د. ثائر زين الدين - وعلى سقف الزغاريد...

ما خطرت ببالي كلمة «زغاريد»؛ وهي جمع «زغرودة»، إلّا واستحضرتْ ذاكرتي قصيدة محمود درويش الحزينة الفاتنة، التي يصف فيها كيفَ تقوِّضُ الطائراتُ الإسرائيليّة عُرسَ الشاب الفلسطيني محمّد، إنّها طائراتٌ تجيءُ على سقف الزغاريد، لحظةَ تزفُّ الأمُّ وبناتها وقريباتها محمّداً إلى عروسهِ فاطمة:
«عاشقٌ يأتي من الحربِ
إلى يوم الزفافْ
يرتدي بدلتهُ الأولى
ويدخلْ حلبةَ الرقصِ حصاناً
من حماسٍ وقرنفلْ
وعلى حبلِ الزغاريد
يُلاقي فاطمهْ
وتغني لهما
كلُّ أشجار المنافي
ومناديلُ الحدادِ الناعمهْ
ذبَّلَ العاشقُ عينيهِ
وأعطى يده السمراءَ
للحنّاءِ
والقطنِ النسائيِّ المقدَّسْ
وعلى سقف الزغاريد
تجيءُ الطائراتْ
طائراتٌ... طائراتْ».
وتشاءُ مخيِّلتي الجموح أن تبني مشهداً سينمائيّاً لا معقولاً؛ ها هي الطائراتُ ذات النجمة السداسيّة المصنوعة منذ أعوامٍ قليلة في مصانع الولايات المتحدة الأميركيّة، تنقضُّ في اللحظة التي تتراقصُ فيها ألسنة النسوة العربيّات مهتزّةً في أفواههنَّ ذات اليمين وذات الشمالِ مُردِّدةً تلكَ النغمة البدائيّة الخالدة، التي فتنت هوميروس ذات يوم حين سمعها من النساء الليبيّات، وهي نفسها التي جعلت أوليس يصمُّ أذنيه، وآذان بحّارته، ويأمرهم بربط أجسادهم إلى سواري السفينة وأعمدتها، كيلا تسحرهم زغاريد السيرينات، وقد اقتربوا من شواطئ ليبيا.
وحين قصفت الطائراتُ عرسَ محمّد رأيتُ ابنتي الفِنْدِ الزِّمَّانيِّ الشيطانتين ترميان عنهما ثيابهما وتزغردان على وقع الدفوف في بني شيبان ومن معهم من بني بكر يوم التحالق وقد اشتدَّتِ المعركةُ وتردَّدَ النصر، تُغنّي الأولى:
«وغى وغى وغى
حرّ الجوادُ والتظى
ومُلئت منهُ الرُّبا
يا حبذا يا حبّذا
الملحقونَ بالضحى»
وتتلوها الثانية:
إن تُقبلوا نُعانقْ ونفرشُ النمارقْ
أو تُدبروا نفارقْ فراقَ غيرِ وامقْ
ثمَّ ها هي ذي هندُ بنت عتبة أم الخليفة معاوية بن أبي سفيان تغنّي الأبيات السابقة يومَ أُحد وهي تضرب بالدفِّ مع نساء قريش ثمَّ تزغرد للرجال قائلةً:
ويــها بني عبد الدارْ
ويــها حماة الأدبارْ
ضرباً بكلِّ بتّــــارْ
وعند ذلك تذوبُ الطائراتُ الصهيونية من المشهد وتختفي، ويبرزُ محمّد وفاطمة في ثياب العرس، وتعلو زغرودةُ أم محمّد الفلسطينيّة:
«آويها يَ هالعروس شيلي الغطا وارميه
آويها أبو اللي حكوا واللي سعولك فيه
آويها الوجه دورة قمر والورد فتّح فيه
آويها والصدر ميدان والخيّال يلعب فيه»
ثمَّ أرى نفسي في عرسِ صديقي فيصل في جبل العرب قبل نحو عشرين سنة، وها هي أمّهُ تقفُ أمام العروسينِ وقد اعتليا المرتبة وتزغرد:
« آويها يا بنت بو رياض
يا بنت الكرم والجودْ
آويها يا شجرة عاليه
من آباء وجدودْ
آويها طلبت من ربِّ
السما الواحد المعبودْ
آويها يطوّل عمر أهلك
وما تشوفي ليالي سودْ».
وحين وُضِعَتِ المناسفُ ودُعيت الناسُ لتناول الطعام وقفت أم فيصل من جديد، وعلا صوتها بزغرودة خاصة:
«آويها يا عيشنا يا عيشْ
آويها بيكفي العرب والجيشْ
واللي ما بيعمل مثلنا
لَ إيش عيشتو لَ إيشْ؟».
ثمَّ هأنذا أرى نفسي في عرسٍ دمشقي وإحدى النساء تزغرد:
« آووها حَصَّنتك بياسينْ
آووها يا زهرة البساتينْ
آووها يا مصحف زغيَّرْ
آووها على روس السلاطينْ».
أغمضُ عينيَّ قليلاً وأفتحهما وقد دارت بي الأرضُ، فأُبصرُ مشهد إعدام الثائر عمر المختار، وكيف تتعالى زغاريد مئات النساء الليبيات لحظةَ تُشدُّ الأنشوطةُ على عنقِ الشيخ البطل ويتدلّى جسده....
يا ألله كيف يمكنُ لزغرودةٍ أو «زلغوطةٍ» أو «زغروته» أو «هلهولة» أو «غطرفة»؛ كما تسمّى في مختلفِ بقاع الوطن العربي أن تجمعنا من عُمان والبصرة إلى الدار البيضاء، ومن حلب إلى صنعاء... ثم كيف يمكن لهذا العنصر البسيط من عناصر التراث الشعبي أن يُلازمنا في الأعراس والأفراح والعودة من الحج والعودة من السفر وفي استقبال الشهداءِ وفي الحثِّ على القتالِ وفي استقبال النصر وسوى ذلك من المناسبات... هل من جامعٍ يلمُّ تلك النسوة منذ عصر الجدّة عشتار (يوم كانت مفردةُ: إيها أو آويها التي تُفتتحُ بها الزغرودة في بلاد الشام تعني: تباركت...) حتى اليوم، ويوحّدهن في السراء والضراء؛ أليس علينا أن نحافظ على هذا التُّراث الذي يُوَحِّدُنا... في وجهِ كل ما من شأنِهِ أن يفرِّقنا، ويعزِّز أسباب القطيعة بيننا.
أعلى