على الرغم من عدم رضا بعض الأكاديميين المصريين الناصريين المناصرين لثورة يوليو عن قلة الأعمال الفنية التي تناولتها وخاصة السينمائية، إلا أنه كان من الجيد أن نشير إلى أن الأغنية عبر جيل الفنانين المعاصرين للثورة من الكبار والشباب كان كافيا للدلالة على كل مرحلة من مراحلها باستصحاب أشهر الأغنيات التي عبرت عنها، وهي إحدى الدلالات الجيدة لحركة يوليو في بواكيرها عند استخدامها هذا السلاح الناعم في تصديرها للجماهير المصرية والعربية في آن منذ عهد نجيب وزادت كما وكيفا في عهد عبد الناصر، كما أن فيه ملمحا من أهم ملامح اتصال الحركة ثم الثورة فيما بعد بالثقافة والمثقفين بين الاستقطاب والعراك.
كما كان من الجيد رصد هذه العلاقة في استطلاع آراء المثقفين عن الثورة خاصة وقد مضت الأعوام الفاصلة بيننا وبينها حتى صار استدعاء أحداثها تاريخا في ذاكرة قرن مضى، ونحن في قرن جديد بمتغيراته التي أنبتت أجيالا قد تشكلت عقولها ورؤاها طبقا لما نحتته فيها أقلام من ناصروا الثورة أومن أدانوها، ومن بالغوا في تمجيدها وبين من أهالوا عليها تراب النكران، وصبوا عليها جام لعناتهم الغاضبة وحمَّلوها أوزار الحقب التالية لها كنتيجة عنها.
من هنا كان من الأفضل الاقتراب من آراء المثقفين الذين عاصروا الملكية والثورة والنظام الجمهوري والانتصارات والانكسارات، واستطاعوا أن يقرأوا مقدمات الثورة وأحداثها بعد أن انقشع غبار التحيز أو الرفض، واستوت على "جودي" الواقع المصري والعربي والأفريقي والدولي عبر مسيرة أربعة رؤساء "نجيب ـ مبارك" في زمن التسعينات من القرن الماضي.
بادرت مجلة الهلال القاهرية في عددها الشهري الصادر في يوليو 1993م، فخصصت قسما منه استكتبت فيه عددا من كبار الكتاب تحت عنوان رئيس: "المثقفون والثورة: أرباح وخسائر 23 يوليو 1952"، جاءت كلمة محرر المجلة في مقدمتها، وقد رأى أن ثورة يوليو قد تميزت بكونها الثورة التي هوجمت وأُدينت من كثيرين بعد انقضاء زمانها، ورحيل فرسانها، وأن هذه الثورة قد سلكت طريق الأحلام الكبيرة في عصرنا، فتصدعت أمام أبصارنا وأسماعنا، ولكن بقيَ فيها روح الحلم الذي لا يمكن أن يموت، بل يمكن أن يُبعث من جديد في صورة جديدة غير مكررة من صور الصعود والنهوض بعد العثار والانكسار.
تأتي على رأس مقالات المجلة مقالة بعنوان: "المثقفون والثورة" التي كتبها الأستاذ أحمد بهاء الدين وكانت في الأصل مقدمة لأطروحة دكتوراه للباحث مصطفى عبد الغني؛ فقد كان أحد المشرفين عليها، وصدرت في كتاب بعنوان: "المثقفون وعبد الناصر"، وقد أقر بهاء الدين أن ثورة يوليو تفردت عن غيرها بأنها حققت أهدافها حين استطاعت أن تستولي على الحكم في مصر وهو ما فشلت فيه ثورة عرابي وثورة 1919م، ويقول: (التغيير لابد أن يصحبه القهر، أو فلنقل إن عنصر القهر جزء أساسي من أية ثورة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لقد حاولت تحقيق إنجازاتها في عالم متخلف يكاد يرفض التغيير، ولو استفتي الشعب المصري في قانون الإصلاح الزراعي لرفض الفلاحون).
يذكر بهاء الدين كيف كان هو نفسه ضد الثورة في أول أيامها، كما يذكر أنه لم يكن الوحيد الذي اتخذ هذا الموقف حيالها بل طالب بعض كتاَّب مجلة روز اليوسف بعودة "العسكر" أو الـ (12) ضابطا إلى ثكناتهم خاصة وأن إعلان العودة قد جاء على لسان من قاموا بالثورة أو الحركة أنفسهم، بل أعلن فريق من هؤلاء الكتاب أن الثورة فشلت وأن الخطوة القادمة يجب أن تكون من أجل إخمادها، وهو نفس الموقف الذي اتخذه بعض المحامين الذين رفضوا الثورة وجاهروا بالهجوم عليها هجوما عنيفا، وطالبوا بعودة ضباط الحركة لثكناتهم، غير أن هناك كان من يناصر العسكريين أصحاب الثورة لأنهم قاموا بأعمال مجيدة وأن عليهم أن يسايروهم لآخر الشوط اختبارًا لصدقهم.
لقد كان هذا المحك من الثورة بالغ الخطورة ـ كما يقول بهاء الدين ـ فقد تباينت التيارات وتداخلت في الحكم على العسكر الجدد، خاصة من الأحزاب القديمة وعلى رأسها حزب الوفد، وجماعة الأخوان المسلمين علاوة على عدد كبير من قدامى الساسة.
ينهي أحمد بهاء الدين شهادته بذكر العلاقة بين المثقفين والثورة: (أن المثقف أعطى الثورة الكثير، وأعطى ـ من أجلها ـ قبل أن تبدأ الكثير، وإن اختلفت الاجتهادات).
يجمع الكاتب عبد الرحمن شاكر في مقالته: "ثورة 23 يوليو من بعيد" عددا من المقولات الشائعة التي حاولت التهوين من الأدوار الرئيسية الكبيرة التي قامت بها الثورة، ناعيا بُعد الشُقة بين الأجيال التالية للثورة والتي لم تشهدها ومن ولدوا في عهدها، ومنهم من عاش الثورة حلما بالنسبة للجيل الذي عاصر الملكية وقيام الثورة؛ فيقرر الحياد في شهادته بقوله: (فهذه شهادة تلزمنا أمانة التاريخ أن نجهر بها، مهما تبدل أو تلون رأي الناس في الثورة، ممن يبكي بعضهم على ماض قبلها لم يعرفوه، ولم يشهدوه، أو كانوا له من الشاهدين.. مسألة الحلم كانت جوهرا رئيسيا من جواهر الثورة أو هي لُب من ألبابها ولولاها لما كانت لها مكانة تحتلها في التاريخ).
كما يرى شاكر أن الضباط الأحرار أعضاء الحركة لم يكونوا أنبياء مرسلين أو ملائكة هبطوا من السماء، ولكنهم استمدوا قيمتهم من كونهم قد صاروا صبيحة يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952م تجسيدًا لآمال أمة بأسرها، أو قل الغالبية الغالبة من أبنائها على أقل تقدير، غير أنه يقرر بأن: (الشعب المصري لم ينعم بالديمقراطية التي كان يصبو إليها، حينما كان يسعى إلى التخلص من النظام الملكي، بل فرضت الثورة العسكرية استبدادًا أشد من هذا الأخير، ولا يزال البناء الديمقراطي الذي شرع يقوم في مصر بعد تحولات كثيرة في حاجة إلى تدعيم وتطوير في نواح متعددة، لكي يتخلص من حكم الحزب الواحد الدائم في السلطة).
يرصد الكاتب حلمي شعراوي في مقاله: "ذكريات أفريقية: الثورة المصرية .. والثورة الأفريقية" أثر ثورة يولية على القارة السمراء بدءًا من اعتراف مصر بضرورة حق تقرير المصير للسودانيين، ثم انطلاق مصر إلى أعماق أفريقيا وسعيها لتأسيس موقفًا يواجه الاستعمار القديم والحديث بعد تأميم قناة السويس، وتأسيس حركة عدم الانحياز لتجابه المعسكرين الغربي والشرقي على السواء، معلنةً أنها حركة تحرير وطني لن تسمح بنفوذ استعماري من أحلاف وقواعد في بلادها.
يشير دكتور عبد العظيم أنيس في مقاله: "عبد الناصر وقضية الصلح" إلى أن مسئول المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط "كيرميت روزفلت" بعد عودته من القاهرة لوطنه قدَّم لوزير خارجية بلاده تقريرا قبيل اندلاع ثورة يوليو ما موجزه: أن الثورة الشعبية المتوقعة في دوائر الخارجية والتي يسعى إليها الشيوعيون والأخوان ليست مطروحة، وأنه لا توجد طريقة لإبعاد الجيش عن التحرك، وأن الضباط الذين يرجح أن يقودوا الانقلاب على فاروق لهم دوافع سياسية، وأن على الولايات المتحدة أن تقبل إزاحة الملك فاروق وربما نهاية الملكية.
على الرغم من المقال الرائع الوارد في نفس العدد من المجلة وعنوانه: "مصر في عيون جمال حمدان" للكاتب كامل زهيري إلا أنه لم يورد رأي عالمنا الجليل دكتور حمدان في ثورة يوليو والذي جاء في ثنايا كتابه: "شخصية مصر"، ويشهد على موقفه منها، فيقول: (وهنا لابد من وقفة مركزة عند هذه الثورة التي أزالت الإقطاع، والتي تعكس جوهر مصر الأصيل من حيث حقيقة بيئتها الفيضية فحسب بل ومن حيث دورها ومكانها في العالم).
يقرر حمدان بعد أن عقد مقارنة بين الثورة المصرية والثورتين: الفرنسية والروسية، أن لكل من تلك الثورات شخصيتها المتفردة تاريخيا واجتماعيا، بأن: (الثورة المصرية كانت تاريخيا بمثابة ثورة بدورها على الثورة الأخيرة ـ يقصد الثورة الشيوعية ـ بصورة مباشرة، أو على الأثنتين السابقتين ـ الفرنسية والشيوعية ـ بصورة غير مباشرة)، ذلك أنه يرى أن الثورة المصرية ثورة كل فئات الشعب العاملة ـ لا فئة واحدة ـ ضد كل من الإقطاع والبرجوازية على حد سواء، لا على حدة، وهي لا طبقية .. تذيب الفوارق بين الطبقات ولكنها لا تفرض كالثورة الشيوعية ديكتاتورية أي طبقة، وتأخذ بالديمقراطية الثورية على عكس الثورة الفرنسية التي تبنت الديمقراطية الغربية، كما أنها لا تنفي الرأسمالية ولا تنكر الملكية الفردية بل توسعها بعد أن تهذبها.
يُنهي الدكتور حمدان شهادته بقوله: (من حيث الشكل: الثورة المصرية كحدث تاريخي أتت ثورة بيضاء أو قل خضراء بلون الوادي.. ومن حيث الموضوع: أتت الثورة المصرية ثورة اشتراكية بالمعنى الدقيق.. الثورة المصرية نبت بيئي أصيل يعبر عن طبيعة المركب الفيضي من تعاونية كامنة، واعتدال الحد الأوسط، وسلمية المجتمع المائي).
وفي نفس الإطار الزمني والتاريخي من استدعاء آراء المثقفين في تسعينيات القرن المنصرم، يذكر الدكتور غالي شكري في كتابه: "ثقافتنا بين نعم ولا" أن حركة 23 يوليو كانت تجسيدا حيا للنموذج الجديد على بلدان العالم الثالث، باعتبارأنها كانت الإطار الذي جمع في حياته المد الديمقراطي الذي مثلته الحركة الفدائية في منطقة القناة بل بطول الشارع المصري المناضل في وقت شاخت فيه الملكية وحزب البرجوازية الديمقراطي، والتنظيمات السرية والعلنية.
مما تقدم تنبثق شهادة شكري على حركة يوليو، فيقول: (إن النموذج الجديد الذي تبنته حركة 23 يوليو لم يكن نموذجا برجوازيا متكامل السمات فيسمح لدورة الفكر الجدلية بنصف دورة هي حرية النشر دون حرية التأثير، ولم يكن نموذجا اشتراكيا متكامل السمات تنفرد في ظله الطبقات الشعبية بحرية الفكر والتعبير، وإنما هو ألغى المكتسبات الليبرالية البرجوازية ولم يحل مكانها مكتسبات الديمقراطية الشعبية، ومن ثم أصبحت أصداء الصوت الواحد هي حصاد كل الفكر، وتحول الكتَّاب المعتمدون إلى شُرَّاح عِظام يتبارون في "الاجتهاد" دونهم والخَلْق والاكتشافات أسوار وأسوار).
يشهد الدكتور مصطفى الفقي في كتابه: "تجديد الفكر القومي" الصادر في تسعينيات القرن العشرين أيضا أن المثقفين المصريين مسئولون بالدرجة الأولى عن ضعف الجانب العروبي في أركان الهوية المصرية، وأن: (المضمون القومي للبعد العربي لمصر، لم يتبلور بشكله الحالي إلا على يد "جمال عبد الناصر"، الذي استبدل بوحدة "وادي النيل" اتجاها عروبيا شاملا جعله صاحب النداءات القوية على طريق الفكر القومي).
يعيب الفقي على المشككين في ثورية 23 يوليو ويرون أنها ليست إلا انقلابا عارضا، حيث يجد في هذا الرأي ليس تجنيا على ثورة قومية فحسب بل هو مغالطة علمية لا تخفى على ذي عينين، لأنها بحسب قوله: (ثورة في الخريطة الاجتماعية للمجتمع وفي توزيع الثروات)، وأنها الحدث القومي العربي الذي يرجع إليها الفضل في أنها كانت تدرك أكثر من غيرها التصاعد المنتظر لمخاطر قيام إسرائيل في المنطقة.
كانت هذه الإطلالة على آراء المثقفين في تسعينيات القرن العشرين في ثورة 23 يوليو 1952م، خالية من التحيز لها أو ضدها التزاما بالحيدة العلمية وبعدا عن الانتقائية، وقفتُ فيها موقف الناقل الأمين دون الإدلاء برأي على الرغم من كوني محسوبا على المثقفين، وممن عاين وعانى واستفاد في بعض سنوات عمره من خيرها وجمرها، غير أني أؤثر أن أترك للقارئ من هذا الجيل أو من الجيل الذي يسبقني أو جيلي حرية النظر والتعبير والتأمل والتأويل في ثورة شغلتني مثلما شغلت وستشغل أجيال قادمة حولها بنفس الحماس والحمية في الانتقال بين الرفض والتأييد أو الثبات على واحد من الموقفين.. وهذا هو شأن الأحداث التاريخية الكبرى في العالم ومنها ثورة يوليو 1952م.
كما كان من الجيد رصد هذه العلاقة في استطلاع آراء المثقفين عن الثورة خاصة وقد مضت الأعوام الفاصلة بيننا وبينها حتى صار استدعاء أحداثها تاريخا في ذاكرة قرن مضى، ونحن في قرن جديد بمتغيراته التي أنبتت أجيالا قد تشكلت عقولها ورؤاها طبقا لما نحتته فيها أقلام من ناصروا الثورة أومن أدانوها، ومن بالغوا في تمجيدها وبين من أهالوا عليها تراب النكران، وصبوا عليها جام لعناتهم الغاضبة وحمَّلوها أوزار الحقب التالية لها كنتيجة عنها.
من هنا كان من الأفضل الاقتراب من آراء المثقفين الذين عاصروا الملكية والثورة والنظام الجمهوري والانتصارات والانكسارات، واستطاعوا أن يقرأوا مقدمات الثورة وأحداثها بعد أن انقشع غبار التحيز أو الرفض، واستوت على "جودي" الواقع المصري والعربي والأفريقي والدولي عبر مسيرة أربعة رؤساء "نجيب ـ مبارك" في زمن التسعينات من القرن الماضي.
بادرت مجلة الهلال القاهرية في عددها الشهري الصادر في يوليو 1993م، فخصصت قسما منه استكتبت فيه عددا من كبار الكتاب تحت عنوان رئيس: "المثقفون والثورة: أرباح وخسائر 23 يوليو 1952"، جاءت كلمة محرر المجلة في مقدمتها، وقد رأى أن ثورة يوليو قد تميزت بكونها الثورة التي هوجمت وأُدينت من كثيرين بعد انقضاء زمانها، ورحيل فرسانها، وأن هذه الثورة قد سلكت طريق الأحلام الكبيرة في عصرنا، فتصدعت أمام أبصارنا وأسماعنا، ولكن بقيَ فيها روح الحلم الذي لا يمكن أن يموت، بل يمكن أن يُبعث من جديد في صورة جديدة غير مكررة من صور الصعود والنهوض بعد العثار والانكسار.
تأتي على رأس مقالات المجلة مقالة بعنوان: "المثقفون والثورة" التي كتبها الأستاذ أحمد بهاء الدين وكانت في الأصل مقدمة لأطروحة دكتوراه للباحث مصطفى عبد الغني؛ فقد كان أحد المشرفين عليها، وصدرت في كتاب بعنوان: "المثقفون وعبد الناصر"، وقد أقر بهاء الدين أن ثورة يوليو تفردت عن غيرها بأنها حققت أهدافها حين استطاعت أن تستولي على الحكم في مصر وهو ما فشلت فيه ثورة عرابي وثورة 1919م، ويقول: (التغيير لابد أن يصحبه القهر، أو فلنقل إن عنصر القهر جزء أساسي من أية ثورة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لقد حاولت تحقيق إنجازاتها في عالم متخلف يكاد يرفض التغيير، ولو استفتي الشعب المصري في قانون الإصلاح الزراعي لرفض الفلاحون).
يذكر بهاء الدين كيف كان هو نفسه ضد الثورة في أول أيامها، كما يذكر أنه لم يكن الوحيد الذي اتخذ هذا الموقف حيالها بل طالب بعض كتاَّب مجلة روز اليوسف بعودة "العسكر" أو الـ (12) ضابطا إلى ثكناتهم خاصة وأن إعلان العودة قد جاء على لسان من قاموا بالثورة أو الحركة أنفسهم، بل أعلن فريق من هؤلاء الكتاب أن الثورة فشلت وأن الخطوة القادمة يجب أن تكون من أجل إخمادها، وهو نفس الموقف الذي اتخذه بعض المحامين الذين رفضوا الثورة وجاهروا بالهجوم عليها هجوما عنيفا، وطالبوا بعودة ضباط الحركة لثكناتهم، غير أن هناك كان من يناصر العسكريين أصحاب الثورة لأنهم قاموا بأعمال مجيدة وأن عليهم أن يسايروهم لآخر الشوط اختبارًا لصدقهم.
لقد كان هذا المحك من الثورة بالغ الخطورة ـ كما يقول بهاء الدين ـ فقد تباينت التيارات وتداخلت في الحكم على العسكر الجدد، خاصة من الأحزاب القديمة وعلى رأسها حزب الوفد، وجماعة الأخوان المسلمين علاوة على عدد كبير من قدامى الساسة.
ينهي أحمد بهاء الدين شهادته بذكر العلاقة بين المثقفين والثورة: (أن المثقف أعطى الثورة الكثير، وأعطى ـ من أجلها ـ قبل أن تبدأ الكثير، وإن اختلفت الاجتهادات).
يجمع الكاتب عبد الرحمن شاكر في مقالته: "ثورة 23 يوليو من بعيد" عددا من المقولات الشائعة التي حاولت التهوين من الأدوار الرئيسية الكبيرة التي قامت بها الثورة، ناعيا بُعد الشُقة بين الأجيال التالية للثورة والتي لم تشهدها ومن ولدوا في عهدها، ومنهم من عاش الثورة حلما بالنسبة للجيل الذي عاصر الملكية وقيام الثورة؛ فيقرر الحياد في شهادته بقوله: (فهذه شهادة تلزمنا أمانة التاريخ أن نجهر بها، مهما تبدل أو تلون رأي الناس في الثورة، ممن يبكي بعضهم على ماض قبلها لم يعرفوه، ولم يشهدوه، أو كانوا له من الشاهدين.. مسألة الحلم كانت جوهرا رئيسيا من جواهر الثورة أو هي لُب من ألبابها ولولاها لما كانت لها مكانة تحتلها في التاريخ).
كما يرى شاكر أن الضباط الأحرار أعضاء الحركة لم يكونوا أنبياء مرسلين أو ملائكة هبطوا من السماء، ولكنهم استمدوا قيمتهم من كونهم قد صاروا صبيحة يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952م تجسيدًا لآمال أمة بأسرها، أو قل الغالبية الغالبة من أبنائها على أقل تقدير، غير أنه يقرر بأن: (الشعب المصري لم ينعم بالديمقراطية التي كان يصبو إليها، حينما كان يسعى إلى التخلص من النظام الملكي، بل فرضت الثورة العسكرية استبدادًا أشد من هذا الأخير، ولا يزال البناء الديمقراطي الذي شرع يقوم في مصر بعد تحولات كثيرة في حاجة إلى تدعيم وتطوير في نواح متعددة، لكي يتخلص من حكم الحزب الواحد الدائم في السلطة).
يرصد الكاتب حلمي شعراوي في مقاله: "ذكريات أفريقية: الثورة المصرية .. والثورة الأفريقية" أثر ثورة يولية على القارة السمراء بدءًا من اعتراف مصر بضرورة حق تقرير المصير للسودانيين، ثم انطلاق مصر إلى أعماق أفريقيا وسعيها لتأسيس موقفًا يواجه الاستعمار القديم والحديث بعد تأميم قناة السويس، وتأسيس حركة عدم الانحياز لتجابه المعسكرين الغربي والشرقي على السواء، معلنةً أنها حركة تحرير وطني لن تسمح بنفوذ استعماري من أحلاف وقواعد في بلادها.
يشير دكتور عبد العظيم أنيس في مقاله: "عبد الناصر وقضية الصلح" إلى أن مسئول المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط "كيرميت روزفلت" بعد عودته من القاهرة لوطنه قدَّم لوزير خارجية بلاده تقريرا قبيل اندلاع ثورة يوليو ما موجزه: أن الثورة الشعبية المتوقعة في دوائر الخارجية والتي يسعى إليها الشيوعيون والأخوان ليست مطروحة، وأنه لا توجد طريقة لإبعاد الجيش عن التحرك، وأن الضباط الذين يرجح أن يقودوا الانقلاب على فاروق لهم دوافع سياسية، وأن على الولايات المتحدة أن تقبل إزاحة الملك فاروق وربما نهاية الملكية.
على الرغم من المقال الرائع الوارد في نفس العدد من المجلة وعنوانه: "مصر في عيون جمال حمدان" للكاتب كامل زهيري إلا أنه لم يورد رأي عالمنا الجليل دكتور حمدان في ثورة يوليو والذي جاء في ثنايا كتابه: "شخصية مصر"، ويشهد على موقفه منها، فيقول: (وهنا لابد من وقفة مركزة عند هذه الثورة التي أزالت الإقطاع، والتي تعكس جوهر مصر الأصيل من حيث حقيقة بيئتها الفيضية فحسب بل ومن حيث دورها ومكانها في العالم).
يقرر حمدان بعد أن عقد مقارنة بين الثورة المصرية والثورتين: الفرنسية والروسية، أن لكل من تلك الثورات شخصيتها المتفردة تاريخيا واجتماعيا، بأن: (الثورة المصرية كانت تاريخيا بمثابة ثورة بدورها على الثورة الأخيرة ـ يقصد الثورة الشيوعية ـ بصورة مباشرة، أو على الأثنتين السابقتين ـ الفرنسية والشيوعية ـ بصورة غير مباشرة)، ذلك أنه يرى أن الثورة المصرية ثورة كل فئات الشعب العاملة ـ لا فئة واحدة ـ ضد كل من الإقطاع والبرجوازية على حد سواء، لا على حدة، وهي لا طبقية .. تذيب الفوارق بين الطبقات ولكنها لا تفرض كالثورة الشيوعية ديكتاتورية أي طبقة، وتأخذ بالديمقراطية الثورية على عكس الثورة الفرنسية التي تبنت الديمقراطية الغربية، كما أنها لا تنفي الرأسمالية ولا تنكر الملكية الفردية بل توسعها بعد أن تهذبها.
يُنهي الدكتور حمدان شهادته بقوله: (من حيث الشكل: الثورة المصرية كحدث تاريخي أتت ثورة بيضاء أو قل خضراء بلون الوادي.. ومن حيث الموضوع: أتت الثورة المصرية ثورة اشتراكية بالمعنى الدقيق.. الثورة المصرية نبت بيئي أصيل يعبر عن طبيعة المركب الفيضي من تعاونية كامنة، واعتدال الحد الأوسط، وسلمية المجتمع المائي).
وفي نفس الإطار الزمني والتاريخي من استدعاء آراء المثقفين في تسعينيات القرن المنصرم، يذكر الدكتور غالي شكري في كتابه: "ثقافتنا بين نعم ولا" أن حركة 23 يوليو كانت تجسيدا حيا للنموذج الجديد على بلدان العالم الثالث، باعتبارأنها كانت الإطار الذي جمع في حياته المد الديمقراطي الذي مثلته الحركة الفدائية في منطقة القناة بل بطول الشارع المصري المناضل في وقت شاخت فيه الملكية وحزب البرجوازية الديمقراطي، والتنظيمات السرية والعلنية.
مما تقدم تنبثق شهادة شكري على حركة يوليو، فيقول: (إن النموذج الجديد الذي تبنته حركة 23 يوليو لم يكن نموذجا برجوازيا متكامل السمات فيسمح لدورة الفكر الجدلية بنصف دورة هي حرية النشر دون حرية التأثير، ولم يكن نموذجا اشتراكيا متكامل السمات تنفرد في ظله الطبقات الشعبية بحرية الفكر والتعبير، وإنما هو ألغى المكتسبات الليبرالية البرجوازية ولم يحل مكانها مكتسبات الديمقراطية الشعبية، ومن ثم أصبحت أصداء الصوت الواحد هي حصاد كل الفكر، وتحول الكتَّاب المعتمدون إلى شُرَّاح عِظام يتبارون في "الاجتهاد" دونهم والخَلْق والاكتشافات أسوار وأسوار).
يشهد الدكتور مصطفى الفقي في كتابه: "تجديد الفكر القومي" الصادر في تسعينيات القرن العشرين أيضا أن المثقفين المصريين مسئولون بالدرجة الأولى عن ضعف الجانب العروبي في أركان الهوية المصرية، وأن: (المضمون القومي للبعد العربي لمصر، لم يتبلور بشكله الحالي إلا على يد "جمال عبد الناصر"، الذي استبدل بوحدة "وادي النيل" اتجاها عروبيا شاملا جعله صاحب النداءات القوية على طريق الفكر القومي).
يعيب الفقي على المشككين في ثورية 23 يوليو ويرون أنها ليست إلا انقلابا عارضا، حيث يجد في هذا الرأي ليس تجنيا على ثورة قومية فحسب بل هو مغالطة علمية لا تخفى على ذي عينين، لأنها بحسب قوله: (ثورة في الخريطة الاجتماعية للمجتمع وفي توزيع الثروات)، وأنها الحدث القومي العربي الذي يرجع إليها الفضل في أنها كانت تدرك أكثر من غيرها التصاعد المنتظر لمخاطر قيام إسرائيل في المنطقة.
كانت هذه الإطلالة على آراء المثقفين في تسعينيات القرن العشرين في ثورة 23 يوليو 1952م، خالية من التحيز لها أو ضدها التزاما بالحيدة العلمية وبعدا عن الانتقائية، وقفتُ فيها موقف الناقل الأمين دون الإدلاء برأي على الرغم من كوني محسوبا على المثقفين، وممن عاين وعانى واستفاد في بعض سنوات عمره من خيرها وجمرها، غير أني أؤثر أن أترك للقارئ من هذا الجيل أو من الجيل الذي يسبقني أو جيلي حرية النظر والتعبير والتأمل والتأويل في ثورة شغلتني مثلما شغلت وستشغل أجيال قادمة حولها بنفس الحماس والحمية في الانتقال بين الرفض والتأييد أو الثبات على واحد من الموقفين.. وهذا هو شأن الأحداث التاريخية الكبرى في العالم ومنها ثورة يوليو 1952م.