د. فايز الصيّاغ - عن «غيرنيكا» بيكاسو و28 طفلا مغربياً

حزنت كلّ الحزن لرحيل جون برجر، شيخ النقّاد وأحد أبرز الروائيّين البريطانيّين. فغيابه، بالنسبة إليّ، يستحضر ويمثّل جانباً من حياتي الثقافيّة. عرّفني إليه الصديق الصدوق فوّاز طرابلسي أيّام زمالتنا في الجامعة الأميركيّة ببيروت في الستينيّات من القرن الماضي. وترجمْت له كتابه النّقديّ غير الرحيم عن بابلو بيكاسو (The Success and Failure of Pablo Picasso) يوم كان الأخير على قيد الحياة وفي أوج مجده الفنّيّ والماليّ و«النضاليّ» بوصفه شيوعيّاً ونصيراً للسلام ومبدع لوحة «غيرنيكا» المناهضة للفاشيّة والحرب. وقد نشرَت الكتاب المترجم وزارة الثقافة السوريّة آنذاك في طبعة منقوصة ومشوّهة، مع أنّها اعتبرت من المقرّرات الدراسيّة على طلّاب كلّيّة الفنون في جامعة دمشق طوال الستينيّات. وفي عام ٢٠١٠، راسلت برجر في القرية التي يقيم فيها في فرنسا. وكان في غاية اللطف والأريحيّة. فمنحني أنا و«مؤسّسة ترجمان» التي أديرها حقوق إعادة الترجمة والنشر، مؤكّداً أنّ موقفه من تراث بيكاسو الفنّي لم يتغيّر، وأنّه سيضيف إلى الكتاب القديم فصلاً جديداً ومقدّمة حديثة. وصدرت الترجمة الجديدة في تلك السنة في بيروت.

عندما صدر هذا الكتاب عام ١٩٦٥، كان بابلو بيكاسّو قد بلغ شهرة واسعة، مكللًا بهالات إعجاب المعجبين والمريدين والنقاد من أوساط فّنّية وأيديولوجيّة مختلفة. وقد عرض فيه جون برجر رؤية نقديّة متماسكة وشاملة لبيكاسّو ولفنّه، انطلاقاً من تكوين الفنّان، ومن العوامل التي أثّرت في نشاطه الإبداعي، والسّياق التاريخي الذي حدّد مساره، لمدّة تزيد عن نصف قرن.

وقد أثار الكتاب منذ صدوره، ولايزال، جدلًا واسعاً في الأوساط الفنّية، لا لجرأته في التصدّي لكثير من المفاهيم التي ارتكز عليها النقّاد في تناولهم لفنّ بيكاسّو فحسب، بل لمقولته الرئيسيّة من أنّ بيكاسّو الفنّان إنّما انتهى، كقضيّة، وثورة، ومعلّم، مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية. وهي مقولة لم يتخلَّ عنها برجر في المقالات والدراسات التي وضعها عن بيكاسّو فيما بعد، ولا في طبعات الكتاب اللاحقة التي صدرت في أعقاب وفاة الفنّان، بعد أن أضاف إليها فصولاً عام ١٩٨٩، ولا في المقدّمة التي خصّ بها القارئ العربيّ في هذه الترجمة.

والمقدّمة الجديدة التي وضعها برجر للترجمة العربيّة لا تمثّل إضافة جادّة إلى أعماله في مجال النّقد الفنّيّ فحسب، بل هي استمرار لمواقفه التقدميّة المبدئيّة الثابتة إزاء العديد من القضايا السياسيّة، ولا سيّما ما يتّصل منها بالشأن العربيّ، والفلسطينيّة تحديداً.

فما الذي قاله في تلك المقدّمة التي سمّاها «فاتحة مستعارة»؟

«أودّ، في معرض تقديم هذه الترجمة العربيّة لكتابي عن بيكاسّو، أن أتطرّق إلى أمر حدث في الشهر الماضي [٢٠٠٩]، لأعرض لكم لوحة لم تُنتسخ في أي كتاب آخر من قبل.

لقد درج الرسّامون، على مدى قرون عديدة، على استنساخ لوحات كان قد وضعها من يعتبرهم هؤلاء المعلّمين الأساتذة والقدوة بالنسبة إليهم. والواقع أنّه لا سبيل أمامنا لاكتشاف السّحر الذي ينطوي عليه أيّ عمل فنّيّ أفضل من إنتاج نسخة عنه تقصّر، في الأحوال كافّة، عن الارتقاء إلى مستوى العمل الأصلي: غير أنّ هذا الإخفاق بعينه يغدو وسيلة للاقتراب من تلك الروائع.

وإذا كانت المستنسخات فئة محدّدة الخصائص، فإنّ الردّ أو الرجْع على الروائع أمر آخر. فقد ردّ بلّيني ذات مرّة على مانتيسا، وردّ تيتيان على جيورجيوني، وفان غوغ على ميليه، وسوتين على رامبرانت. وفي السنة الماضية، وقعتُ على ردّ خارق للعادة على لوحة بيكاسّو «غيرنيكا». وقد تولّى رسم هذه اللوحة/ الردّ ثمانية وعشرون طفلاً، كانوا كلّهم تقريباً من المغاربة، ويعيشون في إحدى الضّواحي القاسية إلى الشّمال من باريس. وكانت لوحتهم بحجم اللوحة الأصليّة، وقد رسموها في الأستوديو الواقع في جادّة رو دي غراند أوغستان في وسط باريس، وهو الذي كان بيكاسّو، قبل أكثر من سبعين سنة، قد رسم فيه ما أصبح لوحته الأسطوريّة عن غيرنيكا. كانت أعمار الأطفال تتراوح بين خمس سنوات وإحدى عشرة سنة. وفي نطاق مشروع نظّمه «مركز باري ليكتور - فيل دو باري»1 عمل هؤلاء الأطفال في ذلك الأستوديو على مدى اثني عشر يوماً، درسوا خلالها المُستنسخات التي أجريت قبل ذلك عن اللوحة الأصليّة، والإسكتشات التي كان قد وضعها بيكاسّو للّوحة، والصوَر والمادّة الفيلميّة المتوافرة عن الحرب الأهليّة الإسبانيّة. وقام الأطفال أنفسهم بكلّ الأشغال اليدويّة المتعلّقة باللوحة، وباتخاذ جميع القرارات المتّصلة بهذه المسألة.

وقبل أن نطّلع على هذا الردّ، يجدر بنا أن نشير إلى ما طرأ على العالم خلال العقود السبعة الماضية، من تغيّرات مهمّة ذات صلة بذاك الحدث الذي دفع بيكاسّو إلى رسم تلك اللوحة: وهو قصف بلدة غيرنيكا يوم السادس والعشرين من نيسان / أبريل عام ١٩٣٧.

في ذلك اليوم، قُتل جرّاء القصف ألف وستمئة مدنيّ، من جملة سكّان البلدة البالغ عددهم عشرة آلاف نسمة. ولم يكن ثمّة أهداف عسكريّة في البلدة. وكان هدف الفاشيّين من قصف البلدة هو نشر الرّعب. وقد ولّد الحادث صدمة للعالم بأسره آنذاك.

في وقت لاحق، غيّر قصف هيروشيما ودْرِسْدِن خلال الحرب العالميّة الثانية، بصورة راديكاليّة، من طبيعة الأحداث التي تولّد الصدمة لدى النّاس.
bid16_p96-97.jpg

Centre Paris Lecture - Ville de Paris.

وفي أيّامنا هذه، فإنّ ما شهدناه ونشهده في العراق، وأفغانستان، أو غزّة من «أضرار لاحقة خاضعة للتعويضات» تماثل ما حدث في غيرنيكا قد غدا، بصورة رسميّة، أمراً مقبولاً بوصفه من المخاطر المؤسفة في ما يسمّى «الحرب على الإرهاب»! ولم تعد غيرنيكا تولّد الصدمة على الإطلاق لدى مَن يحكمون العالم اليوم. بيد أنّ الأطفال المغاربة ممّن يعيشون في الدائرة التاسعة عشرة في باريس قد أصيبوا بالصدمة. وهي صدمة ترجع في أصولها إلى العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه. وها هم، بلغتهم الفرنسيّة المتعثّرة المفكّكة، يعبّرون عن بعض ما يرونه في اللوحة على النّحو الآتي:

«الدبّابات تمشي جنباً إلى جنب، لأنّ البشر هم الذين يتولّون القتل».
«بيوت بعدها بيوت... لا شيء... النار في كلّ مكان. الحرب هي جدّة خائفة، ضاعت بين البيوت التي تلتهمها النيران».
«جمجمتان، وعين، فوق السحب. وعيون تخاف من الموت».

وجميع المقتبسات (هنا وفيما بعد) منتزعة من تعليقات الأطفال الذين تفحّصوا الإسكتشات التي وضعوها بأنفسهم للّوحة.

وإذا قارنّا لوحة بيكاسّو بتلك التي صنعها الأطفال ردّاً عليها، لاكتشفنا أنّ اللوحة/ الردّ، مع اختلاف الصوَر الرمزيّة التي تضمّنتها، إنّما تلتزم التزاماً كاملاً بالتكوين وخطوط القوّة والتوتّر، في اللوحة الأصليّة.

إنّها، بعبارة أخرى، تحدث في الموقع نفسه، وتحت سماء مماثلة «الأضرار التي لحقت باللوحة رماديّة اللون». غير أنّ العلامات الدالّة عليها مختلفة.

وكيف كان ذلك؟ لقد أشار بيكاسّو إلى أنّ هذه اللوحة «أرموزةٌ» مَجازّة. ولم يرد فيها ما يدلّ على القنابل، أو الشوارع المدمّرة، أو البلدة التي دهمها القصف الجوّيّ في إقليم الباسك. والإشارة الوحيدة إلى ذلك الحدث تحديداً أنّا تتجسّد في الألم الذي تكشف عنه. فالثور، والحصان الجريح، والشمعة التي يمسك بها ملَاك الشجاعة، تنتمي جميعها إلى منظومة من التصويرات الرمزيّة التي استخدمها بيكاسّو في لوحات سابقة. وللإفصاح عن مشاعر الألم والغضب التي استولت عليه، عاد إلى التعبيرات الإسبانيّة التقليديّة عن الفاجعة المتمثّلة عادة في مصارعة الثيران. لقد طبّق الأسماء الرّمزيّة المجازيّة القديمة على حدث غير مسبوق وهو قصف المدنيّين في العراء في بقعة مكشوفة.

وما فعله الأطفال كان يختلف عن ذلك. إنّهم يشيرون إلى قاذفات القنابل، وإلى القنابل، والبنايات المتساقطة، والدبّابات. غير أنّ الأهمّ من ذلك هو أنّ عملاء الإرهاب الذين يصوّرونهم غفلاً لا أسماء لهم. لقد اعتاد الأطفال على معايشة الحياة اليوميّة التي يعرفونها ويشاركون فيها، بوصفها أحداثاً لا أسماء لها.

يعود ذلك، في جانب منه، إلى أعمار هؤلاء الأطفال، لكنّ الأهمّ من ذلك أنّه محصّلة لما يعيشونه في حياتهم اليوميّة. إنّ عدم الاستقرار الاقتصاديّ، والتعصّب العنصريّ، والبيئة المدنيّة المتردّية، والنزعة الاستهلاكيّة الكاسحة في المدن الكبرى التي يجري إقصاؤهم عنها، والأولويّات التعليميّة الّتي وُضعوا بموجبها في المرتبة المتدنيّة الثانية، ووحشيّة ما يسمّى بقوى الأمن التي تتولّى المحافظة على النظام نقول إنّ مكوّنات الحياة اليوميّة تلك ليست واردة أو موصوفة أو معلنة في المفردات التي تستخدمها وسائل الإعلام في المجال العامّ أو يهتمّ بها الكثيرون من خبراء الاتّصالات، وقضاة المحاكم، أو أغلب الزعماء السياسيّين.

غير أنّ «فئة من لا أسماء لهم»، بالنسبة إلى هؤلاء الأطفال، هي الأكثر مساساً بحياتهم ممّن لهم أسماء. ومن هنا، فإنّ ردّهم على اللوحة الأصليّة لا يتضمّن إشارات رمزيّة عدا الحمامة وقوس القزح، وبدلاً من ذلك، ثمّة إغفال وجوديّ، ومجرّد ملاحظة عابرة لما يماثل البشاعة التي تنطوي عليها هذه التناقضات.

تحت قوس القزح، يقرفص الفأر القاتل. أمّا حمامة السلام، فتشعّ في ظلمة الليل، ومع ذلك فإنها:

«ترى أنّ كلّ شيء قد تحطّم، إنّها تريد أن تخبر الناس بأنّها موجودة. ربّما يساعد ذلك».
«بجناحيها الواسعين، تشكّل درعاً يمنع الطائرات من المرور».
«لكنْ تمسك بها أذرع الأخطبوط».
«الشرّ يهاجم السعادة لأنّ ذلك يناسب الأخطبوط».
على يسار اللوحة شكل آخر ربّما تحاول الحمامة الاقتراب منه، نصفه أبيض ونصفه الآخر أسود. إنّه يمسك بوردة بيده البيضاء، بينما يمسك بلهب ناريّ بيده السوداء. وحسبما يقوله الأطفال فإنّه:
«لا يعرف في أيّ صفّ يقف. هو يريد السلام، ويمكن أن يذهب للحرب، لأنّه فعل ذلك ذات يوم».
وإلى جانب ذلك في الطّرَف الأيسر كذلك، وفي البقعة التي كان بيكاسّو قد رسم فيها رأس ثور، رسم الأطفال ما سمَّوه «مقصّ الحرب» الذي يتراءى لنا كائناً وحشيّاً محدّد الملامح وحضوراً لا اسم له.
إنّ ردّ الأطفال ينطلق من ساحة المعركة الخاصّة بهم، وهي، بهذه الصفة، ليست بعيدة عن ساحة المعركة المتمثّلة في الشوارع التي يعيشون فيها. إنّهم يردّون بكلّ ما لديهم من طاقة. وقوس القزح، كما يقولون، يمثّل جسراً.
«هو جسرٌ للسلام والتفاهم. جسر يفضي إلى الحرّيّة».
«قوس القزح الملوّن يهزم قنابل الحرب».

إنّهم ينظرون بغضب إلى حدث غير مسبوق إلى ما يعيشونه هم أنفسهم وهم يرفضون التساهل معه بإسباغ أسماء جاهزة عليه.

وما يريدون قوله هو ما استعرته منهم ليكون هذه الفاتحة».
أعلى