أنطون تشيخوف الخطيب.. قصة قصيرة - ترجمة: مصطفى جميل مرسي

. في صبيحة يوم مشرق كان (كيريل ايفانفتش بيلولوف) كاتب الجامعة على وشك أن يدفن، وهو رجل مات متأثراً بالآفتين الشائعتين في بلادنا: زوجة سيئة الخلف، وإدمان للخمر

وبينما كان موكب الجنازة يجتاز الطريق إلى المقبرة قفز أحد رفقاء المرحوم ويدعى (بيلافسكي) إلى عربة، وراح يركض بها منقبا عن (جرجوري بتروفتش زبوكين)، وهو رجل - مع حداثته - يتمتع بهيبة ومحبة من معارفه، ويحيط بقسط وافر من العلم - كمعظم قرائي - وقد خلع الله عليه موهبة نادرة في ارتجال الأحاديث التي ينطلق لسانه بها في الأعراس والأعياد والجنازات، وفي قدرته أن يتحدث كيفما وحيثما يشاء. . . في نومه، في خواء معدته، عندما ينتشي لكثرة ما نهل من الخمر، عندما تعتريه الحمى فتسيل الألفاظ من فمه في سلاسة ولطف كما تنساب المياه في الجداول، ويعج قاموسه الخطابي بكلمات لا تدانيها (صراصير) المطاعم في الغزارة والوفرة. أما أسلوبه ففصيح بليغ يفيض بالإطناب والإسهاب، ولذا يلجأ القوم - في بعض أعراس التجار - إلى الاستعانة بالشرطة لإيقاف ذلك السيل المتدفق. . .

وابتدره بيلافسكي حينما عثر عليه في داره قائلا: (لقد أتيت في طلبك - أيها العجوز - هي ارتد قبعتك وسترتك على عجل واصحبني. . . فقد مات أحد رفقائنا ونحن على وشك أن نشيعه إلى الآخرة، ولذا وجب عليك أن تودعه بكلمة من كلماتك الرائعة فأنت أملنا الوحيد، ولولا أن ذلك الفقيد له مقام في المجتمع ويستحق ما يقال في تأبينه لما أتعبناك وأزعجناك، ولكنك تعلم إنه كاتب الجامعة وناموسها والدعامة الراسخة التي كانت تعتمد عليها الإدارة، فينبغي أن نشيعه ولو بحديث لائق. . .) فقال زبوكين بغير اكتراث: (هه. . . كاتب الجامعة! أتعني ذلك الرجل السكير؟!)

- (نعم. سيكون ثمة فطائر وغذاء. وستنال أجرة العربة. . . هيا، عجل يا عزيزي، يكفيك أن تلقى ببعض الألفاظ الحزينة عند القبر كما كان يفعل سيكرو العظيم. . . آه كم ستحوز من الشكر والثناء!)

فوافق (زبوكين على الفور وراح يعبث بغدائر شعره وجعل على سحنته مسحة كآبة وحزن، وانطلق في الطريق بصحبة (بيلافسكي)، وقال وهو يهم بركوب العربة: (إني أعلم من هو كاتبكم هذا. . . رجل شرير خبيث، وحش لم أصادف نظيره في حياتي. . . فليكن الله في عونه).

- (آه. . . (جريشيا) هيا معنا فليس من العدل أن نسيء إلى رجل ودع الحياة).

- (لا مجال للشك في ذلك: (فما يذكر للميت سوى حسناته) ولو كان شريراً. .).

وأدرك الرفاق الثلاثة موكب الجنازة، وراحوا يسيرون معه. أما النعش فكان يتقدم وئيداً وعلى مهل حتى أنهم استطاعوا - قبل وصولهم إلى المقبرة - أن ينسلوا ثلاث مرات إلى حانة خمر وينهلوا بعض الأقداح (نخب) حياة الراحل (الكريم).

وفي المقبرة راح الجميع يصلون إلى جانب اللحد. . . أما حماته وزوجته وأختها فأخذن يذرفن الدمع - مراعاة للتقاليد والعادات - وعندما واروا النعش في التراب صرحت الزوجة في لوعة وأسى (دعوني أرحل معه) ولكنها لم تصحب زوجها إلى القبر فقد تذكرت ما ستنال من معاش الفقيد. . .

ولبث (زيوكين) حتى خيم الصمت على الجميع. . . فخطأ إلى الأمام. . . وراح يقلب طرفه في الحاضرين. . . وبدأ يقول:

(أأصدق ما تراه مقلتاي، وما تسمعه أذناي؟. . لا. إن هذا إلا أضغاث حلم مزعج. . . هذا القبر، هذا الدمع الذي يتألق على الوجنات. . . هذه الإناث وهذه الزفرات. . . أهذا كله وهم؟ لا وا أسفاه ما هذا بحلم. . . إنما هي الحقيقة وأعيننا لا تخدعنا. . . لقد قضى نحبه من كان بيننا منذ لحظات، من كان أمام أعيننا كالنحلة الدؤوب. . . لا يقر قرارها حتى تخرج العسل شهياً لصالح الخلية الاجتماعية. . . لقد ارتد الآن إلى التراب. . . إلى التراب الخداع، لقد اختطفته يد المنون القاسية الجبارة في لحظة كان يفيض فيها - مع تقدمه في العمر - بالحياة والقوة والطموح. إنها لعمري خسارة لا تعوض. . . ترى من سيخلفه في منصبه، لاشك أن في حوزتنا من هو كفء لها، ولكن (بركوفي اسبتسن) معدوم النظير. . . لقد كان منصرفاً إلى تأدية واجبه بما وسع مقدوره. . . لم يضن بقوته بل كان يجهد نفسه في العمل إلى لحظات متأخرة من الليل. . . كان مثلا عالياً للقلب والطيب والضمير المنزه عن الرشوة، كم كان يحتقر أولئك الذين يأكلون مال الناس بالحق وبالباطل. . . لا يفتأون يحللون له الضلال ليحيدوا به عن السبيل السوي. . . نعم أمام أبصارنا (بروكوفي اسبتسن) الذي يجود براتبه لإخوانه التعساء. . . كم ستطرق آذاننا تلك الأنات التي تطلقها الأرامل واليتامى بعد أن قضى نحبه من كان يحسن إليهم، من كان منصرفا إلى أعمال البر وإلى تأدية واجبه. . . من كان عزوفا عن ملذات الحياة وبهجتها. . . من نبذ سعادة هذا المجتمع. . . بل نبذ الزواج وجانب النساء إلى آخر أيامه. . من ذلك الذي في قدرته أن يخلفه كرفيق جبلنا على حبه. . . وكأني أنظر إلى وجهه الحليق تعلوه الرحمة يلتفت إلينا وعلى ثغره ابتسامة مشرقة. . . وكأني أنصت إلى صوته الحنون الشفيق. أسأل الله أن يشملك برحمته يا بروكوفي أسبتسن فقد كنت شريفا أمينا مع ما في ذلك من عناء. . .).

وواصل زبوكين حديثه. . . بينما شاع الهمس بين المنصتين، لقد أرضى حديثه الجميع. بل وجعل بعض الدموع تنهمر من المآقي. . . ولكن بدت معظم الفقرات الخطابية غريبة؛ فأولا: لم يدركوا السبب الذي دعا الخطيب من أجله الفقيد باسم (بروكوفي اسبتسن) مع أن اسمه (كيريل ابفنفتسن). ثانيا: أن الجميع يعلم ما كان ينشب بين الراحل وزوجته من الشجار. فمن المؤكد إذن إنه لم يكن أعزب كما نعته (الخطيب). ثالثا: كان ذا لحية كثة حمراء وهذا يتنافى مع قول الخطيب من إنه كان (حليق الوجه). ولهذا أعجز الجميع فهم معظم أقوال الخطيب. . . وعلا وجوههم الوجوم، وبهتوا وأخذ يتلفت بعضهم إلى البعض، بينما راح فريق منهم يهز أكتافه في ملل وضجر.

واستمر الخطيب في خطبته - وقد اتخذ في رفقته هيئة الحزين. فقال: (بروكوفي اسبتسن. . . لقد كان وجهك وضاحا مع إنه قبيح. . . كنت عبوسا مقطب الجبين، ولكن كلنا يدرك أن تحت هذا المظهر الخارجي قلبا يغلب عليه الشرف والشفقة والحنان. . .). وفجأة لحظ المستمعون أن الخطيب نفسه بدأ يعتريه شيء من الاستغراب كان يتفرس في جهة معينة من الجمع الغفير. ولم يلبث أن كف عن الحديث وفغر فاه في دهشة. . . ثم مال على صديقه بيلافسكي وقال وهو يحملق في فزع (هه. لقد رأيته. . . إنه ما زال على قيد الحياة؟!).

- (من هو الذي لا زال على قيد الحياة؟!).

- (بروكوفي اسبتسن!! ها هو قائم عند حجارة القبر!!)

- (إنه لا زال على قيد الحياة. . . إنما الذي مات كيريل ايفانفتسن أما بروكوفي اسبتسن فقد كان كاتب الجامعة منذ حين وقد نقل إلى المنطقة الثانية رئيسا للمكتبة. . .).

- (يا للشيطان الذي أوحى ألي بذلك!).

- (لِمَ وقفت عن الحديث. . . انطلق عجبا!! إنك مضطرب). والتفت زبوكين إلى القبر، وفي فصاحته المعهودة تابع حديثه. أما بروكوفي اسبتسن كبير الكتبة الكهل ذو الوجه الحليق فقد كان قائما حقا قرب حجارة القبر. . . كان ينظر إلى الخطيب شزراً. . . وقد انتابته موجة من الغضب.

أخذ رفقاء زبوكين يتغامزون عليه في عودتهم (هه. . . هه. . . يا لك من غر! عجبا! أتود أن تدفن رجلا وهو يفيض بالحياة؟) ودنا منه بروكوفي اسبتسن وراح يقول في تذمر: هذا لا يليق أيها الشاب، إن حديثك هذا له قيمته إن كان في رجل قد ودع الحياة، أما إذا كان يمت إلى رجل حي فهو كلام فارغ وتهكم واستهزاء. . . كم تحدثت طويلا عن روحي وعن نفسي! أيها الأبله! ماذا كنت تقول؟! مثلا عالياً للقلب الطيب والضمير المنزه عن الرشوة. . إنها كلمات تقال للأحياء على سبيل التهكم، ومع ذلك من الذي دعاك إلى التحدث بإطناب عن وجهي؟! قبيح عبوس، ولنفرض إنه كذلك، ما الذي عاد عليك أيها الأبله من وصف محياي على ذلك الملأ. . . إنها والله إهانة لن أغفرها لك

مصطفى جميل مرسي

* (كتب هذه القصة الممتعة أنطون تشيكوف أمير القصصيين في روسيا، منذ حوالي نصف قرن. . . ويسرنا أن نقدمها إلى قراء الرسالة مثالا للحياة الاجتماعية في ذلك العهد المظلم. . . ولعل تلك القصة من القلائل التي أجاد فيها قلم تشيكوف الفكاهي في أسلوب ممتع ومعنى ظريف، يتخللها نقد صريح للتقاليد والعادات التي كانت تغل الناس في ذلك الحين. . .)
مصطفى

** أنطون تشيخوف نشرت عام 1886.
*** نشرت هذه الترجمة في العدد 632 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 13 أغسطس 1945
أعلى