سابقًا لم أكن أُدرك أن الشاعر قصيدة. وأن أفكاره ووجهه وجسده هم الصور الشعرية التي نعرج في أوراقنا لنوّصفها ونجسّدها بينما هي حية واضحة كالشمس أمامنا ومترقرقة كالمرمر.
بالنسبة لي، لم أؤمن يومًا أن لي هيئة الشعراء، وأن عبوري على سرب من الطير لن يفزعهم في جميع الاتجاهات كمصابي السُعار، لا أعتقد أن عبوري يُحيل أي شيء إلى شِعر.
دائماً ما أقف أمام المرآة أتفقد كيف تكون هيئة الشاعر، خاصة الذي ينظر إلى كل شيء بشعرية خفية، لا أستطيع ربط الملابس الرسمية بهيئته ولا أستطيع ربط الكاچول، ولا أستطيع تخيل أن يكون غنياً ولا أستطيع أيضًا أن أتخيل فقره لا أستطيع أن أراه منظّما ولا أن تحيط به العشوائية، هناك مفهوم ما لهيئة الشاعر وملامحه كنت أحاول أن أصل له ويسبقني التيه في الطريق إليه. والمرآة لا تعكس سوى صورتي.
فتاة عشرينية، بوجه هادئ، مسترسلة الشَعر حتى أسفل سلسة الظهر، داكن كإحدى ليالي الحرب، عينين واسعتين كالجرح الغائر، وثغر لا يُفتح البتة من صغر عرضه، جسد ملفوف على يد نحات بأصابعٍ طويلة كالساحرات. كنت أشعر بالشيزوفرينا لما يحويه عقلي بغرفه الكثيرة المتأججة، التي لا تتكتم على أي فكرة عابرة، كيف أن تكون هذه هيئة شاعرة؟ تلك الرتابة المتغلغلة حتى أوصالي، التي تتحدث أن ليس لي في أي شيء سوى أنني ”فتاة“ ما، هناك تمرد مفقود في هيئتي، هناك عبثية تُفتّش عني، كنت أضع السن كأحد الأسباب؛ وأن يوماً ما سيسمح لي سني باجتياز اختبارات الهيئة مثلًا، الهيئة التي أترقبها، ومفهومها سكين تهديد على عنقي، وأنه لابد أن أُشبِه قصائدي!
بعد تكوين بعض من العلاقات الاجتماعية مع كاتبيّ الأدب، تعرفت على صديقة ما تكتب نصوصًا أدبية على قدرٍ من التداعيات والفلسفة والأجواء الشبحية، كانت تنبش بعقلها الشبيه بالملعقة عقلي الشبيه بالطبق. لها وجه مستدير دون انحدار وعينان زرقاوتان حد ظني أنهما نافذتان لبحر، شعر هائش ولا يمكث بحذرٍ أبدًا، والجسد، هذا الجسد العبثي الذي تم بناؤه من القصص التي عاشتها وليس من عظم ولحم وجلد، هذا البناء المشيد، الوزن الزائد دون إخلال والشعر الهائج فوق الأفكار التي عرفتُ أنها أحد أسباب فجور هذا الشَعر من المكوث فوقها. والسيجار؛ الذي لم يأبه باحتراق جسده مغادرةً لجسدها. كنت أرى فساتينها السوداء تصبح مزركشة كطلاء في بناءٍ عريق مثل رنا، أعتقد أن هذه هي هيئة الشاعر! هذه القصيدة المتنقلة بيننا يجب أن تكون هيئتها حتمًا هيئة الشاعر!
بعد مرور سنة أصبح لدي ثلاث أيقونات مماثلة لرنا، يكتبن الشعر، ويمتلكن نفس الهيئة، وعقلي لاينفك يميل لهذا الأتتيود دونما غيره. ثلاثة أفلام فلسفية لتاركوڤسكي، أو ربما ثلاث مقطوعات لـ باخ، أو ثلاثة تصريحات لاذعة لسارتر. وأنا لازلت أمتلك هيئة فتيات الإنمي، ولازلت أرقب نفس الهيئة، وزنًا زائدا بأكتاف كالأجنحة وشعرا هائجا لا يهدأ ولا ينام، وشفاه رقيقة تنفلت من كل القُبلات، وملابس مغايرة تتسع للمجاز؛ بوجهٍ منحاز لما أُفكر، يحكي حسب الحالة قصيدةٌ من كل ديوان.
أن يكون التابوه بذاته هو المنطق الصاخب الذي لا يبارح ترتيب الأبجدية في عقلي الذي شّب فجأة، شيء استوقفني كثيرًا، فدائمًا ما كنت مولعة بهيئة واحدة للفتاة، حتى المجرمات والقتلة منهن، أن نكون جميعنا نساء لوحات ويليام أدولف بوجيري.
ولكن خلسة ظهرت أيقونة رابعة تنير البصيرة تُدعى أسماء ياسين، كالجرح الأوسع من الألم، لتجعلني أربط بين هيئة الشاعر والجمال وحتى جماليات القبح والشر وكأنني لتوي تربيّت فقط على قصيدتين اثنتين لها!
تعمدت ألا أرى هيئتها حتى أغوص في شِعرها بأسلوب جديد للغوص، كطريقة جديدة لتحديد مرض ما، وأصبحت أمرر أصابعي بطريقة برايل على خلايا عقلي وأنا أصف أسماء تبعاً لشعريتها، ولكن لم أضف جديدًا. فلها جسد متراكم بدلال يصفعه الريح صفعًا ولا يترك أثراً، ذلك التكوين الذي في نظري تم تشييده في أزمنة مختلفة، تدريجيًا، من أخمص القدم حتى فروة الرأس أو العكس، هناك مخالجة لخواطرك وأنت تنظره. القوام الذي يشبه المحيط بلا شاطىء
المليء بالغرقى، والكنوز، والأشياء التي لم تعن أحدا. رسائل أحِبّة، وأجوبة وعتابات، والكثير من الحروف المعوجة على رف الضلع أو الفخذ
وعشوائية الذكريات المأخوذة من أمكنة بِت وحدي أعرفها، رأيت الشِعر يتفجر منها
وأنه كيف لهذه الهيئة ألا تقتنص؟
كيف لأسماء أن تمشي وحيدة في شارع نحيف الامتشاق حتى أخره دون تخيل أي سيناريو لخطفها ووضعها في أصيص للنباتات، أو أخبئها في المطبخ خلف أطقم ضيافة أمي.
وذلك التشابك الفذ المتموج الذي لا يغادر خصال شعيراتها، مثلها تمامًا
وكل عنصر لا تجذبه ذرة منها ومع ذلك لا ينتمي سوى لها، وكيف في أشعارها تهرول لها كل الأشياء. في وجهها أشعة ذهبية تحيل ضوء الشمس لظلٍ واضح وصريح
وكثيرًا ما وقفت أمام عينيها وقفة شاعر محتج
كثيرًا ما أخاف على نفسي من أسماء
وأن كيف ألا يكون لها اسماً محدداً؟؟ وماذا يعني أن تحجر على ”الأسماء“ جميعها في النداء لها!
أيقنت أن هذه هيئة الشاعر، فكان الخوف يتسلق يدي مخافة من سحر أسماء الأسود، ذلك الخبث الصامت الذي يجذبني أن أقرأ أسماء، مروري جيئة وذهابا على تشبيهاتها بحنكةٍ كأنها طلب استدعاء، بجسدي المنمق الرتيب الذي أحمله بتوجس هرباً من مجازات أسماء التي تترك ندوباً
وبصيرتي تخبرني أن الفرق بيني وبين أسماء، أنها ”تنثر“ الشعر على المارة وهى مطلة من النافذة بينما أنا ”يتساقط“ الشعر مني أثناء تنقلي كالطائر في الأرجاء.
كيف لمخيلتي أن تجتاز شارعًا بجانب أسماء، بمشيتي المختلطة القلقة وعيني المخذولتين، ومشيتها المجرّدة والتفافها المذعور كصقر!
وكيف أنني هجّاره ولي نصيب من اسمي، وكيف تكمن بها الأشياء
ربما هيئة الشعراء لا يمتلكها الجميع، ربما هيئة الشعراء بروحٍ حُرة وليست مكبلة، وأنه ليس هناك مشكلة في المرآة. أو السن، ربما يجب عليّ أن أعيش قصائدي ليُنظر إلى هيئتي كشاعرة لا تجلس بمجازٍ واحد، متشابك تفكر في حل لأزمة متكررة، وربما يوماً سيكتب أحد عن هاجر كما تكتب هاجر عن أسماء.
بالنسبة لي، لم أؤمن يومًا أن لي هيئة الشعراء، وأن عبوري على سرب من الطير لن يفزعهم في جميع الاتجاهات كمصابي السُعار، لا أعتقد أن عبوري يُحيل أي شيء إلى شِعر.
دائماً ما أقف أمام المرآة أتفقد كيف تكون هيئة الشاعر، خاصة الذي ينظر إلى كل شيء بشعرية خفية، لا أستطيع ربط الملابس الرسمية بهيئته ولا أستطيع ربط الكاچول، ولا أستطيع تخيل أن يكون غنياً ولا أستطيع أيضًا أن أتخيل فقره لا أستطيع أن أراه منظّما ولا أن تحيط به العشوائية، هناك مفهوم ما لهيئة الشاعر وملامحه كنت أحاول أن أصل له ويسبقني التيه في الطريق إليه. والمرآة لا تعكس سوى صورتي.
فتاة عشرينية، بوجه هادئ، مسترسلة الشَعر حتى أسفل سلسة الظهر، داكن كإحدى ليالي الحرب، عينين واسعتين كالجرح الغائر، وثغر لا يُفتح البتة من صغر عرضه، جسد ملفوف على يد نحات بأصابعٍ طويلة كالساحرات. كنت أشعر بالشيزوفرينا لما يحويه عقلي بغرفه الكثيرة المتأججة، التي لا تتكتم على أي فكرة عابرة، كيف أن تكون هذه هيئة شاعرة؟ تلك الرتابة المتغلغلة حتى أوصالي، التي تتحدث أن ليس لي في أي شيء سوى أنني ”فتاة“ ما، هناك تمرد مفقود في هيئتي، هناك عبثية تُفتّش عني، كنت أضع السن كأحد الأسباب؛ وأن يوماً ما سيسمح لي سني باجتياز اختبارات الهيئة مثلًا، الهيئة التي أترقبها، ومفهومها سكين تهديد على عنقي، وأنه لابد أن أُشبِه قصائدي!
بعد تكوين بعض من العلاقات الاجتماعية مع كاتبيّ الأدب، تعرفت على صديقة ما تكتب نصوصًا أدبية على قدرٍ من التداعيات والفلسفة والأجواء الشبحية، كانت تنبش بعقلها الشبيه بالملعقة عقلي الشبيه بالطبق. لها وجه مستدير دون انحدار وعينان زرقاوتان حد ظني أنهما نافذتان لبحر، شعر هائش ولا يمكث بحذرٍ أبدًا، والجسد، هذا الجسد العبثي الذي تم بناؤه من القصص التي عاشتها وليس من عظم ولحم وجلد، هذا البناء المشيد، الوزن الزائد دون إخلال والشعر الهائج فوق الأفكار التي عرفتُ أنها أحد أسباب فجور هذا الشَعر من المكوث فوقها. والسيجار؛ الذي لم يأبه باحتراق جسده مغادرةً لجسدها. كنت أرى فساتينها السوداء تصبح مزركشة كطلاء في بناءٍ عريق مثل رنا، أعتقد أن هذه هي هيئة الشاعر! هذه القصيدة المتنقلة بيننا يجب أن تكون هيئتها حتمًا هيئة الشاعر!
بعد مرور سنة أصبح لدي ثلاث أيقونات مماثلة لرنا، يكتبن الشعر، ويمتلكن نفس الهيئة، وعقلي لاينفك يميل لهذا الأتتيود دونما غيره. ثلاثة أفلام فلسفية لتاركوڤسكي، أو ربما ثلاث مقطوعات لـ باخ، أو ثلاثة تصريحات لاذعة لسارتر. وأنا لازلت أمتلك هيئة فتيات الإنمي، ولازلت أرقب نفس الهيئة، وزنًا زائدا بأكتاف كالأجنحة وشعرا هائجا لا يهدأ ولا ينام، وشفاه رقيقة تنفلت من كل القُبلات، وملابس مغايرة تتسع للمجاز؛ بوجهٍ منحاز لما أُفكر، يحكي حسب الحالة قصيدةٌ من كل ديوان.
أن يكون التابوه بذاته هو المنطق الصاخب الذي لا يبارح ترتيب الأبجدية في عقلي الذي شّب فجأة، شيء استوقفني كثيرًا، فدائمًا ما كنت مولعة بهيئة واحدة للفتاة، حتى المجرمات والقتلة منهن، أن نكون جميعنا نساء لوحات ويليام أدولف بوجيري.
ولكن خلسة ظهرت أيقونة رابعة تنير البصيرة تُدعى أسماء ياسين، كالجرح الأوسع من الألم، لتجعلني أربط بين هيئة الشاعر والجمال وحتى جماليات القبح والشر وكأنني لتوي تربيّت فقط على قصيدتين اثنتين لها!
تعمدت ألا أرى هيئتها حتى أغوص في شِعرها بأسلوب جديد للغوص، كطريقة جديدة لتحديد مرض ما، وأصبحت أمرر أصابعي بطريقة برايل على خلايا عقلي وأنا أصف أسماء تبعاً لشعريتها، ولكن لم أضف جديدًا. فلها جسد متراكم بدلال يصفعه الريح صفعًا ولا يترك أثراً، ذلك التكوين الذي في نظري تم تشييده في أزمنة مختلفة، تدريجيًا، من أخمص القدم حتى فروة الرأس أو العكس، هناك مخالجة لخواطرك وأنت تنظره. القوام الذي يشبه المحيط بلا شاطىء
المليء بالغرقى، والكنوز، والأشياء التي لم تعن أحدا. رسائل أحِبّة، وأجوبة وعتابات، والكثير من الحروف المعوجة على رف الضلع أو الفخذ
وعشوائية الذكريات المأخوذة من أمكنة بِت وحدي أعرفها، رأيت الشِعر يتفجر منها
وأنه كيف لهذه الهيئة ألا تقتنص؟
كيف لأسماء أن تمشي وحيدة في شارع نحيف الامتشاق حتى أخره دون تخيل أي سيناريو لخطفها ووضعها في أصيص للنباتات، أو أخبئها في المطبخ خلف أطقم ضيافة أمي.
وذلك التشابك الفذ المتموج الذي لا يغادر خصال شعيراتها، مثلها تمامًا
وكل عنصر لا تجذبه ذرة منها ومع ذلك لا ينتمي سوى لها، وكيف في أشعارها تهرول لها كل الأشياء. في وجهها أشعة ذهبية تحيل ضوء الشمس لظلٍ واضح وصريح
وكثيرًا ما وقفت أمام عينيها وقفة شاعر محتج
كثيرًا ما أخاف على نفسي من أسماء
وأن كيف ألا يكون لها اسماً محدداً؟؟ وماذا يعني أن تحجر على ”الأسماء“ جميعها في النداء لها!
أيقنت أن هذه هيئة الشاعر، فكان الخوف يتسلق يدي مخافة من سحر أسماء الأسود، ذلك الخبث الصامت الذي يجذبني أن أقرأ أسماء، مروري جيئة وذهابا على تشبيهاتها بحنكةٍ كأنها طلب استدعاء، بجسدي المنمق الرتيب الذي أحمله بتوجس هرباً من مجازات أسماء التي تترك ندوباً
وبصيرتي تخبرني أن الفرق بيني وبين أسماء، أنها ”تنثر“ الشعر على المارة وهى مطلة من النافذة بينما أنا ”يتساقط“ الشعر مني أثناء تنقلي كالطائر في الأرجاء.
كيف لمخيلتي أن تجتاز شارعًا بجانب أسماء، بمشيتي المختلطة القلقة وعيني المخذولتين، ومشيتها المجرّدة والتفافها المذعور كصقر!
وكيف أنني هجّاره ولي نصيب من اسمي، وكيف تكمن بها الأشياء
ربما هيئة الشعراء لا يمتلكها الجميع، ربما هيئة الشعراء بروحٍ حُرة وليست مكبلة، وأنه ليس هناك مشكلة في المرآة. أو السن، ربما يجب عليّ أن أعيش قصائدي ليُنظر إلى هيئتي كشاعرة لا تجلس بمجازٍ واحد، متشابك تفكر في حل لأزمة متكررة، وربما يوماً سيكتب أحد عن هاجر كما تكتب هاجر عن أسماء.