اللوحة الأولى
ذهبت يوم الثلاثاء الماضى إلى المنطقة الصناعية بأمدرمان لعمل بعض الإصلاحات البسيطة فى السيارة ماركة الكريسيدا التى اقودها. فى العادة كنت أكلف بعضا من الأهل و الجيران لقضاء مثل هذه المهمة، هذه المرة قررت أن أذهب بنفسى. كنت أتوقع أن لا تستغرق المهمة كثيرا من الوقت، لكن لسبب او لآخر طال إنتظارى لما يقرب الثلاث ساعات قضيتها وسط الميكانيكية وزبائنهم من الرجال (لم تكن هناك سيدة واحدة خلافى تريد إصلاح سيارتها) كنت ألحظ نظرات من حولى التى شابها الإستغراب.بل أحسست أن بعضهم (يموت)ليعرف لماذا أنا هنا وحدى !
اللوحة الثانية
سلمت السيارة لميكانيكى شاب أشار احدهم لى به. تعرف الميكانيكى عن ما بالسيارة من إشكال. طلب منى الجلوس على كنبة حملها خارج المحل بعيدا عن تجمع الزبائن. طال إنتظارى وانا جالسة على تلك الكنبة ذات النتؤات الحديدية المدببة التى تطعننى بقسوة من وقت لآخر . إنشغلت بمتابعة ما يجرى حولى. تجولت بنظرى فى المكان. كانت فى مواجهتى تمامآ راكوبة(لم تكن راكوبة بالمعنى تماما)وإنما ظلا معمولا من جوالات الخيش الفارغة البالية وبعض الكراتين.تجلس تحت ذلك الظل سيدة داكنة البشرة تبدو فوق الخمسين من العمر تصنع الشاى والقهوة تجمع حولها عدد غير قليل من الرجال. لفت نظرى صبى صغير السن يدور حولهم حاملا طلبات الزبائن. الصبى طفل فى سن المدرسة، لكنه لسبب ما هو الآن خارج حجرات الدراسة . بائعة الشاى او كما يقول السودانيون (ست الشاى) كانت تتجاذب الحديث مع زبائنها الرجال، تعلو أصواتهم حينا وتخفض أخرى وسط جلجلات من الضحكات.
اللوحة الثالثة
على مكان ليس ببعيد من حيث أجلس، كانت هناك سيدة أخرى ترتدى ثوبا ازرقا، تجلس على( بنبر ) او مقعد وأمامها بعض من القدور والصحون، وطشت كبير مليىء بالماء. هى بائعة طعام دون شك. من حين لآخر يمر بقربى صبية يأتون من ناحيتها يحملون أطباق طعام مكشوفة وخبزا. استرقت النظر لأعرف ما تبيعه تلك السيدة للزبائن من طعام. كان غالب الأطباق هو (العصيدة)، العدس و(الدمعة).
اللوحة الرابعة
على يدى اليمنى من ناحية الغرب كانت هناك راكوبة (مظلة) أخرى واسعة المساحة مشيدة بعناية اكثر من سابقتها، تقف امامها سيدة شابة نحيفة ذات قوام سمهرى تبدو انها من جنوب السودان لا زالت السيدة بملابس نومها بعد. هناك خارج المظلة جلست طفلتان تلهوان بالتراب قرب عربة (كارو) يتقدمها حصان ضخم محملا بعدد كبير من الصناديق الخشبية وجوالات السكر. يبدو أن الحصان الذى ظل يأكل بمزاج من ربطة برسيم أمامه، ينتظر صاحبه ليبدئان معا رحلة يوم شاق. على الجهة الجنوبية من المظلة تقف حافلتان قديمتان (خردة)، شكلتا ساترا وغطاء يوفر بعض الخصوصية لتلك السيدة التى لا تزال بملابس النوم الشفافة.
اللوحة الخامسة
أفطر الجميع من حولى، تناولوا الشاى والقهوة، وانا لا ازال اراوح مكانى. وما هى إلا لحظات حتى جاءتنى (ست الشاى) تلك تطلب منى أن اصحبها لتناول الإفطار. إعتذرت متحججة بالسيارة لكنها أصرت ولم تتركنى حتى أخذت يمينى بيدها. رافقتها إلى حيث الفطور . كان المكان عبارة عن فسحة بسور أسمنتى عال. يوجد فى المدخل حمام صغير (تواليت) ، وغرفة أسمنتية ترتفع عن الأرض قليلا بدرج. غسلت يدى بقارورة ماء كنت أشرب منها.وصعدت إلى داخل الغرفة حيث الفطور. رايت ثلاث نساء يفترشن بساطا من البلاستيك وفى وسطهن مائدة طعام كبيرة . ألقيت بالتحية فرددن بأحسن منها ننتظر مضيفتى التى كانت فى الخارج تغسل يديها. تجولت بنظرى فى أطباق المائدة ، كانت هى نفس الأطباق التى وزعها اولئك الصببة على الزبائن قبل قليل، مضافا إليها طبق الشطة السودانى المميز المخلوط بزيدة الفول السودانى. جاءت مضيفتى فسمينا الحى الذى لا يموت استعدادا للاكل.
اللوحة السادسة
فى أثناء تناولنا للطعام سألتنى واحدة من النساء فى استغراب:(إنت الجابك هنا شنو) ؟! رددت: (جئت لأصلح عطلا بسيارتى).أردفت السبدة معاتبة : (ليه ما جا زوجك أو اخوك)؟أجبتها قائلة:(ليس هناك من يقوم بقضاء المهمة غيرى) وتبعت ذلك بسؤال مباغت:( طيب إنتو كمان نسوان وشغالات فى حتة كلها ميكانيكية ورجال الجابكم هنا شنو)؟! إبتدرت بائعة الطعام الحديث، كانت ذات قسمات دقيقة ناعمة، تتحدث فى صوت خافض قالت فى أسي واضح :(زوجى كثير السفر،، شهر معنا وشهور غائب.يذهب ناشفا ويعود يابسا وانا ام لخمس من العيال، لا يوجد قريب او بعيد يساعدنى سوى الله . وفى ظل غيابه المتكرر كان لزاما على توفير حاجات اسرتي.طرقت عددا من أبواب العمل فوجدت البركة والربح فى بيع الطعام هنا فى هذا المكان). ومن ثم اخذت مضيفتى بطرف الحديث كانت ذات صوت جهورى وقسمات صارمة قالت : (يا نساء الأرض عليكن ان تعين الدرس جيدآ. هؤلاء الرجال يحبون العيال، ولا يطيقون صحبة زوجاتهم عندما يصبحن أمهات لعيال كثر. امتلأ بيتنا بالبنين والبنات. كنت اهدهد هذا وارعى ذاك. اغسل الملابس ، انظف البيت وأذهب إلى السوق. اولد واتعثر فى الولادة،. فى وسط كل هذه المعمعة إنسحب زوجى هاربا من البيت ليتزوج بإمرأة أخرى فى عمر بناته. حدث هذا قبل سنوات ومن يومها لم اره حتى الآن.) تحدثت ثالثة، سيدة صغيرة السن بها مسحة من الجمال تحدثت بحزن باد:( أخرجنى أبى من المدرسة وانا بالصف الرابع بحجة أنه لم يعد قادرا على توفير احتياجاتنا المدرسية انا وأخوتى الذكور. كنت ضحية عوز أبى وقربانا ليواصل اخى التوأم الدراسة. وبقيت انا فى البيت أساعد أمى ، حتى جاء من هو زوجى الآن طالبا يدى. زوجنى أهلى له دون استشارة. وأنا الآن ام لثلاث أطفال. فشل زوجى فى توفير حاجاتنا الأساسية، فخرجت للعمل وها أنا هنا كغيرى من اخوات امتهن بيع الشاى والقهوة وهى مهنة تدر علينا دخلا معقولا وحالنا مستور والحمد لله) .
السيدة الرابعة كانت شابة فى مقتبل العمر ظلت صامتة طيلة الفترة لا تنبس بحرف. لاحظت ان لون وجهها يختلف عن لون يديها، وقد تحول إلى لون ورردى عليه بقع داكنة. فى ظنى ذاك من أثر استخدام كريمات التفتيح التى ادمنت استعمالها كثير من الفتيات فى الفترة الأخيرة، الفتاة الصامتة دنت منى قليلا وفى صوت هامس طلبت رقم هاتفى قائلة: (عايزاك ضرورى) .كتبت الرقم على ورقة ومددته اليها وظللت اترقب مكالمتها التى لم تأتينى حتى اليوم
اللوحة الأخيرة
جاء صبى الميكانيكى يخبرنى أن السيارة جاهزة. ودعت ثلة النساء وفى القلب شيء من حتى.ذهبت مسرعة لاستلام السيارة. طلب الميكانيكى ثمانين جنيها بالتمام والكمال، دفعتها واندفعت اقود سيارتى خارج المنطقة الصناعية نحو البيت بدلا عن سوق (الملجة) او سوق الخضار كما كان مخططا من قبل إذ لم يعد هناك نقود. وعلى أهل البيت اكل ما تيسر.
راكوبة: مظلة
عصيدة : طعام شعبى يعمل من مسحوق الذرة
الدمعة: يخنى معمول من لحم الأبقار او الدجاج بالصلصة دون إضافة خضار
كارو: مركبة خشبية تجرها الخيول او الحمير تستخدم لنقل البضائع فى الأسواق
هذه الحكاية هى نص حقيقى واقعى كتبته العام 2010
ذهبت يوم الثلاثاء الماضى إلى المنطقة الصناعية بأمدرمان لعمل بعض الإصلاحات البسيطة فى السيارة ماركة الكريسيدا التى اقودها. فى العادة كنت أكلف بعضا من الأهل و الجيران لقضاء مثل هذه المهمة، هذه المرة قررت أن أذهب بنفسى. كنت أتوقع أن لا تستغرق المهمة كثيرا من الوقت، لكن لسبب او لآخر طال إنتظارى لما يقرب الثلاث ساعات قضيتها وسط الميكانيكية وزبائنهم من الرجال (لم تكن هناك سيدة واحدة خلافى تريد إصلاح سيارتها) كنت ألحظ نظرات من حولى التى شابها الإستغراب.بل أحسست أن بعضهم (يموت)ليعرف لماذا أنا هنا وحدى !
اللوحة الثانية
سلمت السيارة لميكانيكى شاب أشار احدهم لى به. تعرف الميكانيكى عن ما بالسيارة من إشكال. طلب منى الجلوس على كنبة حملها خارج المحل بعيدا عن تجمع الزبائن. طال إنتظارى وانا جالسة على تلك الكنبة ذات النتؤات الحديدية المدببة التى تطعننى بقسوة من وقت لآخر . إنشغلت بمتابعة ما يجرى حولى. تجولت بنظرى فى المكان. كانت فى مواجهتى تمامآ راكوبة(لم تكن راكوبة بالمعنى تماما)وإنما ظلا معمولا من جوالات الخيش الفارغة البالية وبعض الكراتين.تجلس تحت ذلك الظل سيدة داكنة البشرة تبدو فوق الخمسين من العمر تصنع الشاى والقهوة تجمع حولها عدد غير قليل من الرجال. لفت نظرى صبى صغير السن يدور حولهم حاملا طلبات الزبائن. الصبى طفل فى سن المدرسة، لكنه لسبب ما هو الآن خارج حجرات الدراسة . بائعة الشاى او كما يقول السودانيون (ست الشاى) كانت تتجاذب الحديث مع زبائنها الرجال، تعلو أصواتهم حينا وتخفض أخرى وسط جلجلات من الضحكات.
اللوحة الثالثة
على مكان ليس ببعيد من حيث أجلس، كانت هناك سيدة أخرى ترتدى ثوبا ازرقا، تجلس على( بنبر ) او مقعد وأمامها بعض من القدور والصحون، وطشت كبير مليىء بالماء. هى بائعة طعام دون شك. من حين لآخر يمر بقربى صبية يأتون من ناحيتها يحملون أطباق طعام مكشوفة وخبزا. استرقت النظر لأعرف ما تبيعه تلك السيدة للزبائن من طعام. كان غالب الأطباق هو (العصيدة)، العدس و(الدمعة).
اللوحة الرابعة
على يدى اليمنى من ناحية الغرب كانت هناك راكوبة (مظلة) أخرى واسعة المساحة مشيدة بعناية اكثر من سابقتها، تقف امامها سيدة شابة نحيفة ذات قوام سمهرى تبدو انها من جنوب السودان لا زالت السيدة بملابس نومها بعد. هناك خارج المظلة جلست طفلتان تلهوان بالتراب قرب عربة (كارو) يتقدمها حصان ضخم محملا بعدد كبير من الصناديق الخشبية وجوالات السكر. يبدو أن الحصان الذى ظل يأكل بمزاج من ربطة برسيم أمامه، ينتظر صاحبه ليبدئان معا رحلة يوم شاق. على الجهة الجنوبية من المظلة تقف حافلتان قديمتان (خردة)، شكلتا ساترا وغطاء يوفر بعض الخصوصية لتلك السيدة التى لا تزال بملابس النوم الشفافة.
اللوحة الخامسة
أفطر الجميع من حولى، تناولوا الشاى والقهوة، وانا لا ازال اراوح مكانى. وما هى إلا لحظات حتى جاءتنى (ست الشاى) تلك تطلب منى أن اصحبها لتناول الإفطار. إعتذرت متحججة بالسيارة لكنها أصرت ولم تتركنى حتى أخذت يمينى بيدها. رافقتها إلى حيث الفطور . كان المكان عبارة عن فسحة بسور أسمنتى عال. يوجد فى المدخل حمام صغير (تواليت) ، وغرفة أسمنتية ترتفع عن الأرض قليلا بدرج. غسلت يدى بقارورة ماء كنت أشرب منها.وصعدت إلى داخل الغرفة حيث الفطور. رايت ثلاث نساء يفترشن بساطا من البلاستيك وفى وسطهن مائدة طعام كبيرة . ألقيت بالتحية فرددن بأحسن منها ننتظر مضيفتى التى كانت فى الخارج تغسل يديها. تجولت بنظرى فى أطباق المائدة ، كانت هى نفس الأطباق التى وزعها اولئك الصببة على الزبائن قبل قليل، مضافا إليها طبق الشطة السودانى المميز المخلوط بزيدة الفول السودانى. جاءت مضيفتى فسمينا الحى الذى لا يموت استعدادا للاكل.
اللوحة السادسة
فى أثناء تناولنا للطعام سألتنى واحدة من النساء فى استغراب:(إنت الجابك هنا شنو) ؟! رددت: (جئت لأصلح عطلا بسيارتى).أردفت السبدة معاتبة : (ليه ما جا زوجك أو اخوك)؟أجبتها قائلة:(ليس هناك من يقوم بقضاء المهمة غيرى) وتبعت ذلك بسؤال مباغت:( طيب إنتو كمان نسوان وشغالات فى حتة كلها ميكانيكية ورجال الجابكم هنا شنو)؟! إبتدرت بائعة الطعام الحديث، كانت ذات قسمات دقيقة ناعمة، تتحدث فى صوت خافض قالت فى أسي واضح :(زوجى كثير السفر،، شهر معنا وشهور غائب.يذهب ناشفا ويعود يابسا وانا ام لخمس من العيال، لا يوجد قريب او بعيد يساعدنى سوى الله . وفى ظل غيابه المتكرر كان لزاما على توفير حاجات اسرتي.طرقت عددا من أبواب العمل فوجدت البركة والربح فى بيع الطعام هنا فى هذا المكان). ومن ثم اخذت مضيفتى بطرف الحديث كانت ذات صوت جهورى وقسمات صارمة قالت : (يا نساء الأرض عليكن ان تعين الدرس جيدآ. هؤلاء الرجال يحبون العيال، ولا يطيقون صحبة زوجاتهم عندما يصبحن أمهات لعيال كثر. امتلأ بيتنا بالبنين والبنات. كنت اهدهد هذا وارعى ذاك. اغسل الملابس ، انظف البيت وأذهب إلى السوق. اولد واتعثر فى الولادة،. فى وسط كل هذه المعمعة إنسحب زوجى هاربا من البيت ليتزوج بإمرأة أخرى فى عمر بناته. حدث هذا قبل سنوات ومن يومها لم اره حتى الآن.) تحدثت ثالثة، سيدة صغيرة السن بها مسحة من الجمال تحدثت بحزن باد:( أخرجنى أبى من المدرسة وانا بالصف الرابع بحجة أنه لم يعد قادرا على توفير احتياجاتنا المدرسية انا وأخوتى الذكور. كنت ضحية عوز أبى وقربانا ليواصل اخى التوأم الدراسة. وبقيت انا فى البيت أساعد أمى ، حتى جاء من هو زوجى الآن طالبا يدى. زوجنى أهلى له دون استشارة. وأنا الآن ام لثلاث أطفال. فشل زوجى فى توفير حاجاتنا الأساسية، فخرجت للعمل وها أنا هنا كغيرى من اخوات امتهن بيع الشاى والقهوة وهى مهنة تدر علينا دخلا معقولا وحالنا مستور والحمد لله) .
السيدة الرابعة كانت شابة فى مقتبل العمر ظلت صامتة طيلة الفترة لا تنبس بحرف. لاحظت ان لون وجهها يختلف عن لون يديها، وقد تحول إلى لون ورردى عليه بقع داكنة. فى ظنى ذاك من أثر استخدام كريمات التفتيح التى ادمنت استعمالها كثير من الفتيات فى الفترة الأخيرة، الفتاة الصامتة دنت منى قليلا وفى صوت هامس طلبت رقم هاتفى قائلة: (عايزاك ضرورى) .كتبت الرقم على ورقة ومددته اليها وظللت اترقب مكالمتها التى لم تأتينى حتى اليوم
اللوحة الأخيرة
جاء صبى الميكانيكى يخبرنى أن السيارة جاهزة. ودعت ثلة النساء وفى القلب شيء من حتى.ذهبت مسرعة لاستلام السيارة. طلب الميكانيكى ثمانين جنيها بالتمام والكمال، دفعتها واندفعت اقود سيارتى خارج المنطقة الصناعية نحو البيت بدلا عن سوق (الملجة) او سوق الخضار كما كان مخططا من قبل إذ لم يعد هناك نقود. وعلى أهل البيت اكل ما تيسر.
راكوبة: مظلة
عصيدة : طعام شعبى يعمل من مسحوق الذرة
الدمعة: يخنى معمول من لحم الأبقار او الدجاج بالصلصة دون إضافة خضار
كارو: مركبة خشبية تجرها الخيول او الحمير تستخدم لنقل البضائع فى الأسواق
هذه الحكاية هى نص حقيقى واقعى كتبته العام 2010