنت مشيئة عدله بصرخة مدوّية:
اضرب…
وهويت على رقبة شعبان فصعّدت فحيحًا شيطانيًّا وآهات متخاذلة محتضرة وناولني الحاكم منديلًا أجفّف يدي من آثار الدم القاني اللزج وكنت ارتجف.. هل كنتُ قضاء الله حقًّا؟ وهل تساوت كفّتا ميزان العدل بطعنتي؟ فما أبشع العدل حين يقيمه بهادر دار. وتذكّرت مراد بوجهه الصبوح وقسوة نظراته وأنت وراء قضبان سجن الخيانة.
اطمئن.. تركت رجلًا
ونفيسة تتهدّج:
نال ثقة المعلم.
وقال الحاكم:
في الأمر امرأة.
وهو يضغط على مخارج الحروف في لكنة أولاد البلد:
شرشيه لا فام.
وتأمّل الوجوه في نشوة انتصار يرقب ردًّا لفعل بعد أن كشف عن معرفته بالفرنسيّة، وطويت ابتسامة رغم الهناء والخوف ومرارة الذكرى وقتامة الماضي، ورحلة الغموض، تداعبك الأشواق إلى دفء الذراعين المفعمين أنوثة وحنانًا، وشفتا نفيسة تحتويان شفتيك… وهممتُ بالاستئذان لأنصرف.. وربّت المعلم على ساعدي في ود حميم…
ألم تخبرك الكتب عن فاطمة بنت برى ودليلة وحتى أمنا حواء؟
الخطيئة الأولى والشيطان ينتزع منك روعة الخلود في نزوة محمومة، وابنك قاتل يا كامل. شيطانه يناجي قضاء الزمن القديم، وتحوّلت الابتسامة إلى قهقهة قال من خلالها:
لم يصفُ ذهنك.
وقلت:
اختلط التاريخ بالدخان واللوعة وليالي الدم والمطاردة ووحشة الزنزانة وطول الانتظار وحرقة الشوق…
وفهم المعلم فابتسم برفق وهمس:
نفيسة تنتظرك وعشاء عريسنا سبقك – ومراد ضيفي حتّى تفض أشواقك.
وانعشتني تسبيحات الفجر وطافت بي الأشواق خلف المشربيّة التي فاضت بالنور وخيال نفيسة يتجلّى من فتحاتها، وقدماي تطرقان الأرض الحجريّة ورجفة تأخذني إلى لحظة لقاء. أنفذ إلى عطفة الجويني، التقط نفسًـا عميقًا، وتتسارع قدماي إلى البوّابة الخشبيّة القديمة. يرتفع صوتها كالأنين وأنا أدفعها، وأضم بعينيّ صحن الدار. استنشق عبق الزمن من الأبواب الخشبيّة والأحجار وآثار نافورة نُصبت فوق بئر نضب ماؤه فأدركها الإهمال وأتى النسيان عليها وهجرها الزمن.
وقال بهادر دار:
إذا خفّت مصادر المياه في الجوار ولجأ الكل إليكم ونضح البئر من جديد ستعرفون ميزة العدل الذي أرضاه.
ويوافيك أنس الليالي الخوالي في نور اللمبة الغازيّة التي حملتها نفيسة تضيء درب العمر من جديد، ويقفز مراد يتعلّق برقبتي، ويغمرني بالقبلات، يداه الغضّتان تنضحان شوقًا، لكنّني أحسست بدفء الدم ولزوجته بين أصابعه، واختلجت بقسوة وأنا أرفعه بين ذراعي، أمنّي النفس بالأمل في طهارته، فهل يتحقّق الأمل وبهادر دار يقبض على مصيرك، ويحرك التاريخ بصولجان المزاج في ليل الباطنيّة؟
وانفلت طفلك وتوقّف عند الباب ضاحكًا:
قبلت دعوة المعلم فلا تُضيع الفرصة.
وتدعوك ابتسامة نفيسة في حياء كليلة زفافكما، واختلطت ذكريات فحيح شعبان بلهاثه المتصاعد في رحاب الإمام الجويني. وأنساك دفء طراوتها خشونة الفراش وبرودته. وتهاوت صيحات السجّان في ثنيات جسدها.
أوحشتني يا كامل.
ليس أكثر منّي.
وفي حنان:
أخاف أن أتعب.
في الحب تضيع المتاعب.
وتوثّق العناق، وأنّت أعمدة السرير النحاسيّة حتى اغتسلنا بشفافية ضياء الصبح يتسلل من فتحات المشربيّة، فارتاح الأنين وهي مشعثة الشعر، ملتهبة الشفتين، لاهثة الأنفاس، يتناعس النوم في عينيها، تغادر الفراش مضعضعة، تتعثر إجهادًا فتعتمد على أحد أعمدة السرير، ألمح شحوب وجهها تغمره ابتسامة جانبيّة، أمد يدي أعانق كفها وألثمه… وفي دلال تقول:
نم قليلًا فالعمر أمامنا طويل.
فات منه الكثير.
وفي عذوبة:
ما فات نسقيه بالشوق.
واحمرّت وجنتاها وهي تطرق حياءً، يؤلمها غرس أسنانها في شفتها السفلى فتتأوّه وتضاعف الذكرى الحياء فيشبع جمرة وجهها. وضجّت العطفة بالحياة وتراءت لي الجارية تتردّى صريعة سهم غادر. وأسرع مراد يلوذ بالفرار حاملًا قوسه وجعبة سهامه يتوارى عن العيون مذعورًا، أحاول تحذيره، ويطبق وزير السلطان على فمي ويضغط حلقي. أحاول التخلّص منه، لكنّ الضغط يشتد، وطفلك يسارع الخطى، فأُشرف على الاختناق. اضرب صمصام الدولة بقبضتي. تُرى السهم طاش عن السلطان إلى الجارية أم كانت هي المبتغاة؟ وخارت قبضتاي وتهاوت إلى جانبي، وأحسست بدوار أنقذتني من غمرته نسمة هواء انفرجت أمام فمي، فناديت مراد الذي لم يلبث ان استجاب لصيحتي. تجلّت معالم الإشفاق والخوف على وجهه ونفيسة تتجاوز ارهاقها مختنقة بالصيحات…
سلامتك يا كامل.
واحتضنك ابنك مطامنًا:
أنا بخير…
وضممته إلى صدري وغلبني البكاء فبكيت. ورفعت نفيسة العصا التي تعتمد عليها إحدى نوافذ المشربيّة، فتوارت شعاعات شمس الضحى والحياة تعربد في الخارج، ومراد يبتسم، ونفيسة في حيرة:
قم اغتسل.
وتذكّرت ليلة الوصال بعد طول حرمان، وغمرتك طيوف نفحات عطائها، صانت الود، وحفظتْ العشرة، ونادمتْ الوفاء أيام الغياب، فهل خذل التاريخ قانون حاكم بهادر دار؟ وهزّتني رجفة من الشكوك تهاوت أمام مثول نبض الصدق في حرارة اللقاء، وتدفّق الود، ونسيانها سبل العشق وطرائق الغزل، ومعاناة استرجاع ذكريات العناق حتى يتحقق الانسجام المنشود.
وألقك الماء ليصفو ذهنك، وحين قدم المعلم علت شفتيه ابتسامة وغمز بعينه، وهمس وهو يتخذ مجلسه بجواري:
مبارك يا عريس.
وأخرج من جيب صدريّته منديلًا انعقدت أطرافه على أوراق ماليّة كثيرة.
هديّة زفافك الجديد.
وفي حنان أبويّ رفع صوته:
الشربات يا نفيسة.
ورفعتُ الكوب بالشراب الأحمر، وتفجر الدم من رقبة شعبان، وسرى فحيح اختلط بآذان الظهر تردّد من المساجد المحيطة بالباطنيّة ومسجد عبد الله، وهمّ المعلم بالنهوض وهو يأتي على الشراب:
إمام المسجد لا يقيم الصلاة حتى ألحق به…
وهو يضع قدميه في حذائه اللامع ذي الرقبة الطويلة:
خلافاتنا معه على هامش اتفاقنا الذي يوشك أن يكون تامًا.
وأخرج طاقية ناصعة البياض من جيبه ثبّتها على رأسه، فحجبت شعره الذي غالب سواده البياض، وامتد إلى شاربه… وعند الباب زوى ما بين حاجبيه قائلًا:
على فكرة، ثأرت لك من جودت.
صبي من صبياني قبل أن يطويني الليمان.
فنال ما يستحق من عقاب.
ما أكذب دموع جودت حين زارك في سجنك ان كانت الحقيقة ما قاله حاكم بهادر دار.
قطعنا لسانه فاحترف التسوّل أمام مسجد الحسين.
ومضى الرجل قبل أن يشفي غليلي، فبيد من نال الواشي جزاءه؟ وحين خلوت إلى حاكم بهادر دار في مضيفته المفعمة بالبذخ، فاتحته في أمر جودت فبدت عليه أمارات الكدر، ولمعت عيناه بالغضب.
لابد من بعض الدماء بين الحين والآخر ليستقيم ميزان العدل، ويصلح أمر التاريخ.
هل كان اتفاقًا مبيّتًا حين داهمك الحرس؟ رأيته يومئذ مضطربًا يحاول التخفّي والفرار؟ ونظرة رثاء في عينيه، يتوارى في عطفة بير المش. فهل كانت دموعه جزءً من المؤامرة يتستّر بها على فطنتك؟ وتجاوزت بي الحيرة حدود التحفّظ في مقام الحاكم وتساءلتُ:
أواثق أنت من الوشاية؟
وفوجئ لكنّه تماسك.
وهل أخطأني التوفيق من قبل؟
ولزمني الصمت.
هل نسيت أنه اقترن بابنة الخائن شعبان؟
وانبثق الدم من رقبته وتبدّدت توسلّاته في صيحة المعلم:
اضرب.
وأجفلت حين ربت على ظهري.
ألم أقل لك إن جهلنا بالتاريخ كدّر علينا صفو الأمان؟
تلعثم السؤال الحاسم عن قاطع لساني الواشي.
ولكن من؟
ونفذ صبره:
لا تفاتحني بهذا الأمر بعد ذلك…
وهممت بالحديث، وأشار بيده ليلجم الكلمات ويحجب اليقين، وويل لمن خالف إرادته، فاستسلمت لمشيئته، وأقبل مراد منتشيًا…
بعت حصّتي من الصنف الجديد.
وأدناه الحاكم من محلسه وقبّله وابتسم.
كان أبوك أوّل من تذوّقه ليلة قدومه.
ونظر إليّ مداعبًا.
بلغني أن نفيسة حامل…
واتسعت ابتسامة مراد، وأطرق وأنا أسعل أواري ما خالجني من حرج حتّى أنقذني منه حضور إمام المسجد معاتبًا.
غيابك فجر اليوم أوشك أن يفوّت على الناس الصلاة حتّى وافتني رسالتك.
وقهقه الحاكم:
كنت أطهّر جنبات المقطّم من أوكار البغاء.
ونظر إليّ…
استغل البعض سوء التفاهم القائم بين رجال الباطنيّة وبعض الحرّاس، فعقدوا معهم صلحًا منفردًا على حساب المبادئ.
وأجفل الشيخ مغضبًا:
أعوذ بالله – بغاء في مقابر ورحاب الأولياء، وظلال بيوت الله ووجودك؟
قلت:
علمت بهذا الأمر في الليمان وحزنت.
وقال حاكم بهادر دار:
لطالما نبّهنا المسؤولين…
وأومأ الشيخ موافقًا، واستطرد الحاكم.
قالوا إخوة ينشدون المتعة، وقرابة الدم والمصير تستوجب منا غضّ الطرف وبعض الصبر وحسن الإدراك للقانون الاقتصادي.
وأطلق الشيخ زفرة وتمتم:
استغفر الله، وأعوذ من غضبه.
وهو يطامن إمام المسجد.
قضى إخوان الصفا على هذه الأوكار دون رحمة.
وفي صدق وحسم وهو يدعوني بنظراته للمشاركة في الحديث:
المهم أن تبقى أخلاق الباطنيّة.
وجمع سجنك رجال الله وقتلته.
من الباطنيّة أنت؟
وغمز وابتسم، وفي سخرية أشار إلى شيخ معمّم، على عينه ضمادة تمتد باستدارة رأسه:
فقد عيناه لطول ما لاقاه من تعذيب.
واستطرد:
أمّا أنت فأراك معافى رغم أنكم تبيعون الأفيون للشعب.
وانتفض الشيخ:
كافر…
فتواصلت سخرية الشاب رفيق الزنزانة:
وهل شفع لك إيمانك؟
وأطلق الشيخ زفرة يأس:
كلّنا في الهم شرق.
واتّصل التاريخ بالعمر بعذابات سجنك ورفاق منفاك، وغياب اليقين، والحاكم يصون على الباطنيّة أخلاقها، وقلتُ لنفيسة حين خلوت إليها:
تعرفين إذن ما حلّ بجودت.
وبدت الهموم على قسمات وجهها، ولم ترد.
من كان يصدق؟
وبعد تردد:
هل أخبرك المعلم؟
حانت لحظة اليقين:
نعم.
وهي تحجب انفعالها:
انتقم لي ولك وللباطنيّة.
وألقيت بسؤالي الأخير:
من؟
وفرت الدموع من عينيها.
لم يُجدِ الزار ولم ينفع طبيب.
وتطاردك اللهفة وتأخذ بتلابيبك وتهزّك من الأعماق… تهزّك.
من؟
وتسترسل من الدموع.
واصطحبه المعلم إلى لبنان فأتم الله الشفاء.
واحتدمت اللهفة بجنون العذاب من حول اليقين الوافد عليك:
من يا نفيسة؟
وأجابتني:
ابننا…
وتحوّل الشك إلى يقين لا يخالطه خداع الآمال بين وهم الرجاء ومرارة اليأس، طفلك سافك دم؟ مشروع قاتل يتخلّق في رحم عدالة بهادر دار.
ولم يشفع صفو الحاكم لديك، ولا دماء هدهد في كراد الخيانة على جبال المقطّم، ولا سنون القهر في الليمان، حقّقت العدل بقانونه؟ أم يغتال عجله بكارة الإنسان في مراد؟ حتى قي مقام الانتقام لك فلن أغفره – دارت الدائرة وعليه أن يتجرّع مرارة كأسه اليوم. لم أجده في مضيفته، ولا في فسحة بهادر دار… ولاحقني تساؤل من لقيني.
ماذا جرى؟
هل جنّ كامل؟
قد تشهد الباطنيّة واقعة جديدة كحكاية الخلق.
ألم تر شرر الغضب في عينيه؟
وفي المسجد استقبلني الإمام بوجه جامد كالصخر قاس كمعاناة ارتطامك بجحيم اليقين…
قال وهو يعدّل من وضع عمامته:
لم أره اليوم
ثم مؤكّدًا:
لم يُصلّ الفجر ولم يبعث إليّ برسالة كالمعتاد.
وفي هدوء:
حديثه عن العدل والتاريخ وإخوان الصفاء والأخلاق حاصره بالأعداء. وقد أصبحتَ الآن واحدًا منهم، وكنت مناط الأمل، وموضع الثقة حتى أيام قليلة حلت. عذّبك تاريخ الدم وإخوان صفو الجريمة ومزاج أخلاق بهادر دار.
فما أقسى لحظة لقاء ستذكره فسحة بهادر دار، ويباركه الجويني ويخرّ له جبل المقطّم شظايا وذرّات ورماد، وقد يختنق القمر في هذه اللحظة، وتتجمّد أوصال الشمس، وتتصادم الكواكب، ولم أتحسّب، ولفحت شفتيّ مخارج حروف جهنميّة:
سيكون يوم الدينونة.
وتساءل الشيخ وهو يختتم أوراده جامعًا مسبحته السوداء فتطرقعُ حبّاتها.
ماذا تقول يا كامل؟
لو طال بقائي لانفجرت وذاع السرّ، أتضاحك مستدركًا:
كلمات في مقام المثول أمام بيت الله.
يزفر متجاهلًا:
تكاثر أعداؤه وتضاعفت خشيتي عليه.
وغادرتُ المسجد، فلقيتني على عتبة نفيسة، مصفرّة تعتليها كآبة وتهزّها مخاوف تحاول السيطرة عليها، وهي تنظر حولها متوجسة.
شغلتني يا كامل.
وأمرتها بالعودة إلى المنزل، ولكنها تشبّثت بالرفض، وأصرّت على مصاحبتي، وفي حدّة همستْ:
اغضب للظلم كما تشاء، إما أن تثور على العدل فسيرفضك الكل.
فقلت:
المهم أنتِ ومراد.
وكالسوط هوت عليّ:
أنا ومراد أوّل الناس.
وتخاذلت ساقاي، ولم أصدق فصرختُ:
تتبرّئين منّي؟
ووضعتْ راحتها على فمي وهي تتأمل المكان مخافة افتضاح أمرنا، وفي همسٍ عتوب:
ألم أحفظ عهدك أيام محنتك؟
والآن قد عدتُ.
في حبّة العين أضمك.
سأحقق عدالتي إذن.
وفي رقة مازجها الحسم:
عدالته تضمن للحياة نظامها.
وأنا أوشك على البكاء:
وهل تُسلم عدالتي للفوضى؟
وفي رجاء:
ومن يضمن لنا الأمان والهناء، وحتى العمر؟
وصممت بالحديث، لكنّها تضاحكت، وغمزت تحذّرني وهي تغيّر مجرى الحديث:
وقد أحضرتُ لك زجاجة النبيذ.
وتوقف عنتر بجسده الهرقليّ وصوته المعدني:
ألم تجده؟
وطويت الكلمات وأشرت بالنفي، مخافة أن يزل اللسان. ولكن من أخبره بسعيي في أثره؟ وارتفع صوت مراد يمتدح بضاعته، رآني فراح يهلّل بصوته الحاد الرقيق لولا بشاعة الجريمة:
فات موعده ولم يظهر.
قالت نفيسة:
ربما في مهمّة.
وفي رنّة غير مصدّقة لم تخل من برودة قاتلة:
لم يخبر أحدًا.
قالت:
لا داعي للقلق على كل حال.
ثم في هدوء:
ننتظره على العشاء، ولا تنس أن تخبره حين تلقاه.
ودون تكلّف أمسكتْ بيدي ومضينا وهي تواصل حديثها عن ألوان الطعام الذي أعدته، فأحسست بمرارة تملأ فمي، وتحجب مع الغيوم عين الشمس الطالعة في عز النهار الخريفي، فسادتني كآبة وهواجس وغصص لوعة وتجلّـت لي جارية بهادر دار هادئة في شموخ، وبصقتْ بقايا الفص الملوّن بقوس قزح، منحة الحاكم حتى وإن احتجب، فما أعجب نظامك يا معلم. ومرق السهم من الشرفة فمالت الجارية لينفذ إلى بهادر دار، ويرديه متخبّطًا في سكرات الموت، وابتسم أبو حيّان التوحيدي، وثار صمصام الدولة، وتردّدت الصيحات.
بُعث الإمام الجويني ليصلّي على الميّت.
المعجزة المستحيلة.
وأقبلتْ مجموعة ملثّمة تردّد قصائد رثاء منغّمة في الفقيد وهم يحرّكون عباءاتهم الحمراء مع الإيقاع الصاخب، وصراخ الجواري والعبيد يتّسق مع النغم العام، وحين ظهرتْ نفيسة ابتسمتْ في تواد وهي تقول:
هو غائب عنّا مؤقّتًا.
ونظرتُ إلى مُحدّثها، كان يحمل أوراقًا منتظمة إلى حدٍّ أوشك أن يثيرني، وربّت مراد على يدي وقبّلها، وقال الإمام وهو ينهي صلاته:
سأعود إلى مقبرتي، أنتظر حضوره.
وأخذ يترنّم راقصًا كالقرد:
حبيبي ما أعدله
حبيبي ما أجمله
ويمضي إخوان الصفا، وتلاطمت في عينيّ صمصام الدولة مشاعر متنافرة تقاذفها بريق نظراته، ولم تُجدِ محاورته مع أبي حيّان التوحيدي، وتوارت الحقيقة في صمت الشفاه، وخلوتُ إلى الجارية بمخدعنا، رفعتُ نقابها، فإذا هي نفيسة، ملعون غباء البشر، استلقت إلى حواري ضجيعة يتفانى الجسد في عبادتها حتى يوشك أن يفنى في عطائها. توادعت الأنفاس، ورقّت الهمسات، واستسلمنا للنعاس مُتخاصرين.
وأنفس الماء وضياء الصباح رغم فسوة الصداع – وكمن تُكمل حديثًا وهي تبتسم مداعبة:
أو نسيت أنني حامل رغم تحذيراتي المتكرّرة؟
واشتد الصداع وهي تضحك مترنّحة.
وكان ردك في المرات الثلاث:
حبيبي ما أعدله
حبيبي ما أجمله
وتباعدتْ في ضحكة خافتة غزلة، وأنا أنفض الماء من فوق رأسي.
لا أذكر شيئًا.
وتخبط على صدرها:
ألم تسمع وصيّة المعلم إذن؟
تُرى غريمك مات أم هي دعابة لاذعة؟ وأنا أتجفّف:
الوصايا للأموات، وغيابه لا يعني موته.
وضحكتْ:
يئس المحامي منك ليلة أمس.
وآثرتُ الصمت حتى يصفو ذهني تمامًا، فما أشد عذابه وأنت تلتقي بهذه الطلاسم رغم الضياء، وقد انفض عُبوس الخريف، واستكملت ارتداء ملابسي، واتّخذت مجلسًا إلى جوار المشربيّة. صفت السماء ومضت الحياة كعادتها، ولم أر مراد في مكانه في العطفة، وتثاقل القلب بالهموم:
أين مراد؟
سألتها وهي تصب القهوة في نشوة وصفاء.
ألم يستأذنك في الذهاب إلى مكان ما بفلسطين ليتسلّم رسالة بمهمّة جديدة؟
وأمضتني الطلاسم المتلاحقة، ولم أجد حرجًا في إعلان عجزي عن الفهم فصرختُ:
لا أفهم ولا أذكر شيئًا على الإطلاق.
وصرختْ:
يشهد عليك الرجال وأنت تباركه وتخبره أنّك تسلّمت رسالة مشابهة في ثور سيناء، وسميّه بالحجاز، قبل سنوات خلت.
هي صادقة إذن، قُلت مطامنًا وراغبًا في فضّ هذه الألغاز:
هذا عهد قديم. والمهم عندي ما يجري اليوم.
وتجلس أمامي، وقد أدركت في ما يبدو أنني صادق في حيرتي، وقالت على مهل:
ترك المعلم وصيّته لدى المحامي لأنّه سيغيب زمنًا طويلًا.
وانقضّت الصواعق، وسرى الجحيم في رأسي وهي تواصل:
واستخلف ابننا على أن ترعاه حتى يبلغ سن الرشد.
وتضحك:
أوشك المحامي أن يفضّ جلستنا وأنت تحاوره. لكنّه يحذَرك من حفيد شعبان ابن الأخرس الذي لجأتْ به أمه إلى مضارب الفجر أملًا في العودة والانتقام ذات يوم.
وتكاثر الحرّاس حول الباطنيّة، فشاعت الفوضى زمنًا، واختلّ ميزان العدل، وقالت نفسية ذات يومٍ في ذهول:
نضح البئر.
تحقّقت النبوءة إذن، فهل ينفضّ الحراس ويتركون للعدل فسحة للوجود، اشتدت المظالم ودارت معارك أدمت قلوبًا كثيرة سجّلتها ملاحم الشعراء وانتظر الناس عودة الحاكم … وقال البعض:
إنه مات.
وقال شعبان:
هي التوبة فارحمني.
قلتُ:
أو نسيت مصرع هدهد؟
وقال إمام المسجد:
حديثه عن العدل والتاريخ، وإخوان الصفا والأخلاق حاصره بالأعداء، وقال آخرون:
هو نزيل مصحّة عقليّة.
وحسم الحاكم الموقف:
قضائي يعدل ميزان العدل، ولابد من بعض الدماء بين الحين والآخر.
وتعادوني نغمة غفران لحاكم بهادر دار بين الحين والآخر مع تدفّق مياه البئر: تدفعني الأماني إلى نسيان تعميده براءة مراد بدم الثأر المحتوم ذات يوم، فرانت لابنك مآذن الأزهر والحسين وأديرة الصحراء، وكهوف المقطم، ورعايا بهادر دار، لكن ابن الأخرس يتربّص بكم، وشبح شعبان يطاردكم، وليل الباطنيّة طويل… طويل
المعلم يشكرك…
كانت ملامح الوجه قاسية الزوايا، أنف أقنى، شفتان غليظتان، والزنزانة ترسف في أغلال العذاب، ورفيقي يحمل من عالم الصفو الغائم رسالة لا تنتشلك من حرمة الندم.
المعلم يشكرك…
كان يتبوّل في السطل المعدني، وهو ينهي إليك رسالة حاكم “بهادر دار”، ويخترق الصمت صفير حاد، تجاوب معه صفير متقطّع، الكمائن كما هي، وعيون الرجال لا تغفل، فهل غفلت عنك حمايتهم يوم اللعنة؟ خيانة هي أم غفلة غير مقصودة من مساعدك (جودت)، الذي اختفى وسط الزحام مع بقيّة البضاعة؟
كنتُ أجلس بمكاني في مدخل عطفة الجويني أمام الحرمين، أتذوّق العقار الجديد، وبرز أمامي بهادر دار، كان يدمدم بالغضب، والجارية تقرّ بذنبها وترتجف:
لا يحسّ بسطوتك إلّا من عاناها.
ألم نوفّر لكِ الغذاء؟
وترتجف الجارية:
أجل يا مولاي…
تتقّد عيناه:
والمأوى والملبس والعيش الرخيّ؟
ويمتزج الرعب بالاسترحام:
واطمع في كرم عفوك…
لمعت ياقوتة حمراء في منتصف عمامته:
وتدسّين لي السمّ بعد كل ما فعلته من أجلك؟
وبرز من خلفه وزيره صمصام الدولة، وفي صوت دمويّ:
من هم أعوانكِ؟
ويزداد ارتجافها، ويتخبّط الرعب بين شفتيها:
أطمع في كرمك يا مولاي.
ثم أشار الوزير بيده، فبرز حارس ملثّم ضخم الجسد، شاهرًا سيفًا مشحوذًا في يده، عبس أبو حيان التوحيدي، كما لو كان يخشى افتضاحه، واختلج جسد الجارية بعنف، كانت تنظر حولها تتلمّس منفذًا للفرار، واخترق الرعب والاسترحام ودمدمة الغضب سهم مجهول مرق من الشرفة إلى صدرها، ولم تردّ الجارية، شحب وجهها وساد البياض عينيها وتهاوت على الأرض نازفة، ودوّت صرخة نفذت إلى قلبي، وتطامنت نظرات أبي حيان، واستبد الغضب بصمصام الدولة ولعن القاتل المجهول الذي حرمني معرفة أسباب الجريمة، وبهادر دار في ذهول، والضابط وعشرات الجنود يحيطون بي، والصحف تعلن بداية النهاية لدولة بهادر دار، كالكابوس حدث كل شيء.
واليوم تعود إلى دفء الجوار، وعطاء نفيسة، ونغمات الجويني وعبد الله ونشوة لقائك بالوليد الذي كبر وأنت بعيد عنه.
مبارك يا كامل.
قالها المعلم وهو يدسّ في يدي هديّة العرس، جنيهات لم أحصها، وهي تلوذ بالفراش في حياء مُصطنع، هي تعلم حقيقة مواطن العشق التي ستضمّنا، غادرَتها أمُّ الهنا، داية الناحية العجوز، وغمزت بعينها الكليلة المتوارية خلف التجاعيد، فربّتت بيدها المرتجفة على كتفي:
لا تضطرب ولا تسرف في تعاطي المزاج، فنفيسة على استعداد.
أحسستُ بدفء ودوار خفيف، فأفلتْ الوعي منّي لحظة، وأفلتت مُضغة من ألوان قوس قزح تضرب إلى حمرة رائقة.
عشتِ يا أم الهنا.
وهي تنقّل البصر من بقايا المضغة على الأرض إلى عينيّ:
البنت في طراوة الجبنة فترفّق بها.
يتيمة كفلها حاكم بهادر دار عقب مصرع أبيها في تلال المقطّم أثناء مطاردة سارت في الحي مثلًا على الشهامة والوفاء، وقسمًا لا يردّه الحاكم إلا في مقام الصدق:
ورحمة من افتداني بحياته…
وكُنّا نعلم المقصود بيمينه فلا نملك إلّا التصديق، واختصّني المعلم بربيبته نفسية، فهو لم يتزوج ولم ينجب، كثر الحسّاد واستسلم الطامعون إلى حين.
سنعتبرك شاهد ملك إذا قدتنا إلى المعلم الكبير.
ولزمتُ الصمت.
ألم تفق يا كامل؟
وأطرقتُ، وفي حدة قال الضابط:
ما اسمه؟
ولم نكن نعرف له اسمًا ولا من أين جاء، ولا الزمن الذي قاد فيه “بهادر دار”، وتقلّص وجه الضابط حتّى أقبل أحد رجال الحاكم وهمس:
المعلم يثق بك.
ولم أكن بحاجة إلى هذا التنبيه، فزوجتي وابني رهن إشارة منه، وحياتي موقوفة على رضاه، هو الموت ونبض الحياة، هو العدل بقانونه الذي ارتضاه. رسائله لم تنقطع عنك، ومنحه تسرّبت إليك، فجرَت بالخير على المذنبين والسجّانين في ظلمة الليمان، حتّى نفيسة لم تنقطع عن زياراتها لك، ولم ينس ابنك مراد الذي اصطحَبته معها في كل مرّة، وتُجفّف دمعة امتزجت بحبيبات الكحل، وتغتصب ابتسامة وهي تشير إلى ولدكما ابن التاسعة:
حلّ مراد مكانك بعطفة الجويني.
وارتجفت وابنك يرفع رأسه في عناد.
لكنّني لا أغيب عن الوعي.
وقال الحاكم:
نحن لا نخدّر الناس، بل نمنحهم القدرة على ارتياد الأحلام ليغيّروا الواقع.
ابنك يلومك، ولو علم بعذابك حين مرق السهم من الشرفة ليصرع الجارية ويظل المجرم طليقًا لما عافى الصنف أملّا في الانطلاق إلى سراديب الخيانة بقصر بهادر دار.
وارتفع الصوت الرفيع الواثق:
اطمئن تركت رجلًا.
وتحتضنه نفيسة.
نجح في أكثر من مهمّة ونال ثقة المعلم.
ومراسم الثقة مترعة بالدم، ومخاطر المطاردة وطُرق التخفّي ووسائل الهرب، واقشعر بدني… هل سفكتْ اليد الغضّة دمًا؟ فما أبشع قانون بهادر دار. ونظرت إلى يديه، لكنّه وضعهما في فتحتيّ جلبابه البلدي، وكانت نظراته صارمة وشفتاه تنطويان على قسوة، صرعتْ براءته قبل الأوان بكثير، فكدتُ أصرخ فيه:
أرني يديك يا ولدي.
وألجمتني صيحة الحارس تعلن نهاية الزيارة.
انتبه يا مراد.
فرمقني بابتسامة واثقة وهو يغادر مكانه خلف شبكة الأسلاك وتمتم:
شيء لله يا جويني.
وفسحة بهادر دار تنجلي في نهاية شارع التبليطة، وقد آثرت العودة في ستر الليل. وبرز من إحدى النواصي شاب تقدّم على مهل، وفي صوت أجش وهو يضع سيجارة بين شفتيه:
كبريت.
يروم رؤيتي، وهمست به:
كامل عبد الشهيد..
واختلج صوته:
حمد الله على سلامتك…
وفي تردّد وهو يشعل سيجارته يتفرّس في وجهي:
طال انتظارنا.
وعرفت في صاحب الصوت أحد الذين أوفدهم المعلم لزيارتي، تنهّد وهو يضمنّي في شوق…
المملكة بخير…
وخيالات قطرات الدم تتخلّل قبضة ولدك في ليل الباطنيّة، وضحكة المعلم تجلجل:
عرفت صوته يا عنتر فأدخله.
وأحسست بالأمان رغم أشباح الجريمة الماثلة في عين مراد وشفتيه، وكركرت النارجيلة، وتوهّج الفحم، وعانقني الرجال، ونهض الحاكم من صدر الحجرة مادًّا ذراعيه، وجفّفتُ دموعي على كتفه، وحبست نهنهة. حفظ عليك حياتك وهناءك، وقتل براءة ابنك. فهل يتساوى الأمران في ميزان العدل حين يُقام؟ ولكن من ذا الذي يقيمه غيره فلِمَ العذاب؟
ويفسح لي مكانًا بحواره:
مكانك محفوظ.
وأقبل عنتر ذو الصوت المعدني البارد والجسد الضخم…
ومكانتك على العين والرأس.
وقال حاكم بهادر دار:
جهلنا بالتاريخ كدّر علينا صفو الأيام…
يداعب التاريخ والذكريات وصفحة من العمر انطوت. وناولني النارجيلة، جذبت عدّة أنفاس، وترنّح عذاب الماضي، وتجلّى بهادر دار لحظات ثم احتجب وهمس مداعبًا:
أم تراك نسيت كتب التاريخ التي حملتها معك حين قدمت آخر مرّة؟
ما أحلى بكارة الأيام وأشواق الشباب وروعة المجد الموهوم بعد ضياع الأهل حين عمّ الوباء قريتنا، تساقط الكثيرون، ونجوت حتّى طوتني الجامعة، ولجأتُ إلى بهادر دار ألملم قروشًا، أتجاوز بها حدود الفاقة حتى كفلني المعلم وأنصفني من العوز بقانونه، وارتجفتُ حين تذكّرت معالم الرعب تكتسح وجه شعبان.
هي التوبة فارحمني.
وتذكّرت طلقات الرصاص تنهمر من حولي أحس بلهيبها ونُذر الموت تتخفّى بها في حنايا المقطم، والمعلم يقود المعركة بمهارة ينشد انقاذي من الموت. والتلال في جوف الليل تثير في النفس وحشة. وأنا أجري وكمائن الرجال تفتح نيرانها على الحرّاس لتلهيهم عنّي. ونجحت الخطّة وودّعنا هدهد. واكتشف الحاكم الرشيد، ولم تطل المحاكمة، ومنحوني شرف إعدامه، والرجل يطلب الرحمة.
ما أكثر خطايا البشر.
قلت:
كدت أُصرع برصاص غدرك
قال:
ذل الطمع.
قلت:
أو نسيت دماء هدهد؟
قال:
قضاء الله وقدره.
وحسم الحاكم الموقف:
بل قضاؤك أنت، وقضائي يعدل ميزان العدل.
ارتجف الخنجر في يدي، واقترنت مشيئة عدله بصرخة مدوّية:
اضرب…
وهويت على رقبة شعبان فصعّدت فحيحًا شيطانيًّا وآهات متخاذلة محتضرة وناولني الحاكم منديلًا أجفّف يدي من آثار الدم القاني اللزج وكنت ارتجف.. هل كنتُ قضاء الله حقًّا؟ وهل تساوت كفّتا ميزان العدل بطعنتي؟ فما أبشع العدل حين يقيمه بهادر دار. وتذكّرت مراد بوجهه الصبوح وقسوة نظراته وأنت وراء قضبان سجن الخيانة.
اطمئن.. تركت رجلًا
ونفيسة تتهدّج:
نال ثقة المعلم.
وقال الحاكم:
في الأمر امرأة.
وهو يضغط على مخارج الحروف في لكنة أولاد البلد:
شرشيه لا فام.
وتأمّل الوجوه في نشوة انتصار يرقب ردًّا لفعل بعد أن كشف عن معرفته بالفرنسيّة، وطويت ابتسامة رغم الهناء والخوف ومرارة الذكرى وقتامة الماضي، ورحلة الغموض، تداعبك الأشواق إلى دفء الذراعين المفعمين أنوثة وحنانًا، وشفتا نفيسة تحتويان شفتيك… وهممتُ بالاستئذان لأنصرف.. وربّت المعلم على ساعدي في ود حميم…
ألم تخبرك الكتب عن فاطمة بنت برى ودليلة وحتى أمنا حواء؟
الخطيئة الأولى والشيطان ينتزع منك روعة الخلود في نزوة محمومة، وابنك قاتل يا كامل. شيطانه يناجي قضاء الزمن القديم، وتحوّلت الابتسامة إلى قهقهة قال من خلالها:
لم يصفُ ذهنك.
وقلت:
اختلط التاريخ بالدخان واللوعة وليالي الدم والمطاردة ووحشة الزنزانة وطول الانتظار وحرقة الشوق…
وفهم المعلم فابتسم برفق وهمس:
نفيسة تنتظرك وعشاء عريسنا سبقك – ومراد ضيفي حتّى تفض أشواقك.
وانعشتني تسبيحات الفجر وطافت بي الأشواق خلف المشربيّة التي فاضت بالنور وخيال نفيسة يتجلّى من فتحاتها، وقدماي تطرقان الأرض الحجريّة ورجفة تأخذني إلى لحظة لقاء. أنفذ إلى عطفة الجويني، التقط نفسًـا عميقًا، وتتسارع قدماي إلى البوّابة الخشبيّة القديمة. يرتفع صوتها كالأنين وأنا أدفعها، وأضم بعينيّ صحن الدار. استنشق عبق الزمن من الأبواب الخشبيّة والأحجار وآثار نافورة نُصبت فوق بئر نضب ماؤه فأدركها الإهمال وأتى النسيان عليها وهجرها الزمن.
وقال بهادر دار:
إذا خفّت مصادر المياه في الجوار ولجأ الكل إليكم ونضح البئر من جديد ستعرفون ميزة العدل الذي أرضاه.
ويوافيك أنس الليالي الخوالي في نور اللمبة الغازيّة التي حملتها نفيسة تضيء درب العمر من جديد، ويقفز مراد يتعلّق برقبتي، ويغمرني بالقبلات، يداه الغضّتان تنضحان شوقًا، لكنّني أحسست بدفء الدم ولزوجته بين أصابعه، واختلجت بقسوة وأنا أرفعه بين ذراعي، أمنّي النفس بالأمل في طهارته، فهل يتحقّق الأمل وبهادر دار يقبض على مصيرك، ويحرك التاريخ بصولجان المزاج في ليل الباطنيّة؟
وانفلت طفلك وتوقّف عند الباب ضاحكًا:
قبلت دعوة المعلم فلا تُضيع الفرصة.
وتدعوك ابتسامة نفيسة في حياء كليلة زفافكما، واختلطت ذكريات فحيح شعبان بلهاثه المتصاعد في رحاب الإمام الجويني. وأنساك دفء طراوتها خشونة الفراش وبرودته. وتهاوت صيحات السجّان في ثنيات جسدها.
أوحشتني يا كامل.
ليس أكثر منّي.
وفي حنان:
أخاف أن أتعب.
في الحب تضيع المتاعب.
وتوثّق العناق، وأنّت أعمدة السرير النحاسيّة حتى اغتسلنا بشفافية ضياء الصبح يتسلل من فتحات المشربيّة، فارتاح الأنين وهي مشعثة الشعر، ملتهبة الشفتين، لاهثة الأنفاس، يتناعس النوم في عينيها، تغادر الفراش مضعضعة، تتعثر إجهادًا فتعتمد على أحد أعمدة السرير، ألمح شحوب وجهها تغمره ابتسامة جانبيّة، أمد يدي أعانق كفها وألثمه… وفي دلال تقول:
نم قليلًا فالعمر أمامنا طويل.
فات منه الكثير.
وفي عذوبة:
ما فات نسقيه بالشوق.
واحمرّت وجنتاها وهي تطرق حياءً، يؤلمها غرس أسنانها في شفتها السفلى فتتأوّه وتضاعف الذكرى الحياء فيشبع جمرة وجهها. وضجّت العطفة بالحياة وتراءت لي الجارية تتردّى صريعة سهم غادر. وأسرع مراد يلوذ بالفرار حاملًا قوسه وجعبة سهامه يتوارى عن العيون مذعورًا، أحاول تحذيره، ويطبق وزير السلطان على فمي ويضغط حلقي. أحاول التخلّص منه، لكنّ الضغط يشتد، وطفلك يسارع الخطى، فأُشرف على الاختناق. اضرب صمصام الدولة بقبضتي. تُرى السهم طاش عن السلطان إلى الجارية أم كانت هي المبتغاة؟ وخارت قبضتاي وتهاوت إلى جانبي، وأحسست بدوار أنقذتني من غمرته نسمة هواء انفرجت أمام فمي، فناديت مراد الذي لم يلبث ان استجاب لصيحتي. تجلّت معالم الإشفاق والخوف على وجهه ونفيسة تتجاوز ارهاقها مختنقة بالصيحات…
سلامتك يا كامل.
واحتضنك ابنك مطامنًا:
أنا بخير…
وضممته إلى صدري وغلبني البكاء فبكيت. ورفعت نفيسة العصا التي تعتمد عليها إحدى نوافذ المشربيّة، فتوارت شعاعات شمس الضحى والحياة تعربد في الخارج، ومراد يبتسم، ونفيسة في حيرة:
قم اغتسل.
وتذكّرت ليلة الوصال بعد طول حرمان، وغمرتك طيوف نفحات عطائها، صانت الود، وحفظتْ العشرة، ونادمتْ الوفاء أيام الغياب، فهل خذل التاريخ قانون حاكم بهادر دار؟ وهزّتني رجفة من الشكوك تهاوت أمام مثول نبض الصدق في حرارة اللقاء، وتدفّق الود، ونسيانها سبل العشق وطرائق الغزل، ومعاناة استرجاع ذكريات العناق حتى يتحقق الانسجام المنشود.
وألقك الماء ليصفو ذهنك، وحين قدم المعلم علت شفتيه ابتسامة وغمز بعينه، وهمس وهو يتخذ مجلسه بجواري:
مبارك يا عريس.
وأخرج من جيب صدريّته منديلًا انعقدت أطرافه على أوراق ماليّة كثيرة.
هديّة زفافك الجديد.
وفي حنان أبويّ رفع صوته:
الشربات يا نفيسة.
ورفعتُ الكوب بالشراب الأحمر، وتفجر الدم من رقبة شعبان، وسرى فحيح اختلط بآذان الظهر تردّد من المساجد المحيطة بالباطنيّة ومسجد عبد الله، وهمّ المعلم بالنهوض وهو يأتي على الشراب:
إمام المسجد لا يقيم الصلاة حتى ألحق به…
وهو يضع قدميه في حذائه اللامع ذي الرقبة الطويلة:
خلافاتنا معه على هامش اتفاقنا الذي يوشك أن يكون تامًا.
وأخرج طاقية ناصعة البياض من جيبه ثبّتها على رأسه، فحجبت شعره الذي غالب سواده البياض، وامتد إلى شاربه… وعند الباب زوى ما بين حاجبيه قائلًا:
على فكرة، ثأرت لك من جودت.
صبي من صبياني قبل أن يطويني الليمان.
فنال ما يستحق من عقاب.
ما أكذب دموع جودت حين زارك في سجنك ان كانت الحقيقة ما قاله حاكم بهادر دار.
قطعنا لسانه فاحترف التسوّل أمام مسجد الحسين.
ومضى الرجل قبل أن يشفي غليلي، فبيد من نال الواشي جزاءه؟ وحين خلوت إلى حاكم بهادر دار في مضيفته المفعمة بالبذخ، فاتحته في أمر جودت فبدت عليه أمارات الكدر، ولمعت عيناه بالغضب.
لابد من بعض الدماء بين الحين والآخر ليستقيم ميزان العدل، ويصلح أمر التاريخ.
هل كان اتفاقًا مبيّتًا حين داهمك الحرس؟ رأيته يومئذ مضطربًا يحاول التخفّي والفرار؟ ونظرة رثاء في عينيه، يتوارى في عطفة بير المش. فهل كانت دموعه جزءً من المؤامرة يتستّر بها على فطنتك؟ وتجاوزت بي الحيرة حدود التحفّظ في مقام الحاكم وتساءلتُ:
أواثق أنت من الوشاية؟
وفوجئ لكنّه تماسك.
وهل أخطأني التوفيق من قبل؟
ولزمني الصمت.
هل نسيت أنه اقترن بابنة الخائن شعبان؟
وانبثق الدم من رقبته وتبدّدت توسلّاته في صيحة المعلم:
اضرب.
وأجفلت حين ربت على ظهري.
ألم أقل لك إن جهلنا بالتاريخ كدّر علينا صفو الأمان؟
تلعثم السؤال الحاسم عن قاطع لساني الواشي.
ولكن من؟
ونفذ صبره:
لا تفاتحني بهذا الأمر بعد ذلك…
وهممت بالحديث، وأشار بيده ليلجم الكلمات ويحجب اليقين، وويل لمن خالف إرادته، فاستسلمت لمشيئته، وأقبل مراد منتشيًا…
بعت حصّتي من الصنف الجديد.
وأدناه الحاكم من محلسه وقبّله وابتسم.
كان أبوك أوّل من تذوّقه ليلة قدومه.
ونظر إليّ مداعبًا.
بلغني أن نفيسة حامل…
واتسعت ابتسامة مراد، وأطرق وأنا أسعل أواري ما خالجني من حرج حتّى أنقذني منه حضور إمام المسجد معاتبًا.
غيابك فجر اليوم أوشك أن يفوّت على الناس الصلاة حتّى وافتني رسالتك.
وقهقه الحاكم:
كنت أطهّر جنبات المقطّم من أوكار البغاء.
ونظر إليّ…
استغل البعض سوء التفاهم القائم بين رجال الباطنيّة وبعض الحرّاس، فعقدوا معهم صلحًا منفردًا على حساب المبادئ.
وأجفل الشيخ مغضبًا:
أعوذ بالله – بغاء في مقابر ورحاب الأولياء، وظلال بيوت الله ووجودك؟
قلت:
علمت بهذا الأمر في الليمان وحزنت.
وقال حاكم بهادر دار:
لطالما نبّهنا المسؤولين…
وأومأ الشيخ موافقًا، واستطرد الحاكم.
قالوا إخوة ينشدون المتعة، وقرابة الدم والمصير تستوجب منا غضّ الطرف وبعض الصبر وحسن الإدراك للقانون الاقتصادي.
وأطلق الشيخ زفرة وتمتم:
استغفر الله، وأعوذ من غضبه.
وهو يطامن إمام المسجد.
قضى إخوان الصفا على هذه الأوكار دون رحمة.
وفي صدق وحسم وهو يدعوني بنظراته للمشاركة في الحديث:
المهم أن تبقى أخلاق الباطنيّة.
وجمع سجنك رجال الله وقتلته.
من الباطنيّة أنت؟
وغمز وابتسم، وفي سخرية أشار إلى شيخ معمّم، على عينه ضمادة تمتد باستدارة رأسه:
فقد عيناه لطول ما لاقاه من تعذيب.
واستطرد:
أمّا أنت فأراك معافى رغم أنكم تبيعون الأفيون للشعب.
وانتفض الشيخ:
كافر…
فتواصلت سخرية الشاب رفيق الزنزانة:
وهل شفع لك إيمانك؟
وأطلق الشيخ زفرة يأس:
كلّنا في الهم شرق.
واتّصل التاريخ بالعمر بعذابات سجنك ورفاق منفاك، وغياب اليقين، والحاكم يصون على الباطنيّة أخلاقها، وقلتُ لنفيسة حين خلوت إليها:
تعرفين إذن ما حلّ بجودت.
وبدت الهموم على قسمات وجهها، ولم ترد.
من كان يصدق؟
وبعد تردد:
هل أخبرك المعلم؟
حانت لحظة اليقين:
نعم.
وهي تحجب انفعالها:
انتقم لي ولك وللباطنيّة.
وألقيت بسؤالي الأخير:
من؟
وفرت الدموع من عينيها.
لم يُجدِ الزار ولم ينفع طبيب.
وتطاردك اللهفة وتأخذ بتلابيبك وتهزّك من الأعماق… تهزّك.
من؟
وتسترسل من الدموع.
واصطحبه المعلم إلى لبنان فأتم الله الشفاء.
واحتدمت اللهفة بجنون العذاب من حول اليقين الوافد عليك:
من يا نفيسة؟
وأجابتني:
ابننا…
وتحوّل الشك إلى يقين لا يخالطه خداع الآمال بين وهم الرجاء ومرارة اليأس، طفلك سافك دم؟ مشروع قاتل يتخلّق في رحم عدالة بهادر دار.
ولم يشفع صفو الحاكم لديك، ولا دماء هدهد في كراد الخيانة على جبال المقطّم، ولا سنون القهر في الليمان، حقّقت العدل بقانونه؟ أم يغتال عجله بكارة الإنسان في مراد؟ حتى قي مقام الانتقام لك فلن أغفره – دارت الدائرة وعليه أن يتجرّع مرارة كأسه اليوم. لم أجده في مضيفته، ولا في فسحة بهادر دار… ولاحقني تساؤل من لقيني.
ماذا جرى؟
هل جنّ كامل؟
قد تشهد الباطنيّة واقعة جديدة كحكاية الخلق.
ألم تر شرر الغضب في عينيه؟
وفي المسجد استقبلني الإمام بوجه جامد كالصخر قاس كمعاناة ارتطامك بجحيم اليقين…
قال وهو يعدّل من وضع عمامته:
لم أره اليوم
ثم مؤكّدًا:
لم يُصلّ الفجر ولم يبعث إليّ برسالة كالمعتاد.
وفي هدوء:
حديثه عن العدل والتاريخ وإخوان الصفاء والأخلاق حاصره بالأعداء. وقد أصبحتَ الآن واحدًا منهم، وكنت مناط الأمل، وموضع الثقة حتى أيام قليلة حلت. عذّبك تاريخ الدم وإخوان صفو الجريمة ومزاج أخلاق بهادر دار.
فما أقسى لحظة لقاء ستذكره فسحة بهادر دار، ويباركه الجويني ويخرّ له جبل المقطّم شظايا وذرّات ورماد، وقد يختنق القمر في هذه اللحظة، وتتجمّد أوصال الشمس، وتتصادم الكواكب، ولم أتحسّب، ولفحت شفتيّ مخارج حروف جهنميّة:
سيكون يوم الدينونة.
وتساءل الشيخ وهو يختتم أوراده جامعًا مسبحته السوداء فتطرقعُ حبّاتها.
ماذا تقول يا كامل؟
لو طال بقائي لانفجرت وذاع السرّ، أتضاحك مستدركًا:
كلمات في مقام المثول أمام بيت الله.
يزفر متجاهلًا:
تكاثر أعداؤه وتضاعفت خشيتي عليه.
وغادرتُ المسجد، فلقيتني على عتبة نفيسة، مصفرّة تعتليها كآبة وتهزّها مخاوف تحاول السيطرة عليها، وهي تنظر حولها متوجسة.
شغلتني يا كامل.
وأمرتها بالعودة إلى المنزل، ولكنها تشبّثت بالرفض، وأصرّت على مصاحبتي، وفي حدّة همستْ:
اغضب للظلم كما تشاء، إما أن تثور على العدل فسيرفضك الكل.
فقلت:
المهم أنتِ ومراد.
وكالسوط هوت عليّ:
أنا ومراد أوّل الناس.
وتخاذلت ساقاي، ولم أصدق فصرختُ:
تتبرّئين منّي؟
ووضعتْ راحتها على فمي وهي تتأمل المكان مخافة افتضاح أمرنا، وفي همسٍ عتوب:
ألم أحفظ عهدك أيام محنتك؟
والآن قد عدتُ.
في حبّة العين أضمك.
سأحقق عدالتي إذن.
وفي رقة مازجها الحسم:
عدالته تضمن للحياة نظامها.
وأنا أوشك على البكاء:
وهل تُسلم عدالتي للفوضى؟
وفي رجاء:
ومن يضمن لنا الأمان والهناء، وحتى العمر؟
وصممت بالحديث، لكنّها تضاحكت، وغمزت تحذّرني وهي تغيّر مجرى الحديث:
وقد أحضرتُ لك زجاجة النبيذ.
وتوقف عنتر بجسده الهرقليّ وصوته المعدني:
ألم تجده؟
وطويت الكلمات وأشرت بالنفي، مخافة أن يزل اللسان. ولكن من أخبره بسعيي في أثره؟ وارتفع صوت مراد يمتدح بضاعته، رآني فراح يهلّل بصوته الحاد الرقيق لولا بشاعة الجريمة:
فات موعده ولم يظهر.
قالت نفيسة:
ربما في مهمّة.
وفي رنّة غير مصدّقة لم تخل من برودة قاتلة:
لم يخبر أحدًا.
قالت:
لا داعي للقلق على كل حال.
ثم في هدوء:
ننتظره على العشاء، ولا تنس أن تخبره حين تلقاه.
ودون تكلّف أمسكتْ بيدي ومضينا وهي تواصل حديثها عن ألوان الطعام الذي أعدته، فأحسست بمرارة تملأ فمي، وتحجب مع الغيوم عين الشمس الطالعة في عز النهار الخريفي، فسادتني كآبة وهواجس وغصص لوعة وتجلّـت لي جارية بهادر دار هادئة في شموخ، وبصقتْ بقايا الفص الملوّن بقوس قزح، منحة الحاكم حتى وإن احتجب، فما أعجب نظامك يا معلم. ومرق السهم من الشرفة فمالت الجارية لينفذ إلى بهادر دار، ويرديه متخبّطًا في سكرات الموت، وابتسم أبو حيّان التوحيدي، وثار صمصام الدولة، وتردّدت الصيحات.
بُعث الإمام الجويني ليصلّي على الميّت.
المعجزة المستحيلة.
وأقبلتْ مجموعة ملثّمة تردّد قصائد رثاء منغّمة في الفقيد وهم يحرّكون عباءاتهم الحمراء مع الإيقاع الصاخب، وصراخ الجواري والعبيد يتّسق مع النغم العام، وحين ظهرتْ نفيسة ابتسمتْ في تواد وهي تقول:
هو غائب عنّا مؤقّتًا.
ونظرتُ إلى مُحدّثها، كان يحمل أوراقًا منتظمة إلى حدٍّ أوشك أن يثيرني، وربّت مراد على يدي وقبّلها، وقال الإمام وهو ينهي صلاته:
سأعود إلى مقبرتي، أنتظر حضوره.
وأخذ يترنّم راقصًا كالقرد:
حبيبي ما أعدله
حبيبي ما أجمله
ويمضي إخوان الصفا، وتلاطمت في عينيّ صمصام الدولة مشاعر متنافرة تقاذفها بريق نظراته، ولم تُجدِ محاورته مع أبي حيّان التوحيدي، وتوارت الحقيقة في صمت الشفاه، وخلوتُ إلى الجارية بمخدعنا، رفعتُ نقابها، فإذا هي نفيسة، ملعون غباء البشر، استلقت إلى حواري ضجيعة يتفانى الجسد في عبادتها حتى يوشك أن يفنى في عطائها. توادعت الأنفاس، ورقّت الهمسات، واستسلمنا للنعاس مُتخاصرين.
وأنفس الماء وضياء الصباح رغم فسوة الصداع – وكمن تُكمل حديثًا وهي تبتسم مداعبة:
أو نسيت أنني حامل رغم تحذيراتي المتكرّرة؟
واشتد الصداع وهي تضحك مترنّحة.
وكان ردك في المرات الثلاث:
حبيبي ما أعدله
حبيبي ما أجمله
وتباعدتْ في ضحكة خافتة غزلة، وأنا أنفض الماء من فوق رأسي.
لا أذكر شيئًا.
وتخبط على صدرها:
ألم تسمع وصيّة المعلم إذن؟
تُرى غريمك مات أم هي دعابة لاذعة؟ وأنا أتجفّف:
الوصايا للأموات، وغيابه لا يعني موته.
وضحكتْ:
يئس المحامي منك ليلة أمس.
وآثرتُ الصمت حتى يصفو ذهني تمامًا، فما أشد عذابه وأنت تلتقي بهذه الطلاسم رغم الضياء، وقد انفض عُبوس الخريف، واستكملت ارتداء ملابسي، واتّخذت مجلسًا إلى جوار المشربيّة. صفت السماء ومضت الحياة كعادتها، ولم أر مراد في مكانه في العطفة، وتثاقل القلب بالهموم:
أين مراد؟
سألتها وهي تصب القهوة في نشوة وصفاء.
ألم يستأذنك في الذهاب إلى مكان ما بفلسطين ليتسلّم رسالة بمهمّة جديدة؟
وأمضتني الطلاسم المتلاحقة، ولم أجد حرجًا في إعلان عجزي عن الفهم فصرختُ:
لا أفهم ولا أذكر شيئًا على الإطلاق.
وصرختْ:
يشهد عليك الرجال وأنت تباركه وتخبره أنّك تسلّمت رسالة مشابهة في ثور سيناء، وسميّه بالحجاز، قبل سنوات خلت.
هي صادقة إذن، قُلت مطامنًا وراغبًا في فضّ هذه الألغاز:
هذا عهد قديم. والمهم عندي ما يجري اليوم.
وتجلس أمامي، وقد أدركت في ما يبدو أنني صادق في حيرتي، وقالت على مهل:
ترك المعلم وصيّته لدى المحامي لأنّه سيغيب زمنًا طويلًا.
وانقضّت الصواعق، وسرى الجحيم في رأسي وهي تواصل:
واستخلف ابننا على أن ترعاه حتى يبلغ سن الرشد.
وتضحك:
أوشك المحامي أن يفضّ جلستنا وأنت تحاوره. لكنّه يحذَرك من حفيد شعبان ابن الأخرس الذي لجأتْ به أمه إلى مضارب الفجر أملًا في العودة والانتقام ذات يوم.
وتكاثر الحرّاس حول الباطنيّة، فشاعت الفوضى زمنًا، واختلّ ميزان العدل، وقالت نفسية ذات يومٍ في ذهول:
نضح البئر.
تحقّقت النبوءة إذن، فهل ينفضّ الحراس ويتركون للعدل فسحة للوجود، اشتدت المظالم ودارت معارك أدمت قلوبًا كثيرة سجّلتها ملاحم الشعراء وانتظر الناس عودة الحاكم … وقال البعض:
إنه مات.
وقال شعبان:
هي التوبة فارحمني.
قلتُ:
أو نسيت مصرع هدهد؟
وقال إمام المسجد:
حديثه عن العدل والتاريخ، وإخوان الصفا والأخلاق حاصره بالأعداء، وقال آخرون:
هو نزيل مصحّة عقليّة.
وحسم الحاكم الموقف:
قضائي يعدل ميزان العدل، ولابد من بعض الدماء بين الحين والآخر.
وتعادوني نغمة غفران لحاكم بهادر دار بين الحين والآخر مع تدفّق مياه البئر: تدفعني الأماني إلى نسيان تعميده براءة مراد بدم الثأر المحتوم ذات يوم، فرانت لابنك مآذن الأزهر والحسين وأديرة الصحراء، وكهوف المقطم، ورعايا بهادر دار، لكن ابن الأخرس يتربّص بكم، وشبح شعبان يطاردكم، وليل الباطنيّة طويل… طويل
بهادر دار..قصة : سمير ندا
شارع الطبلية ذو الأرضيّة الحجريّة، يتسلّل من ميدان الأزهر في ظلال مآذن المسجد، ليتخفّى في بركات الإمام عبد الله، بفسحة “بهادر دار” المحتجب في حضن تلال الغموض بالمُقطّم، ولسعة الشتاء لم …
sadazakera.wordpress.com